الفصل الثاني عشر: الشاب الغنيّ وأهميّة التجرّد

الفصل الثاني عشر
الشاب الغنيّ وأهميّة التجرّد
19: 16- 30

ندخل هنا في موضوع الغنى الذي قد يكون مشروعًا، ولكنه يحمل في طيّاته خطرًا كبيرً. فالمال حاجز يقف في وجه من يريد أن يدخل الحياة. وقد حذّرنا يسوع منه حين قال: "يعسر على الغني أن يدخل ملكوت السماوات". ولكن هل فرض التجرّد التام على تبّاعه، مثل الاسيانيّين؟ فليس التجرّد مطلوبًا في ذاته، بل بالنظر إلى الجماعة التي نعيش فيها. هذا يعني أنه قد يكون هناك أغنياء في الكنيسة، لأن الغني الحقيقيّ ليس ذاك الذي يملك المال، بل ذاك الذي لا يعرف أن يشرك الآخرين في ما أعطي له من خيرات على مثال الجاهل الغبيّ الذي أغلّت أرضه ففكّر في أهراء يملأها لا في جياع يشبعهم.
هذا ما نقرأه في هذا الفصل. نتعرّف إلى الشاب الغني (19: 16-22)، نسمع تحذير يسوع من الغنى (19: 23-26)، ونتعلّم مكافأة التجرّد (27:19- 30): "يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الأبديّة".

1- نظرة عامة
هنا يلتقي مت مع مر 17:10- 31 ولو 18:18-30 في متتالية نستطيع أن نعنونها: خطر الغنى. هي تتركّز على موضوع واحد كما اعتاد مت أن يفعل. والتحليل الداخليّ للمقطوعة يكشف مسيرة التعليم التي انتهجها الانجيليّ. نجد أولاً خبرًا قصيرًا (آ 16-22). ثم عدّة أقوال ليسوع حول ذات الموضوع. وتأتي ملاحظات التلاميذ وجواب يسوع (آ 23-26). وتدخّل بطرسُ ليدلّ على التخلّي الذي قام به التلاميذ لكي يتبعوا يسوع. عند ذاك انطلق يسوع من كلام بطرس وعلّق عليه (آ 27-29). وفي النهاية، كان قول ليسوع نجد ما يوازيه في مر 10: 31 (كثيرون من الأوّلين يكونون آخرين). عرف لوقا هذا القول، ولكنه جعله في موضع آخر (13:30). وكرّر مت أيضًا هذا القول كخاتمة لمثل العمّال الذين أرسلوا إلى الكرم (20: 16).
بنية المقطوعة الاجماليّة هي هي في الأناجيل الازائيّة الثلاثة. ويبدو أن مت ولو تبعا مر. هذا مع العلم أن هناك اختلافات هامّة بين نصّ ونصّ. متى جمع الانجيلُ الأول هذه المعطيات؟ في وقت مبكّر بدون شك، لأننا نجدها في مر. وكانت ضرورات عمليّة حاول الانجيليّ أن يجيب عليها. بقى أن نتوقّف عند كل عنصر من هذه العناصر، ولا نركّز كل شيء على آ 30 التي لا تحتلّ مكانة مميّزة في لو 13: 30 وفي مت 16:20. أما التعليم فيتوجّه هنا لا إلى أفراد غرباء عن الكنيسة وحسب (آ 16-22)، بل بشكل خاص إلى التلاميذ أنفسهم، أي إلى أعضاء الجماعة الذين إليهم يوجّه الانجيليّ كلامه. ذاك هو الوضع في مت بشكل إجمالي. وكما في مت 13:16 ي، تكلّم بطرس باسم الجماعة، فمثّل الجماعة، ومثّل قلقها أمام تعليم يسوع. "من يستطيع إذن أن يخلص" (آ 25)؟

2- الدراسة التفصيليّة
أ- مقدّمة إلى دراسة الآيات
أولاً: البنية
اعتاد عدد من الشرّاح أن يقسموا هذه المقطوعة (19: 16-30) التي تجعل الغنى تجاه الملكوت، إلى ثلاثة أجزاء: آ 16-22؛ آ 23-26؛ آ 27-30. ونحن نتبعهم في هذه القسمة. يروي الجزء الأول لقاء بين يسوع وشاب غنيّ. هناك ثلاثة أسئلة تطرح على يسوع. آ 16، 18، 20. وثلاثة أجوبة (آ 17، 18-19، 21)، مع ذروة في الجواب الثالث.
والجزء الثاني يورد أولاً شرح يسوع (آ 23-24). ثانيًا، ردّة فعل التلاميذ تجاه كلام يسوع القاسي (آ 26). في الجزء الثالث، انطلق بطرس من واقع (ها نحن قد تركنا كل شيء) وطرح سؤالاً (ماذا يكون لنا)؟ أجاب عليه يسوع بثلاثة أقوال. الأول، وعدٌ للتلاميذ (آ 28، تجلسون أنتم أيضًا). الثاني، وعدٌ لكل من يترك "أمور الأرض" ليطلب المسيح (آ 29: كل من ترك بيوتًا). الثالث، قولٌ عام حول الأوّلين والآخرين (آ 30).
إن المثلّث هو المفتاح البنيويّ للمقطوعة كلها. ونلاحظ تداخل كل جزء في الآخر، مع العلم أن هذه الأجزاء الثلاثة تنتهي بكلام يسوع.
آ 16- 22 آ 23- 26 آ 27- 30
تكلّم رجل غنيّ
تكلّم يسوع
تكلّم الرجل الغني
تكلّم يسوع تكلّم يسوع
تكلّم الرجل الغنيّ تكلّم التلاميذ تكلّم بطرس
تكلّم يسوع تكلّم يسوع تكلّم يسوع
ويبدو أن آ 16-22 تبدو بشكل تصالب وتعاكس
آ 16: جاء انسان غنيّ
آ 17 أ: إن شئتَ
آ 17 ب: احفظ الوصايا
آ 18: الوصايا
آ 20: حفظت كل هذا
آ 21: إن شئت
آ 22: مضى الانسان الغنيّ.
ثانيًا: المراجع
إذا وضعنا جانبًا آ 28 (أخذت من المعين)، تبدو آ 16-30 مرتكزة كلها على مر 17:10-31. أولاً، سؤال يسوع في 17:19 يختلف عن مر 18:10. ومع ذلك نحن أمام أولويّة مر. ثانيًا، إن وصيّة محبّة القريب التي أخذت من لا 18:19 (رج مت 19:19) لا تُوجد في مر ولو. وهي تُعتبر تدوينًا متّاويًا. نحن نفهم أن تكون أضيفمت لا أن تكون ألغيت. ثالثًا، هناك صعوبات معروفة في فهم مر 10: 30. لهذا قد يكون ألغاها مت ولو. ولكن ما الذي يمكن أن يكون دفع مر لكي يجعل النصّ الواضح (في مت 9:19 ولو 18: 30) غامضًا؟ رابعًا، يخلو نصّ مر من عبارات ألفاظ تدوينيّة نجدها في مت 16:19 ي.
بجانب الاغفالات التي تحصل صدفة، هناك اتفاقات قليلة بين مت 19: 16-30 ولو 18:18-30 ضدّ مرّ 17:10- 31. لا مجال لذكرها هنا. نشير فقط إلى أن مت 29:19 يضيف "نساء" (= لو 29:18 ≠ عن مر 29:10). ولكن هناك شكًا على مستوى النصوص.
هناك بعض الصعوبات على مستوى نصّ مت. الأولى، شكل السؤال: "أي شيء صالح يجب أن أعمل"؟ بدلاً من: "ماذا يجب أن أعمل"؟ سؤال مت ليس بطبيعيّ، وهو يجعلنا نحسّ أن الصفة (صالح) قد جُعلت هنا لتكون مناسبة للكلام عن صلاح الله (رج لو 10: 25 الذي يجعلنا نرى في النصّ سؤال محام: ماذا يجب أن أعمل لكي أرث الحياة الأبديّة؟). الثانية، لا يبدو الجواب موافقًا. فالسؤال المطروح لا يهتمّ بما هو صالح في المطلق، بل بالشروط اللازمة للحصول على الحياة الأبديّة. الثالثة، القول بأن الله وحده صالح، وهذا يوافق السياق حين يستبعد صفة الصلاح عن أي شخص آخر سوى الله. غير أنه لا يلغي إمكانية بها يستطيع شخص آخر أن يفعل صلاحًا.
ثالثًا: التأويل
يتابع هذا الحوارُ موضوعَ الأمور العائليّة حول الغنى والملكوت، وهو موضوع سبق متّى وأشار إليه. مثلاً، الاعلان حول استحالة خدمة (عبادة) الله ومامون (أي المال الذي يعطينا الأمان، 6: 24). لاشكّ في أن الشاب الغنيّ فضّل المال على الله. وهناك أيضًا مواضيع الكنز في السماء (6: 19- 21)، والسخاء (6: 22-23)، والجزاء الاسكاتولوجيّ (5: 3-12)، والكمال (48:5). كل هذا يعود هنا. وهكذا يكون 19: 16-30 صورة إخباريّة عن جزء مهمّ في إنجيل متّى، ولاسيّما في عظة الجبل.
أما عن الاختلافات بين مت 19: 16- 30 والمرجع المرقسيّ، فإليك أهمها. (1) رغم زيادة آ 28، فإن مت (مع 270 كلمة) يبقى أقصر من مر (279 كلمة). ولا نجد في لو سوى 202 كلمة. (2) في نقاط عديدة خلق مت التوازي أو أبرزه (ق آ 17 و31؛ آ 22 و25؛ 26، 25-27). (3) حين نقابل صت مع مر، نجد أن السرد أقلّ والتشديد على الخطبة ظاهر. (4) أعيدت كتابة مر 10: 17-18 لتجنّب تفكير قد يقول بأن الله ليس بصالح. (5) وضع الـ التعريف (تو) قبل عدد من الوصايا (آ 18). (6) شابه الايراد الكتابي ما في السبعينيّة. (7) أضيف لا 18:19 على الاجمالة التي نجدها في مر 19:10. (8) في مت سأل الرجل الغنيّ: "ماذا ينقصني بعد" (آ 20)؟ في مر، قال له يسوع ما ينقصه (10: 21). (9) في مت لا ذكر لحبّ يسوع لذلك الانسان (آ 21، نظر إليه وأحبّه). (10) لا نجد "إن شئت أن تكون كاملاً" (آ 21) في مر. (11) قيل إن هذا الانسان الغني كان شابًا في مت فقط، لا في مر. (آ 22). (12) إن عبارة "الحق أقول لكم" تبدأ في مت 19: 23 لا في مر 10: 23. (13) غابت عبارة "ماذا يكون لنا" (مت آ 27) من مر. (14) القول الاسكاتولوجيّ حول اثني عشر كرسيًا (آ 28) لا يظهر إلاّ في مت. (15) قد اختُصرت عبارة مر 10: 29 "من أجلي ومن أجل الانجيل" فصارت "من أجل اسمي" (آ 29). (16) إن الوعد بالمكافأة قد ارتبط بالمستقبل (آ 28-29؛ ق مر 10: 30).
مع أن البناء يختلف بين انجيل وآخر، إلاّ أن النقّاد يرون أن مت 19: 16- 30 هو تذكّر لحدث من حياة يسوع، وقد ضُمَّت إليه أقوال حول الغنى والمكافأة الاسكاتولوجيّة.
إن اللقاء مع الرجل الغنيّ (مر 17:10-22) والمواد التي احتفظ بها مر 23:10-25 تحتفظ لنا بأمور عديدة عن يسوع. (1) اعتُبر المعلّمَ مع نظرة خاصة إلى المجال الدينيّ. (2) ركّز يسوع على أهميّة الدكالوغ أو الوصايا العشر. (3) طلب من تبّاعه التزامًا تامًا واستعدادًا لقطع كل رباط اجتماعيّ واقتصاديّ (رج مر 1: 16-20) من أجله. (4) علّم أن الغنى هو عائق في الطريق الموصلة إلى الملكوت.
وكما هو الأمر بالنسبة إلى التقليد في مت 19: 27، 29- 30= مر 10: 28- 21، فالقول القصير حول الأوّلين الذين صاروا آخرين، والذي نجده أيضًا في المعين (مت 20: 16= لو 13: 30)، لا يجد ما يوازيه بشكل دقيق. هو يتوافق مع تشديد يسوع على المكافأة الاسكاتولوجيّة. لهذا، نعتبر أن الرب تفوّه به. ولكن ليس من تأكيد حول مر 10: 28-30. فالمقدّمة (آ 28، ملاحظة بطرس) قد تكون تدوينيّة. ورأى بعض الشرّاح أن آ 29- 30 تعود إلى وعد حقيقيّ قريب من هذا: "وكل من ترك الأب أو الأم (الأخت أو الأخ) لأجلي، سينال لهذا مئة ضعف". وامتدّ النصّ بإضافة لائحة الأمور التي نتركها (بيوت، إخوة)، وتوضيح التعارض بين هذا العالم وذاك الآتي. قد يكون هذا الرأي صائبًا أم لا. ولكن القول حول ترك والعائلة والمكافأة المقبلة هو قريب من إعلان يسوع وتعليمه.
ب- الرجل الغني ويسوع (19: 16-22)
إن خبر نداء يسوع إلى التلمذة هو رواية من نمط "سؤال": هو يورد حاجة السائل ونتيجة سؤاله (أو: طلبه). في هذه الحال، انتهى السؤال في الفشل (رج أيضًا 8: 19-20)، لأن الرجل الغني، وإن كان وجهًا محبّبًا، ما استطاع أن يترك خيرات الأرض من أجل كنوز السماء. والبُعد المأساوي قد خفِّف في خيار ثان وُعد فيه التلاميذ بأن ينالوا المكافأة الحسنة لأنهم تركوا كل شيء.
توجّه الرجل الغني إلى يسوع (آ 16) كالمعلّم، وسأله بصدق: "أي شيء صالح يحب أن أعمل لكي أنال الحياة الأبدية"؟ نلاحظ الفردية في هذا السؤال. لا يتطلّع هذا الانسان إلى خلاص شعبه، بل إلى خلاصه هو. فالمتكلّم الذي ما قيل بعد إنه غنيّ، ترجّى أن يعرف من يسوع إرادةَ الله. وسؤاله يفترض أنه توجّه إلى معلّمين عديدين فما وجد ما يرضيه.
"ماذا أعمال من الصلاح"؟ رج يوسيفوس، الحرب اليهوديّة 1/ 392؛ أخبار إرميا 7: 22؛ تلمود بابل البركات (28 ب) حيث نقرأ: "يا معلّم، علّمنا طُرق الحياة بحيث ندرك بها الحياة في العالم الآتي". قال مر 17:10: "أيها المعلّم الصالح". ولكنه لم يقل "الشيء الصالح"، الصلاح (رج عا 5: 14؛ مي 8:6). إن التبدّلات المتّاويّة التي تهيّئ آ 17، تجعل الطلب أكثر بساطة ممّا في مر: ظنّ أن هناك عملاً كبيرًا قد يستطيع أن يُرضي الله به. ومال عن صلاح يسوع إلى صلاح الطاعة للشريعة، أي إلى ضرورة صنع الخير للحصول على الحياة الأبديّة (لا 18: 5؛ أم 4: 2، 4).
فأجاب يسوع (آ 17) أولاً بسؤاله، ثم بقول لاهوتي، وأخيرًا بأمر يُفهم الرجل الغني أن العهد القديم لا يكفي. "قال له". أما مر ولو فذكرا يسوع (قال له يسوع): "لمَ تسألني عمّا هو صالح "؟ قال مر ولو: "لماذا تدعوني صالحًا"؟ بما أن متّى يعتبر أن يسوع لا تلامسه الخطيئة إطلاقًا، تجنّب نصّ مر الذي يقول إن الله هو صالح وإن يسوع ليس بصالح (لا سمح الله). لا يحتاج الانسان أن يعرف ما هو صالح. فالصالح معروف. والله قد أوحى بوصاياه من أجل ذلك.
"واحد هو الصالح". ق تث 6: 4 (اسمع يا اسرائيل). "ليس من صالح سوى الله وحده" (مر 10: 18= لو 18: 19). "الواحد" هو (كما في مر) الله. وصار المعنى: الوصايا (أي الصالح في الاية السابقة) هي صالحة لأنها من عند الواحد الذي هو صالح، الذي هو الله. الله هو ينبوع كل صلاح (مز 16: 2). "إن شئت أن تدخل الحياة". هي جملة تدوينيّة ارتبطت مع آ 16 (= مر 10: 17 عن الحياة) وآ 24 (= مر 10: 24-25 مع فعل دخل). ق 18: 9 والاضافة إلى آ 21 (إن شئت). نقل يسوع هذا الرجل من التجارة إلى الطريق، فدعاه إلى حجّ لا إلى شراء. "إحفظ الوصايا". ق مر 19:10= لو 18: 20: "أنت تعرف الوصايا". نلاحظ الرباط بين الوصايا والحياة. بما أن الله وحده هو صالح، فالسؤال المطروح هو: ماذا يقول؟ ماذا يريد؟
حافظ يسوع (آ 18-19) على الوصايا (رج 17:5-20)، فطلب من الرجل أن يحفظ اللوحة الثانية في الدكالوغ (حول العلاقات الاجتماعيّة، خر 20: 12-16؛ تث 5: 16-20)، وأن يحبّ قريبه مثل نفسه كما يقول سفر اللاوّيين. في كل هذا نجد أربعة منعات (تبدأ مع "لا"، لا تقتل...) وأمرين ايجابيين (مع حرف العطف: أكرم أباك وأحبب قريبك). قد نعجب لأنه لم يذكر اللوحة الأولى حوله واجبات الانسان تجاه الله. ولكنَّ حفظ اللوحة الثانية يدلّ على الديانة الحقّة، وإلاّ كانت عبادتنا كاذبة. رج 5: 21-48 حيث تُذكر فقط وصايا اللوحة الثانية، رج مز 18:50-20؛ هو 4: 2.
كان الرجل قد سأل: أي (وصايا)؟ فهناك وصايا جديدة. 613 وصيّة. وهناك وصايا أهمّ من غيرها. هكذا كانوا يقولون. تبع مت ومر ترتيب الوصايا كما في النصّ الماسوريّ. "أحبب قريبك كنفسك". وهكذا مال يسوع بانتباه الرجل من نفسه إلى قريبه. هي عبارة تدوينيّة تعود إلى لا 19: 18 (انجيل توما 25). نشير إلى أن العالم اليهوديّ أورد مرارًا لا 18:19 (سي 13: 15، يوبيلات 7: 20؛ 20: 2= 36: 4، 8؛ وصيّة رأوبين 6: 9؛ وصيّة يساكر 5: 2؛ وصيّة جاد 4: 2: وصيّة بنيامين 3: 3-4). وكذلك فعل العهد الجديد (مت 5: 43؛ 19: 19؛ مر 12: 31 وز؛ 12: 33؛ روم 12: 9؛ 13: 9؛ غل 5: 4؛ يع 8:2). سأله أي الوصايا، وكأن هناك وصايا مطلوبة وحدها للخلاص. جاء يسوع يستبعد مثل هذا المفهوم.
أعلن الرجل أنه حفظ الوصايا (آ 20). ولكن ما زال ينقصه شيء. ما زال يطلب شيئًا آخر. "فقال له الشاب" (نيانسكوس- بين 21 و28 سنة كما قال هيبوكراتس). "حفظتها" (فيلاسو). فعل مستعمل في المراجع اليهوديّة (تك 26: 5؛ خر 20: 6؛ خر 17، "ش م ر" في العبريّة). ولكن حين زاد مت لا 19: 18، بيّن أن هذا الرجل يعتدّ بنفسه. فحفظُ وصايا الدكالوغ شيء، ومحبّة القريب كالنفس شيء آخر.
"ماذا ينقصني بعد"؟ تفرّد مت في إيراد سؤال ثالث في فم الشاب. رج مز 4:39 حسب السبعينيّة؟ مر 10: 21 (قال يسوع: ينقصك شيء واحد). ينقصك أن تكون لله لا لمامون، لا للمال.
لا يطلب يسوع صدقة، بل يطلب كل شيء (آ 21). لسنا أمام وصيّة من وصايا الدكالوغ، أو العهد القديم، بل أمام شيء جديد، أمام مهمّة ولّدتهما طبيعة التلميذ والبرّ المطلوب في 5: 20. "قال له يسوع". في مر 10: 21: "نظر إليه يسوع وأحبّه" (لا نجد هذا في لو أيضًا). "إن شئت أن تكون كاملاً". هذا ما يقابل مر 10: 21؛ لو 18: 22: "واحدة تنقصك".
نجد مسألتين أساسيتين في آ 21: طبيعة الكمال. ثم: هل هناك نوعان من المؤمنين؟ كان هناك اتجاه لجعل المسيحيين في درجات: المتقدّمون (الأفاضل) والآخرون. هؤلاء الذين يبيعون كل شيء. والآخرون الذي يظلّون على مستوى ثان من الفضيلة. ولكن كلنا مدعوّون للاقتداء بالله في حبّه. والشاب الغنيّ قد دُعي إلى اتباع يسوع في وضعه الخاص. ثم إن نظرة الانجيل مختلفة تجاه الغنى. وماذا تعني كلمة "تالايوس" (كامل)؟ هي تعني الكمال في الحبّ وفي الطاعة لنداء الله. يكون هذا الشاب كاملاً إن هو أطاع يسوع المسيح بكل قلبه. وهكذا، نكون جميعًا مدعوّين إلى مثل هذا الكمال في مختلف ظروف حياتنا.
"إذهب وبع مالك وأعطه للمساكين". ق 25: 14؛ لو 12: 23؛ 1 كور 13: 3 (هذا يعني أن بولس عرف خبر هذا المقطع). هناك أشخاص عديدون في تاريخ الكنيسة، قد ساروا بحسب هذه الوصيّة: أوريجانس، أنطونيوس الكبير. فرنسيس الاسيزي وآخرون غيرهم. وهذا ما فعلته الجماعة المسيحيّة الأولى (أع 43:2-47). "فيكون لك كنز في السماء". وهذا ما فعله ملك حدياب: ترك الغنى لكي يكون له كنز لا يفنى في العالم الآتي. "وتعال اتبعني". من أراد أن يناله الحياة يقدّم حياته ليسوع. ولا يتأخّر (8: 21-22).
لم تكن رغبة الرجل كافية لكي تدفعه إلى العمل (آ 22): هو مثَل عن ضعيفي الارادة. لم يكن في وسعه أن يتخلّى عن طمأنينة اعتاد عليها. ويتعلّق بتلمذة لا شيء أكيدًا فيها. مضى حزينًا، صامتًا. "لأنه كان ذا مال كثير". رج مر 22:10. لا يقال لماذا لم يستطع هذا الرجل أن يتحرّر من قيود المال. فالواقع هو هنا. والخطر يتربّص منا. يبقى علينا أن نعطي الجواب. والفشل ليس فشلاً على مستوى الايمان، بل على مستوى الطاعة التي تعبّر عن محبّتنا ليسوع المسيح. قال اكلمنضوس الاسكندراني: "لا إكراه عند الله. يدعونا ونحن نقبل أو لا نقبل".
ج- الغنى والخلاص (23:19- 26)
وانتقل يسوع من الرجل الغني إلى التلاميذ، ففسّر لهم ما حدث. "فقال يسوع لتلاميذه" (آ 23). أما مر فبدأ مع "نظر حوله" (باريبلابوماي. يرد ست مرات عند مرقس، ومرة واحدة عند لوقا. ولا يرد أبدًا عند متّى). "الحقّ أقول لكم". عبارة تدوينيّة. يعسر الاستناد إلى الغنى لا إلى الله وحده (13: 22؛ رج أم 15: 16-17؛ سي 31: 5-7؛ وصيّة يهوذا 19: 1-2؛ 1 تم 6: 10).
ذاك كان اعلان أول. وجاء إعلان ثان يكمّل الأول: "بل أقول لكم" (آ 24). ترك مت مر 10: 24 (فبُهت التلاميذ لأقواله) وزاد "بالين"، أيضًا. "إنه لأسهل أن يدخل جمل في ثقب ابرة". حاول بعضهم أن يخفّف من ضخامة الصورة. (1) بعض المخطوطات (59، 61) والترجمات (الأرمنية، الجيورجيّة) بدّلت الحركات فصار "كاميلوس" لا "الجمل"، بل الحبل (هناك حاشية نسبت إلى أوريجانس). هكذا قال كيرلس أسقف الاسكندريّة في شرحه للوقا 132.
(2) ووصل بعضهم إلى النتيجة عينها حين عادوا إلى الأصل الأرامي المفترض (ج م ل ا؛ رج في العربية الجمل أي الحبل الغليظ). (3) أورد ابن الطيّب هذا الرأي في تفسيره، وترك لفظة "الجمل" (الحيوان الداجن). (4) كانت هناك أسوار المدن مع مدخل ضيّق قرب مداخل واسعة. فالمدخل الضيّق يشبّه بخرم الابرة لأنه يصعب الدخول فيه.
ولكن لا حاجة للانطلاق من المعنى الكامل للنصّ، الذي قد يكون استند إلى مثل وقول مأثور. (1) يتحدّث النصّ عمّا هو مستحيل. نقرأ عن مثل هذه الصعوبة في أعمال بطرس واندراوس. وسّع الله الابرة بحيث مرّ فيها الجمل. صار اللاممكن ممكنًا مع الله. وقال ايرونيموس في كتابه ضد بلاجيوس (1: 10): يُشبّه اللاممكن بلاممكن آخر. (2) أخذ التقليد الآبائي إجمالاً بالتفسير الحرفيّ. اكلمنضوس الاسكندرانيّ، أوريجانس، الذهبيّ الفم، ايرونيموس، أوغسطينس. (3) الجمل هو أكبر حيوان في فلسطين. وهو عريض جدًا. وخرم الابرة معروف بأنه ضيّق جدًا. وهكذا نكون أمام تعارض كامل. (4) هذه الطريقة في الكلام معروفة لدى الذي تكلّم في 23: 24 عن الذين يبلعون الجمل. (5) نجد مقابلة مماثلة في تلمود بابل (البركات 55 ب): دخول الفيل في خرم الابرة. ونلاحظ أخيرًا أن هناك من ضمَّ خرم الابرة إلى الطريق الضيّق (13:7-14). كتب اكلمنضوس الاسكندراني في كتابه "أي غنيّ ينجو" (26/ 7): "يمرّ الجمل في مضيق وفي طريق ضيّق قبل الغني". رج أوريجانس، ضد قلسيوس 6/ 16.
نقرأ في تلمود بابل (يبموت 45 أ): "في ماداي، يستطيع الجمل أن يرقص على مكيال الحبوب". وفي "نشيد ربه" (حول 5: 2): "قال الله لبني اسرائيل: افتحوا لي يا أولادي باب التوبة ولو بصغر خرم الابرة، وأنا أفتح لكم أبوابًا واسعة تكفي العربات لتدخل فيها". ونقرأ في القرآن الكريم (سورة الاعراق 7: 40): "إن الذين كذّبوا باياتنا واستكبروا عنها لا تُفتح لهم أبواب السماء ولا يُدخلون الجنّة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط". نلاحظ هنا التأثير المسيحيّ.
"لما سمع التلاميذ بُهتوا جدًا" (آ 25). رج مر 26:10 أ. "إذن، من يستطيع أن يخلص"؟ كان الغنى علامة رضى الله: إذا كان الغني الذي باركه الله لا يستطيع أن يدخل الملكوت، فمن يستطيع؟ هنا نشير إلى بعض النصوص النبويّة التي ترى أنه لا يمكن لانسان أن يكون غنيًا إلاّ بالاحتيال على الآخرين وظلمهم. أش 10: 1- 2؛ حز 22: 23- 31؛ عا 2: 6-7؛ 5: 11- 12؛ مي 2: 1- 11. لم يفهم التلاميذ كلام يسوع.
"فحدّق يسوع إليهم" (آ 26). "ذلك مستحيل عند الناس". رج تك 18: 14؛ أي 10: 13؛ 42: 2 (حسب السبعينية)؛ زك 8: 6؛ لو 1: 37؛ مر 23:9. إن الفكرة التي تقول إنه لا يستحيل شيء "مع الله" ترتبط بما قيل عن الصلاة القديرة (17: 20). هنا تتقابل قوّة الله مع ضعف الانسان. الله وحده هو الذي يخلّص. وسبق وقلنا: الله وحده هو الصالح. الخلاص ممكن. ولكن قدرة الله لا تكفل الخلاص لأحد. إذا فهمنا 19: 26 كتأمين للغني (بقدرة الله سيخلص) فنحن نسيء الفهم. وما قيل في آ 26 لا يلغي ما قيل في آ 23-24 حول الالتزم بكلام الله والطاعة له.
د- المكافأة الاسكاتولوجيّة (27:19- 30)
وسأل بطرس: ونحن الذين تركنا كل شيء، ماذا يكون لنا؟ بدأ يسوع فهنّأهم. ولكن جاء بعد هذا المديح تحذير: إذا كانوا آخرين وصاروا أولين، فقد يكونون نموذجًا للذين كانوا أوّلين وصاروا آخرين.
"عندئذ أجاب بطرس وقال له" (آ 27). بطرس هو من يتكلّم باسم الاثني عشر: "ها قد تركنا". وماذا تركوا؟ الشباك. غير أنهم تركوا كل شيء. فعلوا ما فعل ابن طيما. لم يكن له إلاّ رداؤه وفيه بعض المال، فرماه عنه وقفز ذاهبًا إلى يسوع (مر 50:10).
"فقال لهم يسوع... متى جلس ابن البشر.." (آ 28). ق تث 18:17؛ دا 7: 9-27، مزامير سليمان 17: 28؛ رؤ 3: 21. إن الرباط بين العرش (الكرسيّ) والمجد قديم جدًا (1 صم 2: 8؛ أش 22: 23؛ إر 14: 21؛ 17: 12؛ زك 6: 13؛ حك 9: 10؛ سي 47: 11؛ 1 أخنوخ 9: 4؛ 45: 3؛ 51: 3؛ 55: 4؛ 8:61؛ 62: 2-3؛ 7:71). غير أن كرسيّ ابن الانسان لا يرد مرارًا. في 1 أخنوخ 62: 5 نقرأ:إ حين يرون ابن الانسان جالسًا على عرش مجده". وفي 69: 29: "ظهر ابن الانسان وجلس على عرش مجده". ولكننا نعود هنا إلى القرن الأول المسيحيّ، ساعة دوِّن مت.
تُنسب آ 28 عادة إلى المعين. رج لو 28:22-30. ففي المعين وُجد بعدَ مثل الوزنات (25: 14-30= لو 19: 12-27) شيء مثل هذا: "أنتم الذين تبعتموني. هيّأت لكم ما هيّأ لي أبي، أن تملكوا في ملكوتي وأن تجلسوا على اثني عشر كرسيًا، فتدينوا أسباط اسراثيل الاثني عشر". إن كان الأمر كذلك، يكون مت (1) قد وضع "التجديد" "بالنغاناسيا" (ليس لها ما يقابلها في الاراميّة). (2) ألغى "هيأت". (3) أضاف: "متى جلس ابن الانسان على عرش مجده" (رج 25: 31. نجد التوازي بين يسوع وتلاميذه). (4) زاد: "كاي اوتوي" (ليؤمّن الرباط مع الآية السابقة). (5) جعل "الاثني عشر" مع "الكراسي" لكي يُبرز التوازي بشكل أكبر.
ما معنى "لتدينوا" (كرينو)؟ هناك من قال: تسودون. أو تدينون. بمعنى أن اسرائيل سيُدان ويُحكم عليه بواسطة الاثني عشر في عهد التجديد أو عند الانقضاء. ولكننا نعود بالأحرى إلى "ش ف ط" العبريّ (قض 3: 10؛ مز 10: 10؛ دا 9: 12؛ 1 مك 73:9. يترافق القضاء مع النجاة والخلاص والنعمة) الذي يدلّ على سلطة خلال وقت من الأوقات (على مثال القضاة في اسرائيل). كما كان بالنسبة إلى الشعب الأول، كذلك سيكون بالنسبة إلى الشعب الثاني. رج صلاة: "شموني عشره" مع المباركة 18: "أعد قضاتنا كما في الأيام القديمة". ونتوقف عند النقاط التالية:
(1) ليس هناك من فكرة موازية لتلك التي تقول إن اسرائيل سيُجمع ليُدان ويحكم عليه. فتجميع القبائل الضائعة كان الرجاء الاسكاتولوجيّ العظيم مع العهد القديم نفسه. وما يدلّ على قدرة الله وأمانته معجزة التجمّع المفرحة. وندهش أن يكون نص متّى بعيدًا عن العالم اليهوديّ وهو الذي اهتمّ بيهود الشتّات (عد 21؛ حك 3: 7-8). (2) تأثّر 19: 28 بـ دا 7: 9-27. ولكن في دا، امتلك قدّيسو العليّ الملكوت والسلطة. (3) في وصيّة يهوذا (25: 1- 2) وفي وصيّة بنيامين (10: 7) سيقود الآباء (مثل ابراهيم) الاثنا عشر اسرائيل اللامجموع (وصيّة زبولون 10: 2). لا نعرف إذا كان هذا النصّ مسيحيًا أو لا. ولا نعرف متى دوّن. ولكن من الممكن ضمّ التجديد الاسكاتولوجي مع قيادة جسم مؤلف من اثني عشر شخصًا. (4) يبرهن لو 28:22-30 (وهذا ما يدلّ عليه السياق) على أن الانجيل الثالث فكّر في التلاميذ "كقوّاد". (5) في مت 20: 20-21، طلبت أم يعقوب ويوحنا من يسوع أن يجعلهما عن يمينه وعن يساره عند مجيء ملكوته. الصورة قريبة ممّا في 19: 28. إن 20: 20- 21 يُفهم في إطار "القيادة والحكم" ولاسيّما على ضوء 20: 25 (الرؤساء عند الأمم يتسلّطون عليهم). أما يكون من الأفضل أن نعود بـ 28:19 و20: 20- 21 إلى ذات الظروف؟ (6) إن مت 2: 6 يورد 2 صم 5: 2؛ 1 أخ 11: 2 (زعيم يرعى شعبي اسرائيل). هذا ما انتظره شعب اسرائيل في القرن الأول المسيحي. وهكذا نفهم مت 28:19.
ونستخلص أن 28:19 يتطلّع إلى التلاميذ الاثني عشر الذين يدخلون دخولاً ملوكيًا في قدرة الله فيصبحون "قوّادًا". وهناك تيّار يتحدّث عن مُلك الرسل في الكنيسة (مكاريوس المزعوم، عظة 6: 6). هذا ما سيكون لاسرائيل في المستقبل. ولكن أين يكون هذا المستقبل؟ هنا نجد "بالينجاناسيا": ولادة جديدة للعالم كما قال الرواقيون. تجسّدٌ جديد (نميسيوس الحمصي، في طبيعة الانسان 2)، عالم جديد بعد الطوفان (فيلون، حياة موسى 2: 65)، ولادة جديدة للمسيحيّة (تي 3: 5)، عودة بني اسرائيل بعد المنفى (يوسيفوس، العاديات 11: 66)، ما بعد الحياة (فيلون)، القيامة (اوسابيوس، التاريخ الكنسي 5/ 1: 62-63). وقيل "الدهر الجديد". "الدهر الآتي" (رج مر 10: 30).
كيف فهم متّى "الدهر الجديد"؟ هل فهمه متل بابياس، ويوستينوس الشهيد والسبتيين وعدد من الأصوليين، على أنه ملكوت المسيح على الأرض في المعنى الحرفي للكلمة؟ هل نحن أم استباق لأرض جديدة أو متجدّدة بعد مخاض ولادة اسكاتولوجيّة (كما عند الرواقيين؟ رج أش 65: 17؛ 66: 22، أرض جديدة؟ اليوبيلات 1: 29؛ 1 أخنوخ 45: 5؛ 72: 1؛ 2 بط 3: 13؛ رؤ 21: 1)؟ أم أمام استباق ولادة أولى وولادة ثانية (رؤ 20- 21؛ نجد في عزرا الرابع كلامًا عن مُلك مسيحاني موقت تتبعه القيامة والخق الجدي). نحن نشكّ في أن يكون في مت انتظاران اثنان، أو انتظار لملك مسيحاني وأرضيّ. نشير هنا إلى أن سقوط الكواكب من السماء (29:24) يتضمّن إن فهمناه حرفيًا، أرضًا جديدة وسماء جديدة، وهكذا يكون 24: 35 نبوءة عن انحلال محتمل للسماء والأرض (رج 18:5). في الواقع لم يكن مت مهتمًا في تقديم التفاصيل حول الوضع الكوسمولوجي (الكوني) المقبل. فالزمن المقبل يعني له شيئين: المسيح واسرائيل. و"التجديد" يعني العالم الذي فيه يملك المسيح ويُفتدى اسرائيل.
هل يعود 28:19 إلى يسوع؟ يتضمّن هذا القول أن يسوع اختار 12 تلميذًا، وأنه ربط رسالته بما في دا 7، وأنه نظر إلى قبائل الاسرائيل الاثنتي عشرة التي لم تجتمع بعد. هنا نضيف ثلاث نقاط. الأولى، إن اختيار متيا هو تاريخيّ ويتّخذ موقعه في أول أيام الكنيسة. وهو يعكس اعتقادًا بأن الانتظار الاسكاتولوجي يفترض وجود مجموعة الاثني عشر (وهذا الاعتقاد سبق الفصح والقيامة). (2) يبدو أن الاثني عشر لم يلعبوا دورًا كبيرًا في الحقبة السابقة للفصح. وهكذا فقول يعظّمهم بعد الصلب يبدو غير متوقّع. (3) إن الوعد يتضمّن يهوذا، وهذا ما لا ننتظره من تعبير مسيحيّ متحرّر من كل قيد. هذا من جهة.
ومن جهة ثانية، قدّم مت 19: 28 يسوع على أنه ابن الانسان المجيد، ساعة جعل لو 28:22-30 يسوع يتكلّم عن ملكوت يُعطى بيد الآب. ولكن، وحتى لو اعتبر يسوع نفسه المسيح وابن الانسان كما في دانيال (أو: ابن الانسان)، إلاّ أنه ما أراد أن يتكلّم عن نفسه صراحة. ثم إن يسوع في مز 10: 35-45، قد رفض لتلاميذه وعد المجد الاسكاتولوجيّ: "أما الجلوس عن يميني أو يساري، فليس لي أن أهبه"؟ فهناك صعوبة: يتضمّن مر 35:10-45 أن ليسوع سلطة بأن يمنح المقاعد في الملكوت الاسكاتولوجيّ، وأن تلاميذه سيكونون بقربه. فالجدال، ورفض يسوع يعنيان من يكون في مركز الشرف. من أجل كل هذا ميل إلى القول بأن يسوع هو الذي تفوّه بما في 28:19.
"فكل من ترك بيوتًا". وها هو يسوع يوسّع وعده ليضمّ لا بطرس ورفاقه بل جميع الذين تركوا البيت والعائلة "من أجل اسم" يسوع. ونلاحظ البنية التعاكسيّة:
آ 27- تركنا كل شيء
آ 27- وتبعناك
آ 28- أنتم الذين تبعتموني
آ 29 كل من ترك.
قال فيلون إن "اللاويين تركوا الأولاد والوالدين والإخوة الأقرب والأعزّ، ليربحوا حصة خالدة بدل تلك التي تهلك". بدأ مر 29:10: "ليس من أحد" (ومثله لوقا). ثم عدّد ما يتركه التلميذ. أما لائحة مت فتقوم بأمور شخصية وأشياء لاشخصيّة.
البيوت في مر: البيت. جعل مت الجمع بسبب المقابلة مع الحقول)
الأخ والأخت
الأب والأم
الزوجة (لم يذكر الزوج. وهكذا يتحدّث النص كن الرجال لا عن
النساء) والبنين
الحقول
"وكثيرون أولون...". وتنتهي هذه القطعة بقول تائه نجده في 20: 16؛ لو 13: 30 (المعين). قد نكون أمام قول مأثور جُعل في شكل تصالب: أول- آخر؟ آخر- أؤل. من هم الأولون والآخرون؟ الفريسيون والخطأة (23: 12). اليهود والأمم (أوريجانس في تفسير مت 15: 26-27. وتحدّث أيضًا عن الملائكة والبشر). الذين ارتدّوا باكرًا والذين تأخّروا (20: 1 ي). الأغنياء والفقراء (لو 16: 19- 31). الغني والكامل. الاثنا عشر وسائر التلاميذ. أما هنا فالغني هو مثال اللاطاعة: كان أول من دُعي، وسيكون الآخر في الدينونة. سوف يُستبعد. والأخير هو التلاميذ الفقراء، مثال الطاعة: سيكونون الأولين. سيدخلون الملكوت وينالون المكافأة. ونستطيع أن نفسّر 19: 30-20: 16 كتحذير للذين يحسبون نفوسهم أولين. هناك تهنئة ومديح يتبعهما تنبيه كما حدث لبطرس (16: 13-28).

3- قراءة إجماليّة
"وإذا انسان تقدّم إليه". من أين جاء هذا الرجل؟ لا نعرف. لقد بسّط مت ما في مر. في مت، هذا الانسان هو شاب (نيانسكوس، آ 22). في لو، هو شخص مرموق (أرخون، 18:18). ألغى مت "أيها المعلّم الصالح" (مر 17:10)، وحوّل بالتالي جواب يسوع في آ 17. شدّد مر على تواضع يسوع أمام الله. أما مت فأبرز سلطته في تفسير الشريعة (ديدسكالوس، المعلّم). هذا الاختلاف الذي أراده الانجيليون، لا يقلّل في شيء من تماسك الأخبار الثلاثة المتوازية حول سلطة يسوع (كلهم أوردوا "اتبعني" في شكل واحد)، التي هي خضوع متواضع له.
والحياة الأبديّة التي هي عبارة خاصة بالانجيل الرابع، تدلّ على حياة ترضي الله، فتستحق الوعد بالدخول إلى الملكوت الآتي. فضّل الرابينيون عبارة: الحياة في الدهر الآتي (7: 14). والسؤال الحاسم في نظر اليهوديّ هو ماذا يجب أن أعمل، لا كيف يجب أن أكون، لأن مصير الانسان يرتبط بطاعته للشريعة، لا يصفاته الباطنيّة.
اختلف جواب يسوع في مت (آ 17) عمّا هو في مر، ولكنه احتفظ بعنصرين رئيسيين: لا وجود للخير في ذاته. الخير هو ما يريده الله. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، كشف الله عن إرادته (مشيئته) في الشريعة. يبقى على الانسان إذن مسألة الطاعة. ما "روحن" يسوع معطيات مسألة طرحت في ألفاظ يهوديّة، بل ظلّ على مستوى التعليم الكتابيّ القويم. أما محاوره فطلب وحيًا أسمى، وحيًا سريًا، على مثال ما عند الاسيانيين الذين يطلبون "معرفة" جديدة. تحدّث يسوع عن حفظ الوصايا (تيراين). نتذكّرها لكي نعمل بها.
وطرح الشاب سؤاله، فدلّ على قلق دينيّ أمام الوصايا التقليديّة الكثيرة (آ 18)، وهو يطلب أكثر ممّا في الدكالوغ، الوصايا العشر. وجاء الـ التعريف أمام الوصايا كلفظة فقاهة مسيحيّة قديمة، فدلّ على شيء معروف. أورد يسوع بعض الوصايا، فذكر مجمل الدكالوغ ولاسيّما الوصايا الأولى. وبدا هذا الشاب الذي قد يدلّ على انسان يستعدّ للعماد، على أحد الموعوظين، يهوديًا ممارسًا، وقد حاول أن يكون أمينًا للشريعة. ولكنه يبحث عن شيء آخر، شأنه شأن عدد من الناس في عصره، ولاسيّما الاسيانيين.
"إن شئت أن تكون كاملاً..." (آ 21-22). تطرح هاتان الآيتان ثلاثة أسئلة يرتبط بها تفسير الخبر كله. أولاً، هل يحلّ الكمال (تالايوس، لفظة خاصة بمتّى، 5: 48) الذي يطلبه يسوع، محلّ الطاعة للوصايا التقليديّة؟ هل يكمِّلها، هل تكمِّله (كما في 17:5)؟ حين تبع هذا الشاب يسوع في هذا الظرف بالذات، تمكّن حقًا من الطاعة لله الذي أراد أن يخدمه. السؤال الثاني: ما هي العلاقة بين الأمر ببيع ما يملك و"اتبعني"؟ هل يرتبط الواحد بالآخر (بع لكي تتبعني). هل يتساويا في الأهميّة (بع ما تملك. ثم اتبعني)؟ هل يخضع الواحد للآخر (بع أولاً. اختر الفقر. بعد هذا تتبعني بشكل بديهيّ)؟ إن السياق والسرد الانجيليّ يجعلاننا نتبع الفرضيّة الأولى. الأمر الحاسم هو أن نتبع يسوع. والتخلّي عن الغنى هو شرط ظرفيّ. الاحسان إلى الفقراء هو نتيجة هذا التخلّي الذي لا معنى له إلاّ بحضور المسيح. والسؤال الثالث: هل اعتبر مت الأمر بالفقر كقاعدة عامة لجميع الذين يريدون أن يتبعوا يسوع؟ كلا. فهناك نداءات عديدة لا ترافقها هذه المتطلّبة. غير أن هذا المقطع كله يدلّ على أن الغنى، في الفكر الانجيليّ، هو "مَلك" يعارض أشدّ المعارضة الحياة المسيحيّة.
هنا نقرأ ثلاث عبارات متوازية (آ 24-25): تبع يسوع. دخل الملكوت. خلص. وتأتي صورة خرم الأبرة فتدلّ على شيء مستحيل. ما هو مستحيل هو خلاص الأغنياء (آ 26)، لا الخلاص بشكل عام، مع أن هذا الشاب الغنيّ هو صورة عن الانسان كما يراه يسوع. فالخبر الانجيلي كما نجده في الجماعات المسيحيّة الأولى يدلّ على أن قدرة الله قد عملت في يسوع وفي الرسل من أجل خلاص الأغنياء (زكا مثلاً).
وتدخّل بطرس (آ 27) من أجل تطبيق الخبر على التلاميذ. ماذا يكون في وقت التجديد؟ نحن أمام الخليقة الجديدة (لا أمام المعموديّة كما في تي 3: 5) التي ينتظرها العالم اليهوديّ في المستقبل القريب. هذا الانتظار (وهذا الرجاء) قد تحوّل تحوّلاً تامًا بالدور الذي لعبه يسوع كابن الانسان وديّان الأيام الأخيرة. انتظر اليهود جميع اسرائيل في مجد الأسباط الاثني عشر التي تنقّت بدينونة يكون فيها القاضي السماوي برفقة شيوخ الشعب (أش 3: 14). قارب النص عمدًا بين الرسل الاثني عشر والأسباط الاثني عشر. كان فريق يسوع مجموعة محتقرة حتى الآن، ولكنها ستعرف فرح النصر. إذا قابلنا كلمات يسوع هذه بالنصوص الاسيانيّة، نراها تتميّز ببساطتها وروحها الجديدة البعيدة عن كل انتقام.
وتوجّه الوعد إلى كل من يترك الآن كل شيء لكي يتبع يسوع أو يعترف باسمه. تبع مت نصّ مر، ولكنه حوّله تحويلاً عميقًا حين ألغى المواعيد المتعلّقة بالحياة الحاضرة: "يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الخالدة".

خاتمة
في النهاية نعود إلى اكلمنضوس الاسكندراني في كتابه: "أي غني يخلص"؟ قالت: "الخلاص لا يرتبط بأمور خارجيّة، أكانت كثيرة أو قليلة. صغيرة أو كبيرة، معروفة أو خفيّة. محترمة أو محتقرة. بل بالفضيلة، بالايمان والرجاء والمحبّة، بالأخوّة والمعرفة والتواضع والحقيقة". لا ينكر اكلمنضوس سحر الغني وخطره. لا ينكر أن يكون الغنى عائقًا في الطريق إلى الله. ولكنه يلاحظ أن هناك أمورًا أخرى تشكّل عوائق أيضًا. فالغنى لا يكفي من حيث المبدأ، بل يُستعمل حسب حاجات الساعة. "إجعلوا لكم أصدقاء بواسطة مال الظلم" (لو 16: 9). فالمشكلة هي في أننا لا نعود أسياد المال بل عبيدًا له (مت 13: 22). وقد كتب برنردس عن الرجل الغني: لم يعد يمتلك الأموال بل هي صارت تمتلكه. فلو امتلكها تحرّر منها. وهكذا ما يطلب من الانسان هو الحريّة من أجل الطاعة أي الحريّة لكي تصنع ما يتمنّاه الله، ما يأمر به، ما يوصي به. والشاب الغنيّ لم تكن له مثل هذه الحريّة. أما التلاميذ الذين تحدّث باسمهم بطرس، فقد تحرّروا حين تركوا كل شيء من أجل اسم يسوع. يبقى عليهم بعد أن صاروا أولين أن يحذروا لئلاّ يكونوا آخرين. عند ذاك ينطبق عليهم، كما انطبق على الفريسيين، مثلُ العملة الذين أرسلوا إلى الكرم.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM