الفصل السادس والعشرون :سبعة ويلات

الفصل السادس والعشرون
سبعة ويلات
23: 13- 32

جمع متّى في ف 23 أقوال يسوع التي تفيده في صراعه مع المجمع الذي سيطر عليه التيّار الفرّيسي، وذلك في السنوات 80- 90. بعد صورة عن الكتبة والفريسيين الذين جلسوا على كرسي موسى فعلّموا وما عملوا (آ 10- 12)، نقرأ ندبًا ورثاء لهؤلاء الخصوم في سبعة ويلات: "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون" (آ 13- 32). وفي النهاية تأتي الدينونة فتصيب "خصوم" يسوع وتصيب أورشليم التي تمثّل الأمّة كلها: قتلت الأنبياء، رجمت المرسلين إليها. رفضت مجيء الرب فكان لها الخراب (آ 33-39).
توقّفنا في مقطع أول (23: 1-12) عند رياء الفريسيين وتظاهرهم بالتقوى وتمجيد أنفسهم. فهمنا أن أبانا واحد وكلّنا إخوة، أن مدبّرنا هو المسيح، والأكبر فينا هو خادمنا. تميّزوا هم (أي الفريسيون) بالعصائب والأهداب وأول المتكّئات والتحيّة في الساحات. وتميّزت الجماعة المسيحيّة (أنتم) بالدعوة إلى الأخوّة والتواضع. وها نحن في المقطع الثاني (23: 13- 32) مع لفظة "ويل" التي لا تدلّ على اللعنة، بل على الحزن العميق والتحسّر الذي يشوبه بعض الغضب فيصل إلى التهديد كما في خط الأنبياء. نتوقّف في هذا الفصل عند الويلات السبعة، ونترك إلى فصل لاحق ما تبقّى من مت 23 وعنوانه: بكاء على أورشليم (23: 33- 39).

1- نظرة عامة
منذ بداية ف 21، بدأ التوتّر بين يسوع ورؤساء الشعب، وما زال ينمو فتفجّر في ف 23 مع هجوم لاذع وعنيف ضد الكتبة والفريسيين. هل تفرّد متّى بهذه الأقوال، وكنيسته عانت الأمرّين من المجمع اليهوديّ؟ الجواب هو كلا.
فنحن نجد في مر ولو ما نقرأه هنا في مت. فما في مر 14: 38-39 يقابل الفكرة الرئيسيّة في مت 13: 1-12. أما مر 14: 4 فيتضمّن تهديدًا (وشجبًا) يهيّىء الطريق لما في مت 13:23-36. أما نصّ لو فبدا مختلفًا جدًا على المستوى الحرفيّ وموزّعًا بين ف 20 (آ 45-47) وف 11 (هنا وهناك). إذن، نحن أمام معطية أدبيّة متشعِّبة تذكّرنا بما في مت 5-7.
ظنّ بعضهم أن مر أوجز التقليد الذي استعمله مت كله، وهذا ما نفهمه في انجيل (اختلف عن مت) لم يكن على خلاف مباشر مع الفريسيّة الفلسطينيّة حين دوِّن. واعتبر آخرون أن مت استقلّ عن مر، فدوّن ما دوّن لأسباب عقائديّة خاصة به. أما لو فاستعمل ذات التقليد الذي وصل إليه في حقبة ارتبطت بالظروف الخاصّة التي رافقت تدوين الانجيل الثالث. إذن، يصعب علينا أن نكتشف الشكل الأول لهذه "الخطبة". ونخطئ أن اعتبرنا أننا نجد جذورها في مر 4: 38- 40.
إن مت 23 قد رأى النور في كنيسة تعيش جدالاً حاميًا مع رؤساء العالم اليهوديّ. ونضيف: في كنيسة مسيحيّة جاءت من العالم اليهوديّ وظنت أنها تستطيع أن تتبع تعليم الكتبة وكرازة المعلّمين المسيحيين. وهكذا نكون في نهاية "مسيرة" ستصل إلى قطيعة نهائيّة بين المسيحيّة الفتيّة واليهوديّة التي تحاول أن تستجمع قواها بعد كارثة سنة 70 ب م. ومع ذلك، يعترف مت بأن الكتبة والفريسيين يجلسون في كرسي موسى (حتى الآن، سنة 80 ب م)، وأن لتعليمهم سلطانًا يجب أن نأخذ به. فالانجيليّ لا يندّد بتعليمهم، بل بريائهم، بتصرّفهم المرائي.
ونعود إلى آ 13-32 حيث نجد سبعة ويلات ضد الكتبة والفريسيين. النص الموازي في مر 14: 38- 40 لا يتضمّن ويلاً واحدًا. ونصّ لو 11: 38- 52 يتضمّن ثلاثة ويلات ضد الفريسيين ثم ثلاثة ويلات ضد الكتبة، وفي ترتيب يختلف عن ترتيب مت. هناك أربعة ويلات في مت نجدها في لو. وويلان في لو يظهران في مت ولكن بشكل آخر. هذا الوضع المتشعّب لا يفسَّر فقط بفرضيّة تعتبر أن مت ولو مدينان لمرجعين كتابيّين مماثلين (مت والقولات، لوغيا). بل يجب أن نحافظ على أهميّة التقليد الشفهيّ والوسط الذي كُتب فيه كل من متّى ولوقا.
إن لفظة "الويل" تدلّ على الحزن والألم، على التحسّر والغضب. وقد عرفها مت في هذين المعنيين اللذين قد يتكاملان في العبارة الواحدة. نقرأ في 11: 21: "ويل لك يا كورزين، ويل لك يا بيت صيدا". أنت تعيسة وتستحقين الشفقة. قريبًا سوف يأتي غضب الله عليك. رج لو 13:10. وهذا التحسّر يرافقه نداء إلى التوبة، هو النداء الأخير. ونتذكّر إر 27:13. "ويل لك يا أورشليم، ألا تريدين أن تطهري فتتبعيني؟ وإلى متى (تنتظرين)"؟ هذا يعني: متى ستعودين عن زناك وفحشك وعبادتك للأصنام؟ هناك من يقوله إن "الويل" يعني هنا حكم "المسيح" على شعبه حكمًا لا رجوع عنه. ففي كل هذا القسم من الانجيل، لا يحثّ يسوع شعبه على التوبة. بل هو يواجه خصومه ويحكم عليهم بعد أن قسّوا قلوبهم ورفضوا نداءاته.
وماذا يعني الرياء؟ المرائي هو ذاك الذي يقول ولا يفعل. يعلّم ولا يضع موضع العمل ما يعلّم. وهكذا يصبح أول ضحيّة لتبجّحه الديني. يؤخذ في حبائل تقواه وما فيها من تظاهر وكبرياء. وقد ترتبط اللفظة بالآرامية "ح ن ف" التي تدلّ على الشر والرداءة والكفر. وهكذا يتحوّل المرائي إلى شرّير وكافر (24: 51). وقد يصبح أعمى (7: 5) بعد أن فسد حكمه وتشوّه. من أجل هذا، جاء كلام يسوع يدعو إلى وحدة الانسان وإلى بساطة حياة تلاميذه، وإلى شفافيّة تجعل أقوالنا تتجسّد في أعمالنا.

2- الدراسة التفصيلية
أ- البنية
يتضمّن 13:23-32 سبعة ويلات (رقم الكمال). هنا نتذكّر ف 13 والأمثال السبعة. بما أن الأخير يقع في ثلاثة أشطار نتساءل: هل هناك أشطار في الويلات؟ هناك من اعتبر أن الويلات الثلاثة الأولى تتعلّق بتعليم الكتبة. والثلاثة التالية بحياة الكتبة. أما الويل السابع فيتعلّق بالشعب اليهوديّ. ورأى آخرون بنية تصالبية. الأول مع السابع، الثاني مع السادس، الثالث مع الخامس. وهكذا يكون الويل الرابع في الوسط. وقال رأي ثالث: الويلان الأول والثاني يشيران إلى هويّة الجماعة. والثلاثة التالية إلى الشريعة. والاثنان الأخيران يشكّلان الذروة مع "القتلة" والذين لا شريعة لهم.
الويل الخامس (23: 5-6، تطهّرون خارج الكأس) يشبه الويل السادس (27:23-28، تشبهون القبور المكلّسة). فكلاهما يدلاّن على التناقض بين الخارج والداخل. ويسير الويل الثالث (23: 16- 22، القادة العميان) مع الويل الرابع (23:23-24، تؤدّون العشر). كلاهما يتحدّثان عن "هلكه" (أي السلوك) ويؤكّدان أن الكتبة والفريسيين قد أضاعوا ما هو جوهريّ وتعلّقوا بالقشور. نحن مع هذين الويلين في تضمين حيث نجد العبارة نفسها (القادة العميان) في البداية (آ 16) وفي النهاية (آ 24). ويسير الويل الأول (23: 13، تغلقون ملكوت السماوات) مع الويل الثاني (23: 15، تطوفون البحر والبرّ لتكسبوا دخيلا). لا شكَّ في أن لا شيء مشترك بينهما، ولكنّهما يحملان الخراب إلى الغير: يطردونهم من الملكوت (آ 13)، ويجعلونهم أبناء جهنّم (آ 15). وكلاهما يتحدّثان عن نشاط المرسلين. إن هذه الويلات السبعة تجمع اثنين اثنين مع السابع الذي يختتم الويلات في ذروة تدلّ على هؤلاء القتلة الذين هم الكتبة والفريسيون.
ب- المراجع
نستطيع أن نقرأ ويلات مت 23 ولو 11 في عمودين منفصلين:
مت 23 لو 11
4- الاحمال الثقيلة 39- 41- الكأس
6-7 أ- المقاعد والتحيات 42- الحلف (الويل 1)
13- مفتاح (الويل 1) 43- المقاعد والتحيّات (الويل 2)
15- الدخيل (الويل 2) القبور (الويل 3)
16- 22- الحلف (الويل 3) الاحمال الثقيلة (الويل 4)
23- 24- العشر (الويل 4) القتلة (الويل 5)
25- 26- الكأس (الويل 5) المفتاح (الويل 6)
27- 28- القبور (الويل 6)
29- 32- القتلة (الويل 7)
هناك ويلان (2، 3) في مت لا يظهران عند لو. ولو الموازي لمتى 23: 25-26 (الويل 5) ليس ويلاً. ويلان (2، 4) من لو يوازنان مضمون مت لا الشكل. هذا يعني أن هناك "ويلات" في الأول ليست في الثاني. وهناك اختلاف كبير آخر: جميع ويلات مت (ما عدا الثالث، القادة العميان) تتوجَّه إلى الكتبة والفريسيين المرائين. أما في لو، فالثلاثة الأولى تتوجّه إلى الفريسيين، والثلاثة الأخيرة إلى الكتبة.
حاول البعض أن يبنوا المعين المشترك بين مت ولو. ولكن يبدو الأمر صعبًا إن لم يكن مستحيلاً. ففي ما يتعلّق بما في لو 11، نبقى على ثقة بأن المعين تضمّن سلسلة من الويلات جاءت منعزلة. غير أن الفرق بين التقليدين (لو، مت) هو من الكبر (قال أوغسطينس إننا أمام خطبتين مختلفتين) بحيث لا نقدر أن نعرف عدد الويلات ولا ترتيبها. نظنّ أنه وُجد في المتّاويات ويلات تلاقت مع ويلات المعين في مت. وأن لوقا عاد إلى اللوقاويات وإلى المعين. فلا نحاول أن نجمع إنجيليًا مع الآخر.
ج- التأويل
إن 13:23 ي التي فيها يحطّ ديّانُ اليوم الأخير المتكبّرين (23: 12)، يرسم خطًا بين فئتين اجتماعيّتين، وواحدة منهما تنال نقدًا قاسيًا. الكتبة والفريسيون الذين يمثّلون قوّاد ومعلّمي العالم اليهوديّ، يقفون في الجهة الثانية ويصوَّرون كأناس فاسدين لا يُرجى منهم خير، ويُعتبر هلاكهم الاسكاتولوجي أكيدًا. والنتيجة هي بناء الكنيسة وتحديد هوّيتها. فعبر هذا المثال "المقلوب" نفهم أن الكنيسة لا يمكن أن تكون هكذا. وفي معنى ثان نجد انتقادًا ضد التلاميذ. فتاريخ التفسير والوعظ قد استعمل هذه الآيات ليدلّ على أخطاء المسيحيين ولاسيّما الرؤساء فيهم. ولكن في وضع مت، ما زال المجمع هنا وهو يدعو المسيحيين الجدد للعودة إليه. في هذه الحال، لا تُفهم الويلات الموجّهة إلى الكتبة والفريسيين، وكأنها موجّهة إلى القرّاء (عكس التطويبات، 3:5-12).
إن هذا التوبيخ يختلف عمّا في 11: 10-24 الذي فيه يوجّه يسوع الكلام، ويقول السبب ويعلن الحكم. هنا في 23، لا نجد الحكم حتى آ 35-36. نشير إلى وجود "الويل" مرتين في 1 صم 4: 7-8 بلسان الفلسطيين: "الويل لنا، ما حدث شيء كهذا من قبل. الويل لنا، من ينقذنا من هذا الاله القادر".
د- تفسير الآيات (13:23- 32)
أولاً: الويل الأولى (13:23)
هذا الويل هو كمقدّمة توجز كل الويلات. فالكتبة والفريسيون، ورغم مجهودهم الديني، لا يدخلون الملكوت ولا يتركون الآخرين يدخلون. ليسوا قوّادًا، بل ما يعارض القوّاد.
اعتبر أحد الشرّاح أن آ 13 (= لو 11: 52) تعود إلى يسوع (رج انجيل توما 102). ولكن قال بعضهم إن يسوع لا يمكن أن يقول هذا الويل، وهو الذي جاء يعد بالملكوت. غير أنهم أرادوا المحافظة على تعليم الله كما جاء في العهد القديم، فما أوصلوه إلى الناس، ولا استفادوا هم منه.
"الويل لكم أيها الكتبة...". رج لو 11: 52 الذي يتوجّه فقط إلى معلّمي الشريعة. قد يكون مت قريبًا من المعين (رج انجيل توما 39 الذي يعود إلى الكتبة والفريسيين). "تغلقون باب الملكوت" (في التقليد السرياني، تمسكون المفاتيح). قالت رسالة اكلمنضوس المزعوم (1: 54): "أخفوا مفتاح الملكوت". رج لو 11: 52: "أخذتم مفاتيح المعرفة". أما مت فتحدّث عن ملكوت السماوات. إغلاق الملكوت هو إغلاق باب الملكوت. نتذكر هنا باب الحياة في 7: 14 وباب الملكوت الذي أعطي بطرس مفتاحه في 18:16. أغلقوا هذا الباب لهم وللآخرين. ما أرادوا الدخول، ومنعوا الآخرين حين حمّلوهم أحمالاً ثقيلة (آ 4). هي تقاليد البشر التي تُبعد الانسان عن جوهر الخلاص. يقول انجيل توما (102): "الويل للفريسيين. هم مثل كلب ينام في معلف البقر، ويمنع البقر من أن تأكل"
لا نتوقّف عند آ 14 التي ليست متّاويّة، بل أخذت من مر 12: 40. لهذا لا نشرحها ولا ندخلها بين الويلات السبعة.
ثانيًا: الويل الثاني (23: 15
وهاجم يسوع الكتبة والفريسيين لا لأنهم مرسلون (سيّئون)، بل لأن نشاطهم الإرسالي يحمل نتائج وخيمة لأنه يجعل الآخرين مثلهم. المسألة ليست الارتداد إلى اليهودية، بل ارتداد إلى يهوديّة بدون مسيح.
لا شيء في لو يوازي هذا الويل. قد يعود هذا الويل إلى يسوع، فنفهمه ارتدادًا إلى الفريسية، لا ارتداد الوثنيين إلى الديانة اليهوديّة. وقد نكون أمام مزاحمة بعد زمن الفصح: أنبقى في الدين اليهودي، اننتقل إلى المسيحيّة؟
"بروسيليتوس" (دخيل) يقابل العبري "ج ر". هو المقيم بين بني اسرائيل ويشارك في الحياة اليهوديّة. ليس هو مرتدًا في المعنى الحصريّ للكلمة. ولكن في الواقع وإذا عدنا إلى فيلون وأع 2: 11؛ 6: 5؛ 13: 43 وعدد من المدوّنات اليهوديّة، والأدب الرابيني، الدخيل هو المرتدّ إلى الديانة اليهوديّة: تبع الشريعة وخُتن.
تعبرون البر والبحر أي الأرض كلها (يون 1: 9؛ حج 2: 6، 21؛ 1 مك 8: 23، 32) لتربحوا دخيلاً. ولكن، يا لسخرية القدر! ترسلونه إلى جهنم لا إلى الملكوت.
ثالثًا: الويل الثالث (16:23-23)
يقع هذا الويل في ثلاثة أشطار. يتوازى الشطر الأول (آ 16-17) والشطر الثاني (آ 18-19) موازاة تامة. أما الشطر الثالث (آ 20-22) فهو مثلّث ويبدو بشكل تصالب مع الشطرين السابقين (الهيكل، المذبح، المذبح، الهيكل).
1- ويل لكم أيها القادة العميان القائلون
من حلف بالهيكل فلا بأس
ومن حلف بذهب الهيكل فهو ملتزم.
2- أيها الحمقى والعميان
ما الأعظم
الذهب أم الهيكل الذي يقدّس الذهب؟
3- وأيضًا
من حلف بالمذبح فلا بأس
وأما من حلف بالقربان الذي عليه فهو ملتزم.
4- أيها العميان
ما الأعظم
القربان أم المذبح الذي يقدّس القربان؟
5- فمن حلف بالمذبح
حلف به وبكل ما عليه.
6- ومن حلف بالهيكل
حلف به وبالساكن فيه
7- ومن حلف بالسماء
حلف بعرش الله والجالس عليه.
نحن هنا أمام سبعة أقوال وكأنها سبعة ويلات في هذا الويل الثالث. ونلاحظ ثلاث مرات وجود لفظة "عميان" (تفلوي)، في آ 16، 17، 19. يختلف هذا النصّ بعض الشيء عن 33:5-37 (لا تحلفوا البتة..). ولكن يبقى أن من حلف بشيء حلف بشىء آخر. من حلف بالسماء حلف بعرش الله. لهذا نقول إن المجموعة التي دوّنت 5: 33-37 هي التي دوّنت 23: 20- 24.
بعد الأمور العامة (آ 13-15) حول "هلكه"، ها هي الأمور الخاصة. فإن آ 16-19 ترفض التمييز بين حلف يقيّد (يُلزم) وحلف لا يقيّد. وإن آ 20-22 تؤكّد أن كل حلف يقيّد، لأن كل حلف يعود إلى الله نفسه. لماذا قال النص هنا "أيها القادة العميان" ولم يقل "الكتبة والفريسيين"؟ لا تفسير مقنعًا. أيكون اعتبر هؤلاء الفريسيين قادة عميانًا حقًا؟ ماذا يعني "ذهب الهيكل"؟ الواجهة، الأواني، كنوز الهيكل؟ بل كل هذا.
"أيها الحمقى". هذا ما يعارض 5: 22 (من قال له يا أحمق يستوجب نار جهنّم). قد يكون يسوع هنا في دور الديّان. أو: يستوجب العقاب من يقول لأخيه: يا أحمق.
في آ 20-22 نفهم أن يسوع لم يهتمّ بما هو شرعيّ في الحلف ولاشرعيّ، لأن كل حلف يرتبط بقول الحقيقة.
رابعًا: الويل الرابع (23:23- 24)
في هذا الويل يُخطىء الكتبة والفريسيون، لا لأن سلوكهم رديء (ق آ 16- 22)، بل لأنهم تركوا أهمّ ما في الاخلاقيّات، ولم يعملوا بها. ليست القضيّة في أن نؤدّي العشور. لا يُطلب منا أن نصفّي البعوضة ونبلع الجبل. بل يُطلب منّا بعض العدل والرحمة والأمانة.
لا نجد ما يوازي آ 24. أما آ 23 فتعود إلى المعين (رج لو 11: 42). وإليك أهم الاختلافات بين النصّين: (1) متى وحده ذكر الكتبة وزاد "المرائين" (لوقا: فقط: الفريسيون). (2) قال لوقا: السذاب وكل البقول. ومتّى: الشبث والكمون. (3) نقرأ فقط في مت: "أهملتم أثقل ما في الناموس". (4) تحدّث لوقا عن العدالة ومحبّة الله. ومتّى: عن العدالة والرحمة والأمانة. تعود آ 24 إلى يسوع. أما آ 23 فقد تجد تعبيرها في زمن بعد القيامة.
خامسًا: الويل الخامس (3: 25- 26)
هذا الويل يهاجم الكتبة والفريسيين لأنهم يعملون الأمور الصغيرة ويهملون المهمّة. يطهّرون خارج الكأس والإناء ويهملون الداخل. أي يدلّون في الخارج على أنهم أبرار، ولكنهم في الداخل مملوءون "سلبًا وجشعًا".
لا تدلّ آ 25-26 على نقاوة الآنية، ولا على تعليم الفريسيين في الشريعة. ولا تُفهم آ 25 بشكل حرفيّ وآ 26 بشكل رمزيّ. فالآيتان تتحدّثان عن الكتبة والفريسيين عن طريق الاستعارة (هم كؤوس وصحفات قذرة). لسنا أمام الأواني، بل أمام الشعب الذي هو بار في الظاهر، نجس في الداخل.
نجد هنا موضوع عظة الجبل. الغضب (استعداد داخلي) هو أصل القتل (عمل خارجي). الشهوة (استعداد داخلي) هي سبب الزنى (عمل خارجيّ). فالاصلاح الاخلاقيّ يبدأ في القلب. فالنور والظلمة هما ما يحدّد سلوك الانسان في العالم (6: 22-23: سراج الجسد العين..). ونتذكّر 15: 11 الذي يقول: ليس ما يدخل الفم (شيء خارجي) ينجّس الانسان، بل ما يأتي من القلب ينجّس. وهكذا يكون الكتبة والفريسيون أنجاسًا في قلوبهم.
سادسًا: الويل السادس (27:23-28)
تبدّلت الصورة، ولكن الموضوع ظلّ هو هو. وهذا ما يتوضّح في المقابلة التالية:
آ 25-26 آ 27-28
تطهّرون طهِّر، يتطهَّر لا طهارة (نجاسة)
الخارج الخارج (مرتين)
الداخل مملوء. الداخل مملوء.
غابت آ 28 من لو فبدت تدوينيّة. أما آ 27 فتشبه لو 11: 44 وتُنسب إلى المعين. هناك فقط أربع ألفاظ مشتركة (الويل، ضمير المخاطب الجمع مرتين، لأنّ). لهذا يقول بعض الشّراح إن لو هو أقرب إلى المعين، بينما يعود مت إلى المتّآويّات.
"ويل لكم..." (آ 27). شبّه الكتبة والفريسيّين بالقبور التي تُعتبر نجسة. "القبور المكلّسة". ق حز 13: 10-16؛ 28:22؛ احيقار الأرمني (2: 2)؛ عظة اكلمنضوس المزعوم (1: 71). فمع أن الكتبة يهتمّون بقضايا الطهارة، إلاّ أنهم ينبوع نجاسة. ونلاحظ التوازي في آ 27-28:
آ 27- تبدو من الخارج
جميلة (صفة)
ومن الداخل
مملوءة
بعظام أموات (مضاف إليه).
آ 28- تبدون من الخارج
أبرارًا (صفة)
ومن الداخل
مملوءين
بالرياء والاثم (مضاف إليه).
سابعًا: الويل السابع (29:23- 32)
بعد القرار الذي تعوّدنا عليه (الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون)، تتضمّن آ 29- 30 ثلاثة أفعال: تبنون، تزيّنون، تقولون. بعد ذلك، استنتاج (آ 31)، وأمر فيه الكثير من السخرية (آ 32)، وسؤال بلاغيّ (آ 33): "كيف تنجون من دينونة جهنَّم"؟ وهل تستطيعون؟ نشهد في هذه القطعة ضمير المخاطب الجمع (أنتم...).
هذا النصّ يقابل لو 11: 47-48. أما الاختلافات فتفسّر بنشاط تدوينيّ. ننسب الويل إلى المعين، والخاتمة (آ 33) التي تُنسب في التقليد إلى المعمدان (رج 3: 7)، إلى الانجيليّ. ولكن آ 30 لا تتوازى مع آ 32. فقد يكون مت قد توسّع في التقليد لكي تطول السخرية. أما أصل الويل السابع فيعود إلى المسيح وإن عبّرت عنه الجماعة المسيحيّة بطريقتها على ضوء المعارضة البعد الفصحيّة بين الكنيسة والمجمع.
قالت هذا الويل شخص دُفن بدون أبّهة، شخص علّم تلميذه أن يدع الموتى يدفنون موتاهم (8: 22). وقيل لشعب ظنّ أنه سيرتاح حين يصبح يسوع مثل أنبياء العهد القديم، حين يصبح ميتًا... هناك مراجع تحدّثنا عن القبور الفخمة (1 مك 13: 27- 30) لعائلة المكابيّين (يوسيفوس- العاديات 7: 390- 392؛ 13: 249، داود، أع 2: 29).
يعود الكتبة والفريسيون إلى الذين قتلوا الأنبياء: إلى "آبائنا". لقد شاركوا في أعمال آبائهم. فالعقد بين وظيفتهم وأعمالهم ساعد متّى على إظهار اللاتوافق بين القول والعمل كأساس الرياء. تقوم طريق المرائين في تكريم خدّام الله ومعلّمي الحقّ بعد موتهم، واحتقارهم في حياتهم. "أنتم تشهدون على أنفسكم" (آ 31). فالفريسيون يعرفون أنهم من نسل الذين قتلوا الأنبياء. فنجده في أع 5: 10-13؛ 7: 51-52؛ 1 تس 2: 15-16. وبما أنهم بدأوا، فما عليهم إلاّ أن يتابعوا فيقتلوا المسيح والمنادين باسمه (آ 32). وبعد هذه الأعمال الشريرة (آ 33)، ستأتي الدينونة الاسكاتولوجيّة ولن يستطيعوا أن يخلصوا.
3- نظرة لاهوتيّة وروحيّة
في انجيل متّى يوبّخ المسيح الفريسيين في محاولتهم لاستمالة الآخرين إلى إيمانهم. إنهم لا يردّون البشر إلى الإله الحقيقيّ، بل إلى أفكارهم الخاصة. فإما يجعلون منهم أشخاصًا متعصّبين، منغلقين على الشريعانيّة الرابينيّة. وإمّا يمنعونهم من الدخول إلى الملكوت بسبب هذا التشدّد على ممارسة الشريعة والشريعة وحدها على حساب الانسان وعلى حساب الانفتاح على نداء الله ونعمته. هنا نميّز بين "الدخيل" الذي هو الوثني الذي صار يهوديًا وقبلَ الختانَ ومارس الشريعة. وبين "المتقي" لله (خائف الله) الذي يحفظ بعض الشرائع اليهوديّة (السبت، جزية الهيكل، بعض فرائض الطعام) ولكنه يرفض الختان. نشير هنا إلى أن اليهود قاموا بعمل تبشيريّ كبير لم يوقفه دمار الهيكل سنة 70، وهكذا كانت مزاحمة بين المبشّرين اليهود والمبشّرين المسيحيين في المدينة الواحدة.
ومع آ 16 نقرأ "ويلاً" طويلاً يلفت النظر ببنائه المدروس. قدّم العالم الرابيني طروحه فعبّر عنها في قولين متعارضين. فجاء كلام المسيح القاسي يقيم هذه الطروح ويصف قائليها بوصفين: حمقى، عميان. هذا الويل كما نقرأه هنا، يفترض صياغة على مستوى الموضوع والتدوين في إطار الكنيسة (رج روم 2: 19ي؛ لو 6: 39). ولكن هذا لا يمنع في المبدأ أن يعود المضمون إلى يسوع نفسه. ولكن ما هو المعين العام؟
يرى البعض أن يسوع يعتبر أن كل قسَم يربطنا مهما كان الشكل الذي فيه نتلفَّظ. ولكن، إن كان الأمر هكذا، تكون هذه الاية مناقضة لما في 5: 33-37 حيث يشجب يسوع كل قسم ويفرض الحقيقة الكاملة في كل زمان ومكان (نعم نعم، لا لا). لهذا يبدو المعنى كما يلي: كل قسم يتمّ باسم الله وأمامه، وإن حاولنا أن نتجنّبه. ونستطيع أن نستخرج من هذا القول الأول خلاصتين: بما أن كل قسم يتمّ أمام الله، فيجب أن لا نحلف أبدًا لئلاّ نعامل اسم الله بالباطل (رج 33:5-37؛ خر 20: 7). وإذا حلفنا، لا نقوم بتمييزات دقيقة بين قسم يُسمح به وقسم لا يُسمح به على مثال ما يفعل الرابينيّون في إطار فتاويهم.
تبدو هذه الفرضيّة معقولة لأنها توافق موافقة السياق. فالكتبة بشريعانيّتهم الدقيقة يحرّرون الانسان من متطلّبات الشريعة الأساسيّة (رج آ 23-24). ويسوع يهاجمهم هنا كأفراد يعيشون إيمانهم، بل "قوّاد" (هوديغوي). لأنه يهمّه أمر الشعب الذي يقوده قادة عميان يسيرون به في النهاية إلى جهنم.
انطلق بعضهم من هذا التلميح إلى الهيكل ليقول إن مت دوّن في أورشليم وقبل سقوط الهيكل سنة 70 ب م. برهان ضعيف لاسيّما وأن مت يتحدّث عن دمار أورشليم والهيكل خصوصًا في ف 24. فالانجيل يعود إلى وضع سابق ساعة كان الوضع قائمًا بعدُ. ساعة كان ذهبُ الهيكل يشعّ في البعيد والودائع فيه كثيرة. أما خطأ الفرّسيّين فهو أنهم اعتبروا ذهب الهيكل أكثر قيمة من الهيكل. ولكن لا قيمة دينيّة لذهب الهيكل إلاّ بالهيكل الذي يرمز إلى حضور الله. ونقول الشيء عينه عن التقدمة. فالطابع المقدس للمذبح هو الذي يعطيها قيمتها.
وبعد آ 20 تتحوّل الفكرة بعض الشيء. لم نعد أمام أشياء ثمينة في الهيكل (الذهب، التقدمة) يقدّسها ارتباطُها بهذا المكان المقدس، بل أمام سيادة الله على كل شيء. لهذا كانت الخلاصة الضمنيّة: من حلف بالهيكل أو بالسماء أو بأي شيء كان، فقد حلف بالله نفسه. فالحلف هو في العمق تطلّع إلى الله الحي ونداء نرفعه إليه في الشدّة.
ونصل إلى العشور مع آ 23-24. فالآية 24 تُجمل ما تقوله آ 23 بشكل مجدّد وتقدّم في صورة تلفت النظر. في اسرائيل القديم، عرف نظام العشور تطوّرًا متشعبًا. دلّ على أن الله هو مالك كل شيء. والعشر الذي يقدّم له (للاهتمام بالكهنة واللاويين والفقراء) يذكّر المؤمنين بهذا الحق حسب المبدأ: "الجزء للكل". أي إذا أعطيت جزءًا من خيراتي لله، أكون وكأني أعطيتها كلها. انطلق الفريسيون من أهمّ محاصيل الأرض، فوصلوا إلى النعناع والشبث والكمون، إلى أمور صغيرة لا تستحقّ أن نعطيها كل هذا الاهتمام. ولكنها تدلّ على "وسوسة" في ممارسة الشريعة تجعل الانسان عبدًا للشريعة لا ابنًا لله.
تعلّق الكتبة والفريسيون بهذه الأمور الصغيرة، وأهملوا الأمور الكبيرة، الخطيرة، "فربحوا" في هذه التجارة مع الله. أما الأمور الخطيرة فهي العدل والرحمة والأمانة. العدل هو احترام كل انسان في حقوقه. وهناك الرحمة التي نعيشها على المستوى المادي إحسانًا وصدقة. وعلى مستوى الشريعة، تسامحًا مع المساكين إن هم لم يستطيعوا أن يمارسوا الفرائض بحذافيرها. والأمانة لا تعني النيّة الصالحة، ولا الايمان بيسوع المسيح، بل الخضوع بفرح لمتطلّبات الله الأساسيّة كما نجدها في الكتاب المقدس (إر 5: 1؛ روم 3: 3؛ غل 5: 22). وقال يسوع: "كان عليكم أن تعملوا بهذه من غير أن تهملوا تلك". إن مارسنا الأمور الصغيرة لا ننسى الكبيرة. والعكس بالعكس. فالمسيح في مت لا يشجب من جهة المبدأ، بحثَ الفرّيسيّين عن حذافير الأمور. فالطاعة قد تصل إلى تفاصيل دقيقة في الحياة اليوميّة. شرط أن لا نهمل الجوهريّ وأن لا نعيش في طمأنينة كاذبة (على مثال الفريسيّ الذي اكتفى بأن يصوم في الأسبوع يومين ويعشّر أمواله)، فننسى أننا مهما عملنا نحن أناس عاديون، لم نعمل أكثر ممّا طُلب منا.
ويتحدّث النصّ عن "المصفاة". كان الفريسيون يصفّون الماء والخمر، لا بسبب النظافة. بل خوفًا من أن يبلعوا حشرة نجسة بحسب الشريعة فيخطئوا. وهكذا نكون أمام تفسيرين. قد يوبّخ المسيح الفريسيين لأنهم يهملون بإرادتهم الجوهر (هل نبلع جملاً ولا نحسّ به). أو يوبّخهم لأنهم يهتمّون بالتفاصيل اهتمامًا يجعلهم ينسون المتطلّبات الأساسيّة بعد أن يغرقوا في ممارسة للشريعة قريبة من المرض. هذان التفسيران يوافقان النظرتين حول الرياء كما في آ 15. إن الفريسيين هم ضحيّة اهمال وعدم منطق في تصرّفهم، بل ضحيّة فساد دينيّ يجعلهم يفضّلون ما هو ثانوي على ما هو جوهريّ، يفضّلون عشر النعناع والكمون على العدل والرحمة والأمانة.
وتبدو آ 25-28 وحدة تامة، وهي تركّز على التعارض بين المظهر الخارجيّ والنجاسة الداخليّة. بين الخارج والداخل (7: 15؛ 23: 25، 27؛ لو 39:11). والكأس هي صورة عن الانسان كلّه. فإذا أراد أن يكون نقيًا (طاهرًا)، لا يكفي أن يتّخذ بعض الاجراءات الطقسيّة العزيزة على قلب الفريسيين. بل يجب أن يتخلّى عن السلب والجشع. ربط الفريسيون هاتين الرذيلتين بالصادوقيين. وها هو يسوع يربطهما بالفريسيين.
إن هاتين الرذيلتين تدّلان أن التنقية الداخليّة (آ 26) لا تعني القيامة بأعمال باطنيّة محضة، بل طاعة القلب الكاملة لما تفرضه الشريعة في جوهرها. فالباطن هو الانسان الخلقيّ كما تكوّنه كلَّه الأمانةُ لمتطلّبات الله. فإن كان الانسان حقًا أمينًا، كان الخارج طاهرًا، كان ما يراه الناس منه نقيًا. فالانسان الكامل كما يراه الله وحده، لا يكون طاهرًا حقًا لدى البشر إلاّ بالأمانة الصادقة لفرائض الشريعة الأساسيّة.
يُثبت هذا التفسير ما قيل في 15: 11: فما يخرج من الفم هو أعمال ملموسة يقوم بها الانسان كله، يُلزم الانسان بها نفسه. هذا ما يجعل الانسان طاهرًا أو نجسًا، لا ممارسات ثانويّة على مستوى الطهارة الطقسيّة. وهكذا فعبارة "نطهّر داخل الكأس" تعني الطاعة الصادقة لشريعة الله كما يفسّرها المسيح "الآن". وسيكون يسوع قاسيًا حين يشبّه الفريسيين بالقبور التي هي بيضاء، "جميلة" من الخارج، ومليئة بكل نجاسة في الداخل. يقول النصّ: هل يكفي أن نتوقّف على الخارج؟ فخارج الفريسيين "التقيّ" لا يستطيع أن يعوِّض ما في قلوبهم من نجاسة. يتحدّثون عن الشريعة (نوموس)، وهم يعارضون الشريعة (انوميا، لاشريعة). ظلّت الشريعة بالنسبة إليهم حرفًا خارجيًا ولم تصل يومًا إلى عمق كيانهم.
وتسير المراءاة إلى أعمق من هذا، تسير من شرّ إلى شرّ. فيسوع يتّهم الفريسيّين لأنهم يتاجرون بأمانة الأنبياء والأبرار من أجل مجدهم الخاص (رج 10: 41؛ 13: 17). يبنون القبور والضرائح للأجداد الذين اضطهدهم الشعب في الماضي. يعود الفريسيون إلى الماضي لكي يتبنّوه. يحسبون أنهم أبناء الآباء البررة، بينما هم في الواقع نسل القتلة الذين سبقوهم، وهم مسؤولون مثلهم. وتظهر مسؤوليّتهم هذه بما يقومون به اليوم من أعمال حين يقتلون يسوع ويضطهدون تلاميذه. لم يكن الكيل ملآنًا مع الآباء. فامتلأ مع الأبناء. قال يسوع "جمِّموا أنتم مكيال آبائكم". وهكذا نكون أمام خلاصة ما قاله يسوع في مثل الكرّامين القتلة (21: 33-34). وسيقول اسطفانس لليهود (أع 7: 51) في هذا المعنى: "كما كان آباؤكم كذلك أنتم أيضًا".
خاتمة
هذه "الويلات" السبعة التي بدأت مع سلوك لا يرضى الله عنه، ووجدت ذروتها في قتل مرسلي الله، تعكس المؤامرة التي نجدها في الانجيل كله.
فالصراع الديني قاد يسوع إلى الموت. هذه الويلات هي خلاصة ما قاله يسوع من قبل في معاصريه، بعد أن ركز كلامه على الكتبة والفريسيين. فيسوع قد هدّد معاصريه بالويل في شخص كورزين وبيت صيدا (15: 21؛ 7:18). وشجب رياء الفريسيين (15: 7) الذين يتعلّقون بتقاليد الشيوخ وينسون وصايا الله. واعتبرهم قادة عميانًا (15: 14) يقودون عميانًات فيسقط الجميع معًا. رفض يسوع السلوك (هلكه) الذي يقدّمونه للناس (15: 1- 11؛ 16: 5-12)، وبيّن أنهم يهملون المهمّ على حساب ما هو ثانويّ: يهتمون بسنبلة قُطفت يوم السبت، وينسون الرحمة التي يجب أن يمارسوها تجاه "الصغار" (12: 1ي).
توجّهت هذه "الويلات" بشكل مباشر إلى الكتبة والفريسيين. ولكنها توجّهت بشكل غير مباشر إلى الجمع وإلى التلاميذ. هذا يعني أنها تتوجّه إلى الكنيسة، تتوجّه إلينا. لم نعد هنا على مستوى التاريخ وكأن مت يعود بنا إلى القرن الأول ب م، بل نحن أمام فكرة لاهوتيّة عميقة. ففي كنيستنا وفي كل واحد منّا يقبع فرّيسي تنقصه العدالة والرحمة والأمانة، يختبئ وراء بعض الممارسات ليمارس السلب والجشع. نحن هنا كما في لفظة "يهود" في يو. فاليهود هم الذين رفضوا تعليم يسوع وقسّوا قلوبهم. وقد نكون نحن من "اليهود" حين نقسّي قلوبنا تجاه كلام الله. ونقول الشيء عينه عن لفظة "اسرائيل". قيل عن نتنائيل إنه اسرائيليّ لا غشّ فيه. أي قرأ الكتب المقدّسة فانفتح على نداء يسوع وأعلن إيمانه: "أنت ابن الله، أنت ملك اسرائيل" (يو 1: 49). وكل واحد منا يمكن أن يكون "اسرائيليًا لا غشّ فيه"، إذا شاء، كما يمكنه أن يكون "يهوديًا" مثل نيقوديمس الذي جاء في الليل لم مضى في الليل، فما أدرك النور، نور المسيح الذي جاء إلى العالم.
وهكذا كما يمكن أن يكون المسيحيّ "يهوديًا" أو "اسرائيليًا"، يمكنه أن يكون من جماعة الكتبة والفريسيين. لهذا قال لنا يسوع محذّرًا: "إن لم يزد برّكم على ما للكتبة والفريسيين فلن تدخلوا ملكوت السماوات" (5: 20). يبقى علينا أن نترك الخمرة العتيقة ونأخذ بالجديدة. يبقى علينا أن ننتقل من شريعة نمارسها ونتمسّك بحرفيّتها إلى برّ نعيشه في الأمانة التامة لإنجيل قدّمه يسوع وما زال يقدّمه لكل واحد منا. كان على المسيحي في زمن متّى أن يختار بين مدرسة الفريسيين ومدرسة يسوع. والمدرستان ما زالتا حاضرتين اليوم. فأيهما نختار؟

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM