الفصل الرابع عشر: الطموح الكاذب والخدمة الحقّة

الفصل الرابع عشر
الطموح الكاذب والخدمة الحقّة
20: 17- 27

نقرأ في هذا الفصل ثلاثة مقاطع. الأول (20: 17-19) يورد الإنباء الثالث بالآلام. تحدّث يسوع عن حاشه (= آلامه) وقيامته، فأعطى عددًا من التفاصيل لا نجدها في الانباءين الأول والثاني. تحدّث عن دور الوثنيين، عن الهزء، عن الجلد، عن الصلب. في المقطع الثاني (20: 20-23) نسمع طلب ابني زبدى بواسطة أمّهما. هما يريدان كرامة خاصة، ومشاركة في سلطة يسوع. فكان لهما الكأس التي طلباها بعد أن عرضها يسوع عليهما، ولاسيّما حين نعرف أن يعقوب مات شهيدًا في أورشليم سنة 44 (أع 12: 2). وفي المقطع الثالث (20: 24-28) نتعلّم الخدمة الحقة، بل نفهم أن السيادة خدمة. مثال التلاميذ لن يكون سلطانًا سياسيًا ولا سلطة دنيوية. مثال التلاميذ هو يسوع الذي ما جاء ليُخدم، بل ليخدم ويبذل حياته عن الكثيرين.

1- نظرة عامة
انتهى ف 19 على قول يعلن أن الأولين يصيرون آخرين والآخرون أولين. فالآخرون الذين صاروا أوّلين هم عمّال الساعة الحادية عشرة. دُعوا في الأخير فكانوا أول من ذاق صلاح ربّ الكرم. في 19: 30 ارتبط انقلاب الوضع بقوّة الدينونة الأخيرة التي تكشف وضع البشر الحقيقيّ. أما هنا، فاكتشف العمّال الآخرون سخاء رب الكرم الذي لم يتوقّعه أحد. فلو فرح العمّال الأوّلون بسخاء الرب الملكي، لكان جميع العمّال في المقام الأول. تذمروا فجعلهم تذمّرهم في المقام الأخي. حين نفهم مثل العملة بهذا الشكل، نرى أنه يتوافق مع سياق هجوم على الفريسيين. وسيعود الموضوع في خبر شفاء الأعميين اللذين يشفيهما يسوع رغم أن الجموع زجرتهما وأمرتهما بالسكوت.
ذاك كان الوجه الأولى: علاقة يسوع مع الفريسيين، ومن خلالهم مع الجمع. أما الوجه الثاني فعلاقة يسوع مع تلاميذه. حدّثهم عن نفسه وهو الذاهب إلى الآلام. أخذ صورة العبد وصار طائعًا حتى الموت والموت على الصليب، ومع ذلك فالتلاميذ يطلبون المراكز الأولى، مراكز السيادة والتسلّط على مستوى "قوّاد" هذا العالم.
أ- الإنباء الثالث بالآلام (20: 17-19)
بعد الانباءين الأول (16: 21) والثاني (17: 22-23)، ها هو انباء ثالث نقرأه أيضًا في مر 10: 32- 34 ولو 18: 31-34 حول الآلام والقيامة: "وفي اليوم الثالث يقوم". هذا الانباء الثالث، شأنه شأن الانباءين السابقين، هو جزء من النصوص المشتركة في الأناجيل الازائيّة. والرقم ثلاثة لم يكن صدفة. كما أنه لا يدلّ على دقّة تاريخيّة. إذا كان مت يستعمل مرارًا الرقمين 5 و7، فهو يعرف أيضًا أهميّة الرقم 3. فسوف نجد ثلاثة انكارات بطرس ليسوع (26: 34 وز)، كما كانت ثلاث مرات "قدّوس" في أش 6. فالرقم 3 يدلّ على الحقيقة والثبات. يدلّ على ارتباط مشيئة الله بمشيئة الانسان. فالعدد ثلاثة هو عدد اللاهوت. وعندما نكون أمام العدد الثالث نلتقي باللاهوت. هنا نتذكّر اليوم الثالث الذي فيه "ذبح" ابراهيم ابنه اسحاق. هو لم يذبحه. ولكنه التقى بالرب فعلّمه أن لا يقدّم بعد ذبائح بشريّة. فالقلب المتخشّع المتواضع هو أفضل ذبيحة للربّ.
إذا قابلنا هذا الانباء الثالث (20: 17- 9) مع الانباءين السابقين (16: 21؛ 17: 22- 23)، يلفت انتباهنا التشابه الكبير بينها. هي الألفاظ عينها تتكرّر. إلاّ أننا نلاحظ
أولاً: أن الأفعال التي تدلّ على ضرورة (داي) الآلام واقترابها (مالاي) لا ترد في الانباء الثالث. والأفعال هي في صيغة المضارع، وهو مضارع بدأ في صعود (أناباينو) يسوع إلى أورشليم.
ثانيًا: أن الفكرة الرئيسية لدى المسيح الذي "أسلم" (باراديدومي) غابت في 16: 21 وظهرت هنا (رج 17: 22، إن ابن البشر سيُسلم).
ثالثًا: أن فكرة الموت قتلاً يُضاف عليها الحكمُ بالاعدام الذي يُنسب إلى عظماء الكهنة والكتبة: فاليهود لا يسلّمون يسوع إلى الوثنيين إلاّ بعد أن يحكموا عليه بالموت.
رابعًا: أن وصف الآلام نفسها صار أكثر دقّة وواقعيّة. لهذا سلّم اليهود يسوع إلى الرومان "ليسخروا منه ويجلدوه ويصلبوه" (ثلاثة أفعال، نلاحظ الرقم ثلاثة).
خامسًا: أن الاشارة إلى القيامة ظلّت موجزة. هنا أيضًا ظهرت عبارة "في اليوم الثالث" (في مت ولو) تجاه عبارة مر "بعد ثلاثة أيام".
سادسًا: أن نصّ مت، حين نقابله مع نص مر، يبدو مبسّطًا ومركّزًا على الجوهر. فقد ترك مت ما قاله مر في 10: 32: كانوا منذهلين، خائفين... وهكذا بدا نص مت مبنيًا بناء محكمًا ومتدرّجًا بالنسبة إلى الانباءين السابقين، مع تشديد على الجوهر لئلاّ يتشتّت انتباه القارئ في التفاصيل.
ونتوقّف عند الانباءات بالآلام كما نقرأها في الأناجيل، عند تعابيرها المختلفة وعند صحّتها (مر 8: 31 وز؛ 9: 31 وز؛ 10: 33 وز)، ونلاحظ النقاط التالية:
أولاً: إن وجود الإنباء الأول حالاً بعد اعتراف بطرس ليسوع له مدلوله. فقد يكون خبر الاعلان المسيحاني قد وُضع هنا ليُبرز الانباء بالآلام.
ثانيًا: حسب مر ومت (لا لو)، إن يسوع، بعد حوار قيصريّة فيلبس، "بدأ" يتكلّم عن آلامه. وفي ولي الخبر سيعود هذا الموضوع بشكل منتظم. هذه الوجهة في النصّ تدلّ على أن نظرة الانجيليين إلى مصير يسوع لم تكن نظرة جامدة. فإن لم يتوخّوا أن يقدّموها لنا في نموّها السيكولوجيّ، إلاّ أنهم حدّدوا مراحلها. فهم يرون أن يسوع لم يقل كل ما أراد أن يقوله في كل لحظة من لحظات حياته.
ثالثًا: في مر، علّم يسوع تلاميذه. في مت، بيّن (دايكنواين) لهم ضرورة آلامه. نحن ندهش حين نرى أن مت لم يستعد من مر فعل "علّم" العزيز على قلبه. كيف بيّن يسوع هذا لتلاميذه (لا للجموع)؟ هذا ما لا نعرفه. حسب لو 25:24 ي، هذا "التبيان" يتمّ بالكتب المقدّسة. ولكن شيئًا لا يقال في هذا الوضع. فالأناجيل ترى أن الآلام (= الحاش) لا تحمل مدلولها في ذاتها. فالتعليم هو الذي يبيّن ضرورتها.
رابعًا: لا ترتبط هذه الضرورة بقرار فرديّ وبطوليّ اتّخذه يسوع، ولا بمعارضة خصومه المتنامية والواقعيّة، ولا بحتميّة عمياء، ولا باعتباطيّة قرار إله بعيد لا ندركه، ولا بحاجات سيكولوجيّة أو دينيّة لدى اليهود خاصة والبشر عامة. هذه الضرورة (يجب على المسيح) ترتبط بمخطط الله الذي يبقى خفيًا للامؤمنين، ويدركه الايمان بواسطة بعض نصوص العهد القديم. لا يجعل الانجيليون هذه الضرورة مسيرة تجري على هامش التاريخ، في مصير خارق يخرج عن عالم البشر. بل هم "يبيّنون" كيف أنه "وجب" على يسوع أن يصل إلى الصليب، كيف أن مصيره بدا "طبيعيًا" في ظروف تاريخيّة وسيكولوجية محددة.
ولكن في هذا "الاطار الطبيعي" حاولوا أن يتبيّنوا تتمّة مخطط الله. شكّل الشيوخ وعظماء الكهنة والكتبة المجموعات الثلاث التي تلتئم في السنهدرين أو المجلس الأعلى في أورشليم. فلموه يسوع بُعد "رسمي" وسياسيّ في مت: هو لا يموت وحده في البرية مثل موسى وإيليا. لا يموت وسط تلاميذه على مثال يعقوب الذي أحاط به أبناؤه الاثنا عشر. بل يموت بيد رؤساء شعبه. يموت في أورشليم ويُصلب على عيون الملأ.
ب- عظمة الخدمة (20: 20-28)
أطلنا الحديث عن الانباء بالآلام الذي دوّن على ضوء الحدث الذي عاشه يسوع منذ نزاعه في بستان الزيتون حتى وضعه في القبر. ونوجز المقطوعتين التاليتين: طلب ابني زبدى (آ 20-23) والعبرة التي قدّمها يسوع فقال لتلاميذه إن السيادة خدمة.
يرافق مت هنا مر 35:10-45، فيبدو خبره متماسكًا بعض التماسك. ونحن نجد فيه صدى لعدّة عناصر في حياة يسوع، ولأقوال عديدة تفوّه بها المعلّم. إن آ 20-23 توصلنا إلى فكرة تقول إن الله وحده يحدّد الأولويّات في الملكوت، وإن الشهيد نفسه (مثل يعقوب) لا يحقّ له أن يطالب بشيء. أما آ 24-28 فتشدّد بالحريّ على الوسيلة الوحيدة التي بها يصل أعضاء الجماعة المسيحانيّة إلى العظمة الحقّة: هذه الوسيلة هي الخدمة. ولكن من خلال هذا التحوّل الحقيقيّ للموضوع المسيطر، يستعيد النصّ وحدته في الأناجيل الازائيّة الثلاثة، بواسطة خاتمة (آ 28؛ مر 10: 45؛ لو 22: 27)، فيقدّم ابن الانسان كعبد الله المتألّم عن كثيرين. فالطموح الديني لا تستبعده فقط سيادة الله في الملكوت (آ 20-23). بل يُستبعد لأن جميع البشر يرتبطون بخدمة قام بها ابن الانسان من أجلهم. وهكذا ترتبط هذه المقطوعة ارتباطًا وثيقًا بالانباء الثالث بالآلام (20: 17- 19).

2- الدراسة التفصيليّة
أ- إنباء آخر بالآلام (20: 17-19)
أولاً: البنية
تتضمّن هذه المقطوعة القصيرة مقدّمة إخباريّة موجزة (يسوع وتلاميذه هم في الطريق إلى أورشليم، آ 17)، يتبعها إنباء مفصّل بما سيحصل لابن الانسان (آ 18-19). هذا الإنباء الذي سبقته ملاحظة حول الظروف الحاضرة (ها نحن صاعدون إلى أورشليم)، يُجمل الأحداث الهامة التي جاءت بعد مشهد الجسمانيّة. أما الترتيب فهو ترتيب خبر الحاش والآلام كما في انجيل متّى، ما عدا الجلد الذي يأتي بعد الهزء.
قبضت عليه السلطات 26: 47-56
حكمت السلطات عليه 26: 57-68
أسلم إلى بيلاطس 27: 1-14
الهزء 29:27، 21، 41
الجلد 26:27
الصلب 27: 33- 50
القيامة 28: 1- 20
ثانيًا: المراجع
حسب بعض الشرّاح، تقدّم الانباءات الثلاثة بالآلام (16: 21؛ 17: 22- 23؛ 20: 18- 19) برهانًا يدحض الفرضيّة المرقسيّة (أي إن مر هو مرجع مت ولو). انطلق من توافقات بسيطة بين مت ولو ضد مر، ومن طرح يقول إن مر تبع مرّة مت ومرّة لو. في مت 20: 17-19= مر 10: 32-34= لو 18: 31- 32، ترك مت ولو لفظة "بالين" (أيضًا) التي نجدها في مر. وإن مت ومر توافقا مع لفظة "الأمم". وبعد ذلك التقى مر مع لو. هذا يعني أن مر تبع مت في جزء من كلامه، ولو في الجزء الآخر.
نجيب: كان من المنتظر أن يُغفل مت ولو "بالين" لأن ليس لها ما يسبقها (في مر 10: 32 تعود "بالين" إلى 8: 31؛ 9: 31). ونردّ على الاعتراض الثاني: لاشكّ في أن مر ومت استعملا لفظة "الأمم". ولكن بعد ذلك وفي ما يخصّ تقارب مر من لو، فلا شيء مشابهًا. وهكذا يبدو مت بعد مر. قال مر: سيقتلونه. قال مت: سيصلبونه. قال مر: بعد ثلاثة أيام. قال مت: في اليوم الثالث (يوم طقسيّ). في هذين الوضعين، يجعل نصّ مت النبوءة والحدث معًا. كانت صعوبة في الكلام عن "ثلاثة أيام"، فتحدّث مت عن اليوم الثالث وعاد إلى الخلفيّة الكتابيّة ولاسيّما هو 6: 2: في اليوم الثالث يقيمنا.
ثالثًا: التأويل
مع 20: 17-19، نرى يسوع صاعدًا إلى أورشليم. يتحدّث للمرّة الثالثة عن الأحداث الآتية ويبرزها. وإذا قابلنا هذا الانباء مع السابقين، نرى الجديد فيه: الحكم بالموت، التسليم إلى الأمم، الهزء. الجلد، الصلب. بما أن يسوع صار قريبًا من نهايته، فشكل الانباء توضَّح وزاد إيضاحًا. إن يسوع يعرف ما ينتظره بعد أن أحاط بعد الاعداء من كل جانب.
"وفيما كان يسوع صاعدًا" (آ 17). بدأ يسوع يتحدّث الآن على انفراد. ما تكلّم بشكل عام ولكن بطريقة احتفاليّة. قد يكون يسوع وتلاميذه سائرين مع آخرين كثيرين. قد نكون في أحد أعياد الحجّ.
أوجز مت نص مر 10: 32 (مت: 18 كلمة. مر:32 كلمة). خفّف من الانشداد الدراماتيكيّ فترك بعض الألفاظ الصعبة (وكان يسوع يتقدّمهم. وكانوا هم منذهلين، والذين يتبعونه خائفين). أضاف "أخذهم على حدة" (مت: 5 كلمات؛ مر: 6؛ لو 2). لماذا ألغى "في الطريق" من 16: 31 (≠ مر 8: 27) و18: 1 (≠ مر 9: 37)، وما ألغاها هنا؟ هذا ما لا نعرفه. ونشير إلى أن الطريق إلى أورشليم هي صاعدة. وهكذا نكون أمام صعود جسديّ وصعود روحيّ.
"إن ابن البشر سيُسلم" (آ 18-19). تبرز هاتان الآيتان الطريقة التي بها زعماء اليهود والأمم قد رذلوا يسوع. كما تُبرز الذلّ والألم. هذا يعني أننا لسنا أمام استشهاد مجيد. وأعاد مت العبارة: "ها نحن صاعدون إلى أورشليم". تحدّث يسوع لا عن الزمن المقبل، بل عن الأيام الآتية. أما أورشليم، فقد شاركت هيرودس الكبير (2: 1-12) في المؤامرة على يسوع. وكانت موقع التجربة الشيطانيّة (4: 5)، وقد أرسلت الفريسيين لكي يجرّبوا يسوع (1:15).
ها نحن صاعدون. صيغة المتكلّم الجمع. فيسوع لا يصعد وحده. فالتلاميذ يسيرون معه. وما يتحمّله الآن سوف يتحمّلونه بدورهم (16: 24؛ 20: 23). "رؤساء الكهنة والكتبة". مسؤوليّتهم كبيرة عند مت. يُذكرون مرّة أولى في 2: 1-12 كمشاركين لهيرودس الكبير الذي نوى على قتل يسوع. وفي خبر الآلام (27: 41) سيشاركون مع حاكم آخر هو بيلاطس. وهكذا تكون النهاية مثل البداية. "ويحكمون عليه بالموت". رج دا 4: 37؛ حك 2: 20 (حكموا على البريء). يسلم يسوع إلى الأمم الذين يمثّلهم بيلاطس الحاكم.
تحيط بـ 20: 17-19 مقطوعتان تتحدّثان عن مكافأة اسكاتولوجيّة. هل هذا النصّ هو جسم غريب يقطع التواصل في ف 20؛ كلا ثم كلا. فهذا المقطع هو صورة عن 30:19- 20: 6. بل هو أيضًا تهيئة لما في 20: 20-28. كان يسوع قد قال إن الآخرين سيكونون الأولين. كان هو الآخر في الحكم عليه والهزء والموت. وسيكون الأول حين يقيمه الله من بين الأموات ويرفعه فيمنحه السلطة على الكون كله. هذا في ما يخصّ الرباط مع ما سبق. أما في ما يخصّ الرباط مع 20: 20-28، فنجد ثلاث نقاط. الأولى، تعود 20: 22-23 إلى "الكأس" التي يستعد يسوع لكي يشربها، دون الاشارة إلى نوعيّة (كيف) هذه الكأس. فما قاله يسوع في 17:20-19 واضح بما فيه الكفاية. الثانية، إن آ 28 تلقي ضوءًا على السبب (لماذا) الذي لأجله يريد يسوع أن يشرب "الكأس"، مع أنه يعرف أن هذا يعني الهزء والجلد والصلب. فحياته التي يبذلها حتى الموت، ستكون فدية عن الكثيرين. الثالثة، إن ما في 17:20-19 من احتفال مأساوي، نجده مطبوعًا في 20:20. أعلن يسوع آلامه، ولكن هذا لا يعني أن التلاميذ اهتموا بها. فقد كانوا مهتمّين بأمورهم، شأنهم شأن الشعب: من يكون عن اليمين ومن يكون عن اليسار. وهكذا بدا يسوع منذ هذه الكلمات، وحيدًا في مسيرة الآلام بانتظار أن يتركه تلاميذه ويهربوا.
ب- طموح كاذب وخدمة حقيقيّة (20: 20-28)
أولاً: البنية
نحن هنا أمام مشهدين: الطموح الكاذب (آ 20-23). الخدمة الحقيقيّة (آ 24-28). ونجد فيهما ذات التوازي، وتواصلاً في موضوع الانباء الثالث بالآلام (20: 17-19)، وعودة إلى موت يسوع (آ 22: 23-28). هناك تواز بين آ 21 وآ 23. بين آ 22 وآ 23. بين آ 25 ب وآ 26-27
في المشهد الأول يبدأ يسوع (وله دومًا (الكلمة الأخيرة) بجدال مع ابني زبدى وأمهما.
مقدّمة الطالبين آ 20 الأم وابناها
سؤال يسوع آ 21 أ
الطلب آ 21 ب الأم وحدها
سؤال يسوع الثاني آ 22 أ-ج
الجواب آ 22 د الابنان وحدهما
جواب يسوع آ 23
نلاحظ هنا ترتبيًا بشكل تصالب:
الجلوس عن اليمين وعن اليسار آ 21
شرب الكأس آ 22
شرب الكأس آ 23
الجلوس عن اليمين وعن اليسار آ 23
أما المشهد الثاني الذي يبدأ مع ردّة فعل التلاميذ على الحوار الذي تمّ في المشهد الأول، فهو أقلّ تشعّبًا. بعد حاشية تتحدّث عن اغتياظ التلاميذ (آ 23)، قدّم يسوع تعليمه في ثلاث آيات. في الأولى (آ 25) تحدّث عن "الرؤساء" و"العظماء" (تواز مرادف). وفي آ 26-27، تكلّم عن دور القيادة في الجماعة، مع التلاميذ (تواز مترادف، ولكنه تواز متعارض مع آ 25). كل هذا يفترض موضوع الاقتداء بالمسيح الذي هو ابن الانسان (ابن البشر، آ 28).
الرؤساء والعظماء، آ 25، ماذا يفعلون
انتقالة في صيغة الأمر، آ 26، لا يكن شيء من هذا
وأنتم (التلاميذ)، آ 26، العظيم خادم
آ 27، الأول عبد
ابن الانسان (النفي)، آ 28، ما جاء ليُخدم
(الايجابي)، آ 28، بل جاء ليخدم ويبذل نفسه.
هناك رباطان بين المشهدين بواسطة الأفعال: "تالو" (أراد). في آ 21: ماذا تريدين. وفي آ 26-27: من أراد، من أراد. ثم فعل "اويداتي" (علم). في آ 22: لا تعلمان ما تطلبان. وفي آ 25: أنتم تعلمون. ويتضمّن الرباط الأول أن ما نريده قد لا يكون العظمة الحقة (آ 21). العظمة الحقة هي في الخدمة (آ 26-27).
ثانيًا: المراجع
هناك ثلاثة أمور تدفعنا إلى القول بأن مر 10: 35- 45 قد سبق مت 20: 20-28. مع العلم أن ليس ما يقابل هذا المقطع في لو، لأنه لا يوافق على صورة غير برّاقة للرسل، ولا على تحديد سلطة يسوع. غير أننا نجد ما يوازي مر 10: 40-45 في لو 22: 24- 27. الأمر الأول: الكلام عن المعمودية يظهر في مر. ونحن نفهم لماذا ألغاه مت. الأمر الثاني، زاد مت "من قبل أبي" (آ 23). الأمر الثالث: حين يكلّم يسوع أم ابني زبدى فهو يكلّم في الوقت عينه ابني زبدى. هذا التبدّل المفاجئ هو علامة عن طريقة سريعة في صياغة نصّ مت.
ثالثًا: التأويل
ويتواصل موضوع المكافأة (19: 27- 20: 16) مع نقطتين إضافيتين: لا معرفة مفصّلة عن المكافأة الاسكاتولوجيّة لأن الآب وحده يعرف ما سيكون (24: 36). ساعة يحمل الزمن المقبل المكافأة، يتوجّه الانتباه إلى الحياة الحاضرة التي نموذجها خدمة ابن الانسان الذي يبذل نفسه عن الآخرين.
إن أكثر الاختلافات الهامة بين مت 20: 20-28 (168 كلمة) ومر 10: 35- 45 (193 كلمة)، نجدها في المقطوعة الأولى (آ 20-23). (1) أبرز مت 20: 20- 28 التوازي (ق آ 21 و23 مع مر 10: 37 و40؛ مت 20: 26- 27، مع مر 10: 43-44). (2) لا تظهر أم يعقوب ويوحنا إلاّ في الانجيل الأول. (3) يبدو طلاّب النعمة في حالة من السجود (سجدت، بروسكينوسا، آ 20) (4) جاء الطلب في مر 35:10 "كل ما نريد". لا مكان لمثل هذا الطلب في مت. (5) ونقول الشيء عينه عن الكلام عن "المعمودية". (6) في مر 10: 35- 40 تتكرر "دي" وفي آ 41-45، تتكرّر "كاي" (حرف العطف). ألغى مت الاداتين فجاءت وحدة الاسلوب تامّة.
إن مر 10: 35-45 الذي هو مرجع قط، يقع في مقطوعتين: آ 35- 40. ثم آ 41-45. تعود آ 41-42أ إلى مر؛ ثم آ 42 ب-44 إلى تقليد سابق لمرقس وقد زاد عليه الانجيلي آ 45. وكما بالنسبة إلى آ 35- 40، عُرضت عدة أخبار من التقليد. (1) رأى بولتمان أن الطلب في آ 37 وجد جوابين (آ 38-39): في خلفيّة استشهاد يعقوب. آ 40: رفض للطلب. كانت آ 35-37+40 الوحدة الاصليّة، واقحمت فيها آ 38-39 على ضوء ما حدث ليعقوب (أع 12: 2). (2) وفي رأي آخر: أقحمت آ 38-40. ثم إن آ 37 تبعت آ 41 ي أو آ 42 ي. (3) وفي رأي ثالث من المعقول أن يكون مر 10: 35- 40 وحدة تامة ناجزة. (4) رأي رابع: نجد القول الاصليّ في 10: 35-37+38 ب. واستشهاد يعقوب قاد الكاتب إلى إعادة النظر في ما كتب. (5) وافترض رأي آخر أن الأصل هو استشهاد يعقوب ويوحنا. وزيدت آ 39- 40 وادخل ابنا زبدى.
هناك أمور كثيرة تتعلّق باستشهاد يوحنا المبكر. وادخال يعقوب ويوحنا غير متوقّع إن كان واحد منهما فقط قد مات حين دوّن مر (يعقوب). هذا أمر مهمّ ولاسيّما أننا نعتبر أن يوحنا بن زبدى امتدّت به الأيام، فما مات قبل تدوين مر 10: 35-40 (خصوصًا مت 20: 23). وهكذا قد نستطيع أن نوافق على أن مر 10: 35-40 كان وحدة تامّة منذ البدء. والكلام عن اليسار واليمين لا يخالف هذه الوحدة (آ 37، 40). ولا نستطيع أن نتأكد أن يسوع أعطى جوابين كما قال بولتمان في آ 37. فإن 10: 38-39 هو استطراد، لا جواب آخر.
وهكذا تبدو المقطوعة في مر 10: 35-45 بشكل تصالب وتعاكس:
آ 37: هبْ
آ 37: عن يمينك... عن يسارك
آ 38: أما يسوع
الكأس التي أشربها
المعموديّة التي اعتمد بها
آ 39: أما يسوع
الكأس التي أشربها
المعمودية التي اعتمد بها
آ 40- عن يميني... عن شمالي
آ 40- ليس لي أن أهبه.
إذا كانت وحدة آ 35-40 أمرًا مسلمًا به، فيبدو أن هذه المقطوعة تشير إلى ذكرية حقيقية. لماذا (1) لأن آ 40 تضع حدًا لسلطة يسوع، وهذا لا يمكن أن يفكّر به الانجيلي بعد القيامة (كل سلطان أعطي له). (2) إن الاستعمال الاستعاريّ للمعمودية في ارتباط مع آلام يسوع، يوازيه موازاة تامّة لو 49:12-50 الذي يعود إلى الرب. (3) إذ أخذنا إنباء يسوع في المعنى الطبيعيّ، فهو يعني أن الأخوين سيشاركان يسوع في استشهاده في ذلك الوقت وذلك الآن. ولسنا أمام أمر محتوم سيحصل بعد بضع سنوات في ظروف مختلفة. ويعترض معترض فيقول إن المقطوعة تفترض وضع يسوع كالمسيح وارتفاعه المجيد. ونقول نحن إن يسوع رأى في نفسه ملك اسرائيل الاسكاتولوجي. وهكذا لا يؤثّر الافتراض في هذا الموقف.
رابعًا: طلب ابني زبدى (20: 20-23)
"حينئذ تقدّمت إليه أم ابني زبدى" (آ 20). أعاد مت النظر في مر 10: 35، بحيث (1) إن أم ابني زبدى (رج 4: 21-22؛ 10: 2؛ 26: 37. ويظهر ابنا زبدى في اللوقاويات، لو 9: 54) هي التي تطلب لا ولداها. (2) جاء الطلب بشكل هادئ واحتفالي. (3) استعمل متى لغة خاصة به. اعتاد الشّراح أن يقولوا إن الانجيلي جعل الأم تطلب لكي يظهر الابنان في موقف أرفع (هما ما طلبا، بل أمُّهما). هما ما طلبا، وهما أيضًا كبيران بما فيه الكفاية لئلاّ يحتاجا إلى أن تطلب أمهما باسمهما. أما هي فطلبت لأنها قريبة يسوع، خالته وأخت أمه (يو 19: 25) ولأنها تحبّ ولديها. وقد نجد في هذا الخبر تأثير 1 مل 1: 15- 21 حيث تطلب بتشابع من الملك داود لأجل ابنها سليمان. ونشير أيضًا إلى أننا نجد أيضًا موقفًا في الانجيل فيه تطلب أم من أجل أولادها: (15: 21-28). هي المرأة الكنعانيّة. ويستعمل أيضًا فعل "سجد" (آ 25). أيكون مت أراد أن يقابل بين الاثنين فيدلّ على نوعيّة طلباتنا التي نرفعها إلى يسوع؟
بدأت هذه الاية (آ 20) بأداة "حينئذ"، فربطت هذه المقطوعة بالمقطوعة السابقة. بعد كل إنباء عن الآلام نجد رغبة شخصيّة لدى التلاميذ. بعد الإنباء الأول عبّر بطرس عن معارضته لمشروع يسوع (16: 22: حاش لك يا رب). وبعد الانباء الثاني، تجادل التلاميذ عمّن هو الأكبر (18: 1). وهنا نرى طلب ابني زبدى. وهكذا بعد هذه الانباءات الثلاثة، ما استطاع التلاميذ أن يفهموا أن على يسوع أن يتألّم قبل أن "ينتصر".
هل نستطيع أن نتخيّل أن هذا الطلب (طموح فردي في لباس ديني) حصل تجاه ما فعله بطرس (22:16-23؛ 27:19- 20: 16)، بحيث يصيران هما أيضًا مميّزين؟ في أي حال، لقد سبق ليسوع وميّز ابني زبدى (17: 1ي) وهو سيفعل أيضًا (36:26-46).
"فقال لها" (آ 21). في مر 36:10: "قال لهما". "ماذا تريدين". قال مر: "ماذا تريدان أن أعمل لكما"؟ قالت: "أن يجلس ابناي...". لسنا هنا على مستوى الدينونة ولا على مستوى العيد المسيحاني، بل أمام الدور الاسكاتولوجيّ وأمكنة الصدارة (مع أن الملكوت ليس الكنيسة، ومع ذلك نستطيع أن نطبّق هذا الكلام على التزاحم على المراكز في الكنيسة الأولى، وفي كنيستنا اليوم). فالسؤال (والقرابة تطلب الحظوة) يُقرّ بمصير يسوع وسلطانه العظيم ويتوافق مع دعوة يسوع للصلاة من أجل أمور عظيمهّ (17: 19-20). غير أن هذا السؤال لم يتوجّه التوجّه الصحيح (آ 23: لا تعلمان ما تطلبان)، ولم يأخذ بعين الاعتبار ما أنبأ به يسوع. ومع أن الجموع ستهتف ليسوع كالمسيح الداودي، فأورشليم لن ترى يسوع صاعدًا على عرش بل على الصليب. واللذان سيكونان عن الشمال واليمين لن يكونا رسولين ممجَّدين، بل لصّين مصلوبين (38:27). حوّل مت مر 10: 37 وز و15: 27 بحيث يتطلّع هذا المشهد إلى مشهد يسوع على الصليب.
"فأجاب يسوع وقال لهما: لا تعلمان..." (آ 22). مال يسوع بوجهه عن الأم إلى ولديها. وقد ساعداها في طلبها لأجلهما. "الكأس" ليست "التجارب" كما قال اسحاق السرياني (ولكن ربط الكأس مع التجربة في 26: 36- 46 قد يحتمل هذا التفسير)، ولا تدلّ على "الأسرار" (27:26). ولا علاقة لها بالشراب الذي أعطي ليسوع على الصليب (27: 34، 48). وقد لا تدلُّ الكأس بكل بساطة على الموت. نشير هنا إلى ان التراجيم عرفت: "ذاق كأس الموت" (على تك 40: 23؛ تث 32: 1؛ وصيّة ابراهيم: "كأس الموت المرة والتي لا ترحم).
غير أن النصّ الذي نقرأ يتحدّث عن "شرب". وعن نوع خاص من الموت. هل هناك تقابل بين "الكأس" و"الاستشهاد"؟ فإن "استشهاد أشعيا" (كتاب منحول)، يتحدّث عن "كأس الموت" (13:5). ولكن تأثّر هذا الكتاب بالمسيحيّة (استشهاد بوليكربوس 14: 2؛ رسالة أغناطيوس إلى رومة 7: 3). غير أن المراجع اليهوديّة لا تشير إلى هذا المعنى. من أجل هذا نعود إلى التوراة حيث الكأس تصوّر في إطار الآلام ولاسيّما تلك التي ترتبط بدينونة (أو: بغضب) الله (مز 6:11؛ 7:75-9؛ أش 17:51، 22؛ إر 15:25، 17، 27-28؛ 49: 12؛ مرا 4: 21؛ حز 23: 31-32: حب 2: 16). مثل هذا الاستعمال قد نجده أيضًا في الأدب البيعهديني (مز سليمان 8: 14-15؛ تفسير حبقوق 14:11) وفي رؤ 14: 10؛ 19:16؛ 6:18. وما يُثبت الخلفيّة الخاصة لفهم آ 22 وز هو (1) مر 10: 38-39 الذي يعود إلى العماد وحيث العماد لا يعود إلى الموت بل المرور في القلق والاضطراب. (2) ولو 12: 59- 50 (رج انجيل توما 10) حيث يرتبط العماد بالنار، مع العلم أن النار هي النار الاسكاتولوجيّة في العهد الجديد (ما عدا مر 9: 21 وز؛ لو 22: 25). رج نار العماد في مت 13 وز. وهكذا، فالكأس التي يريد يسوع أن يشربها (رج 26: 39) والتي يستعدّ التلاميذ لشربها (مر 9: 49؛ إنجيل توما 82) هي كأس الحزن الاسكاتولوجيّ الذي ينصبّ أوّل ما ينصبّ على شعب الله (إر 25: 25- 29). لقد رأى يسوع نفسه وجهًا إلى وجه لا مع مصير مرّ، بل مع دينونة الله.
"قالا له: نستطيع"، رج مر 10: 39. هنا نتذكّر مت 26: 31-35 حيث يؤكّد التلاميذ أنهم لن يتركوا يسوع. وهناك أيضًا ارتباط مع 26: 36-46 (مع حكم على التلاميذ) وحدث الجسمانيّة، حيث نام ابنا زبدى وتركا يسوع يشرب الكأس. نشير هنا إلى أن مر 38:10-39 على شفتي يسوع يعني بشكل خاص الآلام، وربّما الموت.
"قال لهما" (رج مر 39:10 ب، ولكن يسوع قال لهما). "أما كأسي فتشربانها" (آ 23). في النهاية يتحدّث يسوع عن "أبي". رغم علاقته بأبيه، فمصيره هو "كأس الغضب". هنا نتذكّر كلام بولس عن المسيح الذي صار "خطيئة" أو ذبيحة خطيئة (2 كور 5: 21) الذي صار لعنة، لأنه مكتوب، "ملعون من عُلِّق على خشبة" (غل 13:3). قال بعض الشّراح إن هذا النص هو نبوءة كُتبت بعد أن مات يعقوب سنة 44 (أع 12: 1-2) على يد هيرودس. وقال آخرون إن يوحنا مات أيضًا في ذلك الوقت أو أقلّه قبل تدوين مر 10: 35-45. ولكن اليقين الذي يتألّف من مر 10: 35-40 (الذي يُعتبر حديثًا عن استشهاد ابني زبدى) ومن مراجع أبائيّة (قال بابياس في الكتاب الثاني إن يوحنا اللاهوتي وأخاه قُتلا بيد اليهود)، لا يستطيع أن يعارض شهادة ايريناوس الذي ذكر أن يوحنا عاش حتى عهد تريانس الامبراطور (الهراطقة 2/ 22: 5؛ اوسابيوس، التاريخ الكنسي 3: 23).
ما الذي يعطي قول ايريناوس هذه القوّة؟ (1) لا ايريناوس ولا أوسابيوس اللذان قرأا بابياس، يذكران شيئًا عن استشهاد يوحنا. (2) لأن تقليد ايريناوس القائل إن يوحنا مات موتًا طبيعيًا لا يتوافق بسهولة مع مر 10: 35-40، وهذا ما يدلّ على صدقه. (3) أورد اكلمنضوس الاسكندراني في كتابه "أي غنيّ يخلص" (42) خبرًا منحولاً يقول فيه إن يوحنا كان "شيخًا". (4) إذا كان "التلميذ الحبيب" (كما يقول عدد من الشرّاح) المذكور في يو هو يوحنا الرسول، فإن يو 21: 22 يفترض القول بأن يوحنا مات شيخًا. (5) أعلن ايريناوس (كما نقل عنه اوسابيوس في التاريغ الكنسي 5: 230) أن بوليكربوس كان تلميذ يوحنا. وبما أن بوليكروس استشهد سنة 155-156، فهذا يعني أن يوحنا لم يمت شابًا. (6) إن اعتُبر مر 38:10 ي، على ضوء الأحداث، نبوءة نموذجيّة عن الاستشهاد، فقد يكون في الأصل تنبيهًا من المحاكم والضيقات. (7) اعتبر كل من ايريناوس (الهراطقة 3/ 1: 1) واكلمنضوس الاسكندراني (في أوسابيوس، التاريخ الكنسي 6: 14) وأوسابيوس (التاريخ الكنسي 3: 24) أن يوحنا بن زبدى دوّن الانجيل الرابع، وأن هذا الانجيل كان آخر الأناجيل القانونيّة. (8) ساعة افتُرض أن التقليد حول شيخوخة يوحنا قد وُلد من خلط بينه وبين يوحنا الشيخ، فقد يكون يوحنا الشيخ هذا وليد مخيّلة اوسابيوس واهتمامه الدفاعيّ. ونستنتج أن هذا النصّ هو شاهد هام على واقع يقول إن يسوع توقّع الضيق والألم لنفسه ولتلاميذه.
"ليس لي أن أعطيه". هنا نجد عند مت بعض تحديد للسلطة التي تُنسب إلى يسوع في مت. فالابن يخضع للآب في المخطط الخلاصي على مستوى الكنيسة وعلى مستوى الأفراد (رج 24: 36؛ يو 5: 19-23؛ 12: 44- 50). هذا قبل القيامة. ولكن بعد القيامة سيُعطى يسوع كل سلطان (18:28).
"من قبل أبي". فلفظة "أب" مع الضمير تميّز مت. قال مر في 10: 40: "للذين أعدّ لهم". وزاد مت: "من قبل أبي". المعنى هو هو، لأن المجهول يدلّ عادة على الله الذي يتحاشى اليهود ذكر اسمه. لسنا هنا أمام اختيار مسبق وحتمي (رج 35:25، 41؛ 1 كور 9:2)، بل أمام نظرة تنطلق من واقع الدينونة فتعود إلى الوراء، إلى القصد الالهيّ.
خامسًا: الخدمة الحقيقية (24:20-28)
تفتتح آ 24 الشقّ الثاني من المقطوعة، وتشدّد على الوسيلة الوحيدة للوصول إلى السيادة، إلى العظمة، بين أعضاء الجماعة المسيحاوية: وهذه الوسيلة هي الخدمة. أما غضب العشرة الآخرين فيدلّ على الحسد. لماذا ينال ابنا زبدى وحدهما هذا الامتياز؟
"فلما سمع ذلك الاثنا عشر"، غضبوا، لا "بغضب" يسوع من تلاميذه الذين ما أرادوا أن يدخلوا حتى الآن في طريق الآلام. بل حزنًا لأنهم خسروا ما ناله ابنا زبدى. هذا ما يفهمنا أن ما قرأناه في ف 18 حول الأعظم في ملكوت السماوات، لم يفعل فعله بعد.
"فدعاهم يسوع" (آ 25). تدلّ هذه الآية على انتقالة من تركيز على المستقبل إلى تركيز على الحاضر. "أنتم تعلمون". ق لو 22: 25. الرؤساء عند الأمم والعظماء (ربما لدى اليهود). هم يفعلون ما لا يفعله ابن الانسان. يتسلّط يسود. نحن أمام لفظتين مترادفتين. هناك تسلّط واستغلال.
"وأمّا فيكم" (آ 26). ق 2 صم 12:13؛ لو 26:22. رج هنا في مت آ 26 أ (من أراد أن يكون فيكم) وآ 27 (من أراد فيكم). هذا ما يبرز المقابلة مع الذين ذُكرا سابقًا. هناك بعض الشيع انطلقت من هذه الاية لكي تتهرّب من مشاركة في السلطة، بل من اتخاذ موقف من السلطة. "من أراد أن يكون فيكم كبيرًا". ق 23: 11. نتذكّر هنا كلام شيشرون (في الوظائف 1: 90، من يعلّم عن الرفيع والمتواضع يعطي نصيحة جيّدة) وانجيل توما 12 (من يريد أن يكون أعظم من الجميع؟) وشروح الآباء (1: 13: اسم نصنعه عظيمًا هو اسم مدمَّر). إن الفكرة المسيحيّة عن الخدمة قد قلبت المفاهيم كما في الحديث عن التواضع.
"ومن أراد أن يكون الأول" (آ 27). قابل مرقس هذه هي روح يسوع، التي لا تجد فقط في موضوع الانقلاب الاسكاتولوجي تعزية كما في التطويبات، بل أمرًا يتوجّه إلى الذين يرفعهم الله إن هم اتّضعوا.
نستطيع أن نقابل آ 25-27 مع 23: 2-12. فالمقطعان يستعملان الاسلوب البلاغيّ الواحد ويصلان إلى النتيجة الواحدة. يصوّران دورين نموذجيّين: في الحالة الأولى الرؤساء والعظماء. وفي الثانية الكتبة والفريسيّين. ويتبع القطعة الأولى (آ 26 أ: وأما فيكم) والقطعة الثانية (23: 8 أ، وأما أنتم) قولاً انتقاليًا في صيغة المخاطب يدلّ على تصرّف التلاميذ.
مع آ 28 نصل إلى قمّة آ 20-28. قبل أن يصعد يسوع إلى أورشليم، يعود إلى ابن الانسان الذي يعمل ما يقول ويقول ما يعمل، إلى الملك الحقيقيّ الذي يتوخّى خير "عبيده". هذا الذي سيُعطى له كل سلطان في السماء وعلى الأرض، هو مثال عن الأول الذي صار الآخر. وتأتي الوصيّة بشكل آخر: على الكنيسة أن تواصل طريق المسيح.
"هكذا ابن الانسان". ق مز 8:48 حسب السبعينية؛ يو 10: 11، 15، 17-18؛ 13:15؛ 1 يو 16:3؛ انجيل الحقيقة 20: 11-18. تدلّ الخدمة على خدمة الموائد (ذاك كان عمل العبد). هذا يعني أن هذا القول جُعل في سياق المائدة والطعام (لو 27:22). ولكن المعنى ظلّ عامًا في مت: رج "بذل نفسه" (ن ت ن. ن ف ش، باراديدومي). "فدية" (ليترون). نحن أمام مال يُدفع لتخليص عبد من العبوديّة. رج أش 53: 12.

3- قراءة لاهوتيّة وروحيّة
أ- يسوع الصاعد إلى أورشليم
إن عبارة "صعد" (ع ل ه) إلى أورشليم قد اتخذت منذ القديم مدلولاً عباديًا محدّدًا (لو 18: 10؛ يو 13:2؛ 11: 55؛ 12: 20). وإذا خرجنا من أورشليم، عنى فعل "صعد" الذهاب إلى المعبد (= إلى الهيكل)، لأن المعابد جُعلت على المشارف، على قمم التلال أو الجبال. قد يكون مت يلمّح إلى حيث يقيم رؤساء الشعب الذين سيحكمون على يسوع بالموت. أو إلى الموضع الذي فيه تُقام شعائر العبادة ولاسيّما ذبائح التكفير. في إنجيل يوحنا، صعد يسوع إلى أورشليم للاحتفال بالأعياد الدينيّة الكبرى. وصعد في الوقت عينه إلى أبيه (يو 7: 10، 14؛ 20: 17). ويفترض مت أن عددًا كبيرًا من التلاميذ يتبعون يسوع، وينتظرون من هذا الصعود إظهارًا لمسيحانيّة يسوع. لهذا، أخذ يسوع الاثني عشر على حدة لينبّههم إلى ما سيحدث له. في إنجيل متى، يظهر الاثنا عشر منذ ف10 (آ 1 ي؛ 11: 1؛ 28:19؛ 14:26، 20). ولا نخلطهم مع التلاميذ. أسّسهم يسوع، وتنظّموا في جماعة فلسطين الأولى، فكانوا في الأناجيل الإزائيّة، لا "بقيّة" اسرائيل الصغيرة، بل كل القبائل الاثنتي عشرة التي تتمثّل برؤسائها. وهكذا يكون لمجموعة الاثني عشر وظيفة التمثيل والارسال. يمثّلون الكنيسة، ويرسَلون إلى الكنيسة.
كيف يكون الحكم على يسوع؟ لن يكون في فخّ يُنصب للمعلّم في ساعة من ساعات الغفلة. بل هناك محاكمة مع مسؤولية رؤساء الكهنة والكتبة (رج 12: 1ع؛ 27: 3). ونجد فعل "رذل" على المستوى القانونيّ (ابودوكيمازين، 21: 42، رج 1 بط 2: 4). أسلم الرؤساء يسوع إلى الوثنيين، إلى الرومان. فهل يعني أن مت يريد أن يبرّر مجمل الشعب كما هو الأمر في أع 23:2؛ 3: 14؛ 4: 10؟ ربما. ولكن الشعب دخل كله في المؤامرة عبر قرار رؤسائه. إن فعل "امبايزاين" (سخر) نجده في خبر الآلام (27: 29، 31؛ رج 2: 16 حيث "يسخر" المجوس من هيرودس). لن يُقتل ابن الانسان فقط. بل سيكون في وضع الأشقياء، حيث السخرية تقتل أكثر من السيف. وطبِّق الجلد (تث 2:25-3) لدى الرومان وسلطات المجمع (34:23) بسبب أخطاء بسيطة (10: 10) أو قبل تنفيذ حكم الاعدام (كما هو الأمر هنا). غير أن الجلد قد يعني عددًا من المعاملات السيّئة. وذُكر الصلب (26:27 ي). كما ذُكرت القيامة بشكل موجز. ولكن النصّ شدّد أكثر ما شدّد على آلام يسوع.
ب- تقدّمت أم ابني زبدى
في هذا الاطار المأساوي تدخلت أم يعقوب ويوحنا، ابني زبدى. هذا يفترض أنها رأت في يسوع الملك المسيح، ولهذا طلبت منه ما طلبت، وهذا رغم ما قاله يسوع عن آلامه. هنا نشير إلى أن فكرة "المسيح" المتألّم مع تلاميذه، قد انتشرت في العالم اليهوديّ، ولاسيّما لدى الاسيانيّين. ومع ذلك، طلبت الأم لابنيها اليمين واليسار، في المجد، أي موضعَي الكرامة، والاتحاد الحميم بسلطته كديّان نهاية الأزمنة.
وجاء جواب يسوع بعيدًا عن الغضب والملامة. فقد كان من الطبيعيّ أن يبحث اليهوديّ التقيّ عن مقاسمة المسيح المنتظر مجده، حتى وإن مرّ في الآلام. ومع أن ابني زبدى استشفّا هذه الآلام، فما توقّعا وسعها ومدلولها الحقيقيّ. غير أن يسوع ما أراد أن يسحقهما. فاكتفى بأن يهدّئ حماسهما (نستطيع). وضعهما أمام "الكأس" (بوتيريون) التي لا تدلّ فقط على الصلب، بل على مجمل الآلام. لا تعني هذه الكأس آلامًا فُرضت على يسوع، أو هيِّئت خصيصًا له. هي الكأس التي هيّأها لي أبي. لقد قبل يسوع آلامه وكأنها هديّة من الآب له من أجل خلاص العالم. نشدّد هنا على أن قول التلميذين بأنهما يستطيعان أن يشربا كأس الآلام، يجعلنا في خطّ اليهود الذين ماتوا من أجل إيمانهم ولاسيّما في القرن الثاني والأول ق م، كما في خطّ المسيحيين الذين ماتوا في الوقت الذي فيه دوِّن مت. فالمحنة بالنسبة إلى الرسل لم تأت من آلام يسوع، بل من الصمت الذي تلا الصلب، كما نقرأ في لو 24: 21: هذا هو اليوم الثالث، ويسوع ما زال غائبًا.
ويعلن يسوع سلطة الآب في هذا الملكوت الذي جاء يدشّنه، ولكنه ظلّ فيه ذاك الخادم الذي يبذل نفسه. ويُظهر أنه ما جاء يجمع المحازبين والمتشيّعين الذين "يستفيدون" من الانتماء إليه، بل الشهود الذين قد تصل بهم الشهادة إلى الاستشهاد. وهذا ما حصل ليعقوب الذي مات في أورشليم سنة 44.
ج- وسمع العشرة الآخرون
سمعوا وغضبوا... فجاء جواب يسوع لا نقدًا لمبدأ سلطات هذا العالم (فالفعلان الواردان هنا لا يقلّلان من أهميتهم)، بل تأكيدًا على تصرّف يميّز الجماعة المسيحاويّة عن العالم، تأكيدًا على الخدمة. هذا لا يعني أن على الكنيسة أن ترذل كل سلطة بشرية فيها، بل أن على كل سلطة في الكنيسة أن تمارس الخدمة. وقد نكون هنا أمام "هجوم" على التسلّط في الوظائف الكنسية خلال القرن الأول كما في أيامنا.
إن موضوع العظمة الحقيقيّة والعظمة الكاذبة، موضوع هام في العالم القديم. وهو يلعب دورًا كبيرًا في الانجيل الأول (5: 19؛ 11: 11؛ 12: 6؛ 18: 1؛ 22: 23). أما هنا فالعظمة تكمن في الخدمة. في العالم اليونانيّ، يدلّ فعل خدم (دياكوناين) أولاً على خدمة المائدة (لو 17: 18؛ يو 12: 2). فكل خدمة تحطّ من قدر الانسان، ما عدا الخدمة في وظائف الدولة الكبرى. أما في العهد القديم، فلا نجد فعل "دياكوناين". ففكرة الخدمة أي الطاعة الشخصيّة لمن هم أكبر منا، تبدو وضعًا طبيعيًا لدى البشر، بل ترتدي كرامة كبيرة (إذا كنا نخدم الملك مثلاً). وحين نحب الله نخدمه أي نخضع لوصاياه (ع ب د، دولواين).
فالمثال الذي نتوق إليه لا يكمن في تحقيق الشخصيّة في الاستقلاليّة، بل في تمميم المهمّة التي أوكلت علينا (أو كلّفنا بها الله، الملك، ممثّلوه) تتميمًا أمينًا. تحرّر شعب الله من عبوديّة المصريين، فصار في خدمة إلهه. فالوجوه الكبرى في العهد القديم هي كلها وجوه خدّام لله، من موسى إلى عبد الله وعابده (دولوس، بايس). وارتبط العهد الجديد بهذه الصور الأساسيّة. أما ما يُقال هنا، فيجعلنا أمام الملاحظات التالية:
- جاء موضوع الخدمة في سياق هجوميّ: فالخدمة لدى يسوع وتلاميذه لا تتعارض فقط مع السلطة السياسيّة (التي لا تُنتقد في ذاتها)، بل مع الطموح الزائف والتسلّط الديني. إذن، بدا النداء إلى الخدمة أولاً نداء إلى التوبة، على مثال النداء بأن نصير كالأطفال (رج 18: 15). وهكذا نقطع كل رباط بالايديولوجيّا التي تحيط بنا.
- لا تفترض النظرة الانجيليّة الامّحاء وتنكّر الانسان لذاته، بل حياة ناشطة مثل حياة يسوع. لا يُطلب من الانسان أن يكون أولاً سيّد نفسه لكي يستطيع أن يخدم الغير. بل هو يجد عظمته في نظر الله حين يخدم الفقير.
- لا تصوّر الأفعالُ المذكورة هنا مسيرة باطنيّة طويلة، بل القبول المباشر لحياتنا ونشاطنا، وعطاء الذات للآخرين.
- هذه الخدمة هي ضروريّة، ولكنها ليست شعبيّة لدى الناس. فهي لا تُفهم ولا تقبل. هذه الخدمة هي فريدة في يسوع. وتظهر في الأناجيل ممارسة لمحبّة الله ومحبّة القريب (5: 44؛ 19:19). كما أن هناك الخدمة في الكنيسة. رج روم 15: 25؛ 1 بط 1: 12؛ 4: 10؛ فل 1: 1.

خاتمة
من سيجلس عن يمين المسيح أو عن يساره؟ على أي أساس سيكون اختيار الآب (آ 23)؟ ما معنى "العظيم" و"الأول"؟ أسئلة لا جواب لها. فالنصوص تريد أن تجعلنا قبل كل شيء في إطار كرستولوجيّ، في إطار الحديث عن يسوع المسيح. نحن نقرأ هنا أن يسوع سيملك في ملكوته، أنه سيشرب كأس الألم (أو: الغضب)، أنه ما جاء ليُخدم بل ليخدم ويقدّم حياته فدية عن الكثيرين. لاشكّ في أننا نقرأ هنا مشهد أم ابني زبدى. ولكننا نتركها حالاً ونتطلّع إلى سائر الرسل الذين يُطلب منهم أن يكونوا مثل يسوع. نحن وجهًا لوجه أمام ابن الانسان: حياته، مثله، موته، مصيره. على هذا الضوء يأخذ النصّ الانجيليّ معناه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM