الفصل الثامن: عشر كان لرجل ابنان

الفصل الثامن عشر
كان لرجل ابنان
21: 28- 32

مثل الابنين يدخل في إطار متّاوي يتضمّن ثلاثة أمثال (21: 28-32؛ آ 33-46؛ 22: 1- 14) تدور كلها حول فكرة رفض المسيح من قبل الذين وجب عليهم أن يقبلوه، من قبل رؤساء الشعب. سوف نرى فيما بعد كيف أن الفريسيّين والصادوقيّين سيتحالفون ويقوى تحالفهم يومًا بعد يوم على يسوع (22: 15-46). وهذا الجزء من الخبر يصل بنا إلى الويلات الرهيبة التي يُوجّهها يسوع ضد الفريسيّين (23: 1- 36) الذين نعتهم بأقلّ ما نعتهم بالقبور المكلّسة.
أما المثل الذي ندرس فيبدو مرتبًا ترتيبًا متماكسًا. نجد فيه ثلاثة أقسام واضحة. المثَل بشكل خبر (آ 28- 30). تطبيق أول للمثل وجّهه يسوع إلى محاوريه، وهو تطبيق يبدأ بشكل سؤال يطرحه المعلّم، وهذا أمر لافت (آ 31). هذا التطبيق الأوّل يظهر بشكل خاتمة من خلال عبارة احتفاليّة (الحق أقول لكم، آ 31 ب). وأخيرًا تطبيق ثان (آ 32) يربط ربطًا وثيقًا كل هذه المقطوعة بالمقطوعة السابقة التي تشير إلى يوحنا المعمدان (21: 23-27؛ وخصوصًا آ 25-27).
مثل يوجز في بضع كلمات كلَّ تاريخ الخلاص. كما يتضمّن طابعًا هجوميًا ضد رؤساء الشعب الذين اجتمعوا حول يسوع في الهيكل: إن العشّارين والزناة (لا تسرق، لا تزن، كما في الوصايا) بدأوا فرفضوا مشيئة الله كما عبّرت عنها الشريعة. ولكنهم عادوا عن خطيئتهم، ووجّهوا قلوبهم إلى الله، فدخلوا في الملكوت الذي دشّنه يسوع. أما الرؤساء الذين قالوا دومًا "نعم" لله على المستوى الرسمي والخارجيّ، فمالوا بوجههم عن الذي أرسله الله. رفضوا أن يقبلوا مَن أرسلته الآب، فكانوا وكأنهم رفضوا الآب بالذات.
بعد أن نتوقّف عند الناحية النصوصيّة، نقرأ المثل في حياة يسوع العلنيّة، ثم في سياق انجيل متّى.

1- المثل من الناحية النصوصيّة
قال يسوع هذا المثل: "كان لرجل ابنان". توجّه إلى الأول ثم إلى الآخر طالبًا منهما أن يذهبا إلى كرمه. ولكن من هو الأول، من هو الثاني؟ هنا اختلفت المخطوطات. قال الفاتيكاني وبعض الشهود: الأول هو الذي قال نعم. والثاني هو الذي رفض. ولكن السينائي وعدد كبير من المخطوطات قالت: الأول هو الذي رفض ثم ذهب إلى الكرم. والثاني هو الذي قال أنا أذهب ولكنه لن يذهب. نحن نأخذ بهذا الترتيب الأخير الذي يرتكز على شهود مهمّين، ويساعدنا مساعدة أفضل على فهم الطريقة التي بها وُلد النصّ الآخر الذي يحاول أن يكيّف المثل مع خاتمته الظاهرة في آ 32. على كل حال، ليس من فرق بين المخطوطات على مستوى المعنى الذي لا يتبدّل.
وهناك اختلافة أخرى تهتمّ بالمعنى. فحسب المخطوط البازيّ وعدد كبير من المخطوطات اللاتينيّة العتيقة ونسخة سريانيّة، نرى أن محاوري يسوع في آ 31 يجعلون الحقّ بجانب الابن الثاني، أي الذي قال أنا ذاهب ولم يذهب. الذي دلّ على طاعته ولكنه لم يفعل ما طُلب منه. هناك من أخذ بهذا التفسير معتبرًا أن الجواب بالنفي للأب يغيظه وقد قال له وجهًا لوجه، أكثر من عدم العمل الذي قد لا يراه. ولكننا نرفض مثل هذا التفسير في عالم يعتبر أن الطاعة الحقيقيّة لا تقوم بالقول والكلام، بل بالعمل والحق. لا تقوم إلاّ بإتمام ما طُلب منا وإلاّ كنا من جماعة الفريسيين الذين يقولون ولا يفعلون.
أما الملاحظة الثالثة فهي تتعلّق بالمثل. نلاحظ أنه كمثل بحصر المعنى ينتهي في آ 31 أ التي تقدّم جواب متحاوري يسوع: أول الاثنين صنع مشيئة أبيه (مع أنه قال كلا حين طلب منه). مع آ 31 ب، ننتقل إلى التطبيق على المستوى الدينيّ: "الحقّ أقول لكم: إن العشارين والبغايا يسبقونكم إلى ملكوت الله". وتأتي آ 32 فتزيد شرحًا إضافيًا يبرّر التأكيد الذي أعلن في آ 31 ب دون أن يرتبط بالمثل السابق. ويتّفق الشرّاح على القول بأن آ 32 هي عبارة جاءت من سياق آخر وأدرجت هنا. فلا علاقة لها في الأصل مع المثل. إذن، إن أردنا أن نعرف الهدف الأول من المثل، يجب أن نضع بين قوسين موقتين آ 32 التي تستطيع بدورها أن تنيرنا حول وجهة الانجيليّ.
بعد هذا الدرس النصوصيّ، نحاول أن نحدّد معنى المثل في مقصد يسوع ونواياه: نجعل كلامه في حياته العلنيّة، وتطبيق هذا الكلام كما هو في آ 31 ب التي لا يمكن أن نفصلها عن المثل (وإنقال بعض الشرّاح عكس ذلك). بعد ذلك ننتقل إلى منظار الانجيليّ لكي نرى البعد الذي أعطاه للمثل حين أدرجه في السياق الحالي وزاد عليه التفسير الإضافي الذي نقرأه في آ 32.

2- المثل في حياة يسوع العلنيّة
أ- مثل في خبر
نبدأ فنشدّد على الايجاز الكبير الذي به قدّم متّى هذا الخبر (آ 28-30): لا تفصيل نافلاً يشتّت الانتباه، ساعة نحتاج التركيز على الجوهر. إذن، لا نسأل أين هو الأكبر وأين هو الأصغر. ولماذا عاد الأول إلى صوابه وفعل ما طلبه منه أبوه، وما الذي منع الثاني من العمل بما وعد به أباه. ولا نحاول أن نعرف إن كان العمل المطلوب ملحًا جدًا، إن كان لا يستطيع أن يقوم به العبيد... كلها أسئلة تافهة (استعمل الانجيلي في آ 30، 32، كما في 3:27 عن يهوذا فعل "ماتامالوماي" الذي يعني "ندم" والذي هو غير "ماتانايو" الذي ينطبع مباشرة بالطابع الدينيّ).
فالراوي لا يهتمّ إلاّ بإبراز التعارض، بل التناقض بين الابنين. تناقض على مستوى الجوابين. هناك فظاظة من قبل الأول الذي اكتفى أن يقول بلغة جافّة: "لا أريد" (أو: كلا، لا. أو: هزّ بكتفه ولم يلتفت إلى أبيه). وهناك احترام كبير من قبل الثاني مع عبارة: "نعم يا سيّدي. أنا ذاهب". وتناقض خاص على مستوى الموقفين: ومع ذلك، ذهب الأول إلى الحقل مع أنه قال لا أريد. وأما الثاني فلا. عندئذ جاء السؤال: "أي الاثنين فعل إرادة الأب"؟ لم يتردّد السامعون، بل أجابوا حالاً: "الأول" (آ 31 أ).
فلا مجال للتردّد. ففي التوراة، لا تقوم الطاعة على الكلمات المعسولة، بل على التتميم الفعليّ لما يطلبه الله. حين أمر الله شاول بأن يكرّس له ما أخذه من بني عماليق (يصبح محرّمًا على الجيش) من أسلاب، ظنّ الملك أنه يستطيع أن يتحايل على الأمر الالهيّ مقدّمًا ذبيحة عظيمة. فأعلن له صموئيل: "أترى الربّ يسرّ بالمحرقات والذبائح كما يسرّ بالطاعة لكلام الرب؟ أجل، الطاعة خير من أفضل ذبيحة، والاصغاء (الاستعداد للعمل) أفضل من شحم الكباش" (1 صم 15: 22). وجاء مثل رابينى (القرن الثاني ب م) ففسّر أم 6: 1 (يا ابني إذا كفلت أحدًا) مطبقًا إياه على عطّيّة الشريعة لاسرائيل. قال:
"كمثل ملك كان له حقل رغب أن يسلّمه إلى شركاء. دعا الأول وقال له: "أتريد أن تأخذ هذا الحقل"؟ فأجاب: "لا قوّة لي. إنه يتعدّى امكانياتي". وسأل كذلك الثاني والثالث والرابع، فما قبلوا. حينئذ دعا الخامس وقال له: "أتريد أن تأخذ هذا الحقل؟" أجاب: "نعم، آخذه". "شرط أن تفلحه". أجاب: "نعم أفلحه". ولكن حين امتلكه تركه بورًا. فعلى من يغضب الملك؟ أعلى الذين قالوا: لا نستطيع القبول؟ أو على الذي قبله، وبعد أن امتلكه تركه بورًا؟ أليس على الذي قبله"؟
على سيناء، قال شعب اسرائيل "نعم" والتزم بممارسة الشريعة. وبما أنه التزم، فويل له إن لم يقم بواجبه فيعمل ما يطلبه الله منه: وإلاّ ينقلب عليه قبوله الأول. يصبح قبوله حكمًا عليه. في هذا المجال لا يختلف المسيحيّ عن اليهوديّ: "ليس من يقول لي يا رب يدخل ملكوت السماوات، بل من يعمل إرادة أبي الذي في السماوات" (7: 21). وقال يوحنا في رسالته الأولى: "يا أولادي الصغار، لا نحبّ بالكلام واللسان، بل بالعمل والحقّ" (1 لو 3: 18).
وفي التعارض الذي يجعل الابنين وجهَا لوجه، نرى بوضوح أن المثل الانجيليّ يشدّد على الثاني. على الذي قال نعم ولكنه لم يذهب إلى الكرم. فسلوك الأول يلقي ضوءًا على الخطأ الذي اقترفه الثاني. إذن، يبدو مرمى المثل هجوميًا. ونفهم منذ الآن أن يسوع يوجّه كلامه إلى أناس يمثّل سلوكهم سلوك الابن الثاني. أناس يطيعون بالكلام فقط، ولكن أعمالهم لا تتبع أقوالهم.
ب- تطبيق المثل
إذ أراد المثل أن يدلّ على الطاعة الحقيقيّة، على الديانة التي لا تكتفي بالكلام، ذكّرنا بالتعليم التقليدي الذي يعارض بين "قال" و"عمل". وتكون الدهشة، أقوى حين نسمع بعد ذلك تطبيقًا يخرج. من الطرق العاديّة. فحين جاء محاورو يسوع يعطونه جوابًا يوافق التعليم الأكيد، أعلن لهم: "الحقّ أقول لكم: العشّارون والبغايا يسبقونكم إلى ملكوت الله" (آ 31 ب).
ونبدأ فنتعرّف إلى الأشخاص. السامعون الذين يقول لهم يسوع "أنتم" (أي الضمير المخاطب الجمع) يقابلون العشّارين والبغايا وهم فئتان تمثّلان الذين مهنتهم أن يكونوا خطأة، الذين حياتهم هي حياة الخطأة، إذا استطعنا أن نقول هكذا. إنهم الخطأة الرسميّون. وتجاه هؤلاء الخطأة المعروفين في الساحات العامّة، هناك محاورو يسوع الذين هم صورة عن "الصدّيقين" (الأبرار) الرسميّين الذين تقوم "وظيفتهم" بأن يمارسوا بأمانة وصايا الله وجميع الفرائض التي تكمّل هذه الوصايا في التقليد اليهوديّ.
من الواضح أن هؤلاء "الأبرار" مقتنعون بأنهم قالوا لله "نعم". بل هم متأكدون من اهتمامهم التام بممارسة إرادة الله ممارسة أمينة ودقيقة (حتى في كل تفاصيلها)، هذه الإرادة الذي تعبّر عنها الشريعةُ والعادات التقليديّة. ومن الواضح أيضًا في نظرهم أن هؤلاء الخطأة الذين يتحدّث يسوع عنهم لا يرفضون فقط وصايا الله، بل لا يبدون أي اهتمام بتبديل سلوكهم. أما حكمهم على الوضع فيحدّده واقع يماهي بشكل ملموس مشيئة الله مع فرائض الشريعة اليهوديّة، لاسيّما الشفهيّة منها.
والاعلان الذي يوجّهه يسوع إليهم بشكل مفارقة، يبيّن حقًا أنه لا يقبل بهذا التماهي. فمشيئة الله في نظره، ليست الشريعة كما يمارسونها. مشيئة الله هي في الزمن الحاضر التعليم الانجيليّ مع نداء إلى التوبة يفتح الطريق إلى ملكوت الله. ويلاحظ يسوع أن هؤلاء "الأبرار" يرفضون هذا النداء ساعة يتجاوب معه "الخطأة". لاشكّ في أن الأبرار أبدوا كل استعداد طيّب في البداية، فكان موقفهم موقف الخضوع والاكرام تجاه الله. ولكن حين برزت أمامهم المتطلّبة الحاسمة التي بها يرتبط الدخول إلى ملكوت الله، تهرّبوا واختفوا. واستقووا بطمأنينة منحهم إياها برّهم الخاصّ، فرفضوا سماع النداء الالهيّ. وفي الوقت عينه سمع هذا النداء الخطأةُ الذين لا يوافق يسوع على سلوكهم السابق (هذا ما لا شكّ فيه)، وعملوا بما أمرهم الله.
وهكذا نرى الآن أين نجد حقًا المرمى أو تطبيق المثل. حدّد يسوع الطاعة لله بالنظر إلى التعليم الذي يعلنه، وهو تعليم يمثّل بالنسبة إلى السامعين إرادة الله في هذا الآن وفي هذا المكان. فالدخول إلى الملكوت يرتبط بموقف كل واحد تجاه هذا التعليم الانجيليّ. فلا نستطيع أن نتهرّب من متطلّباته متذرّعين بأننا نمارس الشريعة. هنا نجد موضوعًا توسّع فيه يسوع في مناسبات مختلفة وبأشكال متنوّعة خلال حياته التعليميّة. ومثل الابنين الذي نقرأ (آ 28-32) يقترب اقترابًا خاصًا من مثل المدعوين إلى الوليمة (لو 14: 16-24؛ مت 22: 1- 10): إذا أردنا أن نشارك في وليمة الملكوت، لا يكفي أن نكون قد دُعينا لكي يُحفظ لنا مكانُنا. بل يجب أيضًا أن نتجاوب مع النداء الذي يدّوي في الوقت الحاسم: "تعالوا. كل شيء معدّ". والممارسات الدينيّة تخسر كل قيمتها إن أعطت الانسان ثقة بنفسه جعلته يهمل متطلّبة النداء الذي يوجّهه الله الآن للبشر بواسطة رسالة يسوع. إن تجاوبَ الخطأةُ مع هذا النداء، وهم الذين لا يمكنهم أن يستندوا إلى طاعتهم السابقة لوصايا الله، فالطاعة التي يبرهنون عنها الآن تمنحهم الدخول إلى الملكوت.
"العشّارون والبغايا يسبقونكم" (برواغوسين). قد نفهم الفعل في معنى زمنيّ محض: يمرّون قبلكم. ولكن يبدو أن هذا ليس المعنى الذي يتوافق مع المثل والذي يشير إليه مثل الوليمة. لهذا نفضّل المدلول الذي يحصر الدخول بفئة دون فئة: يدخلون إلى الملكوت. ليس فقط قبلكم. بل هم يدخلون وأنتم لا تدخلون. نحن في النهاية أمام حكم استبعاد ضدّ أناس اطمأنوا بأنهم يمارسون الشريعة، وأهملوا مشيئة الله التي تقدّم إليهم الآن في كلمة يسوع.
إذن، أراد يسوع بهذا المثل، أن يجعلنا نعي وضعًا واقعيًا، ونكتشف مدلولاً دراماتيكيًا: تشكّكوا (الأبرار) (يظنّون بنفوسهم كل خير) حين رأوا نوعيّة الأشخاص الذين يقبلون كرازة ذاك الذي سمّوه "صديق العشّارين والخطأة" (11: 19؛ لو 7: 34). فأجابهم يسوع: لقد عرف هؤلاء الخطأة أين هي مشيئة الله وخضعوا لها. أما أنتم فتعلنون أنكم تطيعون الله (كأن عملكم مهنة) ولكنكم لا تتمّون ما يطلبه منكم.
ويُبرز هذا المثل في الوقت عينه وعيَ يسوع لرسالته. هو يعرف أن الخلاص الذي ينتظره سامعوه يرتبط لا بسؤال يُطرح عليهم: هل مارسوا الوصايا والفرائض؟ بل بالموقف الذي يتّخذونه تجاه تعليمه هو. فالطاعة لله تقوم الآن بقبول تعليم يسوع والعمل بموجبه.

3- المثل في إنجيل متّى
أ- علاقة المثل بالسياق الانجيلي
حين قدّم متّى رسالة يسوع العلنيّة في أورشليم، تبع رسمة مرقس مكتفيًا بإضافة بعض المواد، وبصياغة النصّ الذي وصل إليه من التقليد صياغة توافق مخططه اللاهوتي. فبعد خبر دخول يسوع إلى أورشليم (مر 11: 1- 25)، أورد مرقس سلسلة من ستة جدالات بين يسوع ورؤساء اليهود (27:11- 12: 37)، وهي سلسلة تذكّرنا بالجدالات الخمسة الي بها تميّزت بداية رسالة يسوع في الجليل (2: 1-6:3). غير أنه يجب أن نلاحظ أن مرقس أدرج بين الجدال الأول (11: 27-33) والجدال الثاني (11: 27-33) مثل الكرّامين القتلة (12: 1-12) الذي يتوافق مضمونه مع مضمون الجدالات وإن اختلف فنّه الأدبيّ عن فنّ هذه الجدالات.
ووضيع متّى أيضًا مثل الكرّامين القتلة (21: 33-47) بعد الجدال الأول في أورشليم (21: 23- 27). ولكنه جعله بين مثلين آخرين. وضع قبله مثل الابنين (21: 28-32) واتبعه بمثل المدعوّين إلى الوليمة (22: 1- 14). لاشكّ في أن الانجيلي أدرج هذين المثلين الإضافيين في هذا الموضع لأنه رأى فيهما بُعدًا يشبه إلى حدّ بعيد بُعد الكرّامين القتلة. ولكن لا بدّ من الانتباه إلى أن المثل الأولى (الذي ندرسه الآن، 21: 28-32) يرتبط أيضًا ارتباطًا وثيقًا بالجدال الأول حيث تطرح السلطات اليهوديّة على يسوع سؤالاً حول أصل سلطته (من أين جاء وهو الذي لا يستند إلى المعلّمين). وهكذا بدا مثل الابنين بشكل انتقالة، فيؤمّن التواصل في خبر ترك المثل وكأنه لا يرتبط بما حوله. إذن، يجب أن ننظر إلى مدلول هذه المقطوعة (آ 28-32) بالنظر إلى علاقتها بالحدث السابق، وبرباطها بالمثل اللاحق.
أولاً: علاقة المثل بالحدث السابق
دخل يسوع إلى الهيكل، فسأله عظماء الكهنة وشيوخ الشعب: "بأي سلطان تفعل هذا؟ ومن آتاك هذا السلطان" (21: 33)؟ رفض يسوع أن يعطي الجواب قبل أن يجيبه محاوروه أولاً على سؤاله: "معموديّة يوحنا من أين كانت؟ من السماء أم من البشر" (آ 25)؟ أحسّ الرؤساء بالفخّ المنصوب لهم. فقالوا: "إن قلنا من السماء قال لنا: إذن لماذا لم تؤمنوا؟ وإذا قلنا من البشر، نخاف الجمع الذي يعدّون يوحنا نبيًا" (آ 25-26). إذن، تهرّبوا وما أعطوا جوابًا. ويسوع بدوره رفض أن يردّ على سؤالهم.
وظلّت الأمور هنا عند مرقس. ولكن لا عند متّى حيث خاتمة مثل الابنين أبرزت بشكل واضح خطأ الرؤساء اليهود الذين رفضوا أن يؤمنوا بيوحنا. "جاءكم يوحنا من طريق البرّ، فلم تؤمنوا به. أما العشّارون والبغايا فقد آمنوا به. ولقد رأيتم ذلك، ولم تندموا من بعد لتؤمنوا به" (آ 32. أي لم تتعلّموا. ذاك كان وضع اليهود أيضًا حين رأوا الوثنيين يؤمنون بالانجيل. ولكنهم لم يتحرّكوا).
من الواضح أن هذه الآية تستعيد بشكل اتهام فكرة وردت في آ 25: "إن قلنا من السماء، قال لنا: إذن، لماذا لم تؤمنوا به"؟ فإذا أخذنا بعين الاعتبار الخاتمة التي نقرأها في آ 32، يصبح مثل الابنين امتدادًا للحدث السابق: حين رفض محاورو يسوع أن يؤمنوا بيوحنا، شابهوا الابن الذي قال "كلا" لأبيه. ولكنهم اختلفوا مع هذا الابن الذي تاب وبدّل موقفه. أما هم فما بدّلوا موقفهم حين رأوا العشّارين والبغايا يقولون نعم، أي يؤمنون بيوحنا. وهكذا تكون آ 32 لا خاتمة المثل فقط بل خاتمة كل التوسيع الذي بدأ في آ 23.
ثانيًا: علاقة المثل بالمثل اللاحق
بدأ متّى كلامه في آ 33 فكتب: "إسمعوا مثلاً آخر". وهكذا ضمّ مثل الابنين إلى مثل الكرّامين القتلة. فصار المثلان معًا صورة عن موضوع واحد. وجاءت صورة الكرمة فجعلت التقارب سهلاً (عملَ في الكرم، آ 28؛ غرسَ كرمًا، آ 33). وترجم هذان المثلان في العمق موقفًا واحدًا من التمرّد ضدّ ربّ الرم. في الحالة الأولى نحن أمام لاإيمان برسالة يوحنا المعمدان الآتية من السماء. وفي الحالة الثانية نجد صورة عن تمرّد متواصل ضدّ مرسلي الله، وهو تمرّد يقود في النهاية إلى مقتل الابن. وأخيرًا ينتهي المثلان بحكم يعلن استبعاد الابن الذي قال نعم ولم يذهب، والكرّامين القتلة. وسنجد التعليم عينه في المثل الثالث، مثل المدعوين إلى وليمة العرس (22: 1-14).
هناك تشابه بين مثل الابنين ومثل الكرّامين القتلة. بل هناك تدرجّ صاعد. فما قاله المثل الأول عن موقف الرؤساء اليهود تجاه يوحنا، يوجّه اتهامًا أخطر في المثل الثاني حول موقفهم تجاه مرسلي الله بشكل عام، وتجاه "الابن" (المسيح) بشكل خاص.
ب- إعادة تفسير المثل
كانت خاتمة المثل بحصر المعنى: "الحق أقول لكم: إن العشّارين والبغايا يسبقونكم إلى ملكوت الله" (آ 31 ب). وزاد مت على هذه الخاتمة شرحًا إضافيًا: "فإن يوحنا قد جاءكم من طريق البرّ فلم تؤمنوا به. أما العشّارون والبغايا فقد آمنوا به. ولقد رأيتم ذلك ولم تندموا من بعد لتؤمنوا به" (آ 32). إن هذا الشرح يمنح المثل مدلولاً جديدًا.
ولكن قبل أن نحدّد هذا المدلول، نشير إلى أن عددًا من الشرّاح اعتبروا هذه الاية غير أصليّة، وقد أقحمها متّى في هذا الموضع. وربّما أقحمت هتا في التقليد السابق لمتّى. إن هذا الرأي يستند إلى سببين رئيسيين. الأول هو أن هذا القول قد ورد في سياق آخر وفي شكل مختلف بعض الشيء في لو 29:7- 30: "فكل الشعب الذي سمعه والعشّارون أنفسهم برّروا الله باعتمادهم بمعموديّة يوحنا: أما الفريسيون ومعلّمو الناموس، فقد أحبطوا مآرب الله فيهم، إذ لم يعتمدوا على يده" (قد نتساءل: هل أدخل لوقا هذا القول في هذا السياق، أو هل وجده في المصدر الذي أخذ منه؟).
نحن نفهم أن يكون متّى "صحّح" هذا القول ليكيّفه مع سياقه الجديد: دوّن النصّ في صيغة المخاطب الجمع. وأحلّ الايمان محلّ المعموديّة بالنظر إلى آ 25. وتحدّث عن الندم في خط سلوك الابن الأول الذي قال كلا، ثم ذهب يعمل مشيئة أبيه.
إذن، يتيح النقد الأدبيّ أن يخفّف المسافة التي تفصل هذين التعبيرين عن تهمة هي هي في مت ولو. وبما أننا وجدنا هذا التعبير في لو، وفي سياق مختلف، نشكّ أنه شكّل الخاتمة الأولى في المثل.
والسبب الثاني نجده في عدم توافق بين هذه الاية والصور التي نجدها في المثل. حسب آ 32، العشّارون والبغايا قالوا نعم لتعليم يوحنا، ولكنهم عملوا ما طُلب منهم. أما خصوم يسوع فقالوا كلا وتشبّثوا في هذا الرفض مع أنهم رأوا ما فعله العشّارون والبغايا. وهكذا يكون التطبيق الذي تقدّمه آ 32 مختلفة كل الاختلاف عمّا إليه قادنا المثل. وهكذا نكون أمام إضافة زادها الانجيليّ على المثل. يبقى لنا أن نقول إنها تلقي على المثل ضوءًا جديدًا.
أولاً: يوحنا المعمدان ويسوع
حين تفحّصنا المثل في حدّ ذاته، والقينا عليه ضوء آ 31 ب في ما تعلنه، وصلت بنا الأمور إلى الظنّ بأن يسوع يصوّر بهذا المثل لومًا إلى "أبرار" رفضوا تعليمه والنداء الذي وجّهه الله إليهم بواسطته. إذن، نحن أمام موقف اتخذ بالنظر إلى يسوع وإلى رسالته. ولكن مع الزيادة التي أضافتها آ 32، لم نعد أمام يسوع، بل أمام يوحنا المعمدان: فمحاورو يسوع رفضوا يوحنا. أما العشّارون والبغايا فقبلوا كلمته. وهكذا اتخذ يوحنا الآن المكان الذي احتفظ به المثل أولاً ليسوع. ذاك هو التبديل الظاهر الذي حمله التفسير الذي قرأناه في آ 32.
ونفهم هذا التبديل في النظرة (أقلّه جزئيًا) برغبة الكاتب في أن يحمل جوابًا ظلّ معلّقًا في المقطوعة السابقة. فمتّى لا يحبّ أن يترك قرّاءه في الحيرة (ق 12: 45 ب؛ 16: 12؛ 17: 13)، بل يقدّم لهم الجواب الواضح. طرح يسوع سؤالاً في آ 25: "معمودية يوحنا من أين كانت؟ من السماء أم من البشر"؟ كان يجب على يسوع أن يقدّم فكرته في هذا الموضوع. وهذا ما فعله في آ 32 حين أعلن: "جاء يوحنا من طريق البرّ". أي تبع يوحنا طريق البرّ التي باستطاعتها أن تجعل معاصريه يروا فيه انسانًا بارًا. هذا تفسير. غير أن السياق يجعلنا نختار تفسيرًا آخر. "جاء مع" أي "حمل لكم". لقد دلّكم بتعليمه على طريق البرّ، عرّفكم مشيئة الله تجاهكم. وهكذا تعرفون من أين جاء تعليم يوحنا أمام مضمون البلاغ الذي حمله، والبرّ الحقيقيّ الذي قدّمه.
حلّ يوحنا محلّ يسوع. ولكن هذا لا يدهشنا عند متّى، حين نعرف العلاقة الوثيقة التي جعلها الانجيليّ بين هذين الاثنين. فهو لا يكتفي بأن يجعل في فم يسوع تحذيرًا (7: 19) وتقريعًا (12: 34؛ 23: 33) يميّزان كرازة يوحنا (3: 10 و7:3). بل هو لا يتردّد في أن ينسب إلى المعمدان إعلانًا عن مجيء ملكوت الله (3: 2)، يدلّ على تعليم يسوع. وقد "صحّح" متّى التحديد الذي أعطاه مرقس لهذا التعليم: "تمّ الزمان، وملكوت الله صار قريبًا" (مر 1: 15). ترك متّى (4: 17) عبارة "تمّ الزمان" لأن هذه التتمّة لا تتوافق عنده مع بداية رسالة يسوع: لقد سبق وبدأت مع كرازة يوحنا. فمع مجيء يوحنا تمّ الزمن الذي فيه "تنبّأ الأنبياء والشريعة" (13:11). وهكذا ننتقل من تدبير الكرازة إلى تدبير التتمة (لقد تحقّق). وهكذا ندخل في حقبة ملكوت الله (12:11). لم يعد يوحنا ينتمي إلى العهد القديم. بل أدخل في العهد الجديد. ولهذا، فالموقف الذي اتخذه الناس تجاهه كان حاسمًا بالنسبة إلى قبولهم في الملكوت.
وما خاف متّى أن يعطى ليوحنا مكانًا يخصّ يسوع، لأن المثل يوجّه انتباهنا لا إلى مرسل الله، بل إلى الموقف الذي نتّخذه بالنسبة إلى المرسل. سواء كان يوحنا أو يسوع. الموقف هو هو مع ذات النتائج فيما يتعلّق بالدخول إلى الملكوت. فالمكان الخاص بيسوع سيكون واضحًا جدًا في المثل التالي الذي يصوّر تمرّد الكرّامين القتلة وسلوكهم أولاً تجاه الخدّام الذين أرسلهم سيّد الكرم، وثانيًا تجاه الابن نفسه. ولا نستطيع أن ننسى أن مثل الابنين قد هيّأ في سياقه الحالي (بل كان مقدّمة) لهذا المثل الكبير الذي حاول الانجيليّ أن يبرزه بشكل كبير جدًا.
إن مرسلي الله يتعاقبون ولا يتوقّفون. كان الأنبياء، ثم السابق، وبعده الابن شخصيًا. بعد ذلك، جاء التلاميذ. ومواقف البشر تجاههم تبقى دومًا هي هي: لا إيمان وتمرّد عند البعض. إيمان وخضوع عند البعض الآخر. وحدهم هؤلاء يدخلون إلى الملكوت.
ثانيًا: طاعة وايمان
وحاول المثل أن يبيّن أيضًا أن الطاعة لا تقوم بأن نقول نعم، بل بأن نعمل ما يُطلب منا. والتطبيق الذي وجدناه في آ 31 ب يدلّ على أن هذه الطاعة واجبة لمشيئة الله كما تظهر في هذا الزمن الحاضر. ونحن لا نستطيع أن نتهرّب منها متذرّعين بأننا نكتفي بمجموعة من الفرائض قد لا يكون جدال في أصلها الالهيّ. إن مشيئة الله لا تتماهى مع سلسلة من القواعد التي نكتفي بممارستها. الطاعة هي جواب شخصيّ لإله يدعو وهو يتطلّب في دعوته في شكل قد لا نتوقّعه.
مع آ 32، ننتقل من موضوع الطاعة إلى موضوع الايمان. وقد رأينا أن تبديل الموضوع هذا ينتج عن رباط وثيق جعله الانجيليّ بين المثل والحدث السابق. في آ 25، فكّر رؤساء اليهود: "إن قلنا (إن معموديّة يسوع كانت) من السماء، يقول لنا: إذن، لماذا لم تؤمنوا به"؟ والآن انقلبت هذه الفكرة ضدّهم: لم تؤمنوا بيوحنا. ومثل العشّارين والبغايا لم يجعلكم تعودون إلى نفوسكم لتؤمنوا به. لم نعد هنا أمام تعارض بين أن نكتفي بأن نقول نعم (ولا نعمل)، وبين أن نتمّ ما يُطلب منا. فقد صار التعارض بين نعم نتلفّظ بها في الايمان، وكلاّ تدلّ على لا إيماننا.
وهنا أيضًا بدا تبدّل النظرة واضحًا وله معناه العميق. تحدّث المثل عن الطاعة. أما الاعلان الأخير (آ 32) فحين تحدّث عن الايمان لم يُحلّ بكل بساطة الايمان محلّ الطاعة. بل هو حاول أن يُبرز ما تفرضه هذه الطاعة. فالطاعة لله ليست ممكنة إلاّ بفضل الاعتراف والايمان بهذه الارادة التي تتجلّى في كلمة مرسليه. هذا الايمان هو الأول. ولن يكون صادقًا إلاّ إذا كان في الوقت عينه خضوعًا وأمانة لنداء يوجّهه الله إلينا. ولكن من جهة ثانية، لا طاعة دينيّة حقيقية من دون اكتشاف هذه الارادة الالهية التي تنادينا، بواسطة الايمان. فالطاعة هي جواب لله الذي يكلّمنا. هي قبول كلمته التي تقدّم لنا الحياة، تقدّم الملكوت.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM