الفصل الخامس عشر :شفاء الأعميين في أريحا

الفصل الخامس عشر
شفاء الأعميين في أريحا
20: 29- 33

ونصل إلى نهاية ف 20 مع شفاء أعميين اجترحه يسوع قرب أريحا. هذا الشفاء تحدّث عنه مر 46:10-52، فذكر الانسان الذي نال نعمة الشفاء: هو طيما بن طيما. ترك كل شيء، حتى معطفه، وقفز آتيًا إلى يسوع، عكس الشاب الغني الذي مضى، ابتعد عن يسوع، حاملاً معه حزنًا عميقًا. وتحدّث لو 18: 35-43 عن هذه المعجزة وأنهى حديثه مع خاتمة اعتدنا عليها (لو 2: 20: يمجّدون الله) فهيّأ الطريق أمام ما سنسمعه في فم التلاميذ "يوم الشعانين": "أخذ الفرح جميع جمهور التلاميذ، فطفقوا يسبحّون (يمجدّون) لله بصوت جهير على جميع ما عاينوا من آيات" (لو 37:19). أما متّى وهو الآتي من مناخ يهوديّ، فشدّد على أن يسوع شفى أعميين. وهكذا تصحّ شهادتهما حين يخبران بما فعله يسوع لهما. كما شدّد على أن الشفاء الجسدي يفتحنا على المعنى الرمزيّ في خط نور الخلاص كما في 11: 5: "العمي يستعيدون البصر". أعميا أريحا. والشعب الذي يسمع يسوع.
بعد النظرة الاجماليّة، نتوقّف عند التفاصيل، ثم نقدّم الخلاصة اللاهوتيّة.

1- نظرة إجماليّة إلى شفاء الاعميين
نجد هذا الخبر في الأناجيل الازائيّة الثلاثة. هو في مت حيث هو في مر، أي حالاً بعد الاعلان الرئيسيّ: "ما جاء ابن الانسان ليُخدم، بل ليخدم، ويبذل حياته عن (العميان) الكثيرين" (28:20؛ مر 10: 45). ويرد في لو حالاً بعد الانباء الثالث بالآلام. حين نقرأ هذه المقطوعة في سياقها، نكتشف فيها مدلولين اثنين. الأول: إن ذلك الصاعد إلى أورشليم ليتألّم فيها، هو في الوقت عينه "ابن داود" كما يقول الاعميان. يبرز هذا المدلولُ في مت الذي أحلّ أعميين يعترفان بيسوع، محل ابن طيما في مر، وأعمى مجهول في لو. الثاني (وهو مدلول لا يتعارض مع المدلول الأول): ساعة دخل ابن داود إلى مدينته، تنازل فتوقّف لدى أعمى مسكين جالس على قارعة الطريق. فابن داود هذا جاء ليخدم لا ليُخدم (آ 28). نجد هذا المدلول بشكل خاص عند مر ولو اللذين جعلا أمامنا أعمى فقيرًا مسكينًا. تحدّث لو عن أعمى ما. ومر عن أعمى يتسوّل.
نجد في مر خبرًا خاصًا (آ 49-50) عن اندفاع الأعمى نحو يسوع. ولكن العنصر الأبسط الذي يميّز النصّ يُروى في كلمات نجدها في الأناجيل الإزائيّة الثلاثة: سمع يسوع نداء الأعمى (الأعميين) فتوقّف (آ 32). فتوقّفُ ابن داود ليخدم (آ 28) فقيرين معذَّبين (4:5)، يجد مكانه هنا في قلب السرد المأساويّ. وقد رأى الشرّاح في هذه الآيات نسخة ثانية عن 9: 27- 31، أو نسخة تأثّرت بما في 27:9- 31 فأحلّت أعميين بدل الأعمى الواحد كما في مر. ولكن القضيّة أكثر تعقيدًا. فالسياق في ف 9 مختلف. لسنا في إطار الآلام، بل أمام نصّ حول الايمان: طلب يسوع بشكل واضح الايمان قبل أن يُجري الشفاء، وهذا ما يختلف عن ف 20. ثم إن يسوع منع الأعميين من الحديث عن المعجزة في ف 9 (إياكما أن يعلم أحد). أما في ف 20 فلا نجد شيئًا من هذا. هتف الاعميان لابن داود رغم تدخّل الجمع (آ 31). إذن، إن تأثّر خبر (ف 9) بآخر (ف 20)، فقد ظلاّ متمايزين واتخد كل منهما مكانه كما حدّده التقليد الازائي.

2- قراءة تفصيليّة
أ- البنية
نجد حدود هذه القطعة بواسطة تضمين يبدأ في آ 29 (رافق، تبع) وينتهي في آ 34 (تبعاه). نحن أمام شفاء تضمّن لقاءين، وفي كل لقاء حوار. في الأول (آ 29- 31)، خلاف ورفض. وفي الثاني (آ 32-34)، وفاق وقبول. في الأول يبدو الجمع والأعمى على طرفي نقيض، ويحاول الواحد أن يسكت الآخر. في الثاني، التقى سؤال الأعميين مع جواب يسوع الحنون، فكانت النتيجة الشفاء.
ونستطيع أن نقدّم النص حسب الصورة التالية:
آ 29: الجمع: و... تبعه جمع غفير.
آ 30: الاعميان: و... صاحا قائلين: يا ربّ (يا سيّد)
آ 31: الجمع: من جهة (هوي دي) زجر الجمع الاعميين
آ 31: الاعميان: من جهة ثانية (هوي دي) صاحا أكثر قائلين: يا ربّ
آ 32: يسوع: ماذا تريدان؟
آ 33: الاعميان: أن تنفتح أعيننا
آ 34: يسوع: لمس أعينهما
آ 34: الاعميان: أبصرا وتبعاه.
نلاحظ ذروة الخبر في آ 34. توقّف الكلام فامتدّ الخبر: تحنّن، لمس. أبصرا، تبعا.
ب- المراجع
يعود مت 29:20-34 إلى مر 10: 46-52، ولكنه تأثّر بعض الشيء بما في مر 22:8-26 (الذي أغفله مت). كما تأثّر بما في مت 27:9- 31. ونستطيع أن نقدّم الرسمة التالية: مر 8: 22-26 قد أثّر على مت 9: 27-31. وأثّر أيضًا مر 10: 46-52 على مت 27:9- 31 الذي أثّر بدوره على مت 29:20-34. أما نصّ لوقا الموازي (لو 18: 35-43) فيتمّ في الطريق إلى أريحا. جاء الملك يزوو شعبه، ليبدأ بإزالة كل ظلم قبل أن يدخل المدينة. هذا ما فعله يسوع في لو. أما الشفاء في مر بعد الخروج من المدينة، فهو يريد أن يشدّد على اتّباع الأعمى ليسوع. فبعد أريحا لا مدينة سوى أورشليم توجّه إليها يسوع. فلا ييقى على التلميذ إلاّ أن يتبعه إلى هناك. نشير هنا إلى أن لو 18: 35-43 يرتبط كله بما في مر 10: 46-52. والاتفاق البسيط بين لو ومت ضدّ مر يبقى دون أهميّة (صيغة الفعل في مت 20: 30 ولو 18: 37 ضد مر 10: 47. إغفال لفظتي "برتيماوس" وربوني" الموجودتين في مر) كما نشير إلى أن أعمال فيلبس (6: 2) ترتبط أيضًا بالتقليد الازائيّ، وأعمال بيلاطس (6: 2) تمزج المعجزة الني نقرأها عند الازائيين مع يو 9: 1-7 (رج يوستينوس، الدفاع الأول 22: 6).
ج- التأويل
نصّ مر 46:10-52، هو خبر نداء أكثر منه خبر معجزة. هناك من قابل هذا النداء مع دعوة موسى (خر 3: 1- 12) وجدعون (قض 6: 11-17). وقال آخرون: إن خبر الايمان صار خبر شفاء. أما مت فترك كل الظروف غير المهمّة ("متسوّل" رج مر 10: 46)، ترك الشعب (مر 10: 46) والتلاميذ (مر 49:10، الجمع)، كما ترك المشاهد التابعة (مر 10: 5، قفز الأعمى إلى يسوع). في مت، نحن أمام آخر خير شفاء (في 21: 14 خبر عام)، وقد قدّم الانجيليّ بعض التفاصيل: لمس يسوع أعين الأعميين (عكس مر 52:10). ولكنه ترك ما يشير إلى النداء والدعوة (اسم الاعمى. لهذا ذكر مر الاسم والرب يدعو كل واحد باسمه).
وحوّل مت الأعمى إلى أعميين (ظنّ أوغسطينس أننا أمام حدثين مختلفين). زاد لفظة "الرب" ثلاث مرات (آ 30، 31، 33)، وأبرز عنصر الحنان (تحركت أحشاؤه، سبلنخنا)، وأبرز التوازي بين آ 29، وآ 34 (تبع، رافق)، وبين آ 30 وآ 31 (صاح). والمعنى الأساسي في ف 19- 20، هو أن رحمة الله وقدرته تعطيان لجميع التلاميذ الذين يعترفون بضعفهم في قلب الظروف الصعبة، فيطلبون عون الله.
إن مر 10: 46-52 الذي هو مرجع مت، يشكّل وحدة تامّة. وقد حاول بعضهم أن يتحدّث عن شكل أولاني، عن خبر تقليديّ متشعّب ولكنه لم ينجح. هناك انطلاقة تاريخيّة تناقلها الناس في أريحا عنّ ابن طيما. وهكذا نكون في الأصل في إطار فلسطينيّ مع النداء "ربوني".
د- تفسير الآيات
* "وفيما هم خارجون من أريحا" (آ 29)
في هذا الموضع نجد بعض التفاصيل عن الأمكنة. بدأ مر فقال لنا إن يسوع دخل إلى أريحا. وتبعه إلى أن خرج. أما مت فضغط مرجعه (الذي ذكر أيضًا التلاميذ) وجعل الجمع يتبعون يسوع. وكانت النتيجة أن يسوع ترك أريحا قبل أن نسمع أنها دخلها (رج مت 9: 1-8 ومخلّع كفرناحوم. يترك مت التفاصيل ليجعل الانسان الطالب الشفاء وجهًا لوجه مع يسوع).
لا تقع أريحا الجديدة حيث كانت أريحا القديمة (تل السلطان)، ولا حيث كانت أريحا العهد الجديد (تولو أبو العلايق، تبعد 16 ميلاً إلى الشمال الغربي من أورشليم، رج يوسيفوس، الحرب اليهودية 4: 474). ففي هذه الأخيرة بنى هيرودس الكبير قصرًا يبعد ميلاً واحدًا إلى الجنوب من أريحا القديمة. نشير إلى أن أريحا القديمة قد تُركت في القرن السادس بعد الهجوم البابلي، رج نح 7: 36 الذي يتحدّث عن عودة السكان إلى أريحا التي ستُهمل في الحقبة الهلنستيّة. بعد هذا النصّ، يتحدّث 21: 1ي عن "أغصان الشجر" التي قد تكون أخذت من أريحا "مدينة النخل" (تث 3:34؛ قض 1: 16؛ 13:3؛ 2 أخ 28: 15؛ يوسيفوس، الحرب 4: 468. هي واحة). أما يو 12: 13 فيقول إن يسوع جاء إلى أورشليم (آتيًا من أريحا) ترافقه "سعف النخل". نشير هنا إلى أن أريحا ترمز إلى هذا العالم في التفسير المسيحي، وأورشليم إلى العالم الآخر.
* " اذا أعميان جالسان" (آ 30)
صيغة المثنى (أعميان اثنان) ومع الفعل في الحاضر، هي من فعل مت. وترك مت أيضًا لفظة "المتسوّل، الشحّاذ". ولكنه احتفظ بفعل "جلس، قعد" ليدلّ على أن الأعميين لا يشاركان في الحجّ إلى العيد. إنهما على هامش المجتمع. رج تلمود بابل، بركوت 28 ب: "أشكرك أيها الرب إلهي، لأنك جعلت نصيبي مع الذين يجلسون في بيت الدرس، وما جعلت نصيبي مع الذين يجلسون في زاوية الشارع".
هذان الاعميان هما صورة عن يعقوب ويوحنا (20: 20-28)، ويسوع هو الذي يشفي عيون الروح، وعيون الجسد. "الطريق" (رج 21: 8) هي طريق الحجّ، الطريق إلى أورشليم. مرور الحجّاج مناسبة ينال فيها المتسوّلون بعض الاحسان في إطار الفصح. وهكذا يكون هذان الاعميان في الموقع المناسب، وفي الموقع المناسب، وفي الوقت المناسب. ومع ذلك، فهما ما تطلعا إلى الجمع، بل إلى يسوع. وما انتظرا مالاً، بل شيئًا آخر سوف يحصلان عليه. ذاك كان وضع مخلّع الباب الحسن في أع 3: 1 ي. انتظر صدقة من الداخلين إلى الهيكل. ولكنه نال الشفاء باسم يسوع من بطرس ويوحنا.
"سمعا أن يسوع". ترك مت لفظة "الناصري" لأنه اعتبرها غير ضروريّة (رج مت 23:12؛ 26: 71)، كما فعل حين عاد إلى مر 1: 24؛ 67:14؛ 6:16. وزاد "مجتاز" (رج 9: 27؛ يو 9: 1)، فأشار إلى خر 12: 12 (أجتاز عبر مصر). "سمعا". هذا يعني أن يسوع كان يكلّم الجموع بصوت جهير، فسمع الاعميان. "صاحا قائلين". أوجز مت مر الذي قال: "طفق يصرخ ويقول":
"يا رب، ارحمنا يا ابن داود". ق 9: 27؛ 15: 22: مر 10: 47 (يا ابن داود، يسوع، ارحمني). حوّل مت مر ليحصل على عبارة ليتورجيّة: "إرحمني يا ربّ" (مز 5:40، 11 حسب السبعينيّة، مت 15:17؛ ق مت 22:15). أو هو عاد إلى 27:9: "ارحمنا يا ابن داود". يتقبّل القارئ المسيحي هذا الاعتراف الايماني ويتماهى مع الأعميين.
* "فزجرهما الجمع" (آ 31-32)
و"لكن" الجمع. بدّل حرف العطف: "والجمع"... وهكذا يبدو التوازي واضحًا مع آ 31 ب- مر 10: 48. لا يقال لماذا "زجر" (إبيتيماوو، 8: 26؛ 12: 16؛ 16: 20، 22؛ 17: 18؛ 19: 13) الجمع الأعميين (رج 19: 13 حيث منع يسوع التلاميذ من زجر الأطفال)، ولكننّا نستطيع أن نفترض أن الجمع القاسي تجاه المتسوّلين على الطرقات، ظنّهم رجال سوء. في أي حال، هي المرة الأولى التي فيها نجد الجمع معارضًا ليسوع. هذا ما يشير إلى ما سوف يحدث فيما بعد.
زجرهما الجمع "فازدادوا صياحًا". رج آ30. نجد في هذه العبارة درسًا عن الثبات (والعناد) في الطلب، سيتوسّع فيه أوغسطينس (عظات 88: 13- 14) ويوحنا الذهبيّ الفم (عظات في مت 66: 1). "يا ربّ، ارحمنا، يا ابن داود". نجد عدّة اختلافات نصوصيّة هنا وفي آ30. هناك من قلب الكلمات فصارت العبارة: ارحمنا يا ابن داود، يا ربّ (بردية 45، السريانية البسيطة، الصعيدية). وجعل "كيريي" (يا ربّ) بين قوسين. ولكن يبدو أنه يجب أن نحافظ على الفصل بين اللقبين الكرستولوجيّين في آ 30 وآ 31. كما يجب أن نقرأ العبارتين القراءة الواحدة، لأن مت أراد أن يُبرز التوازي.
"فوقف يسوع ودعاهما" (آ 32). رج مر 49:10- 50. قد نجد هنا تلميحًا إلى أش 4:35- 5. شدّد مت على كلمات يسوع، ومر على ما عمله ابن طيما. ونشير إلى أن ليس من حديث عن السر المسيحاني: لا يطلب يسوع من الاعميين أن يصمتا (رج 8: 4؛ 9: 30). فرسالة يسوع العلنيّة قد أشرفت على نهايتها. "ماذا تريدان". ق 20: 21-23. إن سؤال يسوع (الذي يعرف الجواب) يعبّر عن استعداده بأن يخدم (آ 28). ولكنه يُلحّ على الرجلين أن يعبّرا عن إيمانهما بشكل ملموس. وهو سؤال سيّد سمح للسائل بأن يقابله. هذا يعني أنه سيعطيه طلبه.
* قالا له: يا سيّد" (آ 33-34)
أعاد مر الفاعل. "قال له الأعمى". أما مت فاستغنى عنه. "قالا". "يا ربّ" (كيريي). هي المرّة الثالثة التي فيها يستعمل مت لفظة "الربّ" في هذه الآيات الأربع. وهي تحلّ هنا محلّ "ربوني" (يا معلّمي، رج يو 20: 16) كما في مر.
"تحنّن يسوع" (آ 34). هي آية من تدوين متّى. أما عند مرقس، فيسوع أمر ابن طيما أن يمضي في الطريق، ثم قال له: إيمانك خلّصك، أحسنَ إليك. هي المرّة الوحيدة التي فيها يستعمل مت فعل "تحنّن" دون أن يكون المفعول هو "الجمع". أبصرا فتبعاه. البرهان أنهما أبصرا هو أنهما سارا وراءه. تبعاه في الطريق.

3- الخلاصة اللاهوتيّة
منذ 19: 1 ونحن نرافق يسوع في مسيرته: اليهوديّة في عبر الاردن. وها هو يصعد الآن إلى أورشليم بعد أن اجتاز أريحا. جعل مر ومت خبر هذا الشفاء حين كان يسوع خارجًا من المدينة. ولو حين كان يسوع داخلاً إليها (18: 35). تبع يسوعَ تلاميذُه بشكل عام، بل تبعه جمع غفير. وهكذا أراد النصّ أن يبيّن أن التحرّك المسيحانيّ ينشط بقدر ما يقترب يسوع من أورشليم. هذا يعني أن لا وقت ليسوع يتوقّف فيه لكي يكلّم الاعميين، ومع ذلك توقّف وسمع نداءهما، ولبّى طلبهما.
نجد فعل "تبع "الذي لا يعني اتّباع يسوع كما فعل التلاميذ (رج 19: 16- 30). نحن أمام اتّباع خارجيّ يقوم به الجمع (رج 8:21) الذي يشكّل "شخصًا" هامًا في خبر الحاش (= الآلام). هو يرى ويسمع. ويا ليته يفهم ويميّز بين تعليم يسوع والتعليم الذي يُعطى في المجامع والهيكل!
ترك مت اسم العلم (ابن طيما) وجعل مكانه أعميين شاهدين لمسيحانيّة يسوع (العميان يبصرون). لا يُدعى يسوع باسم "ابن داود" إلاّ في هذا الموضع لدى مر ولو. أما لدى مت فهذا الاسم هو اللقب العادي والشعبي للمسيح (9: 27؛ 12: 23؛ 15: 22) الذي سيشفي المرضى ولا شيّما العميان منهم (رج أش 29: 18 ي). ولكن حين نقرأ مزامير سليمان (ف 17). نلاحظ ان سمات الرحمة غابت عن المسيح في زمن يسوع. فابن داود سيسحق أعداء اسرائيل ويحمل إلى شعبه كمالاً يشبه كمال الفريسيين وتقواهم. لهذا، لا ندهش حين نرى الشعب يزجر هذين الاعميين. فيسوع الصاعد إلى مدينته لا يضيع وقته في أمور تافهة! ولكن يسوع لا يتبع هذا المثال!
لماذا زجر الجمع هذين الأعميين؟ أراد الانجيليّ أن يبرز الطابع غير المتوقَّع لعمل يسوع الذي توقّف ليعين هذين الاعميين. توقّف ليخدم. هل نحن أمام إيمان هذين الاعميين؟ هل يقابل مت صياحهما مع صياح الجمع؟ هنا نتذكّر أهميّة الصياح (أو: الصراخ) في العهد القديم كما في العهد الجديد (8: 29؛ 9: 27؛ 14: 26؛ 15: 11؛ 21: 9؛ 27: 23، 50). إنه يدلّ على هتاف للمسيح، أو على صرخة في وقت الضيق. هاتان الوجهتان ترتبطان ارتباطًا وثيقًا في السياق الانجيليّ. نجد هذه الصرخة على شفة المتألمين ولاسيّما من الشياطين. فكل نداء يتوجّه إلى المسيح ينطلق من عمق الضيق وترافقه صلاة "ارحمني يا رب".
ويتوقّف يسوع. ونحن نجد في توقّف ابن داود في الطريق التي تقود إلى أورشليم، الفرق الشاسع بين يسوع والمسيح السياسيّ المجيد، بين يسوع وأحد العباقرة المأخوذين في تأمّلاتهم. فاقتراب الألم لا يمنع يسوع من أن يهتمّ بالآخرين ويخدمهم. هذه الوجهة ستكون واضحة في خبر الآلام كما في إنجيل لوقا. وبدا وجه يسوع. وبدت سلطته التي تمنح الطالبين سؤالهم في الحال.
وأنهى مت خبره في الحديث عن رحمة يسوع وتحنّنه (9: 36؛ 14: 14؛ 15: 32؛ 27:18)، وهي عبارة نجدها في نصوص التوراة اليونانيّة (أم 12: 10؛ حك 10: 5؛ سي 7:30؛ 2 مك 5:9، 6). لسنا هنا أمام عاطفة خارجيّة من الشفقة تزول سريعًا. فهي تجد تعبيرًا ملموسًا عنها في ما فعله يسوع للأعميين. وكان الشفاء لمسة يد فضمّ يسوع العمل إلى القول، لمسة حنان تعبّر عمّا في القلب من حبّ يشبه حبّ الأم لثمرة حشاها.

خاتمة
نقدّم هنا الملاحظات التالية:
1- حين نقرأ 20: 29-34، نتذكّر 27:9-30. في الحالتين يتبع يسوع أعميان يصرخان ويقولان: ارحمنا يا ابن داود. لمس يسوع أعينهما فأبصرا. نحن هنا في إطار واسع. حصل أول شفاء في بداية رسالة يسوع العلنيّة، والثاني في النهاية. وهذا ما يدلّ على وحدة الانجيل الأوّل. جاءت المعجزة الأولى قبل أن يرذل اسرائيل يسوع، والثانية حين صار رذْْْْْْْْْلُ يسوع واضحًا. ورغم ذلك، فمحبّة يسوع "المرذول" ظلّت هي هي. وكل الصعوبات التي واجهته ما ألغت حنانه ولا رحمته.
2- في 20: 29-34، أعلن يسوع مرتين "ابن داود"، وهذا ما هيّأ طريق الدخول إلى أورشليم حيث سيهتف له الشعب أيضًا. ولكنّنا نجد نفوسنا أمام "سخرية" تصرّفنا البشري. في 20: 30- 31 زجر الجمع الاعميين لأنهما هتفا لابن داود. وفي 21: 9 ها هو يصيح: "هوشعنا لابن داود". هل نستطيع أن نثق بهتافه؟
3- وتوقّف المعلمون عند المعنى الرمزيّ لهذا الخبر: الاعميان يدلاّن على العمى الروحي. حين يسمع الانسان عن يسوع ويصيح من أجل الخلاص، تبرز العوائق. والذين يثبتون في الايمان، يعطيهم يسوع النظر، أي الخلاص. بعد ذلك يستطيعون أن يتبعوا يسوع، يصيروا تلاميذه. رج 4: 15؛ 13: 14-15؛ يو 9: 1 ي. نشير إلى رمزيّة العمى والنظر في العالم اليهوديّ وفي الأدب المسيحيّ القديم: أوغسطينس (عظات 13:88-14). يوحنا الذهبيّ الفم (عظات في مت 66). نقرأ في مت 20: 33 حسب السريانيّة: "أن تنفتح عيوننا بحيث نستطيع أن نراك".
4- ونجد درسًا آخر في المقابلة بين 20: 20-28 و20: 29-34. في المقطع الأول، طلب شخصان طلبًا (يعقوب ويوحنا) وافق عليه شخص ثالث هو أمّهما (المرأة تمثّل الشعب). لم يسبق الطلبَ لقبٌ به ينادى يسوع. وقد تضمّن المستقبل الاسكاتولوجيّ ونظرة إلى مجد شخصيّ (جلوس عن اليمين، عن اليسار). في المقطع الثاني طلب الاعميان طلبًا فزجرهما الشعب. طلبا ممّن هو ابن داود والربّ (لقبان عظيمان)، طلبًا حول الزمن الحاضر. طلبا شيئًا بسيطًا وضروريًا، هو النظر. هذا يعني أن الطلب يُسمع حين نوجهّهه إلى الرب بشكل مباشر، وحين ينبع من حاجة حقيقيّة.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM