الفصل الخامس والعشرون :معلّمكم واحد وجميعكم إخوة

الفصل الخامس والعشرون
معلّمكم واحد وجميعكم إخوة
23: 1- 12

حين قرأنا المقطوعة السابقة حول المسيح ابن داود وربه، اكتشفنا التماسك في السرد المتّاويّ منذ ف 21: فالتوتّر بين يسوع ورؤساء الشعب ما زال ينمو حتى ف 23 حيث يصبح كلام الرب توبيخًا قاسيًا وتقريعًا عنيفًا يتوزعّ في عدد من الويلات. "الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون". نحن لا نجد في 23: 1-36 موضوعًا واحدًا، بل صورة فيها الكثير من الهجوم على الكتبة والفريسيين (آ 1-12). ثم رثاء لهم في صيغة "الويل". وبعد توبيخ قاس نجد نبوءة مخيفة يقول فيها يسوع المتّاويّ لمحاوريه إنهم سيؤخذون في فخّ غضبهم. سيقع عليهم كل دم زكيّ هُدر على الأرض.
في الازائيين، ولا سيّما في متّى ولوقا، لا يتوجّه يسوع بشكل مباشر إلى الفريسيين، بل إلى الجمع وتلاميذه (يقوله لوقا: إلى جميع الشعب). هذا يعني أن يسوع لا يهاجم تعليم الفريسيين في حدّ ذاته، بل يقف بين الشعب ورؤسائه التقليديين ليعارض سلطة الرؤساء على هذا الشعب. وأول هجوم ليسوع على خصومه: ليسوا منطقيين مع أنفسهم: يقولون ولا يفعلون. هم غير أمناء لتعليمهم. وموضوع الاتهام الثاني هو أنهم يعملون كل شيء لكي يراهم الناس. مع آ 8، تتحوّل لهجة يسوع فيحدّث الشعب الذي يسمعه مع التلاميذ، بل يحدّث الجماعة الكنسية في أيام متّى فيدعوها إلى الخدمة، إلى حياة الاخوّة، إلى تواضع ينتهي بها إلى الارتفاع. هو ارتفاع على الصليب مع المعلّم. وفي الوقت عينه ارتفاع في المجد مع ربّ المجد.

1- السياق الادبي
تنتمي هذه المقطوعة إلى القسم الأول من مجموعة أقوال الربّ التي تحتلّ ف 23 كله. بعضهم سمّاها "الخطبة المتاويّة للفريسيين". أما القسم الثاني فيشكّل النواة التي تميّز هذه الأقوال: أخذ يسوع لهجة الأنبياء في التوبيخ والتقريع، فأعلن سبعة ويلات قاسية ضدّ الكتبة والفريسيين (آ 13-36). والقسم الأول (آ 2- 12) يأخذ الوجهة التعليميّة والارشاديّة، فيتوجّه إلى الجمع وإلى التلاميذ. وأخيرًا في الجزء الثالث ودعّ يسوع شعبه باكيًا على أورشليم التي ستعرف الخراب القريب (آ 37-39). هذه الأقوال الأخيرة تدخلنا إلى "الخطبة الاسكاتولوجيّة"، كما نقرأها في ف 24- 25.
قبل ف 23، كان الانجيليّ قد أعطى نظرة إجماليّة حول نشاط يسوع المسيحانيّ في أورشليم وبالتحديد في الهيكل. تكرّس بشكل خاص لخدمة الكلمة، أي للتعليم (21: 23: فيما هو يعلّم) والفقاهة (33:22: بهتوا من تعليمه). وبعد أن وضع يده على الهيكل (هو بيت أبيه) وطهّره (21: 12: طرد جميع الذين يشترون ويبيعون)، تكلّم فيه بسلطان وانقسم سامعوه ثلاث فئات: التلاميذ الذين يكوّنون حوله جماعة متّحدة جدًا. خصومه الذين يتآمرون عليه. الجموع التي ظلّت تتحمَّس له (22: 33) فتحميه من أعدائه (21: 46: طلبوا أن يقبضوا عليه إلاّ أنهم خافوا من الجموع).
هؤلاء الاعداء الذي يمرّون بعضم وراء بعف، يمثّلون وجهاء الجماعة اليهوديّة في القرن الأول المسيحي. هناك عظماء الكهنة (21: 15، 23، 45). شيوخ الشعب (21: 23). الكتبة (21: 15). الصادوقيون (22: 23، 34). الهيرودسيون (22: 16). الفريسيون (21: 45؛ 22: 15، 34، 41). تلاميذ الفريسيين (22: 16). كتبة ينتمون إلى مجموعة الفريسيّين (22: 35). ولكن إذا انطلقنا من الفقاهة المتاويّة، نرى أن هذه المجموعات التي تمثّل كتلة معادية يجسّدون كل شعب اسرائيل: شهد مجيء المسيح ولكنه قاوم مقاومة ناشطة وكاملة وجذريّة شخص يسوع وتعليمه ومرسليه، فكان مسؤولاً عن هذه المقاومة، وخاطئًا تجاه يسوع الذي اعتاد أن يسمّيه "هذا الجيل" (23: 36).
مال الانجيليون عامّة، ومتّى خاصة، إلى اعتبار الفريسيين العدوّ الأول ليسوع. والصورة التي رسموها عن "الفريسي" قد انتقلت إلى عقليّة الشعب المسيحي الذي يرى فيه نموذج الرياء والخبث، نموذج جميع الشرور. وهكذا وصل هجوم متّى في ف 23 إلى الذروة، فصارت هذه الأقوال المذكورة هنا حجر عثرة أمام اليهوديّ الذي يقرأ الانجيل.
وكانت ردّة الفعل لدى عدد من الشّراح المعاصرين، صرخة تحتجّ على الظلم. ففي نظرهم، لم تكن معارضة منظّمة وعميقة بين يسوع وفريسيّي عصره. واعتبر الأكثر جذريّة بينهم (وخصوصًا الكتّاب اليهود) أن يسوع كان فريسيًا. ويقولون: كل ما فعله يسوع هو أنه واجه مجموعة خاصة حول مسائل تطرح في المدارس. ولكن مدوّنيّ الانجيل شوّهوا المنظار التاريخيّ وعمّموا وضخّموا الأمور، فأعادوا إلى زمن يسوع التوتّرات والجدالات والقطيعة النهائيّة التي حصلت بين الجماعات الرابينيّة والجماعات المسيحيّة خلال الحقبة المظلمة التي تلت كارثة أورشليم سنة 70 ب م. فرابينيّو ذلك الوقت الذين لم يكونوا فريسيّين في المبدأ، كانوا كذلك في الواقع. وماهى المعلّمون المسيحيّون بينهم وبين "الكتبة" في أيام يسوع، وقاربوا بين الفئتين وجمعوهما في عبارة "الكتبة والفريسيين" التي ترد سبع مرّات في مت 23. إذن يقولون، إن ف 23 لا يعكس عواطف يسوع وأقواله، بل عداوة متحمّسة ضد الفريسيين ومناوئة لهم حرّكتها حلقات من المسيحيين المتهودين في الجيل الثاني المسيحي (أي بعد الرسل) أو الجيل الثالث.
أما نحن فنحاول أن نفهم هذه الصفحة دون أن نأخذ موقفًا متطرّفًا. "فالخطبة المناوئة للفريسيين" التي نقرأها في فم الرب، ليست نسخة مسجّلة تسجيلاً حرفيًا، وإلاّ لكانت نصوص مت ومر ولو متشابهة حتى في العبارات والألفاظ. أما متّى فجمع عدّة عناصر من التقليد الفقاهيّ بشكل منهجيّ، وقام ببعض اللمسات في النصوص، وكمّلها بحسب أسلوبه التعليمي العاديّ. وهكذا جاءت مسيرة تدوين ف 23 متشعّبة جدًا. وهناك أسئلة لا نستطيع أن نجد لها أجوبة كافية. أما قوّة النصّ فتعود إلى كون الانجيلي (أو التقليد الذي سبقه) قد جمع أقوالاً قالها يسوع في مناسبات عديدة، وقدّمها دفعة واحدة فبدت مدمّرة لتيّار الكتبة والفريسيين (فالمسيحيون يستطيعون أن يكونوا "كتبة وفريسيين" إن هم تصرّفوا كما نقرأ في مت). وعلى المستوى السيكولوجيّ، تأثّر مدوّن الانجيل خاصة باهتمامات راعويّة تجاه كنائس مسيحيّة متهوّدة يكتب لها، وبالأخصّ تجاه "أساقفتها" (وشيوخها).
فالقطيعة قد تمّت بين تلاميذ الانجيل والمجمع الرسمي الذي ما زالت يؤثّر عليهم تأثيرًا قويًا ويحاول أن يستميلهم عبر مضايقة اجتماعيّة تحوّلت مرّات إلى اضطهاد حقيقيّ. حاول متّى أن يأخذ موقفًا متوازيًا: من جهة شدّد على وصيّة المحبّة للأعداء. ومن جهة ثانية، صوّر بأكثر ما يكون من التفاصيل موقف المضطهدين المناوئ للانجيل. فاختار أقوال يسوع ضد الذين عارضوا رسالته واضطهدوه حتى الموت، وجمعها في خطبة "كاملة" تتألّف من سبعة ويلات (رقم 7 هو رقم الكمال)، فدلّ على جوهر ما قاله يسوع في خصومه الذين كان بينهم عدد كبير من الكتبة والفريسيين. ففي نظر متّى، الكتبة والفريسيون هم الخصم النموذجي ليسوع وللكنيسة. وهكذا بدا يسوع في هذا النصّ من مت كالنبيّ الذي يُرسل كلام التوبيخ، بل كالدّيان الاسكاتولوجيّ الذي يهدّد لكي يدعو إلى التوبة، ولا يخاف من أن يبرز الخطيئة الكامنة في هذه القبور المكلّسة.
ولكن ما دفع متّى إلى الكتابة أولاً، هو اهتمام رعائي تجاه كنائسه. لاشكّ في أن هناك حدودًا بين هذه الكنائس وعالم الرابينيين الفريسي. ولكن الناس يعبرونها بسهولة. ومع ذلك، بدا الفصل جذريًا بين الكنيسة والمجمع. أما بالنسبة إلى الوثنيين، فالمسيحيون المتهوّدون (مينيم كما يقول اليهود في المباركة الثامنة عشرة التي هي في الحقيقة لعنة) واليهود الذين ظلّوا يهودًا، متشابهون بحيث يخلط الغريب بين فئة وفئة. خاف متّى أوّلاً من العدوى تصيب أبناء الكنائس الذين يعودون إلى العالم اليهوديّ كما حدث في كنيسة غلاطية فتدخّل بولس. وخاف أن يضيع الوثنيون الذين سوف يرتدّون. لهذا كتب ما كتب.
عرف متّى أن انجيله لن يُقرأ في مجامع الرابينيين المتأثّرين بالعالم الفريسي، بل في الجماعات المسيحيّة. ولهذا، كان كلامه موجّهًا ضدّ عقلية ومواقف فريسيّة أخذت تنتشر داخل الكنيسة. بدأ المسؤولون يأخذون بعادات الفريسّين. "يحبّون المتكأ الأول في الولائم، والمجالس الأولى في المجامع، والتحيّات في الساحات". كادت الكنيسة في أورشليم أن تصبح شيعة منغلقة على نفسها، رافضة دخول الوثنيين إليها. ولكن كانت حادثة بطرس عند كورنيليوس، وعمل الهلينيين مع اسطفانس، ومشروع بولس الرسولي. وعاشت كنيسة متّى تجربة العودة إلى اليهوديّة الفريسيّة والعقليّة الفريسيّة، فكتب لها الانجيليّ ينبّهها ويحذّرها من الخراب الذي ينتظرها إن هي ظلّت في موقعها ولم تتب إلى الرب.

2- تفسير الآيات
أ- مقدّمة تدوينيّة (آ 1)
كان يسوع يعلّم في الهيكل. ويبدو أنه يتابع تعليمه هناك (23:21؛ 24: 1). في النصّ الموازي في مر 12: 37، يبدو أن يسوع يتوجّه إلى الشعب. وبحسب لو 20: 45، يتوجّه إلى التلاميذ في حضور الشعب. أما مت فقال: "عندئذ كلّم يسوع الجموع وتلاميذه". تحدّث إليهم عن خصومه الذين هم الكتبة والفريسيون. أما "الجموع" (أوخلوس) فهم فئة يحتقرها عدد كبير من الرابينيين، هم "أهل الأرض" الوضعاء. ولكن هذه البساطة هي التي تجعلهم قريبين من الانجيل. و"التلاميذ" يمثّلون المسيحيين الذين خرجوا من العالم اليهودي، يمثّلون المسؤولين عن الجماعات. سمّاهم اليهود "مينيم" واستبعدوهم عن الاجتماعات التي تتمّ في المجامع يوم السبت.
في هذه الخطبة الطويلة (ف 23) التي وضعها الانجيليّ في فم يسوع، نتوقّف فقط عند آ 1-12 ونقسمها قسمين متوازيين: هم (آ 2-7). مهما قالوا لكم. يحزمون أحمالاً ثقيلة... أنتم (آ 8- 12). وأما أنتم فلا تدعون رابي. الأكبر فيكم يكون خادمًا. وهكذا نكتشف ما يميّز الكتبة والفريسيين، وما يجب أن يراه الناس في الكنيسة من حياة أخويّة تتميّز بالخدمة والتواضع. هذا التعارض الارشاديّ هو أسلوب تربويّ مارسه متّى مرارًا (رج 20: 26-27).
ب- الكتبة والفريسيون (آ 2- 7)
يشدّد النصّ على ثلاثة أمور: المسؤوليّة، الأنانيّة، الكبرياء وحبّ التظاهر.
أولاً: دور الكتبة والفريسيين في الجماعة (آ 2-3)
تبدأ خطبة يسوع فتدلّ على مكانة الكتبة والفريسيين في الجماعة: إنهم يمارسون تعليمًا دينيًا شرعيًا في اسرائيل (آ 2). وكلمة "كرسي" (كاتدرا) تدلّ على الوظيفة التعليميّة (كما تدلّ على الوظيفة القضائية). ففي الزمن الهلنستيّ (مع التأثير اليونانيّ في الشرق بعد دخول الاسكندر الكبير إليه) اعتاد الفكر اليهوديّ أن يعتبر موسى معلّما (رج يو 9: 28: نحن تلاميذ موسى) أقامه الله على كرسيّ التعليم في سيناء. ونظّم العالم الرابيني سلسلة روحيّة من الأسماء تتواصل ولا تنقطع منذ موسى مرورًا بيشوع والشيوخ والأنبياء و"رجال المجمع الأعظم" حتى الرابينيين المعاصرين. هي سلسلة من جميع الذين تكلّموا باسم التقليد الشفهيّ وفسّروه، واعتبروا أم مهمتهم هي المدافعة عن التوارة المكتوبة عن هذا التواصل في وظيفة التعليم.
إن الكرامة الرفيعة التي يمثّلها الكتبة والفريسيين، ستتعارض كل المعارضة مع الأقوال القاسية التي سنقرأها في الويلات. جمع مت هنا بواقعيّة ما يعرفه عن المؤسّسة ونظمها. واعترف بسلطتها. وذكّر بمسؤوليّتها. وطلب من الناس أن يسمعوا لها. ففي نظر شعب لا يستطيع أن يستغني عن التعليم الدينيّ، شكَّل علماء الشريعة مدرسة موسى في أيام يسوع، ولو استحقوا اللوم بعض المرات، لأنهم يقولون ولا يفعلون.
إذا كان الذين يمسكون بالسلطة تنقصهم الفضيلة، يحدث توتّر بينهم وبين الشعب. ونحن نجد صدى لذلك في هاتين الوصيتيّن اللتين نوّه بهما يسوع. "إذن، اعملوا واحفظوا كل ما يمكن أن يقولوا لكم، ولكن لا تسلكوا (لا ترتّبوا حياتكم) بحسب أعمالهم" (لا تقتدوا بهم) (آ 3ج- 7). أما الشقّ الأول (آ 3أ: مهما قالوا لكم) فيتبع التأكيد السابق: إذا كانوا يجلسون على كرسيّ موسى، فهم يجسّدون اليوم تعليمه. لهذا، يجب على كل اسرائيلي أن يعمل بما يأمرونه به. هنا نحسّ بنيّة دفاعيّة عند متّى. ظلّ المسيحيون يراعون نظم الشعب اليهوديّ حتى بعد عمادهم. لهذا ليسوا مسؤولين عن القطيعة التي تمّت بين الكنيسة والمجمع.
غير أن هناك مقاطع عديدة من مت لا تتوافق مع تعليم الرابينيين في بعض النقاط: التعامل مع راحة السبت (12: -13). طريقة تفسير الوصايا بحيث تتغلب تقاليدُ الشيوخ على وصايا الله (15: 1- 20). بل تعليمهم كله هو خمير يجب أن يحذره تلاميذ يسوع (16: 5-12). ومع ذلك، ورغم رفض يسوع لبعض التعاليم من شّراح الشريعة، تبقى سلطتهم التعليميّة هي هي. لا شيء يلغيها في أساسها. هنا يلمّح الانجيليّ الذي يكتب إلى عالم مسيحيّ متهوّد إلى ممارسة خدمة في الكنيسة تشبه تلك التي يُطلب منها أن تشرح شريعة موسى خصوصًا في المجامع (رج أع 15: 21).
كان يجب على التعليم الدينيّ أن يكون مهمّة الكهنة كما يقول سي 17:45: "أعطاه في وصاياه سلطة على فرائض الشريعة لكي يعلّم يعقوب متطلّباتها وينير اسرائيل بشريعته". وقال هوشع لكاهن باسم الرب: "نسيت شريعة إلهك" (4: 6). وقال ملا 7:2: "لأن شفتي الكاهن تحفظان العلم، ومن فيه يطلبون الشريعة، إذ هو ملاك ربّ الجنود". أما في زمن متّى (والمسيح أيضًا) فالكتبة والفريسيون هم الذين يقومون بهذه الوظيفة التعليميّة. والطريقة التي بها يمارسون خدمتهم تدلّ على نبل عملهم. لهذا يجب على المؤمن أن يعمل بما يقولون، بقدر ما يكون عرضهم مطابقًا لكلام موسى. فإن هم حادوا عنه في بعض الأمور، فلا نستطيع أن نقول إنهم يجلسون على كرسيّ موسى. بل لا يحقّ لهم بعد اليوم أن يجلسوا بعد أن جاء موسى الجديد، يسوع المسيح. إنه وحده المعلّم.
وإذ أعلن الانجيليّ مسؤوليّة الكتبة والفريسيّين بالنظر إلى كرامتهم وخدمتهم، أعلن في الوقت عينه كم ذنبهم خطير. وهكذا يواصل انتقادَ تصرّفهم الشخصيّ حتى نهاية الخطبة. "يقولون ولا يفعلون" (آ 3 ج). إن هذا اللوم الذي يرد بشكل عام جدًا، يدخلنا إلى آ 4، ويفسّر على ضوء هذه الآية. هي عبارة تطرق بقوّة. بدت بشكل سلبيّ لفريضة تميّز لاهوت متّى: يجب أن تتوافق الأعمال مع التعليم، والأفعال مع الأقوال. "كل شجرة لا تثمر ثمرًا جيّدًا تُقطع وتُلقى في النار" (19:7). "ليس كل من يقول لي: يا ربّ، يا ربّ، يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يعمل إرادة أبي الذي في السماوات" (7: 21). ونقرأ في 5: 19: "كل من يتعدّى واحدة من هذه الوصايا، حتى من أصغرها، ويعلّم الناس أن يفعلوا هكذا، فإنه يُدعى الأصغر في ملكوت السماوات. وأما من يعمل ويعلّم، فهذا يُدعى عظيمًا في ملكوت السماوات". غير أن الكتبة والفريسيّين هم معلّمون غير منطقيين مع نفوسهم. يقولون ولا يعملون. يحمّلون الناس الأحمال، وهم لا يحرّكونها بإحدى أصابعهم.
ثانيًا: اتهامان اثنان (آ 4-7)
* الاتهام الأول (آ 4)
يتهّمهم يسوع لأنهم لا يستخلصون النتائج مما يقولون. يحوّرون ما يقولون. ويظهر هذا الموقف حين يطلبون من الآخرين ما لا يطلبونه من نفوسهم. "يحزمون أحمالاً ثقيلة وهم..." (آ 4). وهكذا يلمّح النصّ إلى الوجهين والقلبين، إلى عدم استقامة. ويصوّر مسبقًا هؤلاء المرائين (آ 13 ي) الذين يكذبون على الله وعلى أنفسهم. والأحمال الثقيلة التي يضعونها على ظهور الناس تقابل "الحمل الخفيف" الذي يقدّمه معلّم الوضعاء (11: 30). واستعارة الحمل الثقيل تدلّ على العبد الذي ينحني من حمل رُبط على ظهره وما مدّ إليه أحد يدَ المساعدة (غل 6: 2: إحملوا بعضكم أثقال بعض). ويعود "ربط" إلى المعنى الرمزي الذي تعرفه "الهلكة" الرابينيّة التي تفرض على الشعب فرائض على مستوى الضمير تنطلق من تفسيرها للشريعة. أما الناس الذين تتألّم أكتافهم، فهم المتعبون الذين ينوءون تحت الحمل (11: 28)، لأنهم يتعذّبون من إفراط في تفسير الشريعة يزاد على "نير" الشريعة التي هي ثقيلة جدًا في حدّ ذاتها (أع 15: 10). إلاّ أن الانجيل لا يهاجم هنا قساوة الفرائض، بل المراءاة التي تقيم معيارين: واحد خفيف للكتبة. وآخر متطلّب للآخرين.
* الاتهام الثاني (آ 5-7)
ويشير الاتهام الثاني إلى أن كل شيء يجب أن يعود إلى الكتبة الذين يعتبرون نفوسهم محور المجتمع. ففي كل ما يعملون من أعمال يجب أن يراهم الناس. فبحسب آ 3 ب، إن قاموا بعمل فضيلة فلكي يُعجب بهم الناس (آ 5 أ). استعاد مت هنا موضوع وعبارات القسم الثاني من الخطبة الأولى، العظة على الجبل 6: 1-6، 16-18: "متى صنعت صدقة لا تبوّق بها قدامك كما يفعل المراؤون في المجامع.. ومتى صليتم فلا تكونوا كالمرائين يحبون الصلاة لكي يظهروا للناس... ومتى صمتم فلا تكونوا معبّسين كالمرائين، فإنهم ينكّرون وجوههم ليظهروا للناس صائمين".
بعد ذلك، تأتي ثلاثة أشطار بُنيت بحسب التوازي المترادف، فصوّرت هذا اللوم بشكل يدلّ على احتقار لمثل هذا التصرّف.
* الشطر الأول: "يعرّضون عصائبهم" (آ 5 ب). نحن أمام كاريكاتور يصوّر "تقواهم" بشكل يظهر للناس. إن استعمال العصائب كانت عادة قديمة جدًا في أيام يسوع. وهذا العمل يرتدي بعدًا دينيًا ساميًا، لأنه يدلّ على مثال رفيع: هكذا يتذكّر المؤمن دومًا شريعة الله ويلتزم بحفظها (تث 6: 8؛ 11: 18؛ خر 9:13، 16). لهذا يضعها دائمًا نصب عينه. فهي تدلّ على انتمائه للرب (مثل الوشم في الجسم. هناك من يجعل الصليب في زنده). أش 44: 5؛ خر 9: 4-6؛ رؤ 3: 12؛ 7: 3؛ 9: 4. كان الناس يجعلون هذه العصائب (وهي علب صغيرة تحتوي النصوص الأساسيّة في الشريعة، خر 13: 1-10؛ 13: 11-16؛ تث 4:6-9؛ 13:11- 21. وُجدت عصائب في مغاور قمران) عليهم حين يصلّون. أما الأتقياء فكانوا لا يتخلّون عنها طوال النهار. مثلاً، يوحنا بن زكاي (حوالي 80 ب م) وتلميذه رابي العازر. لا يلوم يسوع هذا الرابي أو ذاك لأنه يحمل العصائب على جبهته للدلالة على تمسكه بمراسم الربّ، بل لأنه يلبسها ظاهرًا، لكي يراه الناس. أما الله فيرى في الخفية.
ونقول الشيء عينه عن الأهداب التي هي شرّابات تُجعل في أربع زوايا الرداء فتذكّر المؤمن بوصايا الرب. رج عد 15: 37-39؛ تث 22: 12؛ مت 9: 20؛ 14: 36. "قال الرب لموسى: مُر بني اسرائيل أن يصنعوا لهم أهدابًا على أذيال ثيابهم... فيتذكّرون وصايا الرب ويعملون بها".
* الشطر الثاني: "يحبّون المتكأ الأول في الولائم. والمجالس الأولى في المجامع" (آ 6). إن آ 6 (مع آ 7)، لا تصوّر انحرافات مطبوعة بالأنانيّة بها يعمل الانسان عملاً صالحًا لكي يراه الناس، بل أفعالاً تدلّ على الكبرياء والمجد الباطل. فجميع الشعوب القديمة ولاسيّما في الشرق (في الماضي وفي أيامنا أيضًا) قد اهتّموا بقواعد الأوليّة والافضليّة في الاحتفالات العامّة (من يجلس في المقعد الأول، في الصفّ الأول). فهي تساعدنا على التعرّف إلى من هو الأكبر في مجتمع ما (لو 22: 24 ي). لقد قدّم يسوع في هذا الموضوع إرشادًا استنتج منه دومًا العبرة نفسها: الكبير في نظر الله هو الذي يجعل نفسه صغيرًا (آ 12). ومن ترأس على الآخرين صار لهم خادمًا وعبدًا (آ 11، رج مت 20: 26-27: من أراد أن يكون فيكم كبيرًا يكون لكم خادمًا). إن الألفاظ اليونانيّة التي نقرأها في آ 6 والتي قلّما تُستعمل خارج الانجيل تُعتبر خير تعبير عن كلام يسوع. "بروتوكليسياي". "بروتوكاتدرياي" (بروتوس أي الأول. ثم اتكأ. جلس). في المجامع، كان الذين يجلسون في الصفوف الأولى يديرون ظهورهم للعرش الذي يُوضع عليه كتاب الشريعة، فيراهم جميع الناس. إن راعي هرماس ينعت بالكذب "النبيّ" المسيحيّ الذي يتطلّب المركز الأول في الكنيسة (بروتوكاتدريا).
* الشطر الثالث: "والتحيّات في الساحات، وأن يدعوهم الناس: رابي" (آ 7). ويُنهي هذا الشطر الصورة الكاريكاتوريّة عن المعلّمين الفريسيين فيشدّد على مسرّتهم حين يتلّقون التحيّات في الساحات العامّة، وحين يسمعون الناس ينادونهم: رابي. فالساحة هي مركز الحياة العامة. هي على ملتقى الطرق والشوارع. قرب باب المدينة. الجميع يمرّون هناك. ولا ننسى التحيّة في شرقنا: حركة بطيئة واحتفاليّة تدلّ على الرهبة والاحترام العميق. ذاك هو المتكبّر الذي يحبّ رائحة البخور.
جعل الكاتب عمدًا لفظة "رابي" في قمّة القسم الأول من الخطبة المناوئة للفريسيين. فهو سيستفيد منها ليربط القسم الثاني بالقسم الأول (وأما أنتم فلا تدعوا أحدًا رابي). "رابي" هو العظيم. والسيّد. من هنا كلمة "الرب" في العربيّة. ولا ننسى عبارات مثل ربّ البيت (ربّة البيت). ويوضع مع اللفظة ضمير المتكلّم: رابي أي معلّمي أنا (كما يقال في الجماعات الرهبانيّة). بعد ذلك دلّت لفظة رابي على المعلّم والملفان، ووصفت معلّمي الديانة في العالم اليهوديّ. بعد ذلك، سيكون تكريس لمعلّم درس على يد معلّم آخر. لهذا سوف يتساءل اليهود: من علّم يسوع مثل هذا التعليم؟ فأعطى الجواب: علمتكم كل ما سمعت من أبي.
ج- المسؤولون في الكنيسة (آ 8- 10)
ماذا يطلب الانجيل من المسؤولين في الكنيسة بعد الابتعاد عمّا هو سلبيّ في موقف الكتبة والفريسيين؟ الأخوّة، التواضع، الخدمة. أنتم جميعكم إخوة. مدبّركم واحد هو المسيح. والأكبر فيكم يكون لكم خادمًا.
جاء هذا المقطع يعارض كل المعارضة المقطع السابق. فبعد مواقف العجرفة والكبرياء، نقرأ ثلاثة أفعال تطلب البساطة من مجموعة يتوجّه إليها الكلام في صيغة المخاطب الجمع: أنتم جميعكم، أباكم... (8 مرات). وهذا الضمير (أنتم) لا يعود إلى "الشعب" بشكل عام، بل إلى التلاميذ (رج آ 1) وعبرهم إلى المسؤولين في الجماعات المسيحيّة في أيام متّى وفي أيامنا. إن هذه الآيات التي أدخلها مت هنا هي امتداد لدليل نسكي ورعائي قرأنا بدايته في ف 18: "من وضع نفسه مثل هذا الولد.. إن عثّرتك عينك.. إذا خطئ أخوك فاذهب إليه" (ولا تنتظر أن يأتي هو إليك).
أولاً: القول الأول (آ 8)
"وأما أنتم فلا تُدعون رابي، فإن معلّمكم واحد وأنتم جميعكم أخوة". يستند القول الأول إلى آخر لفظة في المقطوعة السابقة: رابي. يفترض الانجيليّ أن لقب "رابي" يعني "معلّم" كما يفسّر ذلك يو 1: 38 (رابي، أي يا معلّم، أين تقيم). اتخذ هذا اللقب معنى تقنيًا بعد إعادة تنظيم جماعة الرابينيين بعد سنة 70 ودمار أورشليم والهيكل وزوال الكهنوت. أما في زمن يسوع، فقد تضمّن هذا اللقب في أوساط المدارس الدينيّة معنى "المعلّم" و"السيّد" معًا.
حين أدرج الانجيليّ توصيّة آ 8 في الخطبة المناوئة للفريسيين، دلّ على المرض الفريسيّ، على الجرثومة التي تهدّد كنيسته. أحبّ بساطة الجماعات الأولى، فقلق حين رأى طرق كلام وعمل تحمل وكلّمها عن يسوع المتواضع والوديع المسيحيّة، بل تتجذّر في جماعات عرفها وكلّمها عن يسوع المتواضع والوديع الذي علّمنا أن يكون كلامنا لا إن كان لا. وأن يكون نعم إن كان نعم. فلماذا المزج بين اللا والنعم. ولماذا التعارض بين الداخل والخارج، بين ما نقول ونفكّر.
في اللغة العبرية، الاسم يدلّ على المسمّى، على الشخص. لا تدعون رابي أي لا تطلبوا أن يسمّيكم الناس "رابي". إذن معنى آ 8 هو: لا تطلبوا أن تكونوا رابي، أن تسمّوا معلّمين لتسودوا على الآخرين. في ذلك قال يع 3: 1: "لا يكن منكم معلّمون كثيرون". أي لا تنصّبوا نفوسكم معلّمين لأن ليس إلاّ معلّم واحد في الكنيسة. إذا أخذنا بعين التوازي في آ10 (مدبّركم واحد، هو المسيح)، والسياق العام في العهد الجديد (يو 13: 13-14: إذا كنت أنا الرب والمعلّم) نفهم أن هذا المعلّم الوحيد لا يمكن إلاّ أن يكون المسيح.
"وأنتم جميعكم أخوة" (آ 8ج). هذه القاطعة الصغيرة تقطع الايقاع في السلسلة الثانية التي تتضمّن كالأولى (آ 5-7) ثلاثة أشطار (آ 8- 10). لا تُدعوا رابي. لا تُدعوا على الأرض أبًا. لا يدعُكم أحد مدبّرين. مهما يكن من أمر، فنحن نستطيع أن نضعها في نهاية آ 9: "أباكم واحد وجميعكم أخوة". ولكن إن وضع الانجيليّ هذه القاطعة (أنتم أخوة) هنا، فلأن له أسبابه. فلفظة "أخ" عرفت في العهد الجديد للدلالة على العضو في الجماعة، في عائلة الكنيسة. إنه يتميّز عن "صاحب وصديق" في مجموعة، عن رفيق. فالمعلّم والسيّد (أي المسؤول في الكنيسة وفي الجماعة) يرئس عائلة (مت 12: 49- 50. قرابة يسوع الحقيقيّة: من يعمل مشيئة أبي) يكون هو أخًا أيضًا (40:25: كل ما فعلتم لأحد إخوتي هؤلاء الصغار؛ 28: 10: قلن لإخوتي أي للرسل) في هذه العائلة التي لها أب واحد هو الآب السماوي (آ 9).
ثانيًا: القول الثاني (آ 9)
"ولا تدعوا أحدًا على الأرض أبًا، فإن أباكم واحد وهو الذي في السماوات". يبدو هذا القول الثاني وكأنه لا يوافق على إعطاء بعض المسؤولين في الجماعة لقب "أبا" في المعنى الاجتماعي والاحترامي كما في "رابي" (آ 9 أ). من الواضح أن النصّ لا يتكلّم عن الأب في العائلة في المعنى الحرفي للكلمة (مت 15: 4 ي؛ 19:19). كما أنه لا يرفض تقليدًا قديمًا عرفته الشعوب كما عرفه الكتاب المقدس، يتحدّث عن علاقة بين المعلّم والتلميذ على مثال العلاقة بين الأب والابن، بحيث يسمّي التلميذ معلّمه "أبي" (2 مل 2: 12. هكذا سمّى أليشاع إيليا؛ أم 4: 1؛ 1 كور 4: 14-17؛ غل 4: 19؛ 2 تم 1: 2؛ تي 1: 4؛ 1 بط 5: 13؛ 1 يو 2: 1، 12). فبين المعلّمين اليهود في الأجيال الأربعة الأولى هناك خمسون معلّمًا سمّوا "أبا". لهذا احتفظت النظم المسيحيّة بهذا اللقب في كل أشكاله: الأب، أبونا، الأباتي، البابا، وذلك للدلالة على قرابة روحيّة.
إن موضوع أبوّة الله (آ 9 ب) أساسيّ في مت. فليس من سلطة داخل الكنيسة، يحقّ لها أن تتعدّى على سلطان الآب وتسيء إلى كرامة المسيحيّ الذي هو بالحقيقة "ابن الله" (1 يو 3: 1-2؛ روم 9: 26). جاءت آ 9 أ مختلفة عن آ 8 أ، آ10 أ. جعلها المدوّن في هذا الشكل ليكون له الثنائي: الأرض والسماوات (رج 6: 10، 19؛ 16: 19؛ 18: 18- 19).
ثالثًا: القول الثالث (آ 10)
"ولا يدعُكم أحد مدبّرين، لأن مدبّركم واحد وهو المسيح". يبدو هذا القول مرادفًا من الناحية العمليّة مع القول الأول. وهكذا اعتبره عدد من الشّراح نسخة ثانية مختلفة عن القول الأول فتترجمه أو تطبّقه. فالكلمة التي تميّز القول الثالث عن القول الأول هي "كاتيغيتيس" التي لا تستعمل إلاّ هنا في كل الكتاب المقدّس (هناك لفظتان قريبتان: هوديغوس، القائد، مت 23: 16، 24؛ هيغومانوس "المدبّر"، رج عب 13: 7، 17، 24). تعني: الدليل، القائد الرئيس، الموجّه. وقد طبّقت منذ القرن الأول على عالم التعليم مع الاحتفاظ بالمدلول الاشتقاقيّ "وجّه" قاد". هو المدبّر والمربّي والقائد الروحي والمرشد والراعي. سمّته السريانيّة "مدبرونو"، المدبّر، واللاتينيّة: المعلّم.
"ليس لكم إلاّ معلّم واحد، مدبّر واحد، هو المسيح (آ 10 ب). من يعرف أسلوب مت ينتظر هنا "ابن الانسان" لا "المسيح" (مدبّر واحد هو ابن الانسان). وهذا ما يدهشنا في فم المسيح (ق مر 9: 41. من سقاكم كأس ماء بما أنكم للمسيح؛ يو 3:17: والذي ارسلته يسوع المسيح). لاشك في أنه لا يستحيل أن يكون الرب سمّى نفسه بهذا الاسم (كرستوس: مسيح). ولكننا نفضّل أن ننسب هذه اللفظة إلى لغة الكنيسة حين تدعو سيّدها.
في قلب هذه الأقوال الثلاثة المناوئة للفريسيين، يتكرّر الموضوع ثلاث مرّات مع لفظة "واحد": معلّمكم واحد. أبوكم واحد. مدبّركم واحد. في إطار هذا المبدأ تأخذ شخصيّة المسؤولين في الكنيسة كامل قيمتها من الاتّضاع والرفعة: هي حضور الخدمة وشفافيّة الابن الوحيد الذي يشاركه المسؤول في الرعاية والقيادة والتعليم. وما يُشرف على هذه الآيات هو في النهاية يقين الايمان بأن الرب يسوع يبقى حاضرًا وفاعلاً في كنيسته (مت 18: 20: حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة)، كما كان حاضرًا وسط تلاميذه خلال حياته على الأرض. فالكنيسة هي على الأرض عائلة الآب السماوي واتحاد بين الإخوة الذين يجعلون كل شيء مشتركًا بينهم.
د- الاكبر خادم (آ 10- 12)
تشكّل هاتان الآيتان مجموعة لا ترتبط ارتباطًا واضحًا بما سبق. إن آ 11 (الأكبر فيكم يكون لكم خادمًا) تستعيد مر 9: 35؛ 43:10-44، كما تستعيد مت 26:20؛ لو 48:9؛ 26:22. أما آ 12 (فمن رفع نفسه وُضع، ومن وضع نفسه رفع) فتذكّرنا بما في مت 18: 4؛ لو 4: 11؛ 18: 14. إذن، نحن أمام موضوع انتشر انتشارًا واسعًا في التقليد الازائي. أما في سياق هذه المقطوعة التي نقرأ، فهو موجّه ضدّ تسلّط الفريسيين وبحثهم عن المجد الباطل. لقد عرف العالم الرابيني مثل هذه التحريضات. ولكن هذا الموضوع يرتدي طابعًا لا يضاهى لأنه يرتبط بـ "خدمة" المسيح، بالمسيح الخادم (مر 10: 43 ي وز).
وفكرة الاتضاع في آ 12، يجب أن تفسّر مع آ 11 وفكرة الخدمة. لسنا أمام غريزة طبيعيّة من اجل الامّحاء، ولا أمام حركة بطوليّة في نكران الذات، ولا أمام تواضع يجمّدنا في مكاننا ويمنعنا من التحرّك. فإذا رجعنا إلى معنى الانجيل، نفهم ان الذي يخدم هو انسان نشيط لا يكتّف يديه. وهو انسان سعيد جدًا لأنه يضع نفسه مع يسوع الذي جاء ليَخدم لا ليُخدم. وهل من سعادة أعظم من أن نكون مع يسوع ونضع يدنا بيده؟
أمّا صيغة المضارع في الأفعال الخمسة المستعملة في آ 11-12، فهي تدلّ على الحاضر كما على الاسكاتولوجيا: تعملون ذلك والله يجازيكم في الدينونة الأخيرة. إذن، هي لا تصوّر أمرًا سيكولوجيًا أو اجتماعيًا طبيعيًا تتبدل بحسبه مصائر البشر كما تقول الأوساط الهلنستيّة. ولقد قال أحد الشّراح إن اليهود في زمن يسوع ما كانوا يطبّقون فكرة الاتضاع على فكرة الخدمة، بل كانوا يربطونها بالشقاء (انسان صار وضيعًا بسبب الشقاء) أو بالاعتراف بخطيئة شخصيّة ضد الله أو الإخوة. قال التفسير عن خر 20: 21: "من كان متواضعًا يجعل الشكينة تقيم في اسرائيل. ومن يترفّع بقلبه يُنجّس الأرض ويجعل الشكينة تهرب. فالمتعجرفون هم رجس مثل عبادة الأوثان".

خاتمة
إن قراءة تنبيهات الرب وتوصياته تجعلنا نفكّر طوعًا بقول معروف لدى ايرونيموس: "الويل لنا نحن الأشقياء الذين سقطنا في ما سقط فيه الفريسيون". وجاءت صلاة المزمور قريبة من الانجيل لأنها لا تعرّضنا لهذا الرياء المتخفي الذي يحاول أن يقرّ بخطيئته فيذكر خطيئة الآخرين على ما فعل الفريسي الذي ذهب يصلّي في الهيكل (لو 18: 9-14). قال المرتّل: "احفظ عبدك من الكبرياء، فلا تتسلّط هي عليّ. حينئذ أكون بلا لوم، ونقيًا من خطيئة كبيرة" (مز 14:19).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM