الفصل الثالث عشر :عمال الساعة الحادية عشرة

الفصل الثالث عشر
عمال الساعة الحادية عشرة
19: 16- 30

ترك يسوع الجليل وتوجّه إلى اليهوديّة في عبر الاردن (19: 1) وكان له لقاء أول مع الفريسيين حول الزواج والطلاق. وبعد عودة الرجل الغنيّ الذي ذهب حزينًا لأنه كان ذا مال كثير (آ 22)، والحديث عن الغنى الذي يمنع من الدخول في الملكوت، قدّم يسوع ما سمّي "العملة المرسلين إلى الكرم" أو كما عنوناه: "عمّال الساعة الحادية عشرة". سنقرأ هذا المثل متوقّفين عند السياق الانجيليّ، وسلوك ربّ البيت الذي أرسل العمّال في ساعات مختلفة. وننهي مع موقف العملة الأولين.

1- موقع هذا المثل بين الأمثال
أ- مثل العمّال
نقرأ هذا المثل الذي هو خاص بمتّى، ونتفحّصه في قرائنه المباشرة كما أراد الانجيلي أن يفهمنا إياه حين وضعه في هذا الموضع من خبره. لا شيء يمنعنا فيما بعد أن نتساءل عن هدف الانجيليّ حين حوّل معنى المثل كما تلفّظ به يسوع. فهذا المثل يقدّم عنصرًا يربطه ربطًا واضحًا بأحد مواضيع القرائن المباشرة. يربطه بـ آ 16 (الآخرون يكونون أولين، رج 19: 30) التي تشكّل خاتمة له. إذا كانت هذه الآية قد انتمت حقًا منذ البداية إلى المثل، عند ذاك يلفت نظرنا أمران اثنان: إذا قابلنا آ 16 مع 19: 30 (أي حالاً قبل المثل)، ترتدي كلمة يسوع هذه طابعًا حربيًا وهجوميًا.
في 19: 30 قرأنا "كثير من الأولين صاروا آخرين". أما في 20: 16 فنقرأ "الأولون يصيرون آخرين" (غابت لفظة "كثير"). هذا من جهة. ومن جهة ثانية، يتيح لنا المثل أن ندرك معنى آ 16 أفضل مما يتيحه لنا سياق 19: 30. فنحن نرى بوضوح أن الآخرين الذين صاروا أولين، هم عمّال الساعة الحادية عشرة الذين كانوا آخر من دُعوا فكانوا أول من تمتّع بخيرات سيّد الكرم (آ 15). في 19: 30، ارتبط انقلاب الأوضاع بقوّة الدينونة الأخيرة التي كشفت الوضع الحقيقيّ للبشر. أما في 16: 20، فما يقلب الوضع هو سخاء ربّ الكرم تجاه العبيد الآخرين، وهو سخاء لم يكن يتوقّعه أحد. لو أن العمّال الأولين ابتهجوا هم أيضًا لهذا السخاء الملوكيّ، لكان جميع العمّال في المقام الأولى، لكانوا كلهم "أوّلين". غير أن تذمّراتهم وحسدهم (اغوغنيزون) جعلهم يتراجعون إلى المقام الأخير، جعلهم يصيرون "آخرين".
حين نفهم هذا المثل بهذه الطريقة، يتوافق تفسيرنا توافقًا كاملاً مع السياق الهجوميّ حيث نجد جدالات يسوع مع الفريسيين. غير أن هناك من يقول إن الانجيليّ جعل من هذا المثل تحريضًا للكنيسة (للتلاميذ) مع أنها قيلت في الأصل ضد الفريسيين. وآخرون يقابلون هذا المثل مع لو 15: 1 ي، فيعلنون أن العمل الذي قام به الفعلة الأوّلون، قد ذُكر هنا ليبرز عظمة محبّة الله المجانيّة. في هذا المعنى قيل: إن سلوك الله لا يتعارض والعدالة، بل يتجاوز هذه العدالة، لأن قاعدة سلوكه هي الصلاح والجودة والاحسان.
إن موضوع هذا المثل سيعود في شفاء أعمييّ أريحا (20: 29-34) اللذين شفاهما صلاح يسوع رغم احتجاج الجموع. وهذا ما نجده في خبر زكَّا (لو 19: 1- 10) الذي أقام يسوع عنده رغم تذمّر الذين كانوا يرافقونه. وسيعود هذا الموضوع بشكل خاصّ في مثل الابنين (مت 21: 28-32) حيث نرى الابن الثاني آخر الاثنين في الارادة الحسنة يصبح الأول في توبته. إذن، لا يتركّز هذا المثل على فكرة نداء الله ودعوته، ولا على فكرة الدينونة تجاه العمّال الأولين، ولا حول فكرة عامة وقديمة حول انقلاب الأوضاع البشريّة بعد الموت (آ 8 ب: مبتدئا بالآخرين)، ولا على فكرة مساواة جميع البشر أمام الله، ولا على فكرة تقول باستحقاق مساو لكل عمل من أجل الله مهما كانت أهميّته، بل نحن بالأحرى أمام عطاء مجًانيّ يمثله أجر يوم لمن لم يعمل سوى ساعة واحدة.
ولكن إذا عدنا إلى آ 15، نفهم حينئذ أن المثل يتركّز على القول بصلاح الله السامي الذي يستقبل بيسوع المسيح حتى الذين جاؤوا متأخرين في ملكوت الله. وهكذا يكون طابع المثل طابعًا هجوميًا على الفريسيين والذين يعتبرون نفوسهم أبرارًا: هذا ما يحدث بفضل يسوع المسيح: فالخطأة الذين هم آخر البشر سيكونون أول من ينعم بصلاح الله وحنانه.
ب- نظرة القارئ إلى الأمثال
إن العناوين التي يعطيها الشرّاح للأمثال، تدلّ على حالة يصوّرها الراوي، لا على حكم يقيّم هذه الأمثال. ففي مثل الخروف الضائع، أو الابن الضال، يتركّز الانتباه لا على الخروف ولا على الابن، بل على سلوك الراعي بعد أن أضاع خروفه ووجده، وعلى سلوك الأب بعد ذهاب ابنه وعودته. ونسمّي هذا المثل الذي ندرس الآن "مثل عمّال الساعة الحادية عشرة". ففيه الأجر المعطى لعمّال اشتغلوا ساعة واحدة يتطلّب شرحًا. والمهم في هذا الخبر هو الشرح الذي يعطيه ربّ الكرم للعمّال الذين تذمّروا على الفرق بين معاملتهم ومعاملة فعلة الساعة الحادية عشرة.
كان النهار يتألف من 12 ساعة، ويبدأ في الساعة الواحدة. وهكذا يكون الظهر في الساعة السادسة. والساعة الحادية عشرة هي الساعة الأخيرة. وهكذا نفهم احتجاج العملة الأولين ضد الآخرين: "ما عملوا إلا ساعة واحدة".
روى هذا المثل خبرًا غريبًا بعض الشيء، ولكنه خبر بسيط. استأجر ربّ كرم عملة في ساعات مختلفة من النهار. وعند المساء دفع للجميع الأجر عينه. فالذين اشتغلوا 12 ساعة اعتبروا أنهم ظُلموا لأن ربّ البيت لم يدفع لهم أكثر من الذين عملوا ساعة واحدة في النهار. فشرح لهم سلوكه. ومن الواضح عبر هذا الوضع الذي تخيله الخبر، أن الشرح يشير إلى صعوبة خلقتها رسالة يسوع: الشكوك التي يحرّكها لدى "الأبرار" معاشرته "الخطأة".
كل ما بدأ شفافًا للوهلة الأولى، تحوّل إلى "غابة" لا يمكن الخروج منها على مستوى الخبر. ونبدأ فنزيل كل تفسير لا يأخذ بعين الاعتبار مجمل الخبر، بل يستند إلى سمة جانبيّة: هناك الأقدمون الذي اهتموا بشكل خاص بمدلول مختلف الساعات التي فيها استأجر رب البيت عملة له، مع وجه الاستعارة في هذا المدلول. وهناك من توقّف عند استبعاد أو الحكم بالطرد ضدّ العمّال الأولين الذين قيل لأحدهم: "خذ ما لك وانصرف". وأما في ما تبقّى من تفاسير، فنستطيع أن نميّز تيّارين كبيرين قد تتمازج أمواجهما. التيّار الأول الذي يمثّله عدد كبير من الشرّاح هو تفسير يأخذ بوجهة عمّال الساعة الأولى ويلاحظ تصرّف ربّ الكرم من جهة العدل. والتيّار الثاني يهتمّ بالأحرى بالسؤال الأخير: "عينك شريرة لأني أنا صالح". وهكذا يتركّز الانتباه على موقف العمّال المتذمّرين، الذي ظهر عندما فعل ربّ الكرم ما فعل، فوُضعت النقاط على الحروف.
قبل أن نتبع كلاً من هذين الاتجاهين، ذاك الذي ينتقد موقف رب الكرم، وذاك الذي ينتقد موقف عمّال الساعة الأولى، يجب أن نقول كلمة في المنظار الخاصّ بالانجيليّ كما نراه في السياق الذي فيه وُضع المثل والذي به يُربط القول الذي زيد في النهاية: "هكذا يصير الآخرون أولين والأولون آخرين" (آ 16). إن الطريقين اللذين نأخذهما لا يتحدّدان على مستوى الانجيل، بل على مستوى رسالة يسوع.

2- السياق الانجيليّ
حين نفصل المثل عن سياقه المباشر، تصبح آ 16 غير مفهومة في الوضع الذي نقرأها. فمن السهل أن نعرف أن هذا القول يكرّر بشكل مختلف بعض الشيء نهاية ف 19: "كثير من الأولين يصيرون آخرين، وآخرون يكونون أولين" (آ30). وحالاً يبدأ ف 20 مع المثل الذي ندرس: "لأن ملكوت السماوات يشبه". فإذا ألغينا "لأن" وجب أن نلغي أيضًا آ 16.
إن هذا المثل ينهي جزءًا من انجيل متّى. فإن 17:20 يدلّ على مفصل هام في الخبر. فهذه الآية تشكّل نقطة انطلاق خبر رسالة يسوع في أورشليم (17:20-25: 46). إذن، يتّخذ المثل معناه في الرباط الذي يربطه بالسياق السابق. وهذا السياق يتضمّن بشكل واسع "القسم الكنسيّ" الذي يبدأ في 13:16 وينتهي في 16:20 كما يقول بعض الشرّاح. أو هو يبدأ في أي حال في 19: 1 الذي منه تنطلق كل المقطوعات، فتعالج على التوالي مواضيع مختلفة. وفي 27:19، جاء السؤال حول الأجر الذي به ربط الانجيليّ مثل العمّال في الكرم.
في 27:19 بدأ بطرس كلامه فسأل يسوع: "ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك، فماذا يا ترى يكون لنا"؟ سؤال مباشر وواضح: "ماذا يا ترى يكون لنا"؟ ولكنه غير موجود في النص الموازي في مر 10: 28 ولو 28:18. إن الإضافة التي جعلها متّى هنا تدلّ على اهتمامه بهذا الموضوع. ويظهر هذا الاهتمام أيضا في أنه لا يكتفي بجواب عام يوجّهه إلى جميع الذين تركوا أملاكهم (29:19؛ رج مر 29:10-30؛ لو 29:18-30). بل يُسبق هذا الجواب بجواب يعني الرسل بشكل خاصّ: في الدينونة سيجلسون على اثني عشر كرسيًا ليدينوا أسباط اسرائيل الاثني عشر برفقة ابن الانسان (آ 28، رج لو 30:22).
هذه المواعيد التي تجيب على سؤال بطرس، يتبعها قول يعلن: "كثير من الأولين يكونون آخرين، وآخرون أولين" (19: 30؛ مر 10: 31). إذن، مرمي المثل في 20: 1-16 يرتبط بشكل عمليّ (في نظر متّى) بالمعنى الذي فهم هذا القول. في هذه النقطة، نحن أمام تفسيرين يتعارضان كل التعارض. يرى عدد كبير من الشرّاح في هذا القول تحذيرًا من الاعتداد الذي قد يولّد الوعد الذي سمعناه: هذا الوعد لا يخلق حقًا لأحد. والذين يفهمونه هكذا يتعرّضون لسماع جواب: كانوا أوّلين، يصبحون آخرين. وهكذا يكون المثل تصويرًا لهذا التحذير. أما أصحاب التفسير الثاني فيظنّون أن متّى فهم هذا القول كتأكيد لوعد قطعه يسوع. فجاء المثل صورة لهذا التأكيد. قد يكون التفسير الثاني هو الأصحّ.
نلاحظ أولاً أنه إن كان متّى قد اكتفى بأن ينقل 19: 30 كما وجده في مرجعه، فهو يحمل تبدّلات لها معناها مكرّرًا القول في 20: 16. وهو ما اكتفى بأن يكتب كما فعل في 19: 30: "كثير من الأولين يصيرون آخرين وآخرون أولين"، بل أعطى القول شكلاً عامًا وحوّل نظام الكلمات: "وهكذا يصير الآخرون أولين والأوّلون آخرين". بدّل الانجيليّ ترتيب الألفاظ، فأراد أن يشير إلى شيء ما. فمن الطبيعيّ أن نتكلّم أولاً عن الأولين ثم عن الآخرين: كما في 13: 52، كان من الطبيعيّ أن نذكر القديم قبل الجديد. إذا كان الانجيليّ قد بدلّ الترتيب الطبيعي، فقد توخّى أن يهتمّ بمصير الآخرين الذين صاروا أولين، أكثر من اهتمامه بمصير الأوّلين الذين صاروا آخرين.
ونجد الاهتمام نفسه بالأجر الموعود الذي دفعه إلى أن يضيف على وعد عام (19: 29) وعدًا يعني الرسل بشكل خاصّ (19: 28). هذه الأضافة تدلّ أنه لم يجد شيئًا "ينتقده" (كما قال بعض الشرّاح) في سؤال بطرس الذي قال: "ماذا يا ترى يكون لنا" (آ 27)؟ هذا السؤال بدا طبيعيًا في عينيه. فلماذا يقول البعض إن القول يهاجم الأولين الذين صاروا آخرون. والذين فكّروا "بأجر عادل"، لن يجدوا في هذا المثل الانجيليّ ما يسند قولهم.
وهكذا صار المثل صورة عن وعد وُعد به الرسل الذين اعتُبروا آخرين فصاروا الأولين ساعة الجزاء. نلاحظ أن هذا التفسير لا يستنفد التعليم الذي يقدّمه المثل فهو يجذب الانتباه إلى نقطة ثانويّة في الخبر، وهي أن ربّ البيت دفع إلى الآخرين قبل الأولين. نستطيع أن نظنّ أن الانجيلي لم يرد أن يحصر في هذه الامثولة تعليم مثل له بعد عميق جدًا. ونحن إذا برّرنا موقعه في الانجيل، يبقى علينا أن نكتشف معنى هذا الخبر بالنظر إلى ارتباطه بحياة يسوع العلنيّة.

3- سلوك ربّ الكرم
أ- آراء متعدّدة
إن ما عمله ربّ الكرم حين استأجر عملة في مختلف ساعات النهار، يبدو لاعاديًا. بل إن قائل المثل تجاوز حدود الممكن الذي يُسمح له. فالمرّات الخمس ستتركّز في النهاية على تعارض بين الأوّلين والآخرين. نلاحظ أن المحاولات الثلاث المتوسطة، توخّت أن تخفّف من حدّة هذا التعارض، وتجعل هنا التعارض بين الأولين والآخرين معقولاً. في آ 8، دُفع للآخرين قبل الأولين. هذا ما يجب أن يكون منطق الخبر، لأن على الأولين أن يكونوا هنا ليشاهدوا السخاء الذي نعم به رفاقهم أصحاب الساعة الحادية عشرة (نسي الانجيلي أصحاب الساعة الثالثة والسادسة والتاسعة. ولو أخذ الأولون أجرهم ومضوا، لضاع معنى الخبر. لهذا ظلّوا حتى النهاية، فكانوا الآخرين). إذن، لسنا أمام شيء غير عاديّ حتّى آ 8. ولكن السامع ينتظر شيئًا ما: كان اتّفاق حدّد أجر عمّال الساعة الأولى، ولكن لم يُقل شيء عن أجر العمّال الآخرين. ما الذي سينالون من أجر اذن؟
وجاء الجواب في آ 9: إن عمّال الساعة الحادية عشرة نالوا دينارًا، أي الأجر العادي ليوم من العمل يمتدّ على 12 ساعة، وهو ما اتفق عليه ربّ الكرم مع عمّال الساعة الأولى. عند ذاك تقدّم عمّال الساعة الأولى ونالوا هم أيضًا دينارًا. فاحتجّوا: حملوا ثقل النهار، عملوا اثنتي عشرة ساعة، بينما عمل الآخرون ساعة واحدة. وتحمّلوا حرّ النهار، بينما الآخرون وصلوا عند برودة المساء، فهل من العدل عند ذاك أن تتساوى الأجور؟
كتب أحد الشرّاح: "عرف عمّال الساعة الأولى أنه لا يحقّ لهم بأجر يزيد على ما اتّفق عليه. غير أن ما يمكن أن يطالبوا به هو أن تراعى الفروقات؟ ويميّز الذين اشتغلوا أكثر من الذين اشتغلوا أقلّ فتحفظ قواعد العدالة والاستحقاق". ولاحظ شارح آخر: "من الطبيعي أن يتذمّر فعلة الساعة الأولى ونشدّد على "من الطبيعيّ". فليس من عمّال إلاّ وينتحبون في مثل هذه الظروف... مثل هذا الوضع لا يُحتمل لأن ربّ الكرم قرّر بطريقة اعتباطيّة أن يعامل بعض الفعلة حسب العدالة، حسب ما يحقّ لهم، والبعض الآخرين حسب سخائه هو. فإذا أراد أن يكون سخيًا لفئة يكون سخيًا أيضًا للفئة الثانية. وإذا أراد أن يسير بحسب القانون مع البعض فليكن كذلك مع الجميع".
وهكذا رافق الشرّاح عمّال الساعة الأولى. "إن جعلت الأمور هكذا في الواقع، تكون الأمور مشينة. مثل هذا السخاء تجاه الآخرين ينشر أمام الذين عوملوا بالعدلة وحسب، يعني تحدّيًا لشعور الناس. لن يقبل الشعب بهذا فيقول: "هذا ليس بعادل". "الخبر لا يراعي أقلّ قوانين الانصاف". إن تصرّف رب الكرم ليس بعادل. "إن هذا المثل قد أراد أن يعلن تسامي الله كما ظهر في صلاحه، عكس ما يفعل البشر على مستوى العدل والانصاف والمساواة".
وهكذا، هوجم ربّ الكرم، فوجب عليه أن يدافع عن تصرّفه. وهذا ما فعله في ثلاث نقاط. في النقطة الأولى والثانية ردّ على اعتراض المعترضين. لاحظ أولاً أن العمّال الأولين لم يُظلموا، لأنهم نالوا الأجر المتّفق عليه. أما في ما يخصّ الآخرين، فله الحقّ أن يفعل بماله ما يحلو له، أن يكون سخيًا تجاه هذا الشخص أو ذاك. اعتباران صحيحان لا يرفضهما أحد. يحقّ لربّ الكرم أن يعامل الأولين بالعدل والآخرين بالسخاء. ولكن لا يحقّ له أن يعمل العملين في وقت واحد. وتتأتّى الصعوبة من الرباط الذي يقوم بالضرورة بين معاملتين مختلفتين. وهكذا يكون الجواب على النقطة الأولى والثانية غير مرضيّ.
ويبقى الاعتبار الثالث الذي يتّخذ شكل سؤال (أم عينك شريرة) فينقل الجدال على مستوى آخر، وهذا ما سنعود إليه.
ولكن نشير قبل ذلك إلى الشروح التي يقدّمها الشّراح الذين يتوقّفون عند الطريقة التي بها طرح عمّال الساعة الاولى مسألة تصرّف رب الكرم. وهنا أيضًا نجد اتجاهين متعارضين: من جهة، يبيّنون أنه رغم الظواهر، بقي تصرّف ربّ الكرم موافقًا للعدالة التي يدافع عنها العمّال المتذمّرون. ومن جهة ثانية، يعتبرون أن تصرّف رب الكرم الجائر يحب أن يساعدنا على أن نفهم أن عدالة الله تتجاوز قواعد العدالة البشريّة.
ب- على مستوى الحقوق والعدالة
هنا نتذكّر تفسيرًا قريبًا من المثل، قدّمه سنة 325 رابي زائيرا في جنازة رابي شاب. "بماذا يشبّه رابي بون بن رابي حيه؟ بملك استأجر عمّالاً عديدين. كان واحد من هؤلاء العمّال نشيطًا في عمله أكثر ممّا يجب. ماذا فعل الملك؟ أخذه رفيقًا له يتمشّى معه هنا وهناك. وعند المساء جاء العمّال يأخذون أجرهم، فدفع له كما دفع لهم. فاحتجّ العمّال وقالوا: عملنا طوال النهار، ومع ذلك نال هذا الرجل الأجرَ الذي نلناه. فأجاب الملك: هذا الرجل عمل في ساعتين أكثر ممّا عملتم النهار كله. وهكذا أيضًا، عمل رابي بون في الشريعة خلال ثمانية وعشرين عامًا أكثر ممّا استطاع فعله معلّم مشهور خلال مئة سنة".
هذا المثل الرابيني الذي طرح في ألفاظ مشابهة المسألةَ التي طرحها المثل الانجيليّ، قدّم لها حلاً عقلانيًا بسيطًا يتيح لنا أن ندرك حالاً الطريقة التي يعارضها بصراحة المثل الانجيليّ. نحن هنا أمام تعارض بين التعليم الانجيلي ولاهوت اليهود الفرّيسي. ونقرأ في هذا المجال شرحًا يعود إلى القرون الوسطى: "توخّى المثل أن يبيّن أن أجر الحياة الأبديّة يقابل لا الوقت الذي عملنا فيه، بل العمل الذي عملناه. في هذا المثل علّمنا المسيح أن البعض يعملون الكثير في وقت قليل، والبعض الآخر في وقت أطول. فإذا كان الآخرون قد نالوا دينارًا (مثل الأولين) فلأنهم عملوا في ساعة ما عمله الآخرون في يوم كامل. فالذين كانوا أول من وصل إلى الكرم قد عملوا أقل. لهذا استحقّوا أجرًا أقلّ". أراد هذا الكاتب أن يعارض لاهوت المصلحين فأخذ بلاهوت الفريسيين الذي يعارضه الانجيل معارضة واضحة.
في هذا الخطّ، جاء من يقول إن الله يجازي النيّة والارادة كما يجازي العمل الذي تمّ فعلاً. وقال آخر في خط مختلف: على ربّ البيت أن يدفع أجر يوم كامل لمن عمل ساعة واحدة. ففي الحقّ الروماني، لا يُقسم النهار، بل يُحسب وحدة تامّة. ومن اشتغل ساعة اعتبر وكأنه اشتغل النهار كله. وراح شارح ثالث يتحدّث عن عمّال الساعة الحادية عشرة الذين يحقّ لهم بالضروريّ من أجل حياتهم، حتى ولو اشتغلوا جزءًا من النهار. فحقّ العمالة يترافق مع واجب ربّ العمل. وتحدّث آخر عن عمل ملحّ فرض على ربّ الكرم أن يسرع في قطف عنبه بسبب حالة الطقس الرديئة. في هذه الحالة، وجب عليه فعلُ الشكر تجاه الذين قبلوا أن يساعدوه في مثل هذا الظرف. وهناك من قال إنه بعد أن اتفق رب الكرم مع عمّال الساعة الأولى، وثق الآخرون به فعملوا مستندين إلى تلك الثقة.
كل هذه الشروح تحاول أن ترضي عمّال الساعة الحادية عشرة، لأن ربّ الكرم لم يرضهم. ولكننا ما زلنا على مستوى الأخذ والعطاء في إطار عدالة بشريّة. وهذا ما لا يريد أن يقوله النصّ الانجيليّ.
ج- على مستوى اللاهوت
أما الشرح الأكثر انتشارًا فهو الذي لا يهتمّ بأن يبرّر تصرّف رب الكرم على مستوى العدالة والإنصاف، بل يستنتج من عدم توافق هذا التصرّف مع قواعد العدالة البشريّة، ليقول إن المثل يجعلنا أمام سلوك ليس بسلوك انسان عاديّ: فربّ البيت يتصرّف مع عمّاله كما يتصرّف الله وحده مع البشر. هذا المثل الذي لا يمكن أن نقبل به على مستوى العدالة البشريّة، يصبح وحيًا عن الطابع المتسامي لعدالة الله.
عدالة الله تقوم في صلاحه وسخائه. هل تصرّف رب الكرم اعتباطيًا؟ كلا. يجب أن نفهم أن حريّة الله السامية تسمح له أن يتصرّف كما يشاء، ولا يستطيع أحد أن يطلب منه حسابًا. ولكن السيّد الذي يتحدّى العدالة، هل يمكن أن يعتبر نفسه صالحًا؟ ولكن يجب أن نفهم أن الصلاح بالنسبة إلى الله يعني أن لا ينظر إلى استحقاق وحقوق الذي يصلّي، بل أن يخلّص ويحيي بصلاحه ونعمته. وهكذا بدا المثل وحيًا عن "مجانّية عطايا الله".
كل هذا يبدو تهرّبًا في عالم اللاهوت. نفرض تفكيرنا على الله، ولا نقبل أن نسمع ما يقوله الانجيل لنا. مثل هذا التفسير يريد أن يحدّد إله المسيحيين انطلاقًا من صورة ربّ عمل يعيش في نظام الحريّة الاقتصاديّة مع منطق العرض والطلب. هذا الرجل لا يقبل أن يحدثّه أحد عن حقوق العمّال. غير أنه مستعدّ أن يراعي الذين يستسلمون إلى صلاحه "كأب لهم". إذا كان هذا هو إله يسوع المسيح، إله الانجيل، فالأفضل أن لا نعظ به العمّال. فلا يجد من يسمع لنا إلاّ أغنياء لا يعرفون شيئًا عن العدالة الاجتماعيّة.
وإذا وضعنا جانبًا كل هذه النتائج، نرى أن مثل هذا الشرح لا يستفيد من السؤال الأخير الذي يشكّل مرمى المثل. ويتوقّف عند حقيقة عامّة خارج الزمن وينسى المسألة الآنيّة الملموسة التي يريد يسوع أن يعطيها جوابًا ملموسًا في هذا المثل. كيف يستطيع أن يحصل على موافقة الفريسيين حين يقدّم لهم إلهًا في سمات ربّ كرم لا يمكنهم إلاّ أن يخالفوه في تصرّفه.

4- موقف العمّال الأولين
بعد أن دافع رب الكرم عن موقفه على مستوى العدالة، انتقل إلى مستوى الجدال طارحًا على العمّال المتذمّرين السؤال الحاسم: "أم عينك شرّيرة لأني أنا صالح"؟ وهكذا وُضع هؤلاء الفعلة في قفص الاتهام فوجب عليهم أن يعيدوا النظر في بواعث موقفهم. هل هو اهتمامهم بالحق والعدل دفعهم إلى مثل هذه التشكيّات؟ فعبر عمّال المثل، يتوجّه السؤال إلى سامعي يسوع. ويسوع لا يحلّ محلّهم لكي يقدّم الجواب. فخبره يبقى مفتوحًا على سؤال يجب على السامعين أن يجيبوا عليه.
هذا النهج معروف ونحن نجده في مثل الابن الضال (لو 15: 11-31) الذي يبدو قريبًا جدًا من المثل الذي ندرسه الآن. فمثل الابن الضال ينتهي بنداء ملحّ يوجّهه الأب إلى ابنه البكر الغاضب على تصرّف الأب مع الابن الأصغر، ويطلب فيه منه أن يشارك في فرحة عودة من لا يزال أخاه. فالتشابه بين المثلين لافت للنظر بحيث لا نشك أنهما قيلا في ظروف مشابهة. قيلا لأناس تشكّكوا من علاقات يسوع مع "الخطأة". فالفريسيون والكتبة والناس الذين اعتبروا نفوسهم نخبة الأمّة لم يرضوا عن تصرّف يسوع: فمعاشرة الخطأة المحتقرين لا تليق بانسان يسمّي نفسه مرسل الله. وهي تحدٍّ لهم يصيب في الصميم سلوكهم "النموذجيّ".
عرف هؤلاء الناس "المميّزون" نفوسهم في تذمّرات عمّال الساعة الحادية عشرة. سمعوا ملاحظتي ربّ البيت الأوليين على مستوى العدالة (ما ظلمتك...). ولكن بقي السؤال الآخر الذي يُطرح عليهم بشكل مباشر لا يمكن التهرّب منه: إذا كان ربّ الكرم صالحًا، فهل يجب أن تكون عينهم شريرة؟ فالعين التي تعكس عواطف القلب، تمثّل هنا الاستعدادات الحميمة في الانسان. تلك التي تترجمها بشكل ملموس الاحتجاجاتُ المذكورة في آ 12: "إن هؤلاء الآخرين (هم آخر الناس لأنهم خطأة) ما عملوا إلاّ ساعة، وأنت تساويهم بنا نحن الذين حملنا ثقل النهار وحرّه".
وها نحن نعود إلى آ 12. ما الذي يشتكي منه عمّال الساعة الحادية عشرة؟ لا لأنهم لم ينالوا أكثر من الذين عملوا ساعة واحدة، كما يمكن أن نفكّر بعد أن نقرأ آ10 (ولما جاء الأولون حسبوا أنهم ينالون أكثر). بل لأنهم رأوا أن هؤلاء الآخرين نالوا مثلهم. "لقد ساويتهم بنا". ما يريدون، ليس أن يُعاملوا أفضل من الآخرين، بل أن يُعامل الآخرون أقلّ منهم. فالحقّ الذي يمنحه لهم عملهم، يحرم الآخرين لأنهم لم يعملوا ذات العمل. هذه الطريقة في استنتاج "لاحقّ" الآخرين من حقّهم، يجعلهم يحوّلون الحقّ إلى امتياز: امتياز بالنسبة إلى الآخرين، على حساب الآخرين.
واللهجة التي بها تكلّم الأولون عن رفاقهم لها معناها. في آ 12 يجب أن نقرأ: "الآخرين هؤلاء" مع بعض الاحتقار. على مثال ما قال الابن الأكبر: "ابنك هذا" (لو 15: 30). وعلى مثال ما قال الفريسي عن العشّار: "العشّار هذا" (لو 18: 11). وصار جواب الأب يدلّ على مقصده: "أخوك هذا" (لو 15: 32. تحتقره ولكنه أخوك). ومثَل الفريسي والعشّار يدلّ على الخطأ الذي اقترفه الأول حين احتقر الثاني. وخطأ عمّال الساعة الحادية عشرة مماثل: طالبوا بامتياز يفصلهم عن رفاقهم. هكذا تصرّف الفريسيون مع الخطأة.
إن هذه الملاحظات حول آ 12 وانتقاد ربّ الكرم، تساعدنا أن ندرك إدراكًا أفضل البُعد الحقيقيّ للسؤال الأخير. فعلى مستوى العدالة، لم ينجح السيّد في أن يعطي شرحًا عقلانيًا يرضي المحتجِّين. ولكن هناك شيئًا آخر في تصرّف ربّ الكرم. فعلى العمّال المتذمّرين أن يبدّلوا موقفهم إذا أرادوا أن يفهموه: يبدأون فيرون في عمال الساعة الحادية عشرة رفاقًا لهم، أناسًا يتضامنون معهم (جميع البشر خطأة. والفريسيون أيضًا). فبدلاً من أن يحتجّوا على أجر أخذه رفاقهم دون أن يستحقوه، كان عليهم أن يفرحوا معهم. فمع "عدم استحقاقهم" جعل الربُّ الآخرين مثل الأولين. يا للنعمة العظمى!
وبما أننا في الواقع أمام موقف الفريسيين تجاه الخطأة، فالمثل يقول لنا: إذا أراد الأوّلون (الفريسيون) أن يفهموا سلوك الله كما يظهر في تصرّف يسوع إزاءهم، فليبدأوا بأن يروا في هؤلاء "الآخرين" (الخاطئين) إخوتهم. ما ينقصهم ليفهموا ما يحصل أمام نظرهم هو أن يكونوا صالحين (لأني أنا صالح. عينك شريرة)، أي أن يتعلّموا كيف يحبّون.

خاتمة
حين نقرأ هذا المثل قراءة سريعة، نشعر وكأنّه يحدّثنا عن إله يسوع في صورة ربّ عمل يتصرّف اعتباطيًا، ولا يعرف ما هي العدالة الاجتماعيّة. عند ذاك تنبري الاعتبارات اللاهوتيّة لتدافع عن سموّ عدالة الله التي تتحدّى متطلّبات العدالة البشريّة. ولكن حين نتعمّق في النصّ، نرى أن المثل لا يقدّم تعليمًا نظريًا ومجرّدًا عن الله وعدالته. بل هو يتوجّه إلى أناس اعتبروا نفوسهم ارستوقراطيّة دينيّة عالية، فرأوا في اهتمام يسوع بالخطأة الذين يُحتقرون مسًا بامتيازاتهم. فعناية يسوع بهؤلاء المهمّشين في المجتمع اليهوديّ (لا يمكن التضامن معهم) تدلّ على عناية الله وتحقّقها. ونحن لا نستطيع أن نفهمها إلاّ من الداخل، وحين نشارك في عواطف الرحمة والحنان التي ألهمت رسالة يسوع. ولن يصل الفريسيون إلى هذه العواطف إلاّ إذا اكتشفوا رباط التضامن مع هؤلاء البؤساء. إلاّ إذا قبلوهم إخوة لهم. فمعرفة إله يسوع المسيح تمرّ حتمًا بالتعرّف إلى سائر البشر كإخوة لنا: "فالذي لا يحبّ لا يعرف الله، لأن الله محبّة" (1 يو 4: 8).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM