الفصل الثالث والعشرون: الوصية العظمى

الفصل الثالث والعشرون
الوصية العظمى
22: 34- 40

يتطرّق هذا الجدال الثالث إلى موضوع شغل أوساط العالم اليهوديّ. ما هي الوصيّة الأساسيّة التي إليها تستند الوصايا والفرائض والممنوعات؟ تحدث مز 15: 2-5 عن وصيتين. وأش 33: 15 عن ست وصايا. ومي 6: 8 عن ثلاث. وعا 5: 4 عن وصيتين. وحب 2: 4 عن وصيّة واحدة هي: "البار يحيا بأمانته لله". فما يكون جواب يسوع؟ وهو جواب انتظره الشعب المؤمن الذي ضاع وسط الفرائض فأحسّ دومًا بوخز الضمير. وهو جواب انتظره الفريسيّون وهمّهم أن يقع يسوع في فخاخهم. ولكن يسوع تحدّث عن وصيّة المحبّة، محبّة الله ومحبّة القريب، فلخّص في هاتين الوصيتين الناموس كله والأنبياء.

1- نظرة عامّة
نحن نفهم هذه الآيات كخبر صراع بين يسوع وخصومه. فبعد السؤالين حول الجزية لقيصر (22: 15-22) وقيامة الموتى (آ 23-33)، طُرح سؤالان آخران حول الوصيّة العظمى (آ 34- 40) والمسيح ابن داود (آ 41- 46). هذه الأسئلة الأربعة كانت تُناقش مرارًا لدى اليهود في زمن يسوع. وحين يورد الرابينيّون العدد الكبير من الوصايا، إنما كانوا يفعلون لكي يشدّدوا على أن الوصيّة الصغيرة مهمّة كالوصيّة الكبيرة: "فكما أن الذي يتعدّى جميع الوصايا يرفض النير وينقض العهد ويكشف عن وجهه ضد الشريعة كذلك من يتجاوز وصيّة واحدة يرفض النير (نير الشريعة) ويكشف عن وجهه ضدّ الشريعة وينقض العهد" (شرح في خر 6). وقال شرح تث 19:13: "لتكن الوصيّة الخفيفة عزيزة على قلبك كالوصيّة الثقيلة". "من بدأ يسمع قليلاً توصّل في النهاية إلى أن يسمع كثيرًا بحيث إن وصيّة خفيفة تكون عزيزة على قلبك مثل وصيّة كبيرة" (شرح تث 13: 19). "فمن تعدّى الوصيّة القائلة: أحبب قريبك كنفسك، تعدّى في النهاية الوصيّة القائلة: لا تنتقم، لا تحقد حتى إراقة الدم" (شرح تث 11:19).
إن مثل هذه الشريعانيّة القديمة، كانت تولّد تارة فرحًا حقيقيًا في الطاعة وطورًا برًا شخصيًا، تولّد عاطفة يحسب فيها الانسان أنه بار (لو 15: 26: ما تعدّيت أمرًا من أوامرك)، وأخيرًا تحرّك القلق لدى الذين لا يتوصّلون إلى حفظ الوصايا التقليديّة المتعدّدة (تث 19: 18). فبحسب تقليد المجمع، تضمّن كتاب الشريعة 613 وصيّة. 248 وصيّة إيجابيّة (م ص و ه، ما نستطيع أن نعمل. مثلاً، أكرم أباك وأمك)، و356 منعًا (لا تقتل...). لهذا أحسّ الناس بالحاجة إلى شميلة، إلى خطوط توجّه فكر الانسان وممارسته (رج مي 8:6؛ جا 12: 13). غير أن العلماء لم يستطيعوا يومًا أن يتجاوزوا هذا الطابع الذي يقسّم الشريعة إلى ذرّات مبعثرة.
إن أصالة هذا النصّ الذي ندرس، ليست في ما قال عن محبّة لله والقريب عرفها العهد القديم والعالم اليهوديّ، بل في التقريب بين محبّة ومحبّة. محبّة القريب تنبع من محبّة الله. ومحبّة الله تدلّ على صدق محبتنا للقريب. وأصالة هذا النص نراها أيضًا في المكانة الرفيعة التي جعلها يسوع لـ "موجز" الشريعة هذا. لقد لخّص الوصايا والممنوعات والفرائض في عبارتين: "أحبّ الله وأحبّ قريبك".
سار مت في خطى مر فجعل هذا "الموجز" على شفتي يسوع. أما لو فجعله في فم معلّم الشريعة داخل مثل السامريّ الصالح (10: 25-28). هذا ما يدلّ على أن الكنائس الأولى رأت في موجز الشريعة هذا تذكيرًا أمينًا بشريعة أعطيت لاسرائيل فجاءت على شفتي يسوع ساعة أراد الفريسيّون أن يجرّبوه. إن لهجة الخبر في مت ولو تختلف كل الاختلاف عمّا في مر 12: 28-34. ففي مرقس "يسأل" الكاتب (يطرح سؤالاً) يسوع بتهذيب (آ 28). أما عند متّى ولوقا فالعالم بالشريعة ينصب فخًا ليسوع. في مر، أنهى يسوع النقاش بعبارة تُثني على الكاتب: "رأى يسوع أنه أجابه بحكمة، فقال له: لست ببعيد عن ملكوت الله" (آ 34). قد نظنّ أن مت ولو حوّلا هذا الخبر الاولاني الذي وجداه في مر إلى صراع. أو أن مر لم يشدّد على البعد الهجوميّ في هذا الجدال كما فعل مت ولو.

2- حلقة سريعة العطب
يروي هذا المقطع الانجيليّ أن خصوم يسوع نصبو له فخًا أخيرًا علّهم يجدون فيه علّة اتهام تتيح لهم أن يتخلّصوا منه. كانت المحاولات السابقة قد فشلت الواحدة بعد الأخرى. فعظماء الكهنة وشيوخ الشعب ما استطاعوا أن يجيبوا يسوع حين أجاب على سؤالهم بسؤال. سألوه: "بأي سلطان تفعل هذا"؟ فأجاب: "من أين جاءت معموديّة يوحنا، أمن السماء أم من الأرض" (مت 21: 23-27)؟ وجاء تلاميذ الفريسيين برفقة الهيرودسيّين، فما استطاعوا أن يوقعوه في شباكهم حين سألوه: "قل لنا رأيك: هل يجوز أن نعطي الجزية لقيصر"؟ ولما أجابهم يسوع الجواب المفعم "تعجبّوا. ثم تركوه ومضوا" (22: 15-22). ووصل الجدال مع الصادوقيين حول شريعة السلْفيّة (المرأة التي يموت زوجها فتتزوّج سلفها) إلى نتيجة عاكست توقّعاتهم. "فلما سمع الجموع بُهتوا جدًا من تعليمه" (23:22-33).
وكانت محاولة الفريسيين حول أعظم الوصايا المحاولة الأخيرة. ولكن يسوع لم يقع في الفخّ. بل اتخذ المبادرة وطرح السؤال: "ماذا ترون في المسيح؟ ابن من هو"؟ واختتم الانجيليّ كلامه فقال: "لم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة. ومن ذلك اليوم، لم يجسر أحد البتّة أن يلقي عليه سؤالاً" (22: 41- 25).
لهذا، لا بدّ من أن ننتظر في مت 22: 34-40 سؤالاً يحاول، شأنه شأن الأسئلة السابقة، أن يحصر يسوع "في الزاوية". كما نستطيع أن ننتظر جوابًا دقيقًا ينزع من يد الخصوم كل سلاح كما حدث في الهجومات السابقة. وبداية الخبر توافق هذا الانتظار. ولما علم الفريسيون أنه أفحم الصادوقيين، تألبّوا (اجتمعوا في جماعة، تحالفوا معًا) عليه، "وسأله واحد منهم (وهو من علماء الناموس) ليجرّبه" (ليحرجه، ليوقعه 22: 34).
للوهلة الأولى، قد يبدو وفي الخبر مخيّبًا للآمال. طرحوا على يسوع سؤالاً: "يا معلّم، ما أعظم الوصايا في الناموس" (آ 36)؟ حين نسمع الجواب نظنّ أننا أمام درس من التعليم المسيحيّ. كما نعتبر أن الجواب لم يكن صعبًا جدًا. ثم إن وصيّة محبّة الله ومحبّة القريب ليست جديدًا مسيحيًا: فيسوع أخذ عباراتها من تث 6: 5 ولا 18:19. أما كان الأفضل لمتّى أن يسير في خطّ لوقا فيترك هذه المقطوعة التي تضعف الخبر كله؟ ثم، بما أننا كنا نعرف مسبقًا السؤال والجواب، هل كانت الحاجة ماسّة للتوقّف عند هذا النصّ؟ ولكن يبدو أن خبر متّى يذهب بنا أبعد من ذلك.

3- مدافع يصبح خصمًا (34:22- 35)
إذا أردنا أن نفهم 22: 34-40 فهمًا أفضل، نتفحّص المراجع المستعملة والمواد التي انطلق منها الكاتب لبلوغ خبره. ورد تث 6: 5 ولا 19: 18 مرتين لتقديم الجواب على السؤال. مر 28:12- 31 في ذات سياق مت 22: 34- 40. ولو 10: 25-25 كمدخل إلى مثل السامريّ الصالح. وفي كل حالة يسألون يسوع في هدف مختلف.
إن كاتب مر 12: 28- 31 الذي سمعهم يتجادلون (يسوع والصادوقيون)، والذي رأى أن يسوع أحسن الجواب، دنا منه وسأله: "ما هي أولى جميع الوصايا"؟ وأورد يسوع نفسه مقطعين مأخوذين من أسفار الشريعة. ولما اعترف الكاتب بصحّة جواب يسوع، قال يسوع: "لست بعيدًا عن ملكوت الله" (آ 34ج). أن يكون هذا الكاتب أخذ بجانب يسوع، يدلّ على أن يسوع ليس معلّمًا "كاذبًا" يحاول أن يخدع الناس بمعسول الكلام: إذن، حُكم عليه ظلمًا. ولكن لا نستطيع القول إنه لم يقدر أن يدافع عن نفسه؟
في لو 25:10-28، اختلف القول كل الاختلاف. لقد صار الكاتب الطيّب خصمًا. "وها إن معلّم الشريعة قام لكي يجرّبه" (لو 10: 25). سأل يسوع: "ماذا كُتب في الشريعة"؟ أجاب معلّم الشريعة وأورد تث 6: 5 ولا 19: 18. فنسمع يسوع يقول له: "بالصواب أجبت. إفعل هذا فتحيا" (آ 28). في هذا التدوين، شدّد الانجيليّ على الطابع العدواني لتدخّل معلم الشريعة. وهذا ما نراه في لو 10: 25- 28 الذي صار مقدّمة مثل السامري الصالح. وهذا المثل ارتبط بالمثل عبر الجملة التالية: "وإذ أراد أن يزكّي نفسه، قال ليسوع: "من هو قريبي" (آ 29)؟
أما إذا قرأنا مت 22: 34-40، فنلاحظ أن هذا النصّ يحوّل التقليد الذي يمثّله مرقس، دون أن نعرف سببًا لهذا التحوّل. ومهما يكن من أمر، فإن الكاتب الطيّب الذي يقف بجانب يسوع، بحسب مرقس، صار عند متّى فريسيًا (وفي بعض المخطوطات الهامة: عالم بالشريعة) يهاجم يسوع. دافع يسوع عن نفسه ولم يهاجم. حين أدخل مت شخصًا معارضًا ليسوع لا مدافعًا، بدأ بطريقة أفضل ف 23. فعلى 39 آية من ف 23، نجد 36 آية تقول إن يسوع حذّر الجمع من الفريسيين والكتبة بعد أن شرحّ أعمالهم بقساوة. إذن، أورد تدوين مت تحديدًا أدبيًا ولاهوتيًا. وهكذا تكون الصعوبة التي أشرنا إليها سابقًا أقوى ممّا مضى. فخبرُ مر بدا وكأنه درسٌ في التعليم المسيحي حفظه يسوع واسمعه لعالم الشريعة فهنّأه. بعد هذا، أما يكون مت 37:22-40 مثل جدال ضعيف لا قمة الجدال بين يسوع وخصومه؟
قبل أن نتقدّم في الجواب، نجيب على اعتراض ممكن: أما يلمّح هذا الذي قلناه الآن إلى أنّ مت قد "شوّه" التاريخ؟ هنا نتذكّر أن الأناجيل ليست كرونيكات (مجموعة أحداث) تاريخيّة. فالانجيليّون قد انطلقوا من مراجع مختلفة، وكوّنوا وحدات أدبيّة حول موضوع محدّد أول، حول كلمة تتردّد بين قول وآخر. إذن، تأثّر عملهم التأليفيّ بعوامل أخرى: هي: مجموعات أخبار. رؤية لاهوتيّة خاصّة بكل إنجيليّ. وضع الجماعة التي إليها يوجّه الانجيل. اختار الكاتب عناصر دون أخرى وصاغها بطريقته.
بالاضافة إلى ذلك، لا نستطيع أن نقول إن متّى شوّه التاريخ لأنه جعل جميع الفريسيين في جانب واحد واعتبرهم كلهم خصوم يسوع. هذا يدلّ بكل بساطة، أنه ما أراد أن يكتب تاريخ العالم اليهوديّ في عصره، بل أن يورد لنا ما كان مهمًا في نظر يسوع، والمواقف والنظم التي رفضها يسوع. وهكذا أراد متّى أن يُفهم قرّاءه المسيحيين المتهوّدين أين توجد جذور الخلاف بين الجماعة المسيحيّة والتجمّعات اليهوديّة. أن يريهم الانحرافات التي قد تظهر في قلب الكيبسة والموقف الذي يجب أن نتخذه تجاهها. ولا ننسى أنه وجب على الجماعة المسيحيّة في ذلك الوقت أن تدافع عن نفسها ضدّ هجمات آتية من الخارج وضدّ استيقاظ الروح الفريسيّة في داخلها. فأحدُ الدروس الذي أراد متّى أن يدخله في قلب قرّائه: "لا تكونوا مثل الفريسيين".

4- أول الوصايا أو أعظم الوصايا (36:22)
إذا انطلقنا من الطريقة التي بها طُرح السؤال الذي في مرقس، نفهم أننا أمام أولى جميع الوصايا (مر 12: 28). أجاب يسوع: محبّة الله لأنه الربّ.
ولكن زيد على هذه الوصيّة الأولى وصيّة تعني محبّة القريب. من الواضح أن هذا الجواب يجعل تراتبيّة بين هاتين الوصيتين. ونحن نفهمه في هذا المعنى لأن جميع الفرائض الدينيّة (من تقديس السبت إلى غسل الأيدي قبل الطعام) تترجم هذه الوصيّة الأولى في الواقع الملموس. وهكذا توضع هذه المجموعة من الفرائض فوق محبّة القريب. وحتى الإضافة في آ 31 "ما من وصيّة أعظم من هاتين" تترك الباب مفتوحًا لهذا التفسير.
أما عند مت فيبدو السؤال مختلفًا: "يا معلّم، ما أعظم الوصايا في الناموس" (آ 36)؟ كان ذاك موضوع جدال لدى علماء الشريعة. وقد كان المجمع القديم قد استخرج عددًا كبيرًا من الوصايا حاول المعلّمون أن يقسّموها بين "خفيفة" و"ثقيلة". وتساءل المعلّمون: ألا تُوجد وصيّة تضمّ جميع الوصايا وتوضع في رأس اللائحة. من هنا كانت اعلانات كهذا: "عبادة الأوثان هي أخطر الخطايا". "يعلِّم الناموس والأنبياء والكتب أن فريضة السبت أثقل في الميزان من كل الوصايا مجتمعة". وكان رابي هلال (20 ق م) قد أعطى هذا المبدأ الأساسيّ: "ما لا تريد أن يحصل لك لا تصنعه لقريبك. ذاك هو الناموس كله. والباقي شرح له".
حين طرح العالم بالشريعة هذا السؤال، فقد أراد أن يدفع يسوع لكي يدلّ على موقفه من هذا الموضوع الملحّ. فليس من قبيل الصدف أن يكون السؤال عن أعظم وصايا الناموس. ولا أن يورد الجواب الناموس. هذا يعني أنه يجب أن نعرف ما هي وصيّة الله وما هي شريعته وأوامره. كيف يجب على يهوديّ مؤمن (ومسيحيّ) أن يتصرّف؟

5- محبّة الله ومحبّة القريب (37:22)
نجد النصّ حول محبّة الله في بداية صلاة "شماع" (اسمع يا اسرائيل) التي يتلوها اليهود مرّتين في النهار. وقد أسّس سفر التثنية هذه الوصيّة على سيادة الله: هو وحده الرب ولا إله سواه. وقد دلّ على سلطانه حين خلّص شعبه من عبوديّة مصر وأعطاه أرض الموعد، أرض فلسطين. غير أن الله وضع شروطًا على هذا الشعب: أن يحفظ جميع الوصايا، وأن يسير في طرق الربّ. واستعاد الأنبياء صور وتعابير الحبّ لكي يصوّروا هذه العلاقات المتبادلة بين الله وشعبه. وهذه النظرة طبعت تث 6: 5 أيضًا بطابعها: "تحبّ الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل قدرتك". فالألفاظ الثلاث (القلب. النفس، القدرة) لا تحيلنا إلى ملكات مختلفة كالحب والعقل. بل إن كلاً منها تدلّ على الانسان كله. لسنا هنا أمام إله الفلاسفة. فالإله الذي يطلب هذا الحبّ الكامل هو الذي بحنانه انحنى على الانسان لكي يخلّصه. هذا هو السبب الذي لأجله يجب على الانسان بدوره أن يحبّ القريب. وكما أن وصيّة الله لا تنفصل عن تاريخ خلاص البشر، كذلك وصيّة محبّة القريب لا تنفصل عن عبارة "أنا يهوه، أنا الرب". هي تتكرّر كقرار وردّة في الفصل التاسع من سفر اللاويين (19: 14 ب- 19 أ):
"أنا يهوه.
لا تجوروا في الحكم. ولا تجابوا فقيرًا ولا تجلّوا عظيمًا. بل بالعدل تحكم لقريبك. ولا تسعَ بالنميمة بين شعبك ولا تهدّد دم قريبك.
"أنا يهوه.
لا يكن في قلبك بغض لأخيك. بل عاتبه عتابًا وهكذا لا تحمل خطيئة. لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك. وتحبّ قريبك مثل نفسك.
"أنا يهوه.
تحفظون رسومي".
إذن، حين يؤكّد يسوع التداخل بين العلاقة بالله والعلاقة بالقريب، فهو يقف في خطّ العهد القديم. ولكنه لا يفهم هذه العلاقة كما يفهمها الفريسيّون.

6- يسوع والشريعة
اعتبر عدد كبير من الكتبة أن شريعة السبت هي من الوصايا العظمى، بل هي أعظم الوصايا. أما يسوع فما تردّد في إجراء الأشفية في ذلك اليوم. ثم هو دخل إلى بيت ضابط روماني (إذن وثني). وأكل مع العشّارين والخطأة. ودافع عن المرأة الزانية. إذن، ما تجاوز فقط الوصايا الطفيفة، بل أخطر الفرائض. وتنجّس حين عاشر أناسًا لا يعيشون "بحسب الشريعة". فالذي يتصرّف بهذا الشكل لا يستطيع بحسب النظرة الفريسيّة أن يكون بارًا في نظر الله الذي يرضى فقط عن الذين يتبعون جميع وصاياه بدقة ويمتنعون عمّا تحرّمه الشريعة. أما يسوع فما اكتفى بأن يتجاوز عددًا من فرائض الشريعة، بل تجرّأ وأكّد أن أعماله تدلّ على أن "ملكوت الله حاضر هنا منذ الآن"
لكن يجب أن لا نستنتج أن يسوع، شأنه شأن رجل ثائر، يقلب رأسًا على عقب كل ما كان جزءًا من الارث اليهوديّ. إنه يهوديّ تقيّ. وهو يذهب إلى المجامع، كما يؤمّ الهيكل في الأعياد الكبرى. ويحافظ على الشريعة والأنبياء. وكل ما يقوله ويفعله يرتبط بالله، ولكن ليس بإله نخبة صغيرة تضع يدها عليه وتطرد الآخرين. كل إنسان يستطيع أن يكون "القريب". فعبارة "أحبب قريبك" صارت "أحبّوا أعداءكم. صلّوا من أجل مضطهديكم". وهذه الوصيّة تنبع من معرفة يسوع لله. "هكذا تكونون أبناء أبيكم الذي في السماء، لأنه يشرق شمسه على الأشرار والأخيار ويسكب غيثه على الأبرار والفجّار" (5: 44- 45). وبعبارة أخرى قال يسوع: أرسلت لأطلب وأخلّص ما هلك. ذاك هو هدف الشريعة. وإذا كانت بعض التفسيرات وتطبيقاتها لا تتوافق مع هذا المبدأ الأساسيّ، فيسوع سيشقّ طريقه الخاصّة. وهكذا يترجم في الحياة اليوميّة التأكيد القائل: "والوصيّة الثانية تشبهها: تحبّ قريبك كنفسك" (22: 39).
7- أساس الحياة المسيحيّة
لا نستطيع أن نفهم حقًا هذا الخبر القصير (22: 34-40) إلاّ إذا وضعناه في خلفيّة باقي الانجيل. لهذا يجب أن نعود بشكل خاصّ إلى "عظة الجبل" (ف 5-7) و"الدينونة الأخيرة" "ساعة يأتي ابن الانسان بمجده وجميع ملائكته معه" (31:25-46).
إن مت يرى في يسوع قسمات وجه موسى المشترع العظيم. ولهذا جمع في عظة الجبل مواد عديدة جعلها شريعة جديدة تُعلَن على الجبل بواسطة موسى الجديد. وشدّد مجمل النصّ على المحبّة للقريب والمحبة لله. وأعمال الديانة كالصوم والصلاة والصداقة، يجب أن تتمّ في الخفية، لا في الظاهر لكي يراها الناس ويكرَّمون بسببها: "أبوكم السماوي يراها" وهذا يكفي. وبعد الصلاة الربيّة (صلاة الأبانا) نجد هذا التفسير: "إن غفرتم للناس خطاياهم غفر لكم أبوكم السماويّ أيضًا. ولكن إن لم تغفروا للناس، فأبوكم لا يغفر لكم خطاياكم" (6: 14- 15).
لا تبدأ شريعة "عظة الجبل" بالطريقة الصحيحة التي بها نعبد الله ونخدمه. بل تسير في خط آخر: "هكذا يجب أن يضيء نوركم أمام الناس فيروا أعمالكم الحسنة ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات" (5: 16). فالمهمّة الأولى للرسل هي أن يحملوا الخلاص للانسان والنجاة. وهذه الأعمال تتيح لهم أن يكتشفوا الله الذي يستطيعون أن يدعوه أبًا. وهكذا توجز كل المسائل المتعلّقة بالشريعة والبحث عن مشيئة الله في هذه الآية: "كل ما تريدون أن يفعله الناس لكم فافعلوه لهم: هذه هي الشريعة وتعاليم الأنبيا" (7: 12).
إذا كنّاَ نستطيع أن نعتبر محبّة القريب ملخَّصًا للشريعة والأنبياء، إذن سنُدان على العون الحقيقيّ الذي نكون قد حملناه أو رفضناه للقريب الجائع والعريان والسجين والمريض. ففي يسوع المسيح، صار الله متضامنًا مع المهمّشين والمتضايقين، بحيث إن التزامنا من أجل تحريرهم يشكّل المعيار الوحيد لعلاقتنا الصحيحة مع الله. فما نفعله من أجل "أصغر الأخوة" هو حاسم لكي نعرف إن كنا من الخالصين أم لا. وهذا نفهمه في طريقتين اثنتين: ما يسيء إلى القريب لا يوافق أبدًا مشيئة الله. أو: محبّة الله تتضمّن بشكل ملموس محبّة القريب. هذا المبدأ الأساسيّ يملي موقفنا تجاه الشريعة كما تجاه القريب. لهذا استطاع يسوع أن يقول: "ما جئت لأنقض الشريعة والأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمّل" (5: 17). فأصغر فريضة وأصغر وصيّة تبقى حاضرة شرط أن يتحدّد موقعها في إطار حبّنا لله وحبّنا للقريب.

8- بهاتين الوصيتين (22: 40)
قال يسوع مختتمًا كلامه: "بهاتين الوصيتين يتعلّق الناموس كله والأنبياء". وهنا أيضًا نجد اختلافًا مع خبر مرقس الذي أشار إلى تراتبيّة بين وصيّة أولى ووصيّة ثانية مهمّتين. وبعد ذلك تأتي سائر الوصايا. أما في مت، فقد شاء السائل أن يعرف الوصيّة العظمى التي تشمل سائر الوصايا. فسمّى يسوع وصيّتين وحدّد أن كل الشريعة والأنبياء تتعلّق بهما. هاتان الوصيتان المتساويتان في الأهميّة تشكّلان القاعدة التي بها نقيّم سائر الوصايا والفرائض. فالله لا يطلب شيئًا يعارض فائدة القريب. وحين نعمل الخير مع القريب، نؤكّد أننا نحيا حقًا العلاقة مع الله. موقف متّى جذريّ جدًا هنا، وهو يلتقي برسالة يوحنا الأولى: "إن قال أحد أنا أحبّ الله وأبغض أخاه كان كاذبًا. فالذي لا يحبّ أخاه الذي يراه لا يستطيع أن يحبّ الله الذي لا يراه" (4: 20؛ رج روم 13: 8- 10؛ غل 5: 3- 5؛ يع 2: 8). ينتج عن كل هذا أن العهد الجديد لا يعلن واجب الانسان الأساسيّ فيقول فقط: "أحبّ الله". ولكننا نستطيع أن نوجز كل الشريعة والأنبياء بهذه العبارة: "أحبب قريبك كنفسك".
إن هذه الرسمة السريعة للاهوت المسيحيّ الأولاني التي تعود إلى يسوع الناصريّ نفسه، تتعارض تعارضًا تامًا مع وجهة الفريسيين. فإذا جعلنا هذه المقطوعة في إطار مت العام، فهي تبدو لنا عميقة جدًا. لم نعد أمام "درس" في التعليم المسيحيّ نعرفه أو لا نعرفه. بل أمام سؤال جوهريّ. وموقف يسوع يكشف خلفيّة عمله كلّه ويُجمل الصراع بينه وبين السلطات. وهذا السؤال هو في الواقع السؤال الأخير الذي يُطرح على يسوع. وحين لاحظت السلطات أنها لا تستطيع أن تأخذ بوجهته، أسلمته إلى الموت.

خاتمة
إن مت 22: 34- 40 لا يُعلمنا كقط بالأسباب التي دفعت الرؤساء لكي يحكموا على يسوع بالموت. هو بالأحرى جسر بين "عظة الجبل" ومثل "الدينونة الأخيرة". وهو أيضًا سؤال يوجّه إلى القرّاء المسيحيين المتهوّدين في جماعة متّى، يدعوهم لكي يقابلوا طريقة تفكيرهم وحياتهم مع تعليم هذا النصّ الانجيليّ. ولكن الخبر يتوجّه أيضًا إلينا. فبعد أن يقرأ الواعظ 22: 34- 40، لا يستطيع أن يكتفي بأن يشرح الانجيل كما كان يفعل متّى. فهذا النصّ هو للناس مرآة يرون فيها نفوسهم. وها نحن نقدّم ثلاثة اقتراحات.
* اتّخذ متّى موقفًا ضدّ نظرة إلى الله تعتبر أن كل شيء قد تحدّد وتثبّت منذ البدء. فلم يبقَ لنا شيء نعمله. كلا. فمشيئة الله لم تحدّد مرّة واحدة في عدد من الفرائض نكتفي بأن نحفظها فنكون "أبرارًا". وهي لا تصلنا من ماض سحيق أو ارتفاع بعيد: بل يجب أن نقرأها في عيون البشر الذين حولنا. فمشيئة الله تدركنا كتحدٍّ يتجدّد دومًا. كسؤال يطلب جوابًا. لا يُطلب منا أن نكرّر سلسلة أعمال بُرمجت مسبقًا: فالانسان ليس آلة. إنه في أساسه امكانيّة جواب إلى آخر، إلى الآخر الآخر؟ الذي هو الله. إنه يصنع التاريخ. وحين يصبح هذا التاريخ "تاريخ الخلاص"، يدهش الانسان حتى يكتشف شيئًا من هذا الالى الذي يسمّيه يسوع أبًا. وكل قاعدة حياة لاهوتيّة أو كنسيّة أو اجتماعيّة تعلن باسم الله وقد تعتبر خطيئة أم لا، يجب أن نحكم عليها على ضوء هذا السؤال الأساسيّ: "هل تفيد القريب أو تحمل إليه الخلاص"؟ بهذا السؤال ترتبط أعمالنا.
* حين نجد نفوسنا أمام وصيتي محبّة الله ومحبّة القريب كما يقدّمهما متّى، نتخلّى عن أمور عديدة كانت بين أيدينا. لا نستطيع أن نقول فقط: إن الكنيسة تفسّر مشيئة الله. يجب أن نحفظ وصايا الكنيسة. الحرم لمن يعارض أقوال الكنيسة أو ينتقدها. فبعد ظهور يسوع وهذا الانجيل المتّاويّ، لا نستطيع أن نقبل بالحرب والظلم والقتل قائلين: تلك هي مشيئة الله. فطرق الله ليست هذه الطرق. فإذا فهمنا حقًا مت 22: 34-40، يستحيل علينا أن نعلن تعلّقنا بمشيئة الله ونضع حاجزًا بيننا وبين البشر من أية فئة كانوا. يجب أم نشجب المجموعات الذي يعتبرون نفوسهم صدّيقين ويستبعدون الآخرين ويهمّشونهم.
* حين نقول نعم لهذا الانجيل الذي درسناه، لا نكتفي بأن لا نضع حواجز في طريق الآخرين حسب العبارة "ما تريد أن يفعله الناس لك". فما يطلبه الله منا هو التزام ايجابيّ تجاه الآخرين لكي يكون هناك عدالة أكبر. لكي تنمو المحبّة ولا تبرد لدى الكثيرين في خضمّ هذه الحياة وتقلّباتها. نلتزم بأن نكسو العريان، ونطعم الجائع، ونخلّص السجين، ونعطي كأس ماء بارد. ونعرف أن ما نعمله لأحد هؤلاء الصغار، إنما نعمله للمسيح. كل تعليم الشريعة والأنبياء هو معنا. بل إن المحبّة التي يدعونا إليها يسوع تجدّد الشريعة وتعاليم الأنبياء، فتنقلنا من العهد القديم إلى العهد الجديد، من محبّة محصورة في شعب إلى محبّة تصل إلى جميع الشعوب، من محبّة محصورة في قريب إلى محبّة تصل إلى الأعداء، لأن لا أعداء للمسيحيّ بعد أن مات المسيح على الصليب فجمع في موته البعيدين والقريبين، أبناء البيت والغرباء، الأبرار والخطأة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM