الفصل العشرون :المدعوون إلى العرس الملكي

الفصل العشرون
المدعوون إلى العرس الملكي
22: 1- 14

حين نتفحّص مثل وليمة العرس، يجب أن لا ننسى الاطر الثلاثة التي فيها تكوّن هذا المثل في المسيحيّة الأولى. هناك إطار سيرويّ، إطار حياة يسوع الذي روى هذا المثل وربطه برسالته. هناك إطار كنسيّ فيه تثبّت المثلُ في وسط متّاوي (22: 1-14) أو وسط لوقاوي (14: 16-24). وأخيرًا، هناك إطار أدبيّ خاصّ بكل من متى ولوقا اللذين حدّدا موقع هذا المثل وأعطياه معناه في مجمل السرد الانجيليّ.
فالاختلافات العميقة بين النصين المتوازيين، لا يجب أن تخفي تشابههما الذي هو عميق أيضًا. نحن أمام مثل واحد: استعداد للوليمة، إرسال الخدم ليدعوا الناس. رفض المدعوين، إرسال خدم آخرين... كل هذا يدلّ على الحريّة التي بها نقل التقليد الشفهي أقوال يسوع وفسّرها بحسب الأمكنة واهتمامات الساعة.
بعد أن ندرس مشاكل التأويل، ونفسّر النص، نقدّم اعتبارات راعويّة.

1- مشاكل التأويل
أ- بنية خبر متّى
وضع متّى مثَلَ المدعوين إلى العرس في سياق خطب وجدالات تملأ الأيام الأولى التي قضاها يسوع في أورشليم (21: 1- 25: 46)، وتسبق مباشرة رواية الحاش والآلام (26: 1- 28: 10). هذا المثل هو الأخير من مجموعة صغيرة تضمّ ثلاثة أمثال تتوالى بشكل هجوميّ: تلوم المسؤولين اليهود الذين رفضوا البلاغ الذي يحمله يسوع. مثل الابنين (21: 28- 32). مثل الكرّامين القتلة (21: 33-46). مثَل المدعوين الذين اعتذروا عن الاشتراك في وليمة العرس (22: 1-14) مع أن الدعوة إليهم كانت ملحّة.
أما المثل الذي نقرأ، مثل المدعوين، فيبدو في الشكل التالي:
آ 1: مقدمة تدوينيّة، تربط المثل بما سبق.
آ 2-7: دعوات متلاحقة ولكنها لم تثمر: الرفض ونتائجه.
آ 8- 10: دعوة إلى العابرين ونتائجها.
آ 11-13: مدعوّ لا يلبس ثوب العرس: استُبعد.
آ 14: خاتمة عامّة.
وهكذا يكون هذا المثل مؤلّفًا من مقدمّة (آ 1) ومثل (آ 2-13 ب) وتفسير (آ 13 خط-14).
أما المثل في حدّ ذاته فيذكر سلسلة من الأعمال والأجوبة. العمل الأول هو عمل ملك يدعو الناس إلى وليمة عرس ابنه ويعلن أن الوقت قد حان (آ 2- 3 أ). فجاء الجواب رفضًا لا يُعطى له تفسير: "ما أرادوا أن يأتوا" (آ 3 ب). فعاد الملك وأرسل خدمه مرّة ثانية (آ 4). فكانت ثلاثة أجوبة غريبة: واحد ذهب إلى حقله. وآخر إلى تجارته. والآخرون قبضوا على الخدم وشتموهم وأهانوهم (آ 5-6). حينئذ تصرّف الملك كما يجب أن يتصرّف ملك في القرن الأول المسيحيّ (وهذا ما حصل في الواقع حين أرسلت رومة جيوشها على أورشليم): أرسل جيوشه وأهلك أولئك القتلة وأحرق مدينتهم (آ 7). بعد ذلك، عاد الملك وأرسل دعوات جديدة (آ 8-9). فجاء الجواب قبولاً للدعوة. وهكذا امتلأت القاعة بالضيوف (آ 10). فلما دخل الملك ورأى أحد المدعوين لا يلبس ثياب العرس سأل عن السبب (آ 11- 12ب) فكان الجواب الصمت (آ 12 ج). وينتهي المثل في آ 13 أب حين أوثقُ الرجل وطُرح في الظلمة الخارجيّة.
ب- مقابلة مت مع لو وانجيل توما (تو)
نتذكّر أن لو 14: 16-24 يحدّثنا عن وليمة ليست بالضرورة ملوكيّة. لم يتضمّن المثل طرد أحد كما في مت. أما تو 64 فيقدّم النص التالي: "قال يسوع: كان لرجل ضيوف. وعندما انتهى من تهيئة العشاء، أرسل خدمه يدعون الضيوف. أرسل إلى الأول من يقول له: سيّدي يدعوك. أجاب: لي مال لدى بعض التجّار وهم سيأتون إليّ في هذا المساء. فسأذهب وأعطيهم أوامري. أرجوك أن أعفى من العشاء. فأرسل إلى آخر من يقول له: سيدي يدعوك. فقال له: اشتريت بيتًا وهذا ما يشغلني اليوم. لن يكون لي وقت. وجاء إلى الثالث من يقول له: سيّدي يدعوك. فقال له: تزوّج صديقي وأنا أهيّئ له عشاء. لن أستطيع أن آتي. فأرجوك أن أعفى من هذا العشاء. وذهب إلى آخر وقال له: سيّدي يدعوك. قال له: اشتريت ضيعة وأنا ذاهب لأجمع الغلّة. فلن أستطيع أن آتي. أرجوك أن أعفى. فجاء الخادم وقال لسيّده: هؤلاء الذين دعوتهم إلى العشاء، اعتذروا. فقال السيّد لخادمه: إذهب إلى الطرقات وتِ بالذين تجدهم بحيث يتعشّون. فالتجّار والباعة لن يدخلوا موضع أبي".
ماذا نجد في المقابلة بين هذه المراجع الثلاثة؟ قدّم مت ملكًا يهيِّئ عشاء من أجل عرس ابنه. أما في لو وتو، فنحن أمام رجل (عاديّ) غنيّ يهيّئ وليمة كبيرة. تحدّث مت عن دعوتين سلّمتا إلى عدد كبير من الخدم ولكنهما لم تثمرا. أما لو فذكر دعوة واحدة في ساعة الطعام سلّمها إلى خادم واحد. في هذا المجال جاء تو مشابهًا لما في لو. وفصّلت الدعوة الثانية في مت الاستعداد للعشاء: "ثيراني ومسمّناتي قد ذُبحت". أما لو فاكتفى بالقول: "كل شيء قد أعدّ".
دعوتان عند مت يقابلهما رفضان. الأول عام: "ما أرادوا أن يأتوا". الثاني يقدّم بإيجاز سببين. ذهبوا. هذا إلى حقله. وذاك إلى تجاربته. أما لو وتو فقد توسّعا في موضوع الرفض تجاه دعوة واحدة. وفي كل حالة، نحن أمام ثلاثة أسباب تقدّم كأعذار:
شراء حقل. اقتناء خمسة أزواج بقر (لو). استلام كميّة من المال، شراء بيت. استيفاء الميرة في ضيعة (تو). وما يلي عند مت (آ 6-7) من خدم أسيئت معاملتهم، ومن غضب الملك الذي قتل القتلة وهدم مدينتهم، لا نجد ما يقابله عند لو ولا عند تو.
أما الدعوة الثانية التي بلغت هدفها، فواحدة عند مت، وهو تتوجّه إلى كل الذين التقاهم الخدم في الطرقات، أشرارًا وصالحين. وتبع تو هنا خطّ مت. أما لو فجعل الدعوة الأخيرة دعوتين: توجّهت أولاً إلى المساكين والجدع والعميان والعرج. وبقي موضع. لم يمتلئ المكان. فكانت دعوة ثانية إلى الذين هم في الطرقات وحول السياجات.
وهناك مت 11-14 التي تتحدّث عن زيارة الملك إلى المدعوّين. عن المدعو الذي لا يرتدي لباس العرس فيُطرَد من الوليمة. كل هذا خاص بالانجيل الأول وكأننا أمام مثل جديد.
هذا التحليل يدلّ على التشابهات بين النسخات الثلاث (مت، لو، تو). فكانت أمامنا أربع نقاط مشتركة: انسان يهيّئ وليمة ويدعو ضيوفه. هؤلاء رفضوا. حينئذ وُجّهت الدعوة إلى كل الذين التقى بهم الخدم في الخارج، على الطرقات. غير أن الاختلافات تبقى هامّة: وليمة أعراس الملك عند مت، وليمة عيد عاديّة عند لو وتو. دعوتان لا تحصلان على نتيجة عند مت، دعوة واحدة عند لو وتو. تفرّد مت في الحديث عن الخدم الذين أسيئت معاملتهم، وعن ردّة الفعل عند الملك. بعد ذلك نجد دعوة واحدة عند مت ودعوتين عند لو. وأخيرًا أورد مت وحده المدعوّ الذي لا يرتدي ثياب العرس.
ج- أسئلة تطرح
أمام هذا الواقع الأدبي هناك أسئلة تُطرح: العلاقة بين نسختي المثل (أو: ثلاث نسخات). هل نحن أمام نصوص مستقلّة، أم هي تنطلق من أساس مشترك؟ وما هو هذا الأساس؟
أولاً: الأساس المشترك: أصله ومدلوله
رغم الاختلافات الكبيرة في التفاصيل، ترينا المقابلة بين ثلاث نسخات المثل، أساسًا جوهريًا. نحن في كلّ الحالات أمام دعوة إلى وليمة رفضها أناس فحلّ محلّهم آخرون بعد أن توجّهت الدعوة إلى عابري طريق دون تمييز ولا اختيار. هذا ما يجعلنا نستنتج أن كلاً من مت، لو، تو استعمل حسب نظرة خاصة به، أساسًا مشتركًا، وكيّفه حسب حاجة كنيسته.
ما هو هذا الأساس المشترك الذي يعود إلى يسوع ثم إلى التقاليد الأولى بعد القيامة؟
يسوع: الوليمة معدّة. دعوة أولى واعتذار. دعوة ثانية واعتذار. دعوة ثالثة واعتذار. عند ذاك، دُعي الغرباء.
- انجيل توما: الوليمة معدّة. دعوة أولى واعتذار. دعوة ثانية واعتذار. دعوة ثالثة واعتذار. دعوة رابعة واعتذار. حينئذ دُعي الغرباء. قول أخير: "لا يدخل التجّار والباعة إلى موضع (بيت) أبي".
- انجيل متى: أرسلت الدعوات. هيّئت الوليمة، أرسل الخدم مرة أولى. أرسل الخدم مرّة ثانية وأسيئت معاملتهم. فتبرّأ الملك منهم. دُعي الغرباء. لقاء مع ضيف ليس عليه ثياب العرس. قول أخير: إن المدعوين كثيرون أمّا المختارون فقليلون.
- انجيل لوقا: أرسلت الدعوة. أعدّت الوليمة. دُعي الأول فاعتذر. دُعي الثاني فاعتذر. دُعي الثالث فاعتذر. دعوة أولى إلى الغرباء، دعوة ثانية إلى الغرباء.
هناك أساس مشترك (المثل الاولاني) يعود في خطوطه الأساسيّة إلى التقليد الانجيلي، إلى تعليم يسوع نفسه. كما نجد مثلاً رابينيًا يوازي هذا المثل هو مثل العشّار بر مرجان الذي يدعو إلى وليمة كبيرة مستشاري البلد. ولما رفضوا جاء بالفقراء لكي يأكلوا الطعام الذي هيّئ لمدعوّين لم يستحقوه. قد يكون هذا المثل الرابيني قد عُرف في الأوساط اليهوديّة في زمن يسوع. وهكذا قد يصبح المثل الذي أعطاه يسوع قريبًا من الناس وإن كان الرب قد حوّل مضمون المثل ومعناه تحويلاً جذريًا.
ففي السياق العام لتعليم يسوع، شكّل المثل بلا شكّ دفاعًا عن الانجيل وتبريرًا له. فالأتقياء (الفريسيون) واللاهوتيون (الكتبة) ورؤساء الشعب الدينيّون (الكهنة) لم يقبلوا بشرى الملكوت التي أعلنها يسوع، مع أنها في الأصل قد أعدّت لهم قبل غيرهم. أما الشعب "الجاهل"، صغار القوم، والعائشون على هامش المجتمع كالعشّارين والخطأة الذين رذلهم الرؤساء، هؤلاء انفتحوا على نداء يسوع وتبعوه طوعًا (لو 15: 1-2). وهذا ما شكّك أوساط "الأبرار" وسبّب انتقاداتهم. فكان مثل المدعوين ردًا على هذا الموقف المرائي: أمركم أمرُ هؤلاء المدعوّين الذين رفضوا الدعوة. تشكّكتم لأنكم وجدتم حولي أناسًا "محتقرين". ولكنكم رفضتم أن تأتوا، وها أنتم تنسون الآن أن الخطأة يحتاجون إلى الخلاص لا الصالحون (9: 12-13؛ مر 2: 17؛ لو 5: 31-32).
إذن، كان مرمى المثل كما رواه يسوع هجوميًا: أراد أن يبرّر سلوكه تجاه الخطأة، وأن يشجب موقف الرؤساء وما فيه من رياء. وهكذا كشف يسوع حبّ الله للصغار، كما ندّد بالذين رفضوا نداء الانجيل فاستبعدوا نفوسهم من عيد الملكوت الذي دشّنه الرب بمجيئه.
ما قدّمناه هنا من أساس مشترك يمثّل فرضيّة عمل، وإن كانت هذه الفرضيّة تلتقي بواقع الأشياء. ولكن يبقى أنّنا أمام نسختين أوردهما مت وبو: سنحاول أن نفسّر ونفهم حالتهما الحاضرة ومدلولهما الحاليّ. لهذا ننطلق من الفرضيّة ونرى التحوّلات التي تمّت في نصّ مت وفي نصّ لو.
ثانيًا: نصّ لو
إذا كان لو قد ظلّ قريبًا من الأساس الأولاني، إلاّ أن نشاطه التدوينيّ ظلّ هامًا. فقد جعل المثل في سياق وليمة (وجبة طعام) (14: 1-14) يُدعى إليها "المساكين والجدع والعميان والعرج" (آ 13).
كما أن لو "ضخّم" بعض سمات المثل. تمّت الدعوة "ساعة الطعام". ثمّ فصَّل الاعذار التي قدّمها المدعوّون (آ 18-20). العذران الأول والثاني يتوافقان مع ما قيل في مت آ 5: هذا ذهب إلى حقله، وهذا إلى تجارته. أما ما يخصّ زواج الثالث فهذا أمر خاص بلوقا. وبعد أن رفض المدعوون الأولون، أرسلت الدعوةُ مرّتين. وكما أن ارسال الخدم الثاني (آ 23) يوافق تقريبًا الإرسال الوحيد الذي نجده في مت آ 9، نستطيع أن نستنتج أن لو زاد الارسال الأول (آ 21 ب: أخرج سريعًا إلى الساحات)، فدلّ على اهتمامات عزيزة على قلبه، سوف نجدها في آ 13. وقد يكون لو في آ 17 أوجز مت آ 4 وبسّطها، وهي نداء موسّع إلى الوليمة.
إذا كانت تلك هي التحوّلات التي أدخلها لوقا، فما هو المعنى الذي يرتديه المثل في إنجيله؟ في الأساس، هو يحافظ على المعنى الأولاني: تبريرُ تصرّف يسوع مع المساكين والخطأة، شجبُ النوايا السيّئة عند خصومه. ولكن تظهر أيضًا مواضيع عزيزة على قلب لوقا: حين يرفض الناس الدخول إلى الملكوت، فهذا يدلّ على تعلّقهم بالمال وعلى اهتمامهم بأمور هذا العالم. لهذا صار المساكين والبؤساء الذين لا يهتمّ بهم أحد، المميَّزين في الملكوت. لهذا، أرسلت إليهم دعوة خاصّة. لهذا، صارت الدعوة عند لو دعوتين. وآ 23 وجّهت الدعوة إلى فئة ثانية هم الوثنيّون. إنهم خارج البيت، على الطرق وحول السياجات. فيجب أن يدخلوا حتى يمتلئ البيت. وإلاّ ظلّ البيت فارغًا والكنيسة ناقصة.
ثالثًا: نصّ مت
إذ أراد مت أن يُدخل المثل الأولاني في سياق انجيله المبنيّ بناء تامًا، قام بنشاط تدوينيّ تفوّق فيه على ما فعله لو. فضخّم الأساس المشترك وحوّله تحويلاً عميقًا. وهكذا صار المثل في صياغة مت يمتلك سمات استعاريّة ومركَّز الاهتمام: المدعوّون إلى العرس (آ 1- 10). المدعوّ الذي لا يلبس ثياب العرس (آ 11-13). فكأننا أمام مثلين اثنين لا مثل واحد.
ما يلفت الانتباه أولاً عند متّى، هو لمساته المتعاقبة التي أبرزت بعض الأمور فحوّلت معنى المثل ووجّهته نحو مدلول استعاريّ: فـ "انسان" لوقا صار في مت "ملك" يهيّئ وليمة من أجل عرس ابنه (آ 2). والخادم الواحد تكاثر فصار خدّاما كثيرين في عدّة فئات (آ 3، 4، 8، 12). وصارت الدعوة إلى العرس دعوتين (آ 3) أو أقلّه توسّعت وصارت ملحّة (آ 4). والمدعوّون الذين جاؤوا من الشارع يوصفون بأنهم "أشرار وصالحون" (آ 10).
وزاد مت أيضًا عناصر جديدة كل الجدّة تُوسِّع المثل وتجعله مثلين (آ 6-7، 11-13). فمع آ 6-7 ينطلق الخبر من جديد: فما اكتفى يأن يروي أن الخدّام رفضوا، بك أسيئت معاملتهم وقُتلوا. لهذا، غضب الملك وأرسل جيشه فقتل القتلة ودمّر مدينتهم. بعد هذا يستعيد الخبر مسيرته العاديّة ويروي الدعوة الثانية. ولكن ما إن امتلأت قاعة العرسُ، حتى جاءت قصّة أخرى هي تفقُّد الملك للمدعوّين والمصير الذي حلّ بذاك الذي ليس عليه حلّة العرس. لاشكّ في أن مت بدا مبسّطًا بالنسبة إلى لو (اعتذارات المدعوين، آ 5). عند ذاك ظلّ مرتبطًا بالمضمون الأساسي للمثل الأولاني. ولكنه حوّل وأضاف.
وهذه الاضافات الهامة التي جاء بها مت حوّلت معنى المثل. فالسياق المباشر، سياق الجدالات مع الفريسيين، يدلّ على الوجهة الهجوميّة التي يبرزها مت. فحسب هذا السياق، لام يسوع الرؤساء اليهود على مواجهتهم له ورفضهم رسالته (21: 31-32، 43-46). وإدراج آ 6-7 في المثل، يُبرز بشكل أوضح هذه الوجهة: من الواضح في نظر مت أن اليهود الذين تهرّبوا هم اليهود الذين لم يؤمنوا. وموقفهم تجاه المرسلين (الأنبياء الذين قتلوا، رج 32:23-36) قد جلب عليهم العقاب: نجد هنا تلميحًا واضحًا إلى دمار أورشليم. ثم هناك تقارب كبير بين مثل الكرّامين القتلة (21: 33-46) الذي سبق هذا المثل: ارسالان متعاقبان. الخدّام (آ 34-36). رفض وعقاب (آ 41).
غير أن التبديل الأهمّ هو إدخال خبر آخر ذات اتجاه أخلاقيّ: حدث المدعو الذي لا يرتدي ثوب العرس (آ 11- 13). كانت آ 10 قد هيّأت الطريق له: فالناس الذي جُمعوا في الطرق قُسموا إلى فئتين: "الأشرار والصالحين". هنا يظهر اهتمام بالنقاوة والقداسة في الجماعة المسيحيّة. فإذا كانت الدعوة قد أرسلت بنعمة كبيرة إلى كل غاد وباد بعد أن رفضها المدعوّون الأولون، يبقى أنه لا بدّ لهؤلاء المدعوين الجدد من القيام ببعض مجهود: يجب أن يرتدوا ثوب العرس، ثوب البرّ. يجب أن توافق حياتهم النداء الذي تقبلوه، وإلاّ استُبعدوا من الملكوت الذي دُعوا إليه.
إن تحليل نصّ مت أفهمنا أدن تحويل المثل إلى استعارة في القسم الأول مع الزيادة في آ 12-13، يعود إلى مدوّن الانجيل. ولكن قد يكون الانجيليّ استعمل من أجل آ 11-13 مثلاً سابقًا (نجد مثله الكثير في الأدب الرابيني المعاصر)، أو أقلّه عناصر متفرّقة من كرازة يسوع.
أما الاهتمام الذي توخّاه الكاتب حين أورد خبر الرجل الذي ليس عليه ثوب العرس، فهو يتلاقى مع اهتمام الجماعة المسيحيّة التي فتحت أبوابها لعدد كثير من الناس فيهم الأشرار والصالحون. غير أن هذا الاهتمام عينه نجده أيضًا في تعليم يسوع. فمثل الزؤان (13: 24-30) ومثل الشبكة التي ألقيت في البحر (47:13- 50)، وبعض أقوال يسوع (7: 21: ليس من يقول يا رب...)، تدلّ على أن يسوع نفسه سبق وأعطى جوابًا على هذا الاهتمام، وحدّد متطلّباته تجاه الذين لا يستحقّون أن ينتموا إلى مجموعة التلاميذ.


2- تفسير النصّ
مع أنّ المثل يحمل مدلولين مختلفين، نقرأه وكأنه مثل واحد حتى نبقى أمناء لهدف الانجيليّ.
أ- المقدّمة (آ 1-2 أ)
"وعاد يسوع يكلّمهم بأمثال: يشبّه ملكوت السماوات بمثل". هذه الآية تربط المثل بالسياق السابق. وهكذا نكون أمام صورة ثالثة حول الطريقة التي بها تعاملَ رؤساءُ اليهود مع تعليم يسوع. أما "ملكوت السماوات" فعبارة متّاويّة تدلّ على أنه مع يسوع قد حصل وضع جديد بالنسبة إلى الانسان وإلى الكون.
ب- الدعوات الأولى: الرفض ونتائجه (آ 2 ب-7)
أعد ملك وليمة من أجل عرس ابنه. قابل مت الله بملك (23:18) يدشّن العهد المسيحاني. ويعبّر عن هذا التدشين بصورة العرس. الابن هو يسوع، وقد سمّي "العريس" في 15:9. وشبّه مجيء الملكوت بوليمة (29:26؛ رؤ 7:19، 9؛ رج أش 25: 6-8). وهكذا، أدخل يسوع الفرح والعيد في ما أعلنه وأدخله في تاريخ البشر. تعليمه هو بُشرى وانجيل، هو خبر طيّب.
وأرسلت دعوتان حملهما خدّام عديدون إلى أشخاص كانوا قد علموا بالدعوة قبل ذلك. أما الآن فقد أرسل الملك يذكّرهم (آ 3-4). قد تكون هناك عادت درج عليها الناس في أورشليم. أما المعنى الأعمق فهو أن الأنبياء سبق ودعوا هذا الشعب وكان آخرهم يوحنا المعمدان، ولكنهم رفضوا الدعوة. أما الرفض الأول فجاء بعيدًا عن كل لياقة. لا عذر ولا اعتذار. بل قرار اعتباطيّ لا عودة عنه. "لم يريدوا أن يأتوا".
لم ييأس الملك من هذا الرفض، بل جدّد الدعوة وألحّ: لقد أعدّ كل شيء: العجول والأطعمة الدسمة. وكرّر قائلاً: "هلمّوا إلى العرس". نحن هنا أمام دعوة إلى الفرح، كما في سفر الأمثال (9: 2-3) حيث تدعو الحكمة العابرين للمشاركة في وليمتها. أو كما في كلام يسوع يدعو الناس مباشرة إلى التوبة: "توبوا، فإن ملكوت السماوات قريب" (4: 17).
وكما رُفضت الدعوة الأولى، كذلك رُفضت الدعوة الثانية. فالمدعوّون لهم اهتمامات أخرى. لهذا لم يعبأوا بهذه الدعوة أيضًا. أشغالهم كثيرة: عمل في الحقل، ذهاب في تجارة (آ 5). ما زلنا في موقف سلبيّ مقبول أو مرفوض. ولكن يأتي الموقف الايجابيّ وما فيه من ردّة فعل وحشيّة ضد هؤلاء المرسلين: قبضوا على الخدم. شتموهم، أماتوهم (آ 6). ماذا يعني يسوع في هذه السطور؟ إذا أردنا أن نتجنّب تفسيرًا استعاريًا دقيقًا (المجموعة الأولى تدلّ على الأنبياء، والثانية على الرسل)، نرى في الخدّام مرسلي الله إلى شعبه في كل تاريخه: لم يُقبل تعليمهم. بل إن الشعب اضطهد هؤلاء المرسلين ورذلهم (23: 36-39). أما الذين رذلوهم فهم في نظر يسوع والانجيليّ، الرؤساء اليهود.
أمام مثل هذه المعاملة كانت ردّة الفعل عند الملك سريعة (آ 7؛ لو 14: 21 يستعمل اللفظة عينها حين يتحدّث عن رفضهم واعتذارهم)، أرسل جيوشه، أهلك القتلة، أحرق مدينتهم. عقاب لا يتناسب والاساءة، ولكنه يشير إلى غضب الله على شعبه (تث 19:8؛ أش 5: 25)، وإلى ما فعله يشوع بأهل عيّ حين دمّر مدينتهم (يش 28:8). ففي نظر مت، نحن أمام تهديد مصلت على الشعب. وقد تحقّق تاريخيًا سنة 70 ب م. فرفضُ الانجيل قد عرّض الشعب لنتائج مريعة.
ب- دعوة إلى العابرين (آ 8- 10)
توقّف الخبر مع الحملة التي بها عاقب الملك الشعب. وها هو يتواصل في آ 8-10 فيستعيد موضوع الوليمة والعرس. ما زال "الطعام" ينتظر الناس. هنا نلاحظ أن مت أقحم ما أقحم فجعلنا في إطار غير معقول. ولكن هذا لا يهمّ. لم يكن المدعوّون الأولون جديرين (لفظة ترد مرارًا عند متّى: 10: 11، 13، 37، 38). لهذا أرسل الملك خدّامه إلى مفارق الطرق لكي يدعوا كلّ من يجدوه. وهكذا تمتلىء القاعة. فنفّذ الخدم ما طُلب منهم وجاؤوا إلى العرس بكل من التقوا بهم، أشرارًا كانوا أو صالحين. هذه العبارة الأخيرة تدلّ على الخيار المجانيّ الذي به يدلّ الله على رحمته ومحبّته لجميع البشر (5: 45). كما تصوّر أيضًا ما نجده في مثلي الزؤان والشبكة (13: 24- 30، 47- 50)، تصوّر الوضع الواقعيّ للجماعة المسيحيّة في زمن متّى: لم يكونوا كلهم قدّيسين. ثم إن هذه العبارة تهيّئ الطريق للخبر حوله استبعاد ذاك الذي دخل وما حقّ له بالدخول (آ 11-13). ولكن امتلأت القاعة وبدأت الاحتفالات بالعرس (آ 10).
ج- مدعو ليس عليه حلّة العرس (آ 11-13)
كانت العادة في الشرق القديم أن يأكل الضيف في غياب مضيفه. ولكن قد يرغب المضيف أن يكرم ضيوفه فيمرّ في وسطهم. هذا ما فعله هذا الملك. فلفت نظرَه واحد يختلف عن الآخرين: ليس عليه الثوب الذي يليق بالعيد (آ 11). لا نتوقّف هنا عند ما هو معقول وما ليس بمعقول. مثلاً، كيف نتخيّل أن المدعوين الذين جمعوا من على الطرق وجيء بهم إلى الحفلة، قد ذهبوا إلى بيوتهم وبدّلوا لباسهم؟ المهمّ في الخبر هو الواقع، والباقي قليل الأهميّة. وقد يكون مت اختصر هنا كما فعل في أماكن أخرى (مثلاً، شفاء المخلّع، 9: 1ي: كيف نفسّر: رأى يسوع إيمانهم؟ يجب أن نعود إلى مر 2: 1ي لكي نفهم).
ودعا الملك ذاك "الانسان". سمّاه "يا صديقي" وهي لفظة تدلّ عند مت على توبيخ يوجّه إلى شخص أخطأ (20: 13: العمّال في الكرم؛ 26: 50: مع يهوذا). لقد تسلّل صاحبنا إلى القاعة، وما حق له بذلك (هذا لا يتماسك مع القسم الأول من المثل حيث دعا الخدام جميع من التقوا لهم). سُئل، فما استطاع أن يجيب، فظلّ صامتًا في خجله (آ 12).
في القسم الأول من المثل، تعدّى سخاء الملك كل سخاء. أما هنا وفي آ 7، فقد جاءت ردّة الفعل عنده قاسية جدًا. أمر خدّامه (دولوس، عبد، خادم. أما هنا فصاروا: دياكونوس، كالشمّاس في الكنيسة الذي يخرج الذين لا يستحقون المشاركة في الافخارستيا من خطأة وغير معمّدين)، فأوثقوا يديه ورجليه. أخرجوه من القاعة المضاءة إلى ظلمة الليل (آ 13). إذا كان النور يدلّ على الملكوت، فماذا تكون الظلمة؟
إن الصور المستعملة هنا (الظلمة الخارجيّة البكاء وصريف الأسنان) نجدها في أماكن أخرى من انجيل متّى. الظلمة في 8: 12؛ 25: 30؛ البكاء وصريف الأسنان في 8: 12؛ 13: 42؛ 24: 51؛ 25: 30. وهذه تدلّ دومًا على العقاب الأخير، على عقاب الهالكين في جهنم، على صراخ اليأس. لهذا توجّه انتباه القارئ حالاً إلى المعنى الرمزيّ: طرح المدعوّ، استبعد عن الوليمة، سلّم إلى اليأس لأنه ظنّ أنه يستطيع أن يدخل إلى الملكوت دون مجهود يُذكر، دون أن يرتدي ثوب العرس. في هذا السياق يكون لثوب العرس أيضًا مدلول رمزيّ: البرّ (طريقة تدلّ على شخصنا وعلى تصرّفنا) الذي يُطلب من الذين يريدون أن ينتموا إلى جماعة المخلّصين (رج أش 61: 10؛ رؤ 3: 4؛ 5: 18: الثياب البيض هي أعمال المؤمنين؛ 19: 8).
د- خاتمة المثل (آ 14)
الآية الأخيرة في المثل هي خاتمة المثل. ولكن لا علاقة ظاهرة بين هذه الخاتمة والمدلولين اللذين اكتشفناهما في الخبر. ففي الحالة الأولى، هناك مدعوّون وليس من مختارين (لم يدخل أحد). وفي الحالة الثانية، هناك مدعوّون كثيرون ومختارون كثيرون، ما عدا واحدًا (هذا الواحد يمثّل عادة أولئك الذين يستحقّون الملامة، رج مثل العملة في الكرم، 20: 13؛ الوزنات الخمس، 25: 24). إذن، لسنا أمام خاتمة دقيقة، بل أمام قول يبدو بشكل تنبيه عامّ لا نستطيع أن نفهمه خارج قرائنه: إن النداء إلى الخلاص الذي يتوجّه إطلاقًا إلى جميع البشر، لا يكفل بشكل آليّ جواب الانسان الذي يجب أن يكون تامًا متواصلاً. وكما يقول لنا المثل، هناك من بدأوا الطريق والتزموا، ولكنهم صاروا خارج الملكوت.
وهكذا نستطيع أن نشير إلى المدلول الاجمالي للمثل كما يراه متّى. إن النصّ في تأليفه الحاليّ يتضمّن تعليمين. من جهة، يصوّر تصرّف الله ويسوع بالنظر إلى الوضع الجديد الذي دشّنه مجيء الملكوت في العالم. دُعي الشعب اليهوديّ في شخص ممثّليه الرسميين إلى عيد الخلاص وما سيحمل معه من فرح. فرفض، فجرّ عليه رفضُه الكارثة. حينئذ امتدت الدعوة إلى عابرين لم يكن شيء يهيّئهم لمثل هذا الامتياز. يمثّل هؤلاء العابرون صغار القوم داخل الشعب اليهوديّ (الخطأة، العشّارون). كما يمثلون المسيحيين الذين دعوا كلهم لكي يدخلوا إلى الملكوت. نجد في هذا النصّ كما في مثل العمّال الذي أرسلوا إلى الكرم، إبرازًا لسخاء الله وبرّه وتأكيدًا مطلقًا لمجانيّة عطائه تجاه تفكير الخصوم الذين يستندون إلى استحقاق أعمالهم.
والتعليم الثاني لا يصيب بالدرجة الأولى المعارضين للانجيل، بل مجموعة الذين يقولون إنهم اعتنقوا الانجيل. يتوجّه إلى مجموعة تلاميذ يسوع: يحذرّهم النصّ من أن يفكّروا أنه يكفي أن يكونوا مدعوّين ويقولوا "نعم" (على مستوى الكلام لا العمل) لكي يتأمّن لهم الخلاص والمشاركة في وليمة العرس. أجل، لا يكفي أن نعترف باسم المسيح، أن نكون جزءًا من جماعته (ندخل بالمعموديّة إلى قاعة العرس)، بل يجب أيضًا أن نلبس حلّة العرس، أن نتمّ الأعمال التي يفرضها البر الجديد (7: 21)، أن نحبّ بالعمل والحقّ. وإلاّ، قد نطرح خارجًا، نستبعد عن الملكوت إلى الأبد، حتى لو دخلناه كما دخله عابرو الطريق. لأنه يقال لنا في تلك الساعة: "يا صاح، كيف دخلت إلى ههنا"؟

3- اعتبارات راعويّة
يتوجّه تعليم المثل إلينا نحن المؤمنين المسيحيين الذي نجتمع يوم الأحد للمشاركة في الليتورجيا، في وليمة عرس ابن الملك. يدعو وينتظر الجواب. ليس المثل جدالاً وتفسير كلمات وتوقفًا عند وضع عرفه يسوع والكنيسة في القرن الأول المسيحي. المثل هو نداء إلى الايمان والعمل. فما الذي يطلبه منا؟
أن لا ننسى أن الافخارستيا التي فيها نقرأ النصّ الانجيليّ، هي وليمة العيد، وسرّ الملكوت. نحن أمام واقع اسكاتولوجيّ ولكنه حاضر منذ الآن وهو يسير نحو كماله. هذا ما قاله أشعيا: "يصنع الرب لكل الشعوب مأدبة". ويقول سفر الرؤيا: "طوبى للمدعوين إلى وليمة عرس الحمل".
كان مرمى القسم الأول من المثل حيث رفض المدعوّون الرسميّون دعوة الملك، وحيث أرسل الملك يدعو جميع العابرين، وكأن لا علاقة له بوضع المسيحيين اليوم. ولكن الدرس الذي يقدّمه لنا مت ما زال يتوجّه إلينا. فهو يوسّع نظرنا لكي نبصر المخطّط العام للخلاص. فإن كان الشعب اليهوديّ لم يستقبل في أكثريّته الملكوت الذي دشّنه يسوع، إلاّ أن دعوة يسوع لم تكن باطلة: فبرحمة الله وحنانه، دُعي المساكين والصغار والوثنيّون المحتقرون، فجاؤوا كلهم إلى العيد المسيحانيّ. في هذا قال بولس في روم 17:11-24: لقد دُعي المسيحيون الآتون من العالم الوثني إلى التأمّل في قصد الله بدهشة وفعل شكر. يجب أن لا يفتخروا باختيارهم (قبلهم افتخر اليهود)، بل أن يعيشوا بحسب المتطلّبات التي يفرضها هذا الاختيار.
ذاك هو التعليم الواضح الذي نستخلصه من القسم الثاني من المثل (آ 11- 13). وهو يصيب المؤمنين المجتمعين من أجل الافخارستيا التي هي صورة واستباق للوليمة المسيحانيّة. ولباس العرس الذي يُطلب من الجميع هو البرّ الذي يتحدّث عنه مت 5: 20، والذي نجد شرعته في عظة الجبل (5-7). فلا يكفي أن نكون معمّدين لكي نكون جزءًا من الجماعة التي تلتئم يوم الأحد: بل يجب أن نعمل إرادة الآب لكي نشارك في العيد الأخير، عيد الخلاص.
إذا كان المثل يلفت انتباهنا أولاً إلى عمل الله العجيب الذي يحرّك فينا الفرحَ والشكر، فهو يدعونا أيضًا إلى فحص ضمير، ويجعل على المحكّ طمأنينة قد تكون كاذبة. ونستطيع أيضًا أن نتساءل إن كنا نحن المسيحيون قد تقبّلنا الدعوة حقًا. لاشكّ في أننا قبلناها شكليًا لأننا في قاعة العرس، ولكن أما نشبه بإهمالنا أولئك الذين لم يدخلوا؟ نحن في الداخل، ولكن قلبَنا في الخارج. عند ذاك يدخل "الغرباء" ليملأوا قاعة العرس التي ما عرفنا قيمتها.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM