الرجل الغني

الرجل الغني
10: 17- 30

نظر إليه يسوع بمحبة وقال له: "إتبعني".
جاء رجل إلى يسوع وعبرّ له عن احترام عميق: سجد أمامه وسمّاه المعلم الصالح. وتصرّف يسوع كمؤمن حقيقي فردّ كل صلاح إلى الله وحده. وطُرح سؤال معروف: كيف نحصل حقاً على الحياة الأبدية؟ ما هو ملّخص الوحي؟ وبصورة أدقّ، ماذا يجب أن نعمل لندخل إلى الملكوت؟
قدّم يسوع جواباً كله حكمة، فأورد قسماً من الوصايا العشر (الجزء بمثابة الكل). هذا هو السبيل الذي يقود المؤمن إلى الحياة الأبدية. حين توجّه الرجل إلى يسوع، رأى فيه مفسّراً للكتاب المقدس يقدر أن يستند إليه. ثم، حين أعلن أنه عمل بحسب الوصايا من أيام صباه، أي منذ صار خاضعاً للشريعة، أعجب به يسوع وأحبّه.
وعرض يسوع على هذا الرجل متابعة طريق الأمانة حتى النهاية، عرض عليه أن يتبعه. ولكن الرجل ذهب حزيناً بسبب غناه. أمسك به كنزُه الخاص، فأغلق قلبه عن كنز يعده به يسوع في السماء.
ذهب الرجل فكان ذهابه مناسبة ينقل فيها يسوع إلى تلاميذه تعليماً صعباً. ولما لم يفهم التلاميذ، شدّد يسوع كيف أن المال يمكن أن يكون حاجزاً على طريق القداسة: المالي يغلق الإنسان على ذاته، يجعل الإنسان أنانياً وخائفاً على نفسه. إضطرب التلاميذ فسألوا: "إذن، من يستطيع أن يخلص"؟ في الحقيقة، الملكوت هو عطية، وما يستحيل على البشر لا يستحيل على الله.
ومدّ بطرس والإثنا عشر السؤال بالنسبة إليهم. فقد فعلوا ما لم يفعله الرجل الغني: تركوا كل شيء وتبعوا يسوع. فوعدهم يسوع. لا قيمة للتجرّد في حدّ ذاته. يجد تبريره في يسوع. والجزاء يعطى منذ الآن بالدخول في عائلة جديدة ليست بمنأى عن الاضطهادات.
مثل هذا الخبر يجعل يسوع في قلب المغامرة البشريّة. يسوع هو الحكمة الحقّة. تعلّق شعب إسرائيل بحكمته وأمانته للشريعة، فلم يعرف أن يتعلّق بيسوع الذي سمّى نفسه تتمة للشريعة والغنى النهائي.
على كل مؤمن (وعلى كل جماعة) أن يتساءل عن الأولوية التي توجّه حياته: الأمانة للشريعة مهمّة لأنها الموضع الذي فيه نتحقّق من محبتنا لله. وقد تظهر الحواجز على طريق المؤمن، وأعظمها المال مع القوة التي يحملها، مع روح التسلط الذي يولّده، مع الأنانية التي ينميها. عثر الرجل الغني بهذا الحاجز فأستخرج منه الحزن الشديد. إذن، كل منا مدعوّ إلى أن يتخلّى عن غناه، لأننا لا نستطيع أن نخدم (نعبد) الله والمال.
بعض الناس هو موضوع دعوة متطلّبة: إنهم مدعوون، شأنهم شأن الإثني عثر، أن يتركوا كل شيء لكي يتبعوا يسوع ويكرّسوا نفوسهم لخدمته. والتجرّد ليس لهم الموقف الأول وحسب. إنه نتيجة وحي ودعوة: هو نداء لكي يتبعوا يسوع ويشاركوا في غنى الملكوت ويعرّفوا الآخرين إليه. وهذه الأمانة تصل بالبعض إلى التعلق بيسوع تعلّقاً وثيقاً متخلّين عن الغنى وكل أملاك هذا العالم.
هذا الرجل هو ابن بار للشريعة. وهو يثير إعجاباً شأنه شأن ذوي الإرادة الصالحة الذين يملأون مدننا وقرانا. وفوق ذلك هو يُظهر طواعية كبيرة: هو لا يكتفي بغناه، بل يبحث عن شيء آخر. هذا الجوع الداخلي دفعه إلى أن يذهب إلى يسوع ويسأله. بل هو يطرح السؤال المهم، ذاك الذي يتيح ليسوع أن يقدّم الحكمة الحقة في وحيين: تعال واتبعني. طوبى للفقراء.
تعال واتبعني. فريضة بسيطة وهي مفتاح النجاح. ولكن هذا الرجل الغني قد نجح في حياته: إمتلك أموالاً كثيرة. حافظ على الشريعة بأمانة فكان موضوع تقدير لدى ابناء وطنه. ولكن النجاح هو في مكان آخر: إنه على خطى المسيح.
حين التقى يسوع بهذا الرجل الغني والغيور، جعلنا نكتشف ما الذي يميّز المسيحيين، ما الذي يدلّ على هوّيتنا. لا شكّ في أننا نشارك سائر الديانات والفلسفات في عدد من القيم: الصدق في المعاملة، العنف، المحافظة على الشرائع، التضحية من أجل القريب، السير في طرق الروح. وقد يتفوّق بعضهم علينا في هذه الأمور. ولكن ما يميّزنا هو تعلّقنا بيسوع المسيح، هو أن نعترف به مثالاً وقدوة ومعلّماً، هو أن نقرّ به كرأس لكنيسة نحن أعضاؤها.
الوحي الثاني في هذا الإنجيل هو: "طوبى للفقراء". لا يريد يسوع أن يعرّينا، بل عكس ذلك. إنّه يقدّم إلينا الكنز في كل وقت. بل هو يعطينا مئة ضعف من البيوت والاخوة والأراضي مع الاضطهادات، وفي العالم الآتي الحياة الأبدية.
ولكن الوحي هو في الطريقة التي بها نمتلك مالاً. لم ينقص هذا الرجل التقي والغني الذي جاء يسأل يسوع، إلا شيء واحد: أن يجعل غناه في المستوى الثاني. أي أن يفضلّ المسيح على كل شيء. فالله لا يشجب الغنى وهو خالقه. ولكن كلمته تتدخّل في حياتنا كسيف ذي حدين، فتقطع منا كل ما يمنعنا من إتباع المسيح وتفضليه على كل شيء. وهذه الكلمة تدعونا لكي نجعل غنانا في مكانه. إنه خادم لا سيد. والمال هو في خدمة ملكوت الله ومجيئه في العالم الحاضر.
حين نتقدّم في مسيرتنا على خطى يسوع في طريق عبد الله المتألم، تتوضّح أمامنا متطلّبات الملكوت. أمانة وصدق في الزواج، تجرّد من المال والغنى، ضرورة الإتحاد بسرّ موت يسوع وقيامته، البحث عن نور يسوع المسيح. الأمر واضح منذ البداية: من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه. فليتخلَّ عن ذاته كل يوم... هل نحن مستعدّون؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM