الفصل السادس عشر :النبيّ الملك يدخل إلى أورشليم

الفصل السادس عشر
النبيّ الملك يدخل إلى أورشليم 21: 1- 11

وصل يسوع إلى بيت فاجي (كفر الطور). واقترب من أورشليم التي سيدخلها في موكب عظيم، سيدخلها كالمسيح الملك، سيدخلها بحسب أقوال الأنبياء. هيّا الدخول حين أرسل تلميذين يشهدان له على مثال أعميي أريحا. وأعلن أنه "الربّ" الذي يستطيع أن يطلب كل شيء. ودخل يسوع المدينة المقدّسة دخول "الفاتحين"، لا على فرس، هي مطيّة الحروب، بل على جحش ابن أتان، كما اعتاد آباء الشعب أن يفعلوا. وكانت نتيجة هذا الدخول أن المدينة كلها ارتجّت، ورأى الجمع في يسوع الناصري، الآتي من الجليل، النبيّ الذي ينتظره الشعب على مثال موسى. فيبقى عليهم أن يسمعوا له.
بعد نظرة إجمالية إلى النص، نتوقّف عند التفاصيل قبل أن نكتشف فيه النظرة اللاهوتيّة والروحيّة.

1- نظرة إجماليّة
إن لهذا الخبر مكانته المميّزة في بنية مت. وهو يجعلنا أمام أزمة بها يمرّ العالم من تدبير ملكوت تدشّن ولكنه ما زال خفيًا، إلى تدبير ملكوت تجلّى بشكل نهائيّ. لقد أراد الانجيليّ أن يبيّن العلاقة بين هذه الأزمة بأبعادها الكونيّة كما في ف 24 وآلام يسوع. وشدّد بشكل خاص على الصراع بين يسوع ورؤساء شعبه (ف 23).
في هذا الاطار، يدخل خبر دخول يسوع إلى أورشليم. إنه بداية "حلّ" الأزمة، وستكون النهاية في الآلام والموت والقيامة. أما نصّ مت في المقطوعة التي ندرس (21: 1- 11)، فتميّز عن نصّ مر ونصّ لو بالايراد الكتابي الطويل الذي يعطي الحدث معناه. كما يتميّز بالنبرة الارتهابيّة والاحتفاليّة، بعد أن جاء الخبر متماسكًا ومجرّدًا من تفاصيل سنجدها عند الازائيين الآخرين.
نستطيع أن نقسم هذه المقطوعة ثلاثة أقسام: تهيئة الدخول (آ 1- 5). الدخول إلى المدينة المقدّسة مع صيحة الشعب: "هوشعنا لابن داود! مبارك الآتي باسم الرب. هوشعنا في الأعالي" (آ 6-9). وفي آ 10- 11، نتعرّف إلى ردّة الفعل لدى الجموع: "هذا يسوع النبيّ". ولكن هذا النبي سيُقتل، شأنه شأن سائر الأنبياء في أرض اسرائيل على مثال ما سيقول يسوع في 33:23 (رج 21: 33 ي ومثل الكرّامين القتلة).
وترد ثلاثة نصوص من العهد القديم. الأول من أشعيا يتحدّث عن أورشليم التي استعادت "زوجها" الله الذي يعيد لها إشعاعها في الكون، فتقيم فيها جماعة المفديّين. أما الآية المذكورة هنا فتقول: قولو لابنة (لمدينة) صهيون (= أورشليم. في الأصل، أقدس مكان في أورشليم حيث يقوم الهيكل): ها خلاصك (أو: مخلّصك كما قال الترجوم الآرامي والبسيطة السريانية) يأتي". أما متّى فقال: "ملكك يأتيك"، رابطًا نصّ أشعيا بنصّ زكريّا، مشدِّدًا على دخول الملك إلى مدينته. هذا الملك يتوقّف في جبل الزيتون، على مثال ما فعل الربّ حين عاد إلى المدينة المقدّسة بعد أن رافق المسبيّين إلى السبي (خر 43: 1 ي).
وعاد النصّ الثاني إلى زك 9 الذي يعلن دينونة الشعوب وتنقيتها. يزول الملوك كلهم ويبقى الملك المسيح، الوديع والمتواضع، الذي يحمل السلام إلى شعبه وإلى سائر الشعوب. "ابتهجي يا بنت صهيون، اهتفي هتافًا يا ابنة أورشليم (لكي تعلني ملك الربّ، صف 3: 14). ها ملكك يأتي إليك بارًا ومخلّصًا، متواضعًا وراكبًا على حمار، على جحش صغير. يزيل من افرائيم مركبات الحرب". أجل، يسوع بعيد جدًا عن الوجه الحربي الذي ألبسه اليهود للمسيح في أيام يسوع. ترك كل ما يتعلّق بالحرب، وأعلن السلام للأمم بعد أن حطّم كل سلاح.
والنصّ الثالث نقرأه في مز 118 الذي هو نشيد الاعتراف للرب، يتلوه الآتون إلى الحجّ في أورشليم: "خلّص اذن، يا رب. هوشعنا. مبارك الآتي باسم الربّ". هذه الايرادات الثلاثة تذكّرنا أننا لسنا أمام "تقرير" صحافيّ عمّا حدث يوم دخل يسوع إلى أورشليم، بل أمام تعبير لاهوتي يدلّ على الايمان المسيحيّ بملك متواضع يحمل السلام إلى مدينته وإلى العالم، ويستعدّ للآلام التي يتحملها بحيث تكون حياته فدية عن كثيرين.

2- دراسة تفصيليّة
أ- البنية
ركّزت آ 1 المشهد. وأوردت آ 2-3 تعليمات يسوع لتلميذيه. وحملت آ 4-5 الايراد الكتابيّ. وفي النهاية، أوضحت لنا آ 6- 11 أن هذه التعليمات قد تنفّذت بدقّة. "فذهب التلميذان وفعلا ما أمرهما به يسوع" (آ 11). وكان ما كان من دور الجموع.
نستطيع أن نقابل بنية هذا النصّ مع بنية 1:18-25. ركّزت آ 18-19 المشهد، وظهر الملاك ليوسف فأعطاه تعليمات (آ 20- 21). بعد هذا، جاء استشهاد كتابيّ (آ 22-23) دلّ على أن هذه التعليمات قد نُفِّذت بدقّة: "قام يوسف من نومه فصنع ما أمره ملاك الرب". ثم كانت الاحداث التالية (آ 24- 25).
وهكذا نستطيع أن نجعل المقطعين في الرسمة التالية:
1: 18-19 تركيز المشهد 21: 1
1: 20- 21 تعليمات الملاك/ يسوع 2:21-3
1: 22-23 استشهاد كتابي 21: 4- 5
24:1 تنفيذ التعليمات 6:21
1: 25 نتيجة الاحداث 7:21- 11
وهناك من يقرأ 21: 1-17 كما يلي:
أ- 21: 5، استشهاد كتابي (بنت صهيون)
ب- 9:21، هتاف (مز 25:118-26)
ج- 21: 13، يسوع يورد الكتاب
ب- 21: 15، هتاف (مز 118، 25)
أ- 21: 16، يسوع يورد الكتاب (من فم الأطفال والرضّع).
وإذا توقّفنا عند المرجع، نفهم أن 21: 1- 11 هو صياغة لما في مر 11: 1- 11. وقد يكون هناك مرجع لا مرقسيّ.
ب- التأويل
إن المقطوعة التي ندرس تحمل خيوطًا عديدة من الفصول السابقة: موضوع تتمة النبوءة (آ 4-5؛ رج 1: 22-23). مسيرة يسوع إلى أورشليم (آ 1، 10؛ رج 16: 21؛ 17:20). تواضعه (آ 4؛ رج 29:11). وضعُه كملك (آ 5؛ رج 2: 1- 12) وابن داود (آ 9؛ رج 1: 1-18) والآتي (آ 9؛ رج 2: 11؛ 11: 3) والنبيّ (آ 11؛ رج 13: 57).
ولكن هذه المقطوعة تتضمّن أيضًا أمرين مهمين. الأول: أعلن يسوع نفسه الملك المسيحاني، لا بشكل مباشر بل غير مباشر، لا بالأقوال بل بالأعمال. الثاني: أقرّت مجموعة بهذا الملك (ق 16: 13-14). وهذا الاعلان (الذي هو نداء يسوع العلني) والاقرار (جواب الجمع) يفرضان على أورشليم أن تتّخذ قرارها: من هو يسوع (رج آ 10)؟ كل ما يتبع 21: 12 يرتبط بجواب المدينة على هذا السؤال.
إن 21: 11 وز هو أحد النصوص التي تروي مجيء قائد منتصر أو بطل حرب (في الأناجيل الازائيّة، يسوع يدخل هنا إلى أورشليم للمرة الأولى، لهذا كان الحدث ذا بعد كبير). في التقليد اليهودي: 1 مل 1: 32-40 (سليمان)؛ زك 9: 9 (الملك الاسكاتولوجي)؛ 1 مك 5: 45-54 (يهوذا المكابي. رج يوسيفوس، العاديات 21: 348-349)؛ 13: 38-48 (سمعان المكابي)؛ 49:13-53 (سمعان المكابي أيضًا)؛ 2 مك 4: 21-22 (انطيوخس)؛ يوسيفوس، العاديات 11: 325-329 (الاسكندر الكبير؛ رج 11: 340- 345). العاديات 12: 304-306 (أنطيغونيس). ويُذكر مرقس أغريبا في 16: 12- 15 وارخيلاوس في 17: 193- 205. في التقليد الروماني واليوناني: أتالس من برغاموس يدخل إلى أثينة. أنطونيوس الروماني يدخل إلى أفسس. دخول أميليوس باولوس إلى رومة. وقد تحدّثت العاديات عن تيطس الداخل ظافرًا إلى جيشالة (4: 112-113)، وعن وسباسيانس الداخل إلى رومة (7: 70- 71).
كل هذه النصوص التي تصوّر بشكل خاص الانتصار العسكريّ، تذكر اقتراب الملك من المدينة، الهتاف والاحتفال بالاناشيد، الدخول إلى المدينة، شعائر العبادة. ونجد في 1 مك 13: 49-53 (كما في مت 8:21) إشارة إلى الأغصان (سعف النخل). وقد انتمى الخبر في الأناجيل الازائيّة إلى هذا النموذج. غير أنه يجب أن نلاحظ ثلاثة أمور. الأول: ليس دخولُ يسوع انتصارًا حربيًا. وهكذا ينال الخبر قوّته من واقع يبيّن أن الوجه المركزي، ابن داود الملك، هو متواضع، وأنه ما استولى على شيء أو على شخص، وأنه لا يستعدّ للاحتلال. الثاني، شدّد الانجيل على الحيوان المذكور في 1مل 1: 32-40 وزك 9:9. الثالث: لم يقدّم يسوع ذبيحة في الهيكل، بل ندَّد بالانحرافات على مستوى شعائر العبادة. فكأنه خسر شرعيّته، ويسوع هو فوق الهيكل. وهكذا لا نكون أمام "مجيء" (باروسيا)، بل مجيء معاكس (انتي باروسيا).
وهناك اختلافات بين 21: 1- 11 ومر 11: 1- 11. (1) لا ترد "بيت عينا" في بداية مت. بل ستظهر فيما بعد، في آ 17، رج مر 11: 11. (2) الجحش في مر صار في مت الحمار والجحش (آ 2، 5، 6). (3) إن عبارة "ركبه أحد" في مر 11: 2 لا تجد ما يقابلها في مت. (4) حوّل مت "وهو (الرب= يسوع) سوف يردّه" (= الجحش)" إلى شيء مختلف مع نبوءة: "وهو (من سألت التلميذين عمّا يفعلان) سيرسلهما (الحمار والجحش) حالاً" (21: 13). (5) زاد مت نصّ زك 9: 9 (آ 4-5). (6) أوجز مت حدث وجود الجحش (ق مت 6:21 مع مر 11: 4-6). (7) بعد "هوشعنا" جعل مت "ابن داود" (8:21) الذي يجعل من كلام الجمع إعلانًا كرستولوجيًا واضحًا (ق مر 9:11). (8) صياح الجمع في 9:21= مر 9:11-10 هو ثلاث صرخات في مت، وأربع في مر، لأن مر 11: 10 أ (مبارك مُلك أبينا داود الآتي) غير موجود في مت. (9) بدل مر 11: 11 أ (ذهب يسوع إلى الهيكل ونظر ما حوله)، نجد في مت: سألت المدينة من هو يسوع. فأجاب الجمع: النبي يسوع الذي من ناصرة الجليل. (10) ما جعله مر في صيغة الحاضر جعله مت في صيغة الماضي.
ونقابل بين 21: 1- 11 و20: 29-34.
ف 20 ف 21
رافق (آ 29) رافق (آ 9)
الجمع (آ 29) آ 8
ها هو (آ 30) آ 5
اثنان (آ 30) آ 1
جلس (آ 30) آ 7
على قارعة الطريق (آ 30) (بارا) في الطريق (آ 8) (ان)
يا ربّ (آ 30): كيريي الربّ (آ 3): كيريوس
صرخوا قائلين (آ 30) آ 9: اكركسان
ابن داود (آ 30) آ 9
وفي الحال (آ 30) آ 2، 3 (اوتيوس).
نلاحظ وجود "ابن داود". فرغم الظواهر، يسوع هو "ملك اليهود". والحماران هما شاهدان للشعب على ما في أش 1: 3: "عرف الثور مقتنيه، والحمار معلف صاحبه، أما بنو اسرائيل فلا يعرفون، شعبي لا يفهم شيئًا".
نجد في أساس مر 11: 1- 10 حدثًا تاريخيًا، وإن صعُب علينا أن نعيد بناء التقليد التاريخيّ بحسب المعنى الروحي الذي حمّله إياه الانجيليّ. ونتساءل عن الأمور التي يذكرها الانجيل. هل كان مجيء يسوع حدثًا علنيًا كبيرًا كما يقول مت؟ أو هل جاء مع بعض الحجّاج من الجليل؟ هل أراد يسوع أن يقدّم مُلكه بشكل مثل، أو هل خبرُ دخول يسوع إلى أورشليم مع جمع الحجّاج الذين سيطر عليهم الفرح وانتظار الملك الآتي، قدّم الاساس التاريخيّ الذي تأثّر بما في زك 9:9؟ نستطيع القول بالنظر إلى ما سيفعله يسوع فيما بعد (مر 11: 12- 25) إن يسوع أراد أن يرمز إلى الملك الآتي ودوره فيه. ووجّه هذه الفعلة الرمزيّة إلى التلاميذ وحدهم. ولكن مت رأى في هؤلاء التلاميذ القليلين يوم الشعانين جموع المؤمنين يهتفون في كنيسته سنة 85: "هوشعنا لابن داود"!
ج- التفسير
أولاً: تهيئة الدخول (21: 1- 5)
* ولما قربوا من أورشليم (آ 1- 2)
ذهب داود من أورشليم إلى جبل الزيتون وسط أصوات البكاء (2 صم 15: 30؛ رج زك 9: 9- 10). أما يسوع، إبن داود، فمن جبل الزيتون إلى أورشليم وسط هتاف الفرح.
"ولما قربوا من أورشليم". أحلّ مت صيغة الماضي محلّ الحاضر الذي وجده في مر. ترك لفظة "بيت عنيا". ووحّد حروف الجرّ (إيس، إيس، إيس، إلى. في مر، إيس، إيس، بروس).
أورشليم هي مدينة الملك العظيم (= الله) (35:5). أما ملكها هنا فهو يسوع. بيت فاجي هي قرية صغيرة. في التلمود. "خارج بيت فاجي" يعني "خارج أورشليم". وهكذا كانت جزءًا من المدينة المقدسة. وإن كانت قد ذُكرت في الخبر الانجيليّ، فبسبب اشتقاق الكلمة: بيت التين الفجّ (الذي لم ينضج). فبعد الدخول إلى أورشليمْ وتطهير الهيكل، نقرأ خبر لعن التينة.
إن جبل الزيتون بقممه الثلاث يبعد 4 كلم تقريبًا عن أورشليم من جهة الشرق، وقد سمّي كذلك بسبب شجر الزيتون الذي يغطّيه (رج معنى: جت شماني، جتسماني، عصر الزيت). نجد الاسم في 2 صم 15: 30؛ 1 مل 11: 7؛ 2 مل 13:23؛ حز 11: 23؛ زك 14: 4 (في السبعينية نجد "أوروس تون إليون": جبل الزيتون). هناك مدافن تعود إلى القرن السادس ق م وتمتدّ إلى القرن الرابع عشر ب م. يبدو أن هذا "الجبل" كان موضع عبادة لإله الموت، نرجال. في العهد الجديد، يُذكر الجبل في مر 11: 1 وز؛ 3:13 وز؛ 14: 26 وز؛ لو 21: 37؛ يو 8: 1؛ أع 1: 12. على جبل الزيتون ينتظر الناس نهاية الزمن (24: 3؛ 27: 51-53). ارتبط الموضع بالدينونة (حز 11: 23؛ زك 14: 4؛ مر 13: 3-4) والقيامة. وقد يكون ارتبط بالانتظار المسيحاني في القرن الأول. صار هذا الجبل في المسيحيّة الأول موضع حجّ كما يقول اوسابيوس في البرهان الانجيلي (6: 18).
"أرسل يسوع تلميذين". ق مر 6: 7؛ 14: 13. زاد مت "توتي" (عندئذ) و"ياسوس" (يسوع). وحوّل صيغة الحاضر إلى صيغة الماضي. وقال "تلميذين" لا "اثنين من تلاميذه". واستعمل اسم الفاعل (قائلاً) بدل الحاضر (وقال). أما التعليمات التي أعطاها والتي تعكس سلطة الملك، فهي تدلّ على أن امتطاء الحمار كان عملاً رمزيًا توخّاه يسوع بملء إرادته.
"إمضيا إلى القرية". ق 18:26. هي بيت فاجي لا بيت عنيا، على ما يبدو. "وفي الحال تجدان". ق 1 صم 10: 1-9 (نبوءة صموئيل حول الاتن التي يبحث عنها شاول)؛ مر 14: 12-16 (نبوءة يسوع)؛ أعمال بطرس 12؛ الرسل 6: 1، 14-29. ترك مت عبارة "لم يركبه انسان" لأنها غير موجودة في الاستشهاد الكتابيّ. وأضاف الحيوان الثاني ليكون في خط العهد القديم.
جعل الأدب الرابيني من الحمار مطيّة مسيحانيّة. تلمود بلبل بركوت 56 ب، سنهدرين 98 أ. يقابل المقطع الأخير بين دا 7: 13 وزك 9: 9: إذا كان اسرائيل أهلاً سيأتي المسيح على سحاب السماء. وإن لم يكن أهلاً سيمتطي حمارًا. نسب هذا النص إلى يشوع بن لاوي، الجيل الأول من القوّالين (امورائيم).
إن زك 9: 9 هو مفتاح هذا التوسيع. فقد استعمل الحمار في الاحتفالات القديمة في الشرق الأوسط القديم. مثلاً في 1 مل 1: 33، ركب سليمان أتان داود إلى جيحون حيث مُسح ملكًا (رج 2 صم 18: 9؛ 19: 16). وهناك بغلة الامراء (قض 5: 10؛ 10: 4؛ 12: 13-14؛ 2 صم 13: 29). ركوب البغلة للدخول إلى المدينة هو عمل ملكي نجده في ارشيف ماري (على الفرات) الملكي.
* إن قال أحد لكما شيئًا (آ 3-5)
ويعطي يسوع أوامره فيدلّ على أنه عارف بالظروف (أو هو دبّر الامور مسبقًا). الرب أي يسوع المسيح. هكذا سمّى نفسه هنا. إن المطيّة المسيحانيّة تخصّ يسوع لأنه الرب المسيح الذي يستعيد سلطة آدم على الحيوانات (تك 1: 26- 31). ويرى مت أن يسوع ليس فقط سيّد الحيوانات، بل سيّد أورشليم نفسها.
"وكان هذا ليتمّ" (آ 4). هنا يبدأ الراوي كلامه وكأنه يعبّر عن فكر الربّ. لا يُذكر النبي الذي أخذ منه الايراد الكتابيّ لأنه مزيج من أشعيا وزكريا. ثم لَو قال مت إن النصّ يعود إلى زكريا، لما زاد كلامه شيئًا على المعنى اللاهوتي.
"قولوا لابنة صهيون" (آ 5). انطلق مت من تلميح مر إلى زك 9:9. كما من قول يسوع الذي يدعو تلاميذه إلى الوداعة (5: 5). ق يو 12: 15. "قولوا لابنة صهيون". رج أش 62: 11 حسب السبعينيّة. "ابتهجي جدًا يا بنت صهيون" (زك 9: 9). عبارة لا تتوافق مع عداء صهيون للرب، ولا مع دمارها سنة 70. لا نجد "عادلاً ومخلّصًا" (رج يو 15:12). بنت صهيون هي مدينة صهيون. الجواب على النداء لا يكون في الهتاف، بل في طرح السؤال: "من هذا"؟
ثانيًا: الدخول إلى أورشليم (21: 6- 9)
* "فذهب التلميذان" (آ 6-7)
"ذهب التلميذان وفعلا". ق خر 28:12 حسب السبعينيّة؛ مت 1: 24؛ 26: 19. أوجز مت مر 11: 4-6. كيف كان التلميذان مثال الطاعة حين سُئلا لماذا يفعلان ما يفعلان (لو 19: 32-34). أما مت فعجّل لكي ينتقل إلى امتطاء الأتان. وهكذا يتمّ الكتاب.
"أتيا بالأتان والجحش" (آ 7). وضعا ردائهما عليه. المهمّ هو أن يسوع الآتي إلى مدينته لا يأتي ماشيًا على قدميه. بل جالسًا على مطيّة. نشير هنا إلى أن اليهود الآتين إلى الحجّ يصلون إلى المدينة سيرًا على الأقدام. ولكن كان عمل يسوع ظاهرًا. وهو الذي وصل راكبًا على الأتان.
* "وفرش جماعات الشعب" (آ 8-9)
هنا يدخل الجمع في الخبر. إن دخول يسوع في مت هو انتصار شعبي (عكس مر ولو اللذين توقّفا عند الوجهة المسيحانيّة: الفعلة الامثالية التي تقوم بامتطاء الحمار تتوافق مع نبوءة زكريا) قد فسّرها الجمع كاعلان مسيحاني لابن داود. أما فرش الاردية على الطريق، رج 2 مل 9: 13 (يا هو الملك) وأعماله بيلاطس (1: 21) حيث يمرّ يسوع كأنه ملك. نشير هنا إلى أن الثياب تدلّ على لابسها. وحين توضع تحت قدمي في شخص، فهذا العمل يدلّ على خضوع صاحب الثياب للذي سار عليها. "وقطع آخرون أغصانًا من الشجر" (2 مل 13:9؛ 1 مك 51:13 وسقوط أورشليم في يد سمعان المكابي؛ 2 مك 7:10). نحن هنا في احتفال ديني. ولكن مت لم يذكر النخل كما فعل يو.
"وكان الجموع... يهتفون" (آ 9). ورد مز 118 مرارًا في الأدب المسيحي الأول (6:118 في عب 6:13؛ 118: 15-16 في لو 1: 51؛ 17:118- 18 في 2 كور 9:6؛ 118: 19-20 في رؤ 14:22؛ 20:118 في يو 9:10؛ 22:118 في مر 8: 31؛ أع 4: 11...). "هوشعنا". ق 2 صم 14: 4 (هـ و ش ع. هـ. م ل ك)؛ 2 مل 26:6؛ مز 26:118 (في السبعينيّة: سوسون دي). في نظر مت، ما دخل يسوع إلى أورشليم كابن الله أو ابن الانسان، بل كابن داود (20: 30؛ 21: 5). هذا ما يعكس نظرة الانجيلي إلى أورشليم التي هي مدينة داود.
إن لفظة "هوشعنا" تتألّف من لفظتين: خلّص الآن. أو: نرجوك خلّص (1 صم 14: 4). ولكن لا معنى لـ "خلّص الآن" في مت 21: 9. ولكن المعنى سيكون فيما بعد: "المجد والمديح" "مبارك الآتي باسم الرب". ق يو 12: 13 ومر. زاد لو 19: 38 "الملك". يعود هذا الكلام إلى مز 118: 26 (حسب السبعينيّة). المسيح هو الآتي والآتي باسم الربّ. "هوشعنا في الأعالي". رج مر 11: 10 ب الذي زاد "مبارك مُلك أبينا داود الآتي". نشير هنا إلى أن مز 118 يُتلى حسل المراجع الرابينيّة في الفصح والمظال والتجديد. وقد كان في الأصل مزمور شكر يُتلى في طواف ملكيّ. فيتذكّر المؤمنون سنة بعد سنة تنصيب الملك. وسوف يجعل التقليد المسيحيّ هذا المزمور مسيحانيًا.
ثالثًا: ردّة الفعال لدى الجموع (21: 10- 11)
لا يُقال لنا ماذا فعل يسوع لدى استقبال الجمع له، بل كيف كانت ردّة فعل الجموع على هذا الدخول. ويبدو أن آ 10-11 هما من تدوين متّى. فلا شيء يوازيهما في مر ولو. وهما قريبان جدًا من مت 2: 1-3. ويحملان تعابير متّاويّة: قد يكون الجمع الذي رافق يسوع قد جاء من الجليل. ولهذا نراه يفتخر بيسوع الذي يأتي من ناصرة الجليل. نجد فعل "سايو" (ارتجّ) الذي هو قريب من "سائسموس" المرتبط بجبل الزيتون في زك 14: 4- 5.
"من هذا"؟ لا، ما اسم هذا الرجل؟ بل، ماذا سنفعل بهذا الرجل؟ فهتاف الجمع ليس في محلّه. وهذا ما يهيّئ العمل النبويّ في المقطوعة التالية. يُبرز ما أدركه الجمع على المستوى الكرستولوجي. ليس يسوع فقط ابن داود (آ 9). هذا الكلام يعوّض أورشليم عن جهلها ويبيّن توازيًا جديدًا بين موسى ويسوع. ففي التقليد اليهوديّ موسى هو نبيّ وملك. والنبيّ يدلّ هنا على نبيّ نهاية الأزمنة كما في تث 15:18، 18؛ رج يو 6 :14.

3- النظرة اللاهوتيّة والروحيّة
جاء يسوع من أريحا فوصل إلى جبل الزيتون. ولكن الانجيليّ بدأ وذكر أورشليم التي هي هدف "صعود" يسوع (20: 17، 18؛ مر 10: 32؛ يو 2: 13). ثم ذكر بيت فاجي، وفي النهاية جبل الزيتون حيث يتحدّد موقع الخبر الذي نقرأ. ذكر مر ولو "بيت عنيا" فضاعت الأمور (رج يو 12: 22). مع أن وادي قدرون فصل بيت فاجي عن أورشليم، فإن بيت فاجي كانت حيًا من أحياء أورشليم. أما بيت عنيا، فقد كانت وراء بيت فاجي في الطريق إلى أريحا.
توقّف يسوع وتلاميذه قبل بيت فاجي. وطلب الحمار. فهو الملك وسلطته لا تناقش. إن يسوع دخل كالملك الداودي إلى مدينته، لكنه دخل متواضعًا ومسالمًا. نلاحظ أن يسوع اتخذ المبادرة فعمل ما عمل دون أن تفرض الظروف نفسها عليه. ويفهمنا النصّ أن التفاصيل أعدَّت منذ زمن بعيد في مخطط الله. لهذا كان الايراد الكتابي الذي جاء بشكل حرّ لأن الانجيلي لم يأخذه مباشرة من التوراة بل من مجموعة نصوص العهد القديم التي ترافق المعلّم اليهوديّ أو المسيحيّ.
هناك من قال إن المسيح الذي انتظرته التقوى الفريسيّة تميّز بسمات حربيّة ووطنيّة ضيّقة. لاشكّ في أنه "سيتحزّم بالقوّة لكي يحطّم الأمراء الظالمين" (مز سليمان 17: 24)، ولكنه "لا يجعل رجاءه في الفرس والفارس والقوس، ولا يكدّس الذهب الفضّة للحرب، ولا يجمع جيشًا يكون أمله في يوم الحرب" (مز سليمان 37:17). سيكون قديرًا بكلمته: "يُخضع الأرض بقوّة كلمته... ويوبّخ الرؤساء ويدمّر الخطأة بقوّة كلمته" (مز سليمان 17: 39- 41). وسيكون بشكل خاص ملكًا وديعًا أمام الله: "يستند إلى الله لأن الله جعله قديرًا بروحه القدّوس، وحكيمًا بعطيّة مشورة مستنيرة... لا يضعف لأن رجاءه في الرب... هو قويّ بمخافة الله" (مز سليمان 17: 42-50). رج أش 11: 1- 5.
مطيّة هذا الملك ليست الفرس التي تميّز قدرة الأشرار (إر 25:17؛ 22: 4)، بل الحمار الذي هو مطيّة الفقراء ومطيّة آباء اسرائيل (تك 49: 11).
ما الذي فعله التلميذان في القرية؟ هذا ما لا يقوله مت. ما يهمّه هو الوصول بسرعة إلى ما فعله يسوع الذي استعمل الحمار والجحش، وإن بدا الأمر لا معقولاً. وتدخّل الجمع في هذا التطواف، لا التلاميذ وحدهم كما قال مر ولو. فالملك يدخل إلى مدينته، وأهل المدينة كلهم يستقبلونه (2 مل 9: 13).
ما معنى هتاف الجمع؟ هناك معنيان. الأول، اندفاع مسيحانيّ. وهكذا لا يعي الجمع فرادة هذا الموكب الملكيّ. الثاني، إيمان الانجيلي وكنيسته. وهكذا يحيّي الجمع الملك الذي يدخل إلى أورشليم ليبذل حياته على الصليب. وهذا الصراخ يقابل الهتاف القديم للملوك. ونحن نجده مرارًا في الأناجيل: نداء التعساء ليسوع (27:9؛ 20: 30، 31). هتاف الشياطين للمسيح (29:8؛ مر 5: 5). هتاف الجموع (19:21). وتأتي لفظة هوشعنا التي لم تعد نداء من أجل الخلاص، بل صرخة تتوجّه إلى ذاك الذي خلّص شعبه أو سوف يخلّصه قريبًا.
وتفرّد مت فتحدّث عن الشعور الذي سيطر على "المدينة كلها" حين وصل يسوع. فقد أراد بذلك أن يقدّم رسالة يسوع على أنها حدث رسميّ يعني شعب الله كله كما يعني رؤساءه. ارتجّت المدينة. كأننا أمام زلزال أو هزّة أرضيّة (27: 51؛ 28: 4؛ رؤ 13:6). وتساءل الناس في أورشليم وكأن يسوع ما زال مجهولاً بالنسبة إليهم. هل هذا هو المسيح المنتظر؟
وجاء الجواب من الجموع التي تحيط بيسوع وتهتف له. ولكنه (كما في الهتاف، آ 9) جواب ملتبس. قد يكون يسوع نبيًا بين عدّة أنبياء (وقوّاد حرب) عرفهم الجليل. ولكنه يكون أيضًا النبيّ الاسكاتولوجيّ الذي انتظره تيّار واسع في العالم الجليانيّ اليهوديّ، على مثال ما نقرأ في تث 15:18: "يقيم لكم الرب إلهكم نبيًا من بينكم، من إخوتكم بني قومكم مثلي، فاسمعوا له". سُئل يوحنا المعمدان: "هل أنت النبيّ"؟ فأجاب: "لست إياه" (يو 1: 21). يوحنا ليس النور، بل الشاهد للنور. وليس مخلّص نهاية الأزمنة، بل صديق العريس. أما النور فهو يسوع المسيح. وليس من اسم تحت السماء به نخلص سوى اسم يسوع، كما قال بطرس أمام محفل اليهود.

خاتمة
ليس 21: 1- 11 دخولاً إلى أورشليم وحسب، بل إلى قلب الخبر. استبق الانجيلي الأحداث وردّد بعض المواضيع، فجاءت هذه المقطوعة تبرز وحدة ف 21- 28 وتهيِّئ القارئ لتفسير النصّ على ضوء النصّ.
يسوع هو الملك "ابن داود" ورب الحيوان. يأمر فيُطاع. يركب المطيّة الملكيّة وتُفرش الثياب أمامه على الأرض. وهكذا بدا يسوع ملك اسرائيل. بل هو أكثر من ذلك: هو ملك اسرائيل الاسكاتولوجيّ، اسرائيل نهاية الزمن. بدأ دخوله في جبل الزيتون وهو موضع مملوء بالذكريات الاسكاتولوجيّة. والطابع الرئيسيّ للخبر هو أن ابن داود ومخلّص اسرائيل المنتظر هو أيضًا النبيّ الاسكاتولوجيّ مثل موسى. عملُه يُتمّ النبوءة المسيحانيّة، والجواب على ظهوره هو صرخة ستُسمع أيضًا في المجيء. كل هذا يعني أن 21: 1-11 هو قبل كل شيء اعلان لملكوت يسوع الاسكاتولوجيّ.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM