الفصل العاشر: إلى أورشليم والهيكل

 

الفصل العاشر
إلى أورشليم والهيكل
ف 19-23
موقع     ف 19-23
سبق ورأينا كيف أن الخطب المتّاويّة طبعت بطابعها مراحل تكوين جماعة التلاميذ حول يسوع تكوينًا تدريجيًا. وقد تحقّق تكوين هؤلاء التلاميذ عبر أحداث عديدة تتوزعّ مسيرة طويلة لخبر داخليّ كان موضوع الأحداث السرديّة في مت. بيّن لنا ف 3-4 كيف أن الملكوت اقترب في شخص يسوع، المسيح وابن الآب الحبيب، الذي انضمّ إليه بعض الرجال والجموع الكثيرة. وجعلنا ف 8-9 نشهد قدرة تحويل ذاك الذي أخذ ضعفنا وأزال أمراضنا (8: 17= أش 53: 4)، فأعلن مجيء العهد المسيحانيّ.
غير أن أعمال المسيح حرّكت الشكّ والجدال، فانفتح عدد قليل من الناس على وحي ابن الانسان وتتلمذوا لعبد الله الحقيقيّ (ف 12-13). وأخيرًا أتاحت لنا ف 14-17 أن نكتشف مع امّحاء يسوع المتنامي أمام رفض خصومه، التفتح البطيء لجماعة التلاميذ. اجتمعوا حول ابن داود الذي يشفي الجموع ويشفيها، فرأوا فيه المسيح، ابن الله الحيّ، وفهموا في خطّ الأنبياء، أن ابن الانسان يذهب إلى الموت ويدعوهم معه في طريق الألم.
تردّدت هذه الجماعة في القيام بالخطوة اللازمة، فأرادت أن تقيِّم متطلّبات التزامها في خطّ يسوع: "من هو الأعظم"؟ "كم مرّة نغفر"؟ وقدّم يسوع جوابًا صوّر فيه الكنيسة كما يريدها ويؤسّسها: لا حدود للالتزام، لأن خيار الملكوت هو جذريّ ونهائيّ وغير مشروط.
ومع ذلك، ما هو الوجه التاريخيّ لهذه المجموعة الصغيرة من الناس الملتزمين حول يسوع الذي "يهاجر من الجليل ويذهب إلى منطقة اليهوديّة" (19: 1)؟ ما هو الواقع الملموس الذي يعيشه تلاميذ يسوع السائرون "ليصعدوا إلى أورشليم" (17:20-18)؟ لاشكّ في أن وجه هذه الجماعة يختلف عمّا قرأنا في ف 18. لهذا ستبدأ مرحلة جديدة مؤلّفة من خمسة فصول (ف 19- 23) فتبيّن لنا كيف أن طريق يسوع يسير مسيرة الألم في قلب حرّيات بشريّة حتى الخيار النهائي: القبول أو الرفض. إذن، إطار هذه المتتالية هو الطريق إلى أورشليم (ف 19- 20) ثم مدينة أورشليم مع الهيكل (ف 21-23).

2- البنية الاجمالية
خلال هذه الفصول الخمسة، بدا ملكوت السماوات الذي أعلنه يسوع في قفص الاتّهام لدى الخصوم. مقابل هذا، بدا يسوعُ الصاعدَ إلى أورشليم والداخل إليها بشكل الديّان الاسكاتولوجيّ الذي يدّعي على شعبه. موضوع المحاكمة موضوع متواتر في العهد القديم: فبعد "الجيل الفاسد" في البريّة (تث 32: 20)، أقام الشعب على الرب دعاوى عديدة على مدّ تاريخه (إر 2: 29)، وهكذا جرّبه. أما الله فدخل في محاكمة مع اسرائيل (هو 4: 1؛ 12: 3؛ أش 13:3؛ مي 6: 2؛ إر 9:2؛ مز 3:50-7)، قبل أن يدين جميع الأمم (إر 25: 31) مع آلهتهم الكاذبة (أش 41: 21-24؛ 43: 8-13؛ 44: 6-8).
استلهم مت هذه النصوص متوسّعًا في خبره بشكل قريب من مر، ساعة كانت الموازاة مع لو 18-20 متقطّعة. وهكذا فإن مت 19-21 يقابل مر 15- 12 تقريبًا مع بعض مقاطع خاصّة: العفّة الطوعيّة (19: 10-12)، مثل عمّال الكرم (20: 1-6)، مثل الابنين (21: 28-32). ورافق مت الانجيل الثالث مع مثل وليمة العرس (لو 14: 16-14؛ مت 22: 141)، و"الويلات" ضدّ الكتبة والفريسيين (13:23-36؛ رج لو 11: 42-52). غير أنه جهل، شأنه شأن مر، حدث زكا (لو 19: 1-10). وسنجمع في قراءتنا العناصر المختلفة التي تعطي هذه الفصول شكل محاكمة مضاعفة. غير أننا نلاحظ منذ الآن أن ف 23 يتّخذ شكل اتهّام قاسٍ بعد الجدال الحادّ في 22: 15-46.
ونقسم نصّ هذه الفصول الخمسة ثلاثة أقسام، حيث يكشف كل قسم وضعًا يختلف كل الاختلاف عن القسمين الآخرين.
أ- القسم الأول (ف 19- 20)
يتسجّل القسم الأولى في تضمين كبير يستعيد موضوع "الجموع الكثيرة التي تتبع" يسوع (19: 2؛ 20: 29-34؛ رج 8: 1). ونلاحظ أيضًا استعادة فعل "انتهر" (ابيتيمان) في البداية (19: 13) والنهاية (20: 31). أما اللقاءات مع يسوع خلاله هذين الفصلين، فتتمّ كلها على الطريق من الجليل إلى أورشليم عبورًا بالاردن (19: 1) وأريحا (20: 29). وهكذا جاء إلى يسوع الفريسيون (3:19)، ثم الأولاد الصغار (13:19): لقاءان تحيط بهما الأداة "هناك" (إكاي، 19: 2، 15). بعد ذلك، قدّم نفسَه رجلٌ يهتمّ بـ "الحياة الأبديّة" (19: 16، 29). أما التلاميذ الذين كانوا قد تدخّلوا من قبل (19: 10، 13)، فسألوا الربّ كلهم (19: 25) ثم بواسطة بطرس (19: 27).
كل هذا يعطي يسوع مناسبة التوسّع في مثل العمّال الذين أرسلوا إلى الكرم مع تضمين يقول: "الأولون آخرون والآخرون أولون" (19: 30؛ 20: 16). وحين صعد يسوع إلى أورشليم، أخذ على حدة الاثني عشر حيث طالب اثنان منهم بمكانة الصدارة (20: 20) فاستاء العشرة الأخرون (20: 34). وعبارة "ابن الانسان" تشكّل التضمين هنا (18:20، 28). وفي النهاية نجد لقاء الاعميين قرب أريحا حيث يكوّن فعل "تبع" تضمينًا قصيرًا (29:20، 34). نلاحظ منذ الآن أن كل هذه اللقاءات تتوخّى التبديل في عقليّة الجماعة الرسوليّة: هي حركة الذين يتبدّلون في طريق الحياة لكي يصيروا مثل الأطفال (3:18).
ب- القسم الثاني (ف 21-22)
يبدأ بالدخول المسيحاني إلى أورشليم. استعاد متّى نبوءة زكريا (زك 9:9)، فتساءل كيف سوف تستقبل "بنتُ صهيون" "ابنَ داود" (5:21). ونجد ثلاث مجموعات مستقلّة تتيح لنا أن نعطي جوابًا عن هذا السؤال: فعلات يسوع (21: 1-27). أمثال (18:21-22: 14). جدالات (22: 15-46). وفي الوقت عينه، ما زال التوتّر يتنامى بين يسوع والسلطات الرسميّة في أورشليم.
نلاحظ هنا بعض المحطّات في البنية الأدبيّة: تتلاحم المجموعة الأولى حول مفردات مثل "أورشليم" (21: 1، 10)، "المدينة" (21: 10، 17، 18)، "الهيكل" (21: 12 مرتين، 14، 15، 23)، وتصل بنا إلى سؤال حول "سلطة" يسوع (تضمين في 21: 23، 27). وتضمّ المجموعة الثانية أربعة أمثال حيث تتميّز ثلاثة بتضمين: "ندم بعد حين" (29:21، 32). "سمع الأمثال" (21: 33، 45)، "دعا إلى العرس" (22: 2، 9). وأخيرًا ترتسم الجدالات بشكل ثابت بتدخّلات تلاميذ الفريسيين والهيرودوسيين (15:22)، والصادوقيّين (23:22)، والفرّيسيّين مع معلّمي الشريعة (22: 34- 35) والفريسيّين الذين سألهم يسوع (22: 41). وهكذا برزت مواضيع: قيصر، القيامة، الشريعة (أو: الناموس)، المسيح ابن داود.
ج- القسم الثالث (ف 23)
يقدّم خطبةً فيها يعطي يسوع مبدأ التمييز الحقيقيّ (آ 1-12) قبل أن يشجب بقوّة رياء الكتبة والفرّيسيين (آ 13-32). وينهي كلامه بالدينونة (آ 33-36) ويصوّر الحكم الذي يمكن أن يصحّح (آ 39) ضد أورشليم (آ 37-39).

3- دراسة تفصيليّة
قبل أن نحلّل بالتفصيل المقاطع التي تتضمّنها هذه الفصول، نلاحظ الحيّز الهام الذي يتّخذه لقب "ابن داود" الذي يعود إلى يسوع (20: 30- 31؛ 21: 9-15؛ 22: 42-43، 45)، والعودة المثّلثة إلى مز 118 (21: 9، 42؛ 23: 39). كل هذا يعطي هذه المتتالية تماسكًا حقيقيًا ووحدة موضوعية، فيُضمّ الموضوعُ المسيحاني، موضوعُ مجيء ابن داود، إلى موضوع الخلاص الالهيّ الذي يحتفلون به في عيد المظالم (رج لا 23: 40؛ نح 13:8-18).
أ- تبدّل في خطّ الانجيل (3:19-20: 34)
تنطبع هذه المجموعة (كما قلنا) بعدد من اللقاءات جعلت مجموعة التلاميذ تفكّر في الوضع الملموس لجماعتهم. ولا يزال يسوع يعمل على تنشيط هذا الوعي وتعميقه، فيدعوهم دومًا إلى إن يروا المسافة التي تفصل الملكوت، كما يعلنه هو، عن الانشادادات التي تعشيها هذه الجماعة الملموسة التي يقودها في الطريق إلى أورشليم.
إن النصّ الموازي في مرقس يشكّل المرحلة الرابعة في إنجيله (مر 8: 31- 10: 31) وهي مرحلة فقاهة تتمحور حول "اتّباع المسيح" مع المتطلبات التي يفرضها هذا الاتّباع: هي طريق ابن الانسان وتلاميذه للدخول إلى الملكوت. أما لمسة متّى الخاصّة فتظهر بشكل خاص في قطعة جُعلت في قلب هذه المجموعة: مثل العمّال الذين أرسلوا إلى الكرم (19: 30- 20: 16). ففي المحاكمة التي تجعل عمّال الساعة الأولى يواجهون ربّ الكرم ساعة دفع الأجور، يدلّ الانجيليّ بوضوح على موقف الارتداد الذي يطلبه الانجيل: "الأولون يكونون آخرين، والآخرون أولين" (19: 30؛ 20: 16). وهذا صدى لخطبة الجماعة حيث الأكبر كان الأصغر (3:18). وحيث يكون خروف واحد أهمّ من مئة خروف ظلّوا في الحظيرة (18: 13).
إذا كانت المتتالية كلها قد حصلت في خلفيّة الجموع (2:19؛ 29:20، 34، الجموع هي حاضرة وشاهدة)، فلأن مجموعة التلاميذ ليست بدعة معزولة ومنغلقة على ذاتها. ففي لقاءات الحياة، يقود يسوع كنيسته مواصلاً عمل الشفاء الذي هو العلامة الدائمة (في نظر متّى) لمجيء الأزمنة المسيحانيّة.
وساعة كتب متّى إنجيله، كانت النزاعات بعدُ حيّة بين اليهود والمسيحيّين. ونحن نراها حاضرة في التدوين المتّاويّ الذي يشدّد على القول بأن ينبوعها هو في يسوع الذي ما خاف بأن يضع المعارضة في قلب العاصمة الدينيّة وأمام السلطات الرسميّة.
إذن، يتضمّن ف 19- 20 خمس وحدات. تصوّر كل وحدة وجهة من هذا التبدّل في خط الانجيل.
- الحب المستحيل (3:19-15): سؤال طرحه الفريسيون على يسوع بمناسبة الطلاق.
تدخّل التلاميذ "وزجروا" الأطفال الذين استقبلهم يسوع.
- تجرّد مستحيل (19: 16-29): سؤال طرحه الرجل الغنيّ حول الحياة الأبديّة. ثم حوار بين يسوع وتلاميذه. وفي النهاية جواب على تساؤل بطرس.
- نعمة نتقبّلها (19: 30-20: 16): مثل العمّال الذين أرسلوا إلى الكرم مع مرحلة إرسال العمّال والجدال حول الأجرة.
- الأمكنة في الملكوت (20: 17-28): أعلن يسوع الآلام للاثني عشر، فقدّم ابنا زبدى طلبتهما: استاء العشرة الآخرون. فأجاب يسوع.
- انفتحت العيون العمياء (20: 29-34): على الطريق القريب من أريحا، "زجر" الجمع أعميين. ولكن شفاهما يسوع ابن داود.
أولاً: الحبّ المستحيل (3:19- 15)
مع سؤال الفريسيين حول الطلاق، بدا فشل الحبّ في قلب الحياة الزوجيّة. نحن هنا أمام أول نواة حيث "يجتمع اثنان باسم يسوع" (18: 20).
تدخّل الفريسيون فاتّهموا يسوع واتّهموا فيه واقع الملكوت. دعوه إلى محاكمة. وقدّم الانجيل (في مت وفي مر 3:10) هذا التدخّل "كتجربة"، "كامتحان" (بايرازاين، آ 3؛ رج 4: 13؛ 16: 1؛ 22: 18، 35). "هل يحقّ للانسان أن يطلّق امرأته لكل علّة" (19: 3)؟ سؤال مهمّ. فنحن أمام تفسير تث 24: 1. في القرن الأول المسيحيّ، تقابلت مدرستان. مدرسة هلاّل التي تقول بالطلاق لأيّ علّة كانت. ومدرسة شمعي التي كانت قاسية فلا تقبل كعلّة للطلاق إلاّ بسلوك مشين، بالزنى.
تجاوز جواب يسوع مستوى النزاع بين جماعة هلال وجماعة شمعي. ولكنّه أخذ بأسلوب الرابينيّين فأورد خبر الخلق كما في الكتاب المقدس (تك 1: 27؛ 2: 24). وهكذا حدّد موقع الجدال على مستوى رفيع هو مستوى إرادة الخالق الأولى. إن الحب الذي يربط بين الرجل والمرأة يوحّد ولا يفصل، لأنه آت من الله. بما أن الله واحد، فالحبّ هو واحد (تث 4: 35؛ 6: 4). وهكذا نجد هنا جذريّة البرّ الجديد الذي أفيض في الجماعة (5: 20)، كما في عظة الجبل التي توسّعت في ما توسّعت، في العلاقات بين الرجل والمرأة (5: 27-32).
إذن، تمييز الرجل عن المرأة يجد أصله في الخالق. ليس هو فقط ظاهرة في الطبيعة. إنه إرادة الخالق في الحياة والوحي. وإذا كان مت 19: 5 أضاف تك 2: 24 كما نجده في مر 7:10 (يترك الرجل أباه وأمّه ويتّحد بامرأته فيصير الاثنان جسدًا واحدًا) فلكي يشدّد على أن إرادة الله هي التي توحّد الرجل بالمرأة. فحين يتّحدان يوحّدهما الله. يصبحان تحت نير واحد: وما يصيب الواحد يصيب الآخر (سنزوغنيناي في آ 6)، إذن، جواب يسوع واضح: نداء إلى زواج لاطلاق فيه كما في البدء. لا يستطيع الرجل الطلاق لأيّة علّة. نفي قاطع بعد أن وصلت الجدالات الرابينيّة إلى سماح تام. وهكذا تجاوز يسوع بشكل لا يُحدّ كل اعتبارات الرابينيين.
وهناك نصّ من النبيّ ملاخي يسير في الخطّ عينه: من طلّق امرأته حطّم عهد الله مع شعبه (2: 14-15)، لأن العهد المعاش هو الذي يوحّد الزوجين (هو 1-3؛ أش 1: 21-26؛ إر 2: 2؛ 3: 1-12؛ مز 16؛ 23). أعاد يسوع العهد، وفيه انكشفت امكانيّة العيش معًا "في جسد واحد". يبقى أن نعي المسافة التي تفصل الانسان عن الله، والتي لا يملأها إلاّ حضور الملكوت في شخص يسوع. هو وحده يستطيع أن يجعل المستحيل ممكنًا، ويعلّم الانسان كيف يكون الحبّ الحقيقيّ مع الاحترام المتبادل.
غير أن جواب يسوع هذا يعارض، على ما يبدو، شريعة موسى التي تتحدّث عن كتاب طلاق. أما يسوع، موسى الجديد، فاستعاد متطلّبة الشريعة في ينبوعها الذي هو حبّ الله الذي يعاهد الانسان ويعطيه أن يتجاوز العجز البشريّ. أجاب يسوع: إن كان موسى قد سمح لكم بذلك، فبسبب قساوة قلوبكم (سكليروكرديا، آ 8). بسبب عدم طواعيّتكم لكلمة الله.
إذن، نحن قبل كل شيء على مستوى الايمان. فالشريعة التي يعبّر عنها تك 1: 27؛ 2: 24 لم تتبدّل أبدًا. موسى قد كيّفها مع وضع من العصيان وعدم الطواعيّة. والزواج الأول لا يلغيه حتى الزنى. فيسوع فصل بين إبعاد المرأة وامكانيّة الزواج مرّة ثانية، بين إبعاد المرأة والطلاق، وهكذا كان حديث عن الافتراق بين الرجل والمرأة. ولكن يمكن على مستوى الجماعات المتّاويّة أن تكون هناك بعض التسويات أو المساومات دون أن تمسّ بالطابع المطلق للمبدأ الذي وضعه يسوع: على مستوى الدعوة كما هي في الابتداء وفي الانجيل، لا مكان للطلاق. ولكن الواقع هو غير ذلك والانسان يبقى انسانًا. لهذا كانت رعاية المطلّقين الذين نستقبلهم في الكنيسة كالصغار، وربّما كالضّالين.
أمام هذا "الحبّ المستحيل" كانت ردّة فعل التلاميذ عنيفة: "إذا كانت هذه حالة الرجل مع المرأة، فأفضل له أن لا يتزوّج" (آ 10). إن هذه الآية التدوينيّة في مت اعتبرت تراجعًا أمام متطلّبة لا تحتمَل، يفرضها زواجٌ لا يُحلّ. في الواقع، حمل كلام التلاميذ جوابًا ليسوع تفرّد متّى فأورده: هو تعليم حول العزوبة التي نقبلها "من أجل ملكوت السماوات" (آ 12). هذا رأي. وهناك رأي آخر يرى أن يسوع يسير في خطّ الملاحظة التي قدّمها التلاميذ، لأنّه لا يرى العلاقة بين آ 11-12 وآ 3-9.
حين نقابل بين ردّة فعل التلاميذ وردّة فعلهم بعد ذهاب الشاب الغنيّ (آ 25-26)، رأى بعض الشرّاح (ونحن منهم) أن يسوع تابع حديثه عن الطلاق الذي يستحيل على البشر ويكون ممكنًا لله: لقد أعطي لجماعة التلاميذ أن تفهم أسرار الملكوت (رج 13: 11). وهكذا نكون أمام ملاحظة خاصّة من مت. فإليهم يوحي يسوع عمق هذه الأسرار بالقول حول الخصيان الذي يبدو بشكل مثل من الأمثال: هناك أناس خصاهم الله، أي وُلدوا خصيانًا. وهناك أناس خصاهم الناس. وهناك فئة ثالثة غير متوقّعة، شأنها شأن الملكوت: "هؤلاء الذين خصوا نفوسهم من أجل الملكوت" (آ 12).
من هم هؤلاء؟ الخصي هو الذي لا يستطيع أن يقوم بعمل الانجاب. قد يكون ذاك الذي نذر العفّة. وقد يكون بالأحرى (في هذا السياق) ذاك الذي انفصل عن امرأته وظلّ يعيش في العفّة، فلبث أمينًا للرباط الزواجيّ رغم كل شيء. إنه خصيّ بالنسبة إلى سائر النسوة. أقحم متّى هذا القول هنا فدلّ على أن الكنيسة الأولى فهمت المعنى العميق للزواج كسرّ: عطيّة الأمانة الزوجيّة هي عطيّة العفّة، ونستطيع منذ الآن أن نتقبّلها من أجل حضور الملكوت في يسوع والرجاء الذي يعلنه.
هناك من طبَّق هذا النصّ على الحياة الرهبانيّة. ولكن إن أتاح لنا النصّ هذا التطبيق، فهو أوسع من ذلك. فحيث تسامحت شريعةُ موسى، جاء الملكوت متطلّبًا، ودعا إلى جماعة الحبّ التي لا تحلّ داخل الحياة الزوجيّة، وشجب كل فعل قد يدمّر وحدة الزواج المقدّسة كما أسّسها الخالق. ففعل الافتراق، مهما كان شرعيًا في بعض الحالات، لا يلغي الوحدة. وفي خطّ هذا التفكير نستنتج بالنسبة إلى الذين أعطي لهم أن يسمعوا هذا النداء، أن العفّة التامّة "من أجل الملكوت" تقود الحبّ الزواجي الذي لا يحلّ إلى ملء انفتاحه. إذن الخصيّ هو ذاك الذي يدرك إلى أيّ حدّ يلزمه الحبّ الحقيقيّ فيتقبّله من الله عبر ضعف البشر.
ومقطوعة استقبال الأطفال (آ 13-15) تلقي ضوءًا على موضوع الزواج. يجب أن نصير أطفالاً لندخل إلى الملكوت (3:18-4). ولكن التلاميذ لم يدركوا هذا الواقع. ولهذا زجروا الأطفال (آ 13) على مثال الرجال الذين يطلّقون نساءهم (آ 3). فالحبّ الأمين المتقبّل "نقتبله" من يسوع الذي هو واقع الملكوت الحاضر وسط البشر (18: 2، 20). ولكن إذا أردنا أن نقتبله، نقبل أن نصير صغارًا. وهذا أيضًا يُعطى لنا. ونحن نفهم هذا العطاء من خلال حدث الشاب الغني.
ثانيًا: تجرّد مستحيل (16:19- 29)
ذاك الذي جاء إلى يسوع في مت هو شاب (نيانسكوس، آ 22)، وهو يطرح سؤالاً بريئًا على ما يفعل التلميذ. سمّى يسوع "المعلّم" (ديدسكالوس)، وهو لقب لا يستعمله التلاميذ الحقيقيّون. سأل ماذا يجب أن يفعل لتكون له الحياة الأبديّة. "الصالح" ليس لفظة مجرّدة عند اليهوديّ. بل يدلّ على الله بالذات. وفي هذا الخط أجاب يسوع جوابين: بما أن الله هو "الصالح"، فيجب أن نحيا حسب الله لكي نقاسمه حياته. وطريق صلاحه الرحيم هو الشريعة والوصايا. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، شدّد يسوع في جوابه على "الكامل" الذي يقابل "الصالح". فالكمال كما عرفنا في عظة الجبل (5: 48) هو أمانة تامّة للشريعة في تمامها الذي هو يسوع.
ما يطلبه التلميذ عادة من الرابي، ليس فقط مبدأ ونورًا، بل قاعدة حياة شخصيّة. فبجانب الشريعة المكتوبة (بما فيها الوصايا) هناك الشريعة الشفهيّة التي نقلها المعلّمون فجاءت نداء شخصيًا يعبّر عن متطلّبة ملموسة لمبدأ قيل فيما قبل.
فالكمال كما يقول متّى، هو متطلّبة الشريعة كما أتمَّها يسوع. فمن أدرك ذلك دخل في منطق اتّباع يسوع الذي لا يقبل بتردّد أو تراجع. من هنا ينتج أن الفقر الانجيليّ الذي طُلب من هذا الشاب، ليس "نصيحة" وحسب. إنه أمر ملحّ على مثال الحب الذي يجعل الانسان خصيًا من أجل الملكوت. فالفقر لا يمثّل طريقًا فضلى وآمنة نسير فيها إذا شئنا، ويكتفي يسوع بأن ينصح بها، بل هو شرط مطلق لكمال إجباريّ ساعة يصبح الاحتفاظ بالمال عائقًا في طريق الخلاص.
عند ذاك، من تجرّد عن أمواله دخل في جماعة "الصغار" الذين يجمعهم يسوع. وردت مرتين عبارة "إذا شئت" (آ 17، 21)، فأطلقت الشاب إطلاقًا يتيح له أن يتقبّل الالتزام في خطى يسوع. رفض الحريّة التي قُدّمت له فابتعد حزينًا (ليبومانوس، 19: 22) كالتلميذ الذين أعلن لهم يسوع موته القريب (23:17)، وكرفاق العبد الذي لم يرحم رفيقه (18: 31). لامسته نعمة الملكوت في قلبه وجعلته يتحقّق أنه لا يستطيع أن يتجرّد من أمواله ويكون صغيرًا.
وهنا أيضًا، لسنا بشكل مباشر أمام نداء إلى الحياة الرهبانيّة، بل دعوة توجّه إلى كل انسان مهما كان الجواب الذي يمكن أن يعطيه الآن. هي دعوة إلى تقبّل الحبّ وعيشه في التجرّد. دعوة إلى ترك "الجزء" الذي نملك لنتقبّل "الكلّ" الذي يجب أن نتقبّله دون حدود. سأل الشاب عمّا يجب أن يفعل لينال الحياة الأبديّة (آ 16). أجاب يسوع التلاميذ فقلب النظرة رأسًا على عقب: يجب أن نترك كل شيء لنتقبّل كل شيء.
هذه الاستحالة في أن نكون صغارًا لكي ندخل إلى الملكوت، قد شدّد عليها يسوع (آ 23-24) واستعادها التلاميذ المدهوشون. "من يمكنه أن يخلص" (آ 25)؟ فقال يسوع وألحّ: "هذا غير ممكن عند الناس. أمّا عند الله فكل شيء ممكن" (آ 26؛ رج تك 18: 4؛ أي 42: 2؛ زك 8: 6). ليس الملكوت خيرًا نربحه أو نمتلكه. نحن نتقبّله في نعمة مجّانيّة. نحن هنا في قلب وحي الملكوت والخيار الذي يتطلّب (16: 23): أو نموت عن نفوسنا لنتقبّل ذاتنا كلها من الله، أو نميت ما يجب أن يتمّ فينا.
هل أدرك التلاميذ هذا؟ كلا، على ما يبدو. وهذا واضح من سؤال بطرس الذي ما زال يهتمّ بالأجر (آ 27). فعند مت وحده (رج مر 10: 32؛ لو 18: 31) يفتتح هذا السؤالُ موضوعَ المجازاة الذي سيتوسّع فيه مثل العمّال الذين أرسلوا إلى الكرم. لهذا تُذكر الدينونة والدور الذي يلعبه التلاميذ كمساعدين للديّان السامي، وجالسين على عروش مهيّأة (دا 7: 9) في "التجديد" (بالنجيناسيا، آ 28؛ رج لو 22: 28- 30 في إطار العشاء الأخير).
ترك الاثنا عشر كل شيء ليتبعوا يسوع: العائلة، المحيط الدينيّ، الأموال. فالتزامهم غير المشروط من أجل الملكوت يحكم منذ الآن على موقف اسرائيل. بنعمة من الله كانوا الآخرين ليرثوا مواعيد كفلها الله لشعبه، وتجد كمالها في جماعة يسوع، في الكنسة. لا ينكر يسوع استقامة تجرّدهم ولا مشاركتهم في الملكوت الاسكتولوجيّ (27:16؛ 21: 43)، ولكنه يلقي الضوء على الشرط الحقيقيّ لهذه المشاركة. أن نترك كل شيء لكي نتقبّل مئة ضعف (آ 29). إذن، لا نعتدّ بأولويّة ولا بأقدميّة، لأن "كثيرًا من الأولين يكونون آخرين، وآخرون أولين" (19: 30؛ رج 20: 16). هذا الكلام يتوجّه إلى بطرس والتلاميذ كما يتوجّه إلى جماعة متّى وإلى جماعتنا.
ثالثًا: نعمة نتقبّلها: العمّال في الكرم (19: 30- 16:20)
من الواضح الآن أن جماعة الصغار التي تشكّل الملكوت في مسيرته، يجب أن تتقبّل ذاتها كلها (من الله)، لأن الانسان لا يستطيع بقواه أن يدخل إلى الملكوت هـان كان صاحب أموال كثيرة. فالقول حول الأولين والآخرين (19: 30) الذي استعيد به مثل العمّال الذين أرسلوا إلى الكرم (20: 16) يدلّ على تبدّل تمّ بكلمة الله وعمله في قلب الضعف البشريّ. نتخلّى عن أن نكون كبارًا لنصير صغارًا، نقبل أن ينال الآخر ما ناله الأول، هذا هو التعليم الذي يجب أن نسمعه: الملكوت عطيّة مجّانيّة، نعمة نتقبّلها. وأمامه تتحطّم مقولاتنا: لم يبقَ لنا سوى حريّة تقبل أو ترفض.
في العهد القديم، مثّلث الكرمة شعب اسرائيل الذي هو موضوع عناية الله ودينونته (أش 5: 1-7؛ إر 2: 21؛ 5: 10؛ 8: 13؛ 12: 10؛ حز 19: 10- 14؛ 15: 6-8). وكما في مثل الزؤان (13: 38)، يبدو أن الكرمة تدلّ على واقع أوسع من اسرائيل التاريخيّ. فواقع الملكوت مفتوح على الجميع (العمّال في الساحة) وفي كل وقت (مختلف ساعات النهار). ولكن إذا أردنا أن ندخله، يجب أن نتقبّل دعوة من "ربّ البيت" (أويكودسبوتيس، 20: 1، 10) الذي هو ابن الانسان (10: 25؛ 13: 27). أو هو الآب (21: 33). أو التلميذ (52:13؛ 43:24). يرينا المثل "ربّ البيت" مهتمًا بإعطاء عمل للعمّال، أو بفتح كرمه لكي يدخله الجميع.
وفي ساعة دفع الأجور، نالوا جميعًا الأجر عينه كما تمّ الاتّفاق عليه في الصباح مع العمّال الأولين (آ 2). غير أن هؤلاء الأولين اعتبروا نفوسهم مظلومين حين رأوا الآخرين ينالون ما نالوه هم. ونحن نقتدي بهم طوعًا لأن الطريق التي بها تصرّف "ربّ الكرم" (آ 8)، تبلبل سلّم التقييم من أجل أجر عادل وتصدم حسَّنا على مستوى العدالة الاجتماعيذة. ولكن حين نجعل معاييرنا ومقاييسنا على مستوى الخلاص، نكون قد أخطأنا في طرح السؤال: فلا حديث في الملكوت عن استحقاقات شخصيّة نقدّرها بعدد ساعات العمل. فعلينا قبل كل شيء أن نتقبّله كنعمة. هي نعمة أن نعمل في الكرمة. هي نعمة أن نُدعى إلى الملكوت. فالمهمّ في نظر الله ليس أن نتعب طويلاً ونشقى، بل أن نقبل أن نعمل في كرمته.
ولقد دلّ جواب ربّ الكرم للعمّال على سخاء الله الذي يمنح الجميع ذات العطيّة الخارقة والمجّانيّة التي اسمها الخلاص. فحبّ الله يدرك جميع البشر بلا تمييز. فالمهمّ هو أن نتقبّله. والصغار وحدهم، والذين فهموا التبدّل في خط الانجيل، لا يقيسون صلاح الله (آ 15؛ رج 19: 16-17) بمقاييس العدالة البشريّة (التي توزعّ على كل انسان ما يستحقّ من خيرات)، بل يقبلون مجّانيّة الحبّ. لم يعد هناك من صغير أو كبير على المستوى البشري، لم يعد من أول أو آخر. فكلّهم متساوون في الحبّ الفريد الذي بهم يحبّ الله كل واحد منهم. إذن الأجر هو هو في الوقت عينه، ولكنه يختلف لأنه يرتبط بتقبّلنا له. فالصغار أمام الله ينبغي أن يكونوا صغارًا أمام إخوتهم. ففي نظر حنان الله لا نستطيع أن ننظر إلى أخينا بعين شرّيرة.
حين جعل مت القول حول الأولين والآخرين في بداية هذا المثل ونهايته، قرأ المثل في منظار لاهوت التتمّة، تتمّة شعب اسرائيل في يسوع. وسترد أمثال ف 21-22 داخل هذه النظرة عينها. فالمدوّن الانجيليّ جعل تعليم يسوع اللاهوتيّ في خطّ كنسيّ. فحين تقتبل كنيسة يسوع الآخرين (أي العشّارين والبغايا، 21: 31؛ ثم الوثنيين 8: 11؛ 27:15) تُظهر أنها تتمّة المواعيد المعطاة للأولين أي لاسرائيل الذي قبل المسيح. فالتجمّع المسيحانيّ للأمم (أش 2:2-4؛ 45: 14-17؛ 20-25) قد تدشّن مع يسوع بحيث لا يستطيع اسرائيل أن يطالب بامتياز الأوليّة في الاختيار. فالاختيار يتوجّه في الواقع إلى جميع البشر.
ووُضعت آ 16 ب هنا بعد أن أخذت من 22: 14. هي قوله عن المختارين القليلين في خطّ البقيّة الباقية في العهد القديم (عا 12:3؛ 8:9- 10، أش 4: 2-3؛ 13:6). هذه البقيّة هي الشعب المنقّى في الزمن المسيحاني. هذا يعني أن النداء يتوجّه إلى الجميع. يبقى على كل واحد أن يقبله لكي يصير "مختارًا".
رابعًا: الأمكنة في الملكوت: الألم والخدمة (17:20-38)
ليس الموقف الذي طلبه يسوع بالموقف السهل. فهو يفرض تبدلاً حقيقيًا: أن نصير صغارًا. ذاك هو الموقف الذي يعارض موقف البشر الذين يهتمّون بالقدرة والعظمة. واجه يسوع هذا التعارض في نفسه، وفي الآخرين، وفي قلب جماعته. وهذا التعارض يقوده إلى نهاية مأساويّة في الألم والموت.
إلى هذا الحدّ سيجعل ابن الانسان نفسه صغيرًا. ذاك هو معنى الإنباء بالآلام (آ 17- 19) وفيه يلاحظ الانجيليّون الثلاثة (مر 10: 33؛ لو 18: 32) أن يسوع "يُسلم إلى الأمم" بيد رؤساء شعبه. والإشارة إلى القيامة تدلّ في النهاية على موضع وجود الملكوت.
في هذا الوقت تقدّمت "أم ابني زبدى مع ابنيها" (آ20). أورد مر 35:10- 40 هو أيضًا الحدث ولكنه لم يتكلّم إلاّ عن الابنين. قد نستشفُ هنا نزاعًا بين كنيستين محليّتين أسّسهما الرسل. مهما يكن من أمر، فطلب الأم لا يقف على مستوى الاستحقاقات، بل على مستوى حظوة تفترض امتيازًا.
بدأت ردّة فعل يسوع بسؤال (آ 21) جعل الأم وابنيها أمام الآب (17:19، 21). فيسوع نفسه خاضع لأبيه، وهو لا يتصرّف وحده بالملكوت النهائيّ (آ 23). إنه لا يستطيع إلاّ أن يؤكّد مرّة ثانية شروط الدخول إلى الملكوت، وهي تلك التي يمرّ فيها في صعوده إلى أورشليم: "أن يشرب الكأس التي يجب أن يشربها" (آ 22). نحن هنا أمام لغة رمزيّة تستلهم الاحتفال الافخارستيّ (26: 27) وتتّصل اتّصالاً وثيقًا بصلاة النزاع (26: 39-42) التي تضمّ مصير التلاميذ إلى مصير معلّمهم. وأضاف مر 38:10 إلى صورة الكأس صورة المعموديّة. أجاب التلاميذ: "نستطيع" (آ 22). لسنا هنا أمام اعتدال أو تهوّر، بل أمام "شرب" مع المسيح، شرب الألم "من أجل اسمه" (10: 22). وفي النهاية تقبّله هو نفسه. إلى هذا يدعو يسوع من يريد أن يتبعه، ونحن نستطيع أن نطلب منه ذلك بشكل شرعيّ.
وكانت ردّة الفعل قويّة لدى العشرة: استاؤوا في غيرتهم (آ 24) من طلب الأخوين، فدلّوا أنهم لم يفهموا شروط الملكوت. فمن أراد الجلوس مع ابن الانسان في التجديد (28:19)، وجب عليه أن يخدم الإخوة (آ 27). تلك هي عظمة الملكوت الحقيقيّة. ودعا يسوع تلاميذه، توجّه إلى حريّتهم كما فعل مع امرأة زبدى: من أراد (آ 26-27). ماذا تريدين (آ 21). أجل، الحريّة الحقّة تقوم في الخدمة المتواضعة. فابن الانسان الصاعد إلى أورشليم (آ 18) جاء "ليخدم ويبذل حياته فدية عن الكثيرين" (آ 28). وهكذا يستطيع عدد كبير من المدعوّين أن ينالوا النعمة بأن يكونوا من "المختارين". وهكذا تكشف خطبةُ الرسالة كلَّ متطلّباتها: "حسبُ التلميذ أن يكون مثل معلّمه، والعبد مثل سيّده" (25:10).
خامسًا: انفتحت عيون العميان (29:20- 34)
إن الطريق التي تبعها يسوع لتصعد إلى أورشليم تمر بأريحا التي تذكّر المؤمن اليهوديّ بدخول أرض الميعاد مع يشوع (يش 6). وتبعته "جموع كثيرة" (آ 29). منذ البداية تسير الجموع وراء يسوع (25:4؛ 8: 1؛ 12: 5؛ 19: 12). ولكن لا بدّ من تمييز ما يعني هذا الاتّباع.
جلس أعميان بجانب الطريق. وخبرُ شفائهما يشبه خبر 27:9- 31، ولكنه يتّخذ هنا منحى ليتورجيًا، ولاسيّما بالدعاء المتكرّر: "إرحمنا يا ربّ، يا ابن داود" (آ 30- 31). يسوع هو الله ومسيح اسرائيل الذي جاء لخلاص شعبه في الضيق. والتطواف الذي يستقبل ابن داود ويقوده إلى الهيكل (21: 9، 5)، قد بدأ هنا منذ الخروج من أريحا. يبدو أن الأعميين يمثّلان الجماعة التي تتبع يسوع. ولكن يجب أن تنفتح عيناها. صلاتهما جعلتهما بين الصغار، ووضعتهما في طريق الملكوت. "إذا اتّفق بينكم اثنان أو ثلاثة على الأرض أن يطلبا حاجة، حصلا عليها من أبي الذي في السماوات" (18: 19).
إذن، نستطيع أن نقوله إن الأعميين قد طلبا معًا فنالا. وعيا أنهما أعميان، فجاءت صرختهما انفتاحًا على الخلاص. صارا كالصغار وفهما أنه يستحيل على البشر شفاؤهما، فاستعدّا للمسة تفتح عيونهما.
وجاءت صرخة الأعميين تحدّيًا للجموع التي لا تريد أن تسمعهما، بل زجرتهما (آ 31) كما زجر الرسل الأطفال في وضع مشابه (13:19)، وكما زجر بطرس يسوع (16: 22). ولكن يسوع أطلق أيضًا نداءه: "ماذا تريدان أن أعمل لكما" (آ 32)؟ أتريدان أم لا؟ وتحرّكت أحشاؤه (9: 36؛ 14: 14؛ 32:15؛ 27:18) و"لمس" (3:8، 15؛ 9: 20، 21، 29؛ 14: 36 مرتين؛ 17: 7) عيونهما. وهكدا رأت الجماعة المسيحانية كيف تحقّقت رغبتها بأن تستعيد نظرها. إن الكلمة الحيّة في فم الأعميين قد انتقلت إلى الجموع (21: 9). فانتفت الحاجة إلى فرض الصمت (رج 28:9) على الذين يرون في يسوع "ابن داود".
ب- الايمان بابن داود (21: 1-27)
إن ف 21-22 يجعلاننا نرى المواجهة بين يسوع، ابن داود، وأورشليم، مدينة داود. نحن هنا في مرحلة جديدة في التتمّة التاريخيّة لقصد الله. فأورشليم التي إليها يدخل يسوع وتلاميذُه للمرّة الأولى بحسب مت، وأورشليم التي تجتذب الحجّاج من كل حدب وصوب، صارت في فم الأنبياء المتأخّرين موضع الدينونة الاسكاتولوجيّة (يوء 4: 9-17)، والوليمة المسيحانيّة التي يُدعى إليها الكون (أش 25: 6-12)، والفداء النهائيّ الذي يتمّ في بهاء لا مثيل له (زك 12: 14). أجل، في أورشليم ستتمّ الكتب.
يرافق الدخول المسيحانيّ لابن داود إلى عاصمته (21: 1- 11) فعلاتٌ نبويّة: طرد التجّار من الهيكل (21: 12-13)، أشفية (21: 14)، صراخ الأولاد (21: 15-16)، التينة التي يبست (18:21-22). كل هذا قاد عظماء الكهنة وشيوخ الشعب لكي يطرحوا السؤال المهمّ حول السلطة التي يمارسها يسوع (21: 23-27). وهكذا تبدأ المحاكمة الحاسمة التي تجري في ثلاث محطّات: أربعة أمثال (21: 28-22: 14)، مواجهات أربع (22: 15-46)، اتهام (23: 1-36) يستبق الحكم النهائيّ (23: 37-39).
أما متتالية الدخول إلى أورشليم فتتضمّن أربع وحدات تتحدّث عن دخولين ليسوع إلى المدينة وإلى الهيكل. وينتهي كل دخول بجدال قصير، الأول حول فعلات يسوع (آ 15-17)، والثاني حول تعليمه (آ 23-27). ذاك هو تأليف مت.
- استقبال ابنة صهيون لابن داود (21: 1-9): في أورشليم آ 1، 10). تتمّة النبوءات (أش 62: 11؛ زك 9: 9). استقبال الجموع لابن داود (مز 26:118).
- دخول ابن داود إلى الهيكل (21: 1-17): المدينة (آ 10، 17) اضطربت. ودخل النبيّ يسوع إلى الهيكل فطهّره (أش 56: 7؛ إر 7: 11). وطُرح سؤال حول المرضى الذين شُفوا والاولاد الذين يهتفون لابن داود (مز 3:8).
التينة اليابسة وإيمان التلاميذ (21: 18-22). دخول جديد إلى المدينة (آ 18) وفعلة نبويّة في التينة، تدعو التلاميذ إلى الايمان الحقيقيّ.
- سلطة يسوع وإيمان الشعب (213:2-27): دخول جديد إلى الهيكل (آ 23) حيث يعلّم يسوع: سؤال حول أصل سلطته وتذكّر يوحنا المعمدان.
أولاً: بنت صهيون تستقبل ابن داود (21: 1-9)
إن الوحدة الأدبية التي تضمّ آ 1-9، ويحيط بها ذكران لأورشليم (آ 1، 10)، قد انطبعت بلقبين أعطاهما الأعميان ليسوع بعد أن عرفاه وتبعاه: الرب (آ 3، 9)، ابن داود (آ 9). نحن هنا أمام ذروتين: النصّ النبويّ (أش 62: 11؛ زك 9:9) وتتمته لدى الجموع (آ 9) التي تنشد مز 118: "تبارك الآتي باسم الرب".
وحين وصل يسوع إلى أريحا، أدرك بيت فاجي (بيت التين) وجبل الزيتون متطلّعًا إلى أورشليم التي هي غاية مسيرته الأرضيّة (20: 17).
أولاً، طلب يسوع حمارًا هو مطيّة الآباء والأمراء في الماضي، ومطيّة أبناء الشعب. فعلى حمار، لا على حصان، كملك حربيّ، اتخذ يسوع المبادرة ودخل إلى مدينته هو الوديع والمسكين بين مساكين الربّ. وإذ لمّح مت إلى الأتان التي ترافق الجحش (آ 2) جعل خبره في خطّ زك 9: 9 الذي لم يورده مر ولا لو. واختصره يو 12: 15. بدأ استشهاده بمقطع أشعيائي حول القيامة المسيحانيّة لصهيون (أش 62: 11): فمدينة الملك داود، الجبل الذي عليه ينتصب الهيكل، قد تشخّص في "ابنة صهيون" وقد هُيِّئ للمسيح. ودخل الربّ إلى أورشليم بوداعة عبد يهوه (عبد الربّ) الذي ذكره أش 42: 1-4 وأورده مت في 18:12-21.
كان استقبال الجموع ليسوع استقبال ملك (آ 5)، استقبال ابن داود (آ 9). في الواقع، هو الملك المسيحانيّ وربّ داود (22: 44-45) الذي يأتي متواضعًا على ظهر جحش. ولكن الكشف عن هويّته لن يتمّ إلاّ بموته "فدية عن كثيرين" (20: 28). لقد كان لقب "ابن داود" عزيزًا على قلب متّى (1: 1؛ 23:12؛ 15: 22؛ 21: 9، 15) الذي يرى في يسوع وريث الوعد الذي حمله ناتان إلى داود (2 صم 7: 12- 16) واستعاده أش 7: 13- 14.
وجرى هذا الدخول الملوكيّ والمسيحانيّ في إطار ليتورجيّ، في إطار عيد المظال. هذا ما تدلّ عليه الإشارة إلى مز 118 الذي ينتمي إلى طقوس العيد، وأغصان الأشجار التي قطعت فأخذ الناس يحرّكونها، وصرخة "هوشعنا" التي تتكرّر في احتفال يدور سبع مرات حول مذبح المحرقات. كان عيد المظالم يذكّر بني اسرائيل بمسيرته في البريّة وزمن الخطبة مع الربّ (لا 23: 42؛ إر 2: 2). وكان يحتفل بملك الربّ على الكون، كما برجاء الملك المسيح. كان قد أعلن زكريا أن ملكوت الله سيمتدّ إلى جميع الأمم التي تصعد كل سنة للحجّ إلى أورشليم في عيد المظال (زك 14: 16-19). والهتاف الذي أخذ من مز 118: 26، اتخذ لونًا مسيحانيًا. غير أن الجموع لم تستنفد بُعده الآن: فمدلوله سيُعرف حين يأتي ابن الانسان في مجده ليدين الأمم (23: 39؛ 25: 31).
ثانيًا: دخول ابن داود إلى الهيكل (21: 10-17)
ما قاله متّى هنا عبّر عن إيمان كنيسته التي قرأت مز 118 قراءة مسيحيّة. فهذا المجيء "باسم الربّ" فعل فعْلَ هزّة أرضيّة: "اهتزّت المدينة كلها" (آ 10). هكذا يُعلن عن الظهور الالهيّ. وحالاً انطلق السؤال: "من هو هذا" (آ 10)؟ ولكن الجموع اكتفت بأن تجيب: "هذا هو النبيّ يسوع من ناصرة الجليل" (آ 11). جواب قصير جدًا، وهو يدلّ على أورشليم التي لا تفهم الأنبياء (37:23) على مثال موطن يسوع (57:13).
اهتزّت المدينة حين رحل ملكها (آ 10). ولكن يسوع سوف يتركها (آ 17). هذا التضمين يعلن منذ الآن الدينونة الأخيرة (38:23-39). وتابع يسوع مسيرته فوضع يده على الهيكل في فعلة نبويّة جديدة (آ 12) مؤكّدًا تاكيدًا عمليا سلطته المسيحانيّة. وفعل يسوع كما فعل نحميا حين عاد إلى أورشليم (نح 13: 7-9): طهّر بيت الله وطرد منه الباعة. وهكذا لمّح مت (آ 13)، شأنه شأن مر 17:11 ولو 46:19، إلى توبيخ الأنبياء (أش 7:56؛ إر 7: 11) ضدّ الذين يستندون إلى الهيكل وشعائر العبادة دون الاهتمام بالديانة الحقّة. كما لمّح إلى آخر كلمات النبيّ زكريا الذي تذكّر حز 40-48، فتاق إلى عيد مظال كونيّ في هيكل مطهّر في الأزمنة المسيحانيّة: "في ذاك اليوم لن يكون تجار في هيكل الربّ القدير" (زك 14: 21).
وفي هذا المنظار المسيحانيّ تحدّث مت عن المعجزات التي أجراها يسوع في الهيكل (آ 14) الذي لا يدخله العميان والعرج (8:18-9؛ رج 2 صم 8:5؛ لا 18:21). إذ أدخل ابن داود هؤلاء المرضى إلى الحرم المقدّس وشفاهم (19: 2)، فقد حقّق النبوءات المسيحانيّة (أش 35: 5-6). فعبدُ الله يأخذ حتى النهاية على عاتقه ضعفنا وأمراضنا (8: 17= أش 53: 4).
وتفرّد مت في ذكر هتاف الأطفال الذي هو صدى لتطواف الشعانين (آ 9). وصياحهم الذي انضمّ إلى فعلات يسوع، جعل عظماء الكهنة والكتبة يستاؤون. "أتسمع ما يقول هؤلاء" (آ 16)؟ فعظماء الكهنة والكتبة الذين استعان بهم هيرودس حين وصولا المجوس (2: 4) قد ذكرهم يسوع حين كلّم تلاميذه للمرّة الأولى عن آلامه (16: 21). إنهم أيضًا الرؤساء الروحيّون في الشعب والمحافظون على طقوس عفّاها الزمن، وعلى تفسير ضيّق للكتاب، كان السبب في حكمهم على يسوع. فالكتبة هم أعضاء المجلس الأعلى مع عظماء الكهنة، وقد واجهتهم الجماعات المسيحيّة الأولى. والسؤال الذي طرحوه هنا على يسوع يبدو بشكل اتهام. وسوف يستعيده قيافا (26: 62) وبيلاطس (27: 13) في عبارات مماثلة. إذن، هي محاكمة تتمّ في حرم الهيكل. غير أن رؤساء الشعب لا يستطيعون أن يفهموا بعدُ فعلات يسوع التي يكتشفها الصغار بشكل بديهيّ.
وأورد جواب يسوع مز 3:8 (من أفواه الأطفال والرّضع هيّأت لك تسبيحًا). فموضوع "معرفة" الأطفال نجده في حك 10: 21 وعند الرابينيين. ونحن نكتشف هدف متّى على ضوء خطبة الجماعة (3:18-4). فهو يرينا المرضى والصغار الذين يدركون المدلول المسيحانيّ لدخول يسوع إلى أورشليم وإلى الهيكل، ساعة لم يفهم أسرارَ الملكوت الحكماءُ والفهماء (11: 25؛ رج 13: 11-15). يدلّ على عظماء الكهنة والكتبة هؤلاء الذين ما استطاعوا أن يكتشفوا الوجه الذي حقّقه يسوع، كمسيح متواضع ورحيم، كملك وديع تجرّد من شارات النصر الزمنيّ والملوكيّ. ومع ذلك، فهو يقدّم نفسه عبر هذه السمات في الاطار الرسميّ للمعبد، تحيط به حاشيته المؤلّفة من المرضى والصغار. إن الملكوت المسيحاني يستقبل الفقراء والمضايقين. إنه المعبد الحقيقيّ الذي هو "أعظم من الهيكل" (6:12)، إنه جسد القائم من الموت والحيّ في كنيسته.
أما الآن فيسوع يُمَّحى. كما ترك الناصرة ليمضي في رسالته (13:4)، وكما ترك خصومه لكي يكون أمينًا لهذه الرسالة عينها (16: 4)، ها هو يترك الآن عظماء الكهنة والكتبة ليمضي إلى بيت عينا، بيت الفقراء (عناويم)، لأن في هذا الاتّجاه تتمّ فيه مشيئة الآب.
ثالثًا: التينة اليابسة وإيمان التلاميذ (18:21- 22)
حدّد مت موقع هذا الحدث الغريب بعده أن قطع يسوعُ الاتصال مع الهيكل ورؤساء الشعب. أما مر الذي اهتمّ بالمدلول الحقيقيّ للعبادة والصلاة، فاستعمل هذا الحدث ليحيط بخبر الباعة المطرودين من الهيكل (مر 11: 12-14، 20- 26). لقد أعادنا مت إلى سياق تجربة يسوع: جاع يسوع (آ 8؛ رج 2:4). ويعبّر هذا الجوع عن رغبة حارّة بأن يعرّف بنفسه على عتبة الآلام. غير أن هذه الرغبة تصطدم بعمى شعبه الذي تمثِّله التينة. فالمحنة الكبرى للمسيحانيّة الصحيحة نجدها هنا في صورة نبويّة.
كان يسوع قد وصل إلى أورشليم مارًا ببيت فاجي، بيت التين (21: 1). ولما عاد إلى المدينة مرّة ثانية، دهش لأنه لم يجد على التينة الثمار المتوقّعة، مع أن الملكوت حاضر في شخصه، في قلب أورشليم. شجب التينة، فأتمّ قول إرميا في يهوذا: "قال الرب: وددت أن أجد لديهم غلّة ولكن لا عنب في الكرمة ولا تين في التينة. حتى الأوراق ذبلت" (إر 8: 13). لقد كشف المسيح عُقم شعبه الذي لا يستطيع أن يحمل ثمرًا (43:21). رذل يسوعَ فخسر كل اتصال بينبوع الخلاص. صار يابسًا لأنه رفض أن يستقي الحياة الحقيقيّة. "من ليس له يؤخذ منه ما يظنّه له" (12:13).
إن فعلة التين النبويّة هي وحي سلّمه يسوع إلى كنيسته: "الحقّ أقول لكم: لو كان لكم إيمان ولا تشكّون، لفعلتم بهذه التينة ما فعلت" (آ 21). هذه الفعلة تعبّر عن إيمان يماهي التلميذ مع ربه (10: 24-25). فيسوع هو الذي يفعل في التلميذ يمجرّد حضوره. وحين نكون أمام يسوع كالصغار، في موقف إيمان، ندخل في صلاة تدلّ على أمانتنا للآب. هنا نفهم لماذا وضع مت هنا (مع مر 11: 22-23) القول حوله الإيمان الذي يستطيع كل شيء (رج 17: 20): فإيمان التلاميذ هو مشاركتهم في التزام ربّهم بأن يحيا رسالته حتى النهاية. فطاعته هي أساس سلطته. وهذا ما يدركه نظرُ المؤمن المصلّي الذي يصير "صغيرًا" أمام الله.
رابعًا: سلطة يسوع وإيمان الشعب (21: 23-27)
دخل ابن داود مرّة أولى إلى أورشليم وسط هتافات الجموع (آ 9)، وحمل معارضته المسيحانيّة حتّى إلى قلب الهيكل (آ 12-16). وها هو يعود أيضًا إلى المدينة (آ 18) مع تلاميذه، ويصعد إلى الهيكل (آ 23) الذي لا يتركه إلا ليعتزل على جبل الزيتون (24: 1)، ليلقي خطبته الاسكاتولوجيّة. أما الآن وللمرَّة الأخيرة فهو يعلّم (آ 23؛ رج 22: 16؛ 26: 55). نحن نرى أن متّى أراد هنا كما في إنجيله كله أن يربط أعمال قدرة يسوع (آ 14) بتعليمه الذي يلقيه بسلطان (رج 29:7).
وفعلات يسوع النبويّة جعلت عظماء الكهنة وشيوخ الشعب يطرحون على نفوسهم السؤال الحقيقيّ: "بأبي سلطان تفعل هذا" (آ 23)؟ إذن، اعترفوا أنه استُودع سلطانًا خاصًا لا يريد أن يُظهره وسط البشر. ولكن يسوع لا يعطي جوابًا لهذا السؤال الجوهريّ، لأنه هو نفسه الجواب. فعلى كل واحد أن يكتشفه في التزام إيمانه. وأعيد رؤساء الشعب إلى نفوسهم، لأن يسوع ردّ لهم السؤال مذكرًا بموقفهم تجاه يوحنا المعمدان: الموقف تجاه السابق هو الموقف تجاه يسوع. نحن هنا أيضًا على مستوى الايمان (آ 25). وكان موقف الجموع أكثر وعيًا لأنهم كانوا "كلّهم يعدّون يوحنا نبيًا" (آ 26؛ رج 14: 5). وسيُعاد هذا الكلام بالنسبة إلى يسوع (46:21). فسلطة يسوع لا تُفهم إلاّ في نهاية تاريخ اسرائيل، في النهاية التي أعلنها السابق حين تنبّأ عن مجيء الأزمنة المسيحانيّة: "من يأتي قبلي هو أقوى منّي" (3: 12:11). فمن رفض أن يؤمن بيوحنا المعمدان انغلق على الايمان بيسوع المسيح.
وانتهى الجدال برفض هو في الوقت عينه دينونة: "وأنا أيضًا لا أقول لكم بأي سلطان أفعل هذا" (آ 27، رج آ 23 مع التضمين).
ج- الجواب الحاسم تجاه الملكوت (28:21- 22: 14)
وصمت رؤساء الشعب (آ 27). فما عاد يسوع يستطيع أن يكلّمهم إلاّ بالأمثال. غير أن سياق الأمثال الأربعة التالية لم يعد سياقَ نموّ الملكوت (ف 13). فنحن أمام الدينونة. نحن أمام وضع حاسم حيث رذْل يسوع يقود إلى القطيعة. أول هذه الأمثال هو خاصّ بمتّى: إنه يقابل موقف ابنين (28:21- 32). والمثل الثاني هو مثل الكرّامين القتلة (21: 33-46). يجد ما يقابله في مر 12: 1-12 ولو 9:20-19. ومثل وليمة العرس (22: 1-10) نجده في لو 14: 15-24، ولكن في سياق مختلف ودون إضافة خبر الانسان الذي لا يرتدي ثوب العرس (22: 11-14).
اعتنى متّى بالتأليف ولاسيّما بواسطة التضمينات واستعادة الكلمات المفاتيح.
- إرادة الأب وأبناه (21: 28-32). نجد هنا إطار الكرم وموضوع التوبة والايمان مع تضمين: "ندم فيما بعد" (آ 29، 32).
- الكرّامون والابن أو الملكوت الذي ينقل إلى شعب آخر (21: 33-46). يتوسّع هذا المثل في موضوع الثمار المنتظرة من الكرم (آ 24، 41، 43)، وموضوع ثورة الكرّامين. نجد تضمينًا أول مع "سمع الأمثال" (آ 33، 45). وتضمينًا ثانيًا مع "سلّمه إلى الكرّامين" (آ 33، 41). وتضمينا مع "ثمار" و "زمن" (آ 34، 41).
- رفْض المدعوين إلى عرس الابن ودعوة جميع الشعوب (22: 1- 10). نجد هنا موضوع النداء في إطار العرس. مع تضمينين: "العرس" (آ 2- 10). "دعا إلى الوليمة" (آ 3، 9).
- إنسان ليس عليه ثياب العرس (22: 11-14): نحن في امتداد المثل السابق مع تشديد على الطابع الحاسم للدينونة الملكيّة في جماعة سمعت اليوم نداء يسوع.
ترتبط هذه الأمثال بما سبق، بمعنى أنها تتوقّف عند متطلّبات الجدال القصير حول سلطان يسوع (21: 23-27). فالسلطان الملوكي لابن داود هو الخطّ الذي يربط هذه الأمثال، ويجب أن نأخذه على محمل الجدّ لأننا أمام ملكوت الله (21: 31؛ 43:22) الذي لا يُعطى إلاّ لمن يقتبله. ولا يني مت يجذب انتباهنا إلى الآب (21: 31) الذي هو "ربّ البيت" (آ 33) و"رب الكرم" (آ 40) قبل أن يظهر كالملك (22: 2، 7، 11، 13). ولكننا نتّخذ خيارنا أمام من هو الابن (21: 28-32).
كيف دوّن هذا المثل؟ يبدو أن مت جمع هنا عناصر مختلفة: هناك أولاً موضوع التعارض بين "قال" و"صنع" كما في خطبة الجبل (7: 21؛ رج 23: 3). ونجد ثانيًا موضوع التوبة مع تلميح إلى يوحنا المعمدان والايمان (رج 21: 23، 27). وكل هذا في إطار كرمة تذكّرنا بمثل العمّال في الكرم (19: 30- 20: 16) وتعلن مثل الكرّامين (21: 33-46).
بدأ يسوع فطلب حكمًا من الذين سألوه حول أصل سلطانه، كما فعل مع بطرس (17: 25) وتلاميذه (18: 12). فعبر الذين توجّه إليهم المثل، ها هو يكلّم كل واحد منّا، فيدعونا إلى أن نأخذ موقفًا مع الملكوت أو ضدّه. أن نقبل أو نرفض نعمة العمل في كرم الربّ. المهم لا أن نقول، بل أن نفعل إرادة الآب. هذا هو جوهر تعليم يسوع في عظة الجبل: الوضع البنويّ (6: 10؛ 7: 21) الذي يجعلنا قريبين من الابن (12: 50).
على مستوى التاريخ، يمثّل هذان الابنان موقفين دينيّين عرفهما يسوع خلال حياته على الأرض: "الأبرار" و"الخطأة" (9: 13). هؤلاء لا يبالون بالشريعة وفرائضها. وأولئك ظلّوا أمناء لتقاليدهم. ولكن أين هو الطريق الحقيقي، طريق البر (آ 32؛ رج 33:6)؟ أين هو الايمان الحقيقيّ (آ 32)؟ وتقبّلُ نداء يوحنا المعمدان هو الدليل على تقبّلنا لنداء الابن. فالتوبة وإن متأخّرة تفتح طريق الكرم، طريق الملكوت. ولكن رفض الدخول فيه يجعله مستحيلاً علينا. فالعشّارون والبغايا الذين سبق لهم ورفضوا إرادة الله كما أعلنت في الشريعة، قد مالوا إلى يوحنا المعمدان، وبه اكتشفوا طريق الخلاص في الملكوت الذي أعلنه يسوع. هكذا سبقوا رؤساء الشعب الذين أعلنوا نفوسهم أبناء ابراهيم (3: 9) ولكنهم رفضوا سلطان ابن الله.
ثانيًا: الكرّامون والابن (21: 33- 46)
وجاء المثل الثاني يوضح بما يقوم تقبّل الابن. استعاد يسوع موضوع "قالت" و"فعل" (آ 28-36) وموضوع التينة التي لا ثمر فيها (آ 19-20)، فوجّه كلامه أيضًا إلى رؤساء الشعب فأفهمهم أن زمن الثمار (آ 34، 41، هو الوقت الحاسم الذي فيه يطلب الرب حسابًا في كرمه) قد حلّ اليوم (آ 28).
بعد دعوة إلى "سماع مثل" (آ 33، رج آ 45) أي إلى القبول بأن نترك المسيح يواجهنا، نقرأ نشيد الكرمة (أش 5) الذي يُجعل في إطار دينونة ونكران جميل. والتطبيق واضح: بعد أن عارض الكرّامون (أي: المسؤولون في الشعب) مطالب ربّ الكرم فضربوا وقتلوا ورجموا العبيد الذين أرسلهم (أي: الأنبياء)، أمسكوا الابن والوارث وخسروا آخر فرصة للتوبة. ساعة أظهر الله أمانته لعهده، أراد الكرّامون أن يأخذوا الكرم بدلاً من أن يعطوا الثمار.
وقدّم المثل موت الابن على أنه جريمة مدبّرة سابقًا: وعوا هوّيته ورسالته. ومع ذلك رموه خارج الكرم (آ 39) وقتلوه. هذا ما فعلوا بيسوع (27: 32). ما كان معاصرو يسوع يدركون ما يمثّله لقب "الابن" الذي استعمله مت هنا. فالمؤمنون سيدركون مدلوله على ضوء القيامة. ولكن المثل هو وحي يكشف عن موقف ويجعل الناس "يفهمون".
وبعد أن طلب يسوع من محاوريه أن يستخلصوا بنفوسهم خاتمة المثل (آ 41) في خطّ أش 5: 5-7، أوضح حكمهم الخاص. وورد هنا في فمه مز 118 كما في الدخول إلى أورشلم (21: 9؛ رج 22: 29): "الحجر الذي رذله البنّاؤن صار رأس الزاوية" (آ 42). كانت الجماعات المسيحيّة قد قرأت باكرًا هذا المزمور على ضوء موت المسيح وقيامته. ثم إن موضوع أمانة الله للمخطّط الخلاصيّ رغم خيانة الشعب، قد عالجه الأنبياء مرارًا بواسطة حجر العثار (أش 8: 1514؛ دا 2: 44-45) الذي رُذل (إر 51: 26؛ زك 4: 7) أو رُفع (أش 16:28). كل هذه التذكّرات ألهمت متى فوجدناها في آ 43-44 حيث نجد بشكل خاص أش 8: 14؛ دا 2: 34، 44. إن متّى ألّف هذا المثل فوازى بين آ 39- 41 التي تتحدّث عن موت الابن وانتقال الكرم وآ 42-43 اللتين تتكلّمان عن الحجر المرذولة وانتقال الملكوت. هذا التوازي يُبرز التفسير الكرستولوجي والاكليزيولوجي الذي اتّخذه المثل في شكله النهائي.
ممّن يؤخذ ملكوت الله؟ لا من اسرائيل لأن الكرمة تمثّله (رج أش في آ 33)، بل من عظماء الكهنة والفريسيين (رج آ 45: "عرفوا أنه تكلّم عنهم"). أرادوا أن يمسكوا يسوع، ولكنهم خافوا من الشعب الذي يعتبر يسوع نبيًا مثل يوحنا المعمدان (21: 27).
ولمن يُعطى هذا الملكوت؟ "لأمّة تصنع ثمرًا" (آ 43). الأمّة (اتنوس) غير الأمم (الوثنيّة). بل هي جسم يتكوّن ويُبنى. هي الأمّة المقدَّسة كما في خر 6:19. أما عند مت، فنحن أمام تجلّي اسرائيل بحضور المسيح القائم من الموت، الذي يُتمّ عهد الله مع البشر ويجعله يعطي ثمارًا: هو ملكوت آت، ولكنه حاضر منذ الآن في الجماعة المسيحيّة، في جماعة الصغار والفقراء، التي يراها تنمو أمامه فتجسِّد شموليّة الخلاص.
ثالثًا: رفض الدعوة إلى عرس الابن (22: 1- 10)
ظهر هذا المنظار الشامل (على مستوى الكون) في مثل وليمة العرس الذي ألّفه متّى بعناية خاصة. فهو يبدو في مرحلتين: نداء إلى العرس (22: 1- 10). المدعو الذي لا يرتدي ثوب العرس (22: 11-14). فالعلاقة مع المثل السابق تظهر من خلال لفظة "مثل" (آ 1) التي استعملت كلفظة عاكفة. فمتّى يرى أن الملك أعدّ وليمة لعرس ابنه، ذاك الابن الذي قتله الكرّامون. وهنا أيضا بدأ الآب يرسل خدمه ليدعو "المدعوين" إلى العرس. ونرى أيضًا لامبالاة خاطئة (آ 5) وقاتلة (آ 6) لدى المدعوّين الأوّلين. أما آ 6-7 اللتان غابتا من لوقا (لو 20:14) فقد استلهمتا مثل الكرّامين: لاشكّ في أن متّى يلمّح إلى الاضطهادات التي يتعرّض لها المبشّورن المسيحيّون، كما إلى دمار أورشليم على يد الرومان سنة 70. مهما يكن من أمر، فالمدعوّون رفضوا الدعوة الأولى، وهكذا ما عادوا أهلاً للملكوت (آ 8؛ رج 10: 37-38).
عند ذاك تُوجَّه الدعوة لا إلى بعض المميَّزين، بل إلى "جميع من تجدون" (آ 9). دعوة شاملة فيها "الأشرار والصالحون" (آ 10؛ رج 5: 45). راح الخدّام على ملتقى الطرق وفي قلب البشريّة المتنوّعة، فدعوا إلى العرس جميع البشر دون تمييز، فاجتمعوا منذ الآن في جماعة من المدعوّين الذين ينتظرون الوليمة، التي هي صورة الكنيسة.
رابعًا: رجل لا يلبس ثياب العرس (22: 11-14)
نفصل هذا الجزء عن سابقه لأنه خارج التضمين (آ 2، 15). ولأن الاتجاه الكنسي فيه واضح جدًا. فنحن الآن أمام الوليمة المسيحانيّة والطابع الشخصيّ الذي تتّخذه الدينونة الاسكاتولوجيّة في قاعة مليئة بالمتكّئين.
أن نُدعى إلى العرس، فهذا لا يعني بصورة آلية أننا قُبلنا للمشاركة فيه: بل يجب أن نرتدي لباس العرس. فغياب ثوب العرس لدى مدعوّ من المدعوّين يعني أنه لم يتقبّل عطيّة الايمِان وأن الرفض ممكن دومًا. هنا نتذكّر "الطريقين" المقدّمتين للذين يدخلون في العهد (تث 15:30، 19؛ 31: 20- 21). فمع أن هذا الانسان دُعي، إلاّ أنه جُعل في "الظلمة البرانيّة"، لأنه ما ارتدى لباس العرس (آ 13)، لأن من دُعي، وجب عليه أن يتقبّل الدعوة كعطيّة مجّانيّة. وأن يلتزم بحمل الثمار. ولكنه بقي صامتًا ساعة وجب عليه أن يعلن إيمانه بالملك (آ 12).
إن الدينونة تتمّ هنا وهي نهائيّة. ودخول الملك إلى القاعة (آ 11) يدلّ على دينونة المدعوّين، كما أن مجيء يسوع إلى الهيكل هو دينونة لرؤساء الشعب. وكما أن حضوره في الجماعة الكنسيّة (على مستوى الكون، آ 9- 10) هو دينونة للذين يجتمعون باسمه (18: 20).
يدل ثوب العرس على الوقت الحاسم الذي فيه يجد البشر وضعًا مختلفًا اختلافًا جذريًا حسب تجاوبهم (أو لاتجاوبهم) مع نداء الملك، حسب اتّباعهم (أو عدم اتّباعهم) ملكوت الله. فالمؤمنون يُعرفون حين يلبسون ثوب العرس الذي يلائم العبادة السماويّة الأبديّة في بيت الملك.
والتنبيه الأخير في المثل يذكّر مدعوّي الجماعة المسيحيّة بمتطلّبات حياتهم العمادية وجدّية التزامهم. هم يستطيعون أن يرفضوا الدعوة. كما يستطيعون أن لا يعيشوا بحسب ما تفرضه عليهم. فأبناء الملكوت ليسوا "مطعّمين" ضد الظلمة حيث "يكون البكاء وصريف الأسنان" (آ 13؛ رج 8: 12؛ 13: 42-50؛ 24: 51). هذه العبارة تدلّ على حنق الأشرار تجاه الأبرار (مز 35: 16؛ 37: 12؛ 113: 10؛ أي 16: 9)، وتُبرز الطابع الحاسم لقرار الانسان الأخير.
وفي النهاية نجد القول حول المدعوّين والمختارين الذي أضيف في بعض المخطوطات على مثل عمّال الكرم (16:20 ب). هذا القول لا يدعو إلى نظريات حول عدد المختارين، بل يعبّر عن طابع النداء الشخصيّ الذي يطلقه المثل: كلهم مدعوّون. هذا هو الواقع المجرد، المفتوح على الجميع. قليلون يرضون بأن يكونوا من المختارين. ذاك هو العبور الملموس للانسان الذي يجد نفسه أمام نداء الربّ.
د- العالم اليهوديّ على المحك (22: 15-46)
خلال المحاكمة التي بدأت في الهيكل بين يسوع وخصومه من عظماء كهنة وكتبة (20: 18؛ 21: 15)، من عظماء كهنة وشيوخ الشعب (21: 23)، من عظماء كهنة وفرّيسيين (21: 45)، اكتشفنا نقطة النزاع: هويّة ابن داود وأصل سلطانه أو طبيعة ملكوت الله. لقد بيَّنت الأمثال ملحاحيّة الخيار الواجب اتّخاذه مع امكانيّة توبة قد تتأخّر (21: 32؛ رج 21: 45).
وهكذا تتلاحم أربعة جدالات في تواز مع مر 12: 13-37 ولو 20: 20- 44. وقد رتّبت حسب رسمة رابينيّة معروفة: الحكمة أو سلوك (هلكه) بمناسبة نصوص الشريعة (22: 15-22). الخبر (هاغاده) أو تفسير مقطعين كتابيين يبدوان في الظاهر متعارضين (22: 41-46). النكتة أو جدال يجعلنا نبتسم أمام معتقد محدود (23:22-33). سلوك أرضي أو جدال حول المبادئ الأساسيّة للسلوك الأخلاقيّ (22: 34- 40). حوّل مت ومر الترتيب التقليديّ، فجعلا الخبر (هاغاده) في بداية المواجهة لكي ينطلقا في تصاعد يصل بنا إلى سؤال يسوع.
قام بالجدالات الثلاثة الأولى ثلاثُ مجموعات تمثّل العالم اليهوديّ الرسميّ الذي حاول أن يوقع يسوع في فخاخ كلامه (آ 15؛ رج آ 36) حول مسائل تزداد أهميّتها شيئًا فشيئًا: الجزية لقيصر التي جعلت الهيرودسيين والفريسيين يواجهون الغيورين. قيامة الموتى التي هي موضوع نقاش لدى الصادوقيين. الوصيّة العظمى التي هي موضوع اهتمام لدى اليهود الذين يمارسون الوصايا بحذافيرها، لدى الفريسيّين. توجّهت هذه الأسئلة إلى "رابي" (معلم، ديدسكالي، آ 16، 24، 36)، فدلّت في استعمال هذا اللقب على المستوى الذي فيه فهموا يسوع. غير أن يسوع كان يصل بالسؤال في كل مرّة إلى جذريّته. لهذا، بادر في النهاية، وطرح بوضوح سؤالاً يثيره حضوره بينهم في الهيكل، فأجبرهم على اتخاذ الموقف.
من الوجهة الأدبيّة انطبعت الجدالات الأربعة بدخول مجموعات مختلفة على المسرح، وبردّة فعلهم الأخيرة. وتسجّل كل هذا في تضمين مع لفظة "كلمة" (آ 15، 46).
- الجزية لقيصر (22: 15-22): الفريسيون والهيرودسيون (آ 15-16): حين سمعوه تعجّبوا ومضوا (آ 22).
- قيامة الموتى (آ 23-33): سأل الصادوقيون (آ 23). سمعت الجموع فدُهشت (آ 33).
الوصيّة العظمى (آ 34- 40): اجتمع الفريسيون (كما اجتمع الصادوقيّون) (آ 34). وسأل كاتب من الكتبة (آ 35).
- المسيح ابن داود وربّه (آ 41-46): اجتمع الفريسيون (آ 41). سأل يسوع (آ 41). ما استطاع أحد أن يجيبه، وما عاد أحد يتجرِّا أن يسأله (آ 46).
أولاً: الجزية لقيصر (22: 15- 22)
نحن أمام جزية وجب على المقاطعات المحتلّة أن تدفعها لامبراطور رومة: رفض الغيورون الخضوع. أما الفريسيون فتكيّفوا مع الوضع محافظين على حرّيتهم الدينيّة. السؤال المطروح على يسوع بدا بشكل فخّ، وهو سؤال جادل فيه الرابينيون مرارًا: هل يحقّ ضميريًا، أمام الله (آ 16) أن ندفع الجزية؟
واعتبروا أنهم سجنوا يسوع في خيارين لا ثالث لهما: ومهما كان جوابه فسيغضب عليه قسم من الحاضرين: إما الهيرودسيون وإما الغيورون.
تجاوز جواب يسوع حالاً مستوى المسموح والممنوع. وما أعطى "وصفة" لتصرّف "وطنيّ" (يدل على ولاء الانسان للدولة). ما أعلن الخنوع أمام نظام موضوع ولو جائرًا. ما أعلن رذل هذا النظام، كما أنه لم "يبارك" بكل بساطة القرار الامبراطوريّ. أما التوصية التي أعطاها فتكشف قبوله للسلطات في العالم مع امكانيّة انتقادها: "أعطوا الدولة ما يجب، كل ما يجب، ولا تعطوها إلاّ ما يجب". وهكذا أعاد يسوع مجادليه إلى نفوسهم. "أدّوا لله ما يعود لله". يعني أدّوا له نفوسكم. وهكذا وجدوا نفوسهم أحرارًا أمام الله. فليتّخذوا مسؤوليّاتهم في مجتمع البشر.
ثانيًا: قيامة الموتى (23:22-33)
وجاء الصادوقيّون بدورهم فطرحوا سؤالاً. أرادت محاولتهم أن تبيّن بمثل ملموس ما في تعليم الفريسيين حول قيامة الموتى من مضحك لا يمكن الدفاع عنه. وهذا ما يدلّ عليه برهان يصل إلى الحائط المسدود (آ 28). ومهما كان جواب يسوع، فسيجد بين السامعين من ينتقده.
أما القضيّة المعروضة على يسوع فهي تطبيق شريعة السلفيّة (الارملة تتزوج سلفها أي شقيق زوجها المتوفيّ) (تث 25: 5-10؛ رج لا 16:18؛ 20: 21): على الأخ أن يتزوّج امرأة أخيه الذي توفيّ ولم يترك عقبًا ليؤمّن نسلاً لأخيه الميت (يسمّى الولد باسم الأخ الميت). أورد الصادوقيون النصوص المعروفة، وقدّموا برهانًا ما توقّعه أحد.
وفعل يسوعُ كما في المقطوعة حول الجزية لقيصر، فذهب حالاً إلى قلب السؤال دافعًا خصومه إلى جوهر الوحي وهو: عهد الله مع البشر. لهذا لامهم لأنهم جهلوا في الوقت عينه الكتب وقدرة الله (آ 29). أسس يسوع برهانه على خر 3: 6 (إله ابراهيم واسحاق ويعقوب). فانطلق من اختيار الله للآباء (لا من اختيار الآباء لله): كان أمينًا لحضوره فبدا محاميًا لهم ومخلِّصًا. وتعمّق يسوع في مدلول هذا الايمان الأجدادي في اسرائيل وطرح سؤالاً: أليس من تعارض في كلامنا حين نقوله إن الله هو مخلِّص الذين ماتوا إلى الأبد؟ ودلّ على أننا إن قبلنا بالمعنى الذي يعطيه الصادوقيون للموت، هناك لا تماسك لا بدّ من أخذه في عين الاعتبار: كيف نقول بفشل الله الحيّ أمام الموت؟ إذا كان ابراهيم قد غاب إلى الأبد، فالعون الذي وُعد به لم يكن إلاّ وهمًا وسرابًا. إذن، ينتج عن كل هذا أن الله الحيّ ليس إله الموتى بل إله الأحياء (آ 32). فمن انتمى إلى إله العهد شاركه في حياته (حز 16: 6؛ 37: 1ي؛ أش 26: 14- 19).
قبل أن نصل إلى هذه النقطة الأساسيّة التي تبرهن على واقعيّة القيامة انطلاقًا من وجود الله والعلاقات الوثيقة التي يقيمها مع البشر، أجاب يسوع على سؤال يتعلّق بشريعة السلفية: لقد صارت لاغية. قال: "في القيامة لا يزوِّجون ولا يزوَّجون، بل يكونون مثل الملائكة في السماء" (آ30). في الواقع، كان الصادوقيون يرفضون القول بوجود الملائكة، كما بوجود العناية الالهية. جعل يسوع على المحك تماسك لاهوتهم. بعد هذا، لا تعني القيامة زوال الذكر والانثى؟ هذا ما لا يقوله يسوع. ولكنه يشدّد على أن الواقع الجسدي للاتحاد الزواجي وإيلاد البنين، يرتبط بوضع الانسان المائت. كما يعبّر عن ديمومة الغلبة التي يجب أن يحوز عليها الانسان يومًا بعد يوم، لأن الاله الحيّ يعطيه الحياة. في القيامة، يصبح الانسان لامائتًا، خالدًا. إذن، لم تعد به حاجة إلى الايلاد. والواقع الشخصي بما يكوّنه، يبقى في عالم القيامة عبر مقولات خبرتنا في الزمان والمكان، لكنه يتحوّل. ومن انتمى إلى عالم القائمين من الموت، عاش في الله اتحاده مع أشخاص آخرين. وتكون العلاقة الزوجيّة صورة عن هذا الاتحاد. من انتمى إلى عالم القيامة، خُلق من جديد في ملء شخصه.
حين شدّد يسوع على آنيّة القيامة بما فيها من بساطة أساسيّة، أرسل أيضًا إلى محاوريه كلامًا جذريًا يواجههم به. فعبر علم الفتاوى وما فيه من مماحكات، تبقى الحياة وجهًا لوجه مع الاله الحي الذي ظهر في يسوع الناصريّ. وحدث هنا كما حدث في نهاية عظة الجبل (28:7): "دهشت الجموع من تعليمه". لاشكّ في أن الجموع أدركت بعضًا من سلطانه الذي به يتكلّم ويفعل (21: 23-27).
ثالثًا: الوصيّة العظمى (22: 34- 40)
يوجّهنا هذا الجدال الثالث إلى نقطة هامّة في العالم اليهوديّ. كان الرابينيّون يتحدّثون عن الفرائض العديدة التي تتوزعّ في 613 فريضة. منها 365 من الممنوعات (على عدد أيام السنة). و248 من الوصايا (عدد الأعضاء التي تؤلّف جسم الانسان). والسؤال المطروح: ما هي الفريضة الأساسيّة؟ وبدأ الرابينيوّن عمليّات التخفيض: تحدّث داود عن إحدى عشرة فريضة (مز 15: 2- 5). وأشعيا عن ست فرائض (أش 33: 15). وميخا عن ثلاث (مي 8:6). وعاموس عن اثنتين (عا 5: 4). وحبقوق عن فريضة واحدة: "البار يحيا بالايمان" (أو: بالامانة) (حب 2: 4). هذا ما قاله رابي سملاي العائش في القرن الثالث. في الواقع، السؤال هو أبعد من اهتمام بتراتبيّة الفرائض. فلسنا هنا أمام تطبيق على مستوى علم الفتاوى الخاصة، بل أمام توضيح لما يتطلّبه علمُ الاخلاق في جوهره.
وربط جواب يسوع حبّ الله بحبّ القريب، بحيث دمجهما في وصيّة واحدة، مع الاحتفاظ بالاولويّة لحبّ الله على حبّ القريب. بعد ذلك، ربط جميع الفرائض بهذه الوصيّة الواحدة. وهكذا قام بعمليّة تبسيط تصل بنا إلى نظرة جذريّة إلى الشريعة في ذاتها: كل الشريعة تكمل في المحبّة (17:5؛ 7: 12). ومن حفظ هذه الوصيّة الوحيدة (وصيّة المحبّة) توافق مع الشريعة والأنبياء (آ 40). إن أصالة هذا الجواب لا تتوقّف عند المضمون الماديّ الذي نجد مثله عند الرابينيين. بل في أن حبّ الله والقريب يجد منذ الآن في يسوع الناصري موضعه الخاص وقوامه الأخير.
وهكذا أعطى يسوع للجدال بُعده التام: فحبّنا لله وللقريب، يجنّد الانسان كله فيجعله تجاه الله والقريب في حقيقة كيانه. وهكذا تصبح الخطبة على الجبل حياة في يسوع. لقد اقترب ملكوت الله. يبقى علينا أن نكتشفه. ويعيد الرب كلَّ واحد منا إلى حريّته من أجل جواب في إطار وصيّتين متشابهتين ولكنهما لا تنفصلان.
رابعًا: المسيح ابن داود وربّه (22: 41- 46)
أعاد يسوع جميع مجادليه بشكل مستمر وقاطع إلى وجدانهم أمام الله، وهم الذين أملوا في إحراجه. والآن، ها هو يتّخذ المبادرة ويطرح عليهم سؤالاً حول هوّيته (آ 41). كان الاطفال قد نادوه في الهيكل: إبن داود (21: 10). فاهتزّت المدينة كلها حين وصل إليها (21: 10). وحين استعاد مت هنا (آ 42- 45) تضمينًا يترافق مع الدخول الاحتفاليّ إلى أورشليم (21: 9، 15)، شدّد على البُعد المسيحاني لكل هذه المتتالية (ف 21-22).
إن سؤال يسوع (آ 42) أصاب خصومه في قلب إيمانهم المسيحانيّ، وأحالنا إلى ذاك الذي طرحه عظماء الكهنة والكتبة بالنسبة إلى سلطانه (21: 23). كما ذكرّنا بسؤال مماثل وجّهه إلى تلاميذه: "من أنا في رأيكم" (16: 15)؟ وعاد مرّة أخرى إلى حكم محاوريه: "ماذا ترون"؟ وسأل: "المسيح ابن من هو" (آ 42)؟ لاشكّ في الجواب بالنسبة إلى التقليد اليهوديّ: هو ابن داود. ولكن في أي معنى هو كذلك؟ عاد يسوع إلى مز 110: 1 حيث لفظة "ربّ" (كيريوس) تفهم في معنيين مختلفين (قال الرب لربي). جعلهم يسوع يعون أنّ جوابهم لم يذهب بعيدًا في عمق السؤال.
مهما يكن من أمر التفاسير المتنوّعة لهذا المقطع، نستطيع القول إن تسمية "ابن داود" قد أعطيت للمسيح في زمن يسوع. ولكن من الواضح أن الفريسيين ما كانوا يستطيعون أن يقرأوا في هذه التسمية كل ما اكتشفته الكنيسة الأولى في خطى بطرس (16: 16) وعلى ضوء القيامة: فالمسيح الذي هو ابن داود بتجذّره البشريّ، هو في الوقت عينه ابن الله الحيّ. فالفريسيون لا يريدون (والآن لا يستطيعون) أن يعطوا الجواب الذي يدعوهم إليه يسوع. ولكن، يمكنهم على الأقلّ أن يفتحوا عيونهم ويوسّعوا نظرتهم.
وقد توخّى مت أن يبيّن، في إطار الجدالات التي يتواجه فيها المسيحيون واليهود في عصره، أن رفضهم بأن يتجاوزوا نفوسهم يحكم عليهم. فهو يرينا إياهم في هذا الوقت الحاسم، كأشخاص لا يستطيعون أن يروا في يسوع هذا الطابع الالهي الذي يجعله أرفع من داود، ولا أن يقبلوا أنه قد نال سلطانه من الآب لأنه ابنه الوحيد. وحين دفعهم يسوع لكي يتّخذوا موقفًا حول طبيعة مسيحانيّته، ما نال منهم جوابًا (آ 45-46).
دعا يسوع الفريسين إلى تجاوز نفوسهم بهذا النداء الواضح فأحسّوا بالحرج. وإذ أدركوا (كما أدركوا سابقًا) أنه يشير إليهم (21: 45) صمتوا. فالكلمة التي كان بوسع العالم اليهوديّ أن يقولها بالنظر إلى تاريخه وتقليده صارت صمتًا. والحوار الذي تواصل حتى الآن في انشداد متنامٍ ، انتهى في الرفض. وهكذا وصلنا الآن إلى حالة من القطيعة. غير أنه بقي الأمل بتوبة متأخّرة (21: 23). وهذا ما يشهد له النداء الذي أرسل إلى أورشليم في نهاية نهار يسوع لخصومه: "يا أورشليم، يا أورشليم... كم مرّة أردت أن أجمع بنيك" (23: 39).
هـ- كشف رياء الفريسيين والحكم على أورشليم (ف 23)
في هذا الإطار من القطيعة يتسجّل ف 23. نبقى مدهوشين بعض الشيء أمام عنف كلمات يسوع. فهو يهاجم أخطر الشرور. يهاجم موقف الروح والقلب، وهذا ما يعارض كل المعارضة روح الملكوت ويقفل بابه (آ 23-25): الرياء (أو: الخبث) (آ 13، 14، 15، 23، 25، 27، 28، 29؛ رج 22: 18) أي التناقض بين القول والعمل (آ 3-4). بين ظاهر الشخص وكيانه (آ 5-7). بين الخارج والداخل (آ 25-28).
واتهام يسوع هذا عند مت، يظهر كالمحاولة الأخيرة التي يقوم بها الرب لكي يوقظ "الكتبة والفريسيين المرائين"، فيفتحوا أخيرًا عيونهم العمياء (آ 16، 19، 23، 26). وهذا الصراخ، صراخ الغضب المؤثّر (آ 33)، هو صراخ الحبّ الذي صار عاجزًا بسبب رفض أولئك الذين قتلوا الأنبياء (آ 34-36). وما أرادوا أن يجمعهم الرب كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها (آ 37). هذا النصّ الذي ألّفه متّى (ما يوازيه هو القليل في مر 12: 38-39؛ 7: 4؛ وهو مبعثر في لو 11: 39-48، 52؛ 14: 7، 11؛ 15:16؛ 14:18؛ 20: 45-47؛ 34:13-35) يستلهم بدون شك نداء الأنبياء الذين تذكّروا العهد الذي نقضه الشعب، ويومَ الرب (عا 5: 16-20؛ حب 2: 16-19؛ أش 1: 4؛ 8:5-24؛ إر 23: 1 ي؛ حز 13: 1 ي).
نكتشف هنا بنية مربّعة بفضل النداءات التي تتوزعّ هذه الخطبة.
أ- تمييز الأعمال بواسطة الخدمة المتواضعة (23: 1-12): أمام الجموع والتلاميذ حكم يسوع على "الكتبة والفريسيين" (آ 2). وما يقابل هذا: البشر (آ 4، 5، 7). أبوكم السماوي (آ 9). المسيح (آ 10).
ب- يسوع يعارض الرياء (13:13-32): هناك سبعة أو ثمانية ويلات تتوجّه إلى "الكتبة والفريسيين المرائين". مقدّمة موضوع "الأنبياء" (آ 29- 31).
ج- الحكم بدم الأنبياء (23: 33-36). كلام يوجّه إلى "الحيّات أولاد الأفاعي" (آ 33). توسّع في موضوع دم الأنبياء والدينونة الأخيرة (آ 36).
د- رفض أورشليم (23: 37-39): نداء إلى أورشليم (آ 37). الحكم النهائي على ضوء الكتب المقدّسة (إر 22: 5؛ مز 26:118).
أولاً: الخدمة المتواضعة (23: 1- 12)
توجّه القسم الأول من خطبة يسوع إلى الجموع وإلى التلاميذ (آ 1). هذا الوضع يكشف اهتمام متّى حين ألّف هذا الفصل: اهتمام رعائي تجاه الكنائس المسيحيّة المتهوّدة (التي يكتب إليها) وتجاه رؤساء هذه الكنائس. ففي وسط صراعات بين تبّاع المسيح ويهود أمناء لايمانهم، وهي صراعات قادت مرارًا إلى الاضطهادات (آ 34)، وجب على الانجيليّ أن يشدّد إيمان الجماعات الفتيّة ويرسم رسمًا واضحًا الخطوط التي تدلّ على صدق هذا الايمان في السلوك اليوميّ. إذا كان "الكتبة والفريسيون" موضوع هجوم، فلأن يسوع سبق له وهاجم الرؤساء الروحيّين في أيامه، وقد وجد لديهم الخبث والرياء.
ولكن إن عمّم متّى أقواله فبدا وكأنه يحكم على العالم اليهوديّ كله، فلأنه يرى الدمارَ الذي يُسبّبه داخل كنيسته موقفٌ متعال وكاذب لدى بعض الرؤساء. هو يشجب هذا الموقف أينما وجد، كما فعل يسوع بالنسبة إلى المرائين في عصره. قد نتأسّف للمعنى الزريّ الذي اتّخذته لفظة "فريسي"، ولكننا لا نستطيع أن ننكر جذورها التاريخيّة.
طلب التقليد المكتوب (أي التوراة بحصر المعنى) ما يكمّله فوجده في التقليد الشفهي الذي جاء يؤوِّنه. "جلس على كرسي موسى"، أي تحمّل مسؤوليات التعليم، وهذا أمر خطير جدًا. فقد سبق لسفر التثنية أن شدّد على متطلّبة الوظيفة النبويّة (تث 18: 19-22). والأنبياء أنفسهم ندّدوا بالذين يتكلّمون باسمهم الخاص متخفّين وراء كلمة الله (إر 14: 13-16؛ 23: 1ي)، فيُضلّون الشعب الذي كلّفوا بتوجيهه (تث 13: 2-6؛ حز 34: 1ي؛ زك 11: 4-17). فحقيقة تعليم من التعاليم تقاس بالطريقة التي بها نعيشّ ما نعلّم (19:5؛ 7: 15-17): تُعرف الشجرة من ثمارها.
يبدو غياب المنطق لدى هؤلاء المعلّمين واضحًا، حين يجعلون تشريعًا ثقيلاً على أكتاف اخوتهم ويتدبّرون أمرهم لكي يدوروا حول الشريعة ويتهرّبوا من ممارستها. نكيل بكيل وكيل (8:15-9). أما يسوع فأعلن: "نيري طيّب وحملي خفيف" (11: 30). فالاكتفاء الذاتيّ وحبّ الظهور يتربّص بقوّاد الشعوب، وليس أحد في مأمن من النجاح والتملّق. وهذا الرضى عن النفس قد وصل إلى المعلّمين في مجال الدين. جعل مت في قمة خطبة يسوع لفظة "رابي" (آ 7) واستعادها في الآية التالية ككلمة شابكة.
وتبدو آ 8-12 في تواز متعارض، فتتوجّه في صيغة المتكلّم الجمع (أنتم في آ 8، 9، 10، 11) إلى الجماعة التي يعيشون فيها كلهم كإخوة لأن الآب السماوي يجمعهم حول المسيح الذي هو الموجّه الأوحد والمعلّم الأوحد. وهكذا نعود إلى تعليم خطبة الجماعة (ف 8)، فنتذكّر لفظات "إخوة" (آ 18، 15، 21، 35)، "أعظم" (18: 1، 4)، "اتّضع" (18: 4). ولفظة "خادم" (دياكونوس، آ 11) تشير إلى موقف ابن الانسان الذي جاء "ليخدم" (20: 26-28)، كما تلمّح إلى الخدّام في الكنيسة الأولى. فمْجاه الأنانيّة والعجرفة (ارتفع) نجد الخدمة المتواضعة والأخويّة (اتضع): فعلى التلميذ أن يختار الخط الذي يسير فيه.
ثانيًا: يسوع والرياء (13:23- 32)
يبدو القسم الأوسط منا لاتهام كسلسلة "ويلات" أو "أقوال رثاء" تتكرّر سبع أو ثماني مرات (آ 13 ,14، 15، 16، 23، 27، 29) يرافقها (مع عدا في آ 16) النداء: "أيها الكتبة والفريسيون المراؤون" (رج 22: 18). هذا الصراخ يتلوّن بلون جلياني عند الأنبياء. هنا نتذكّر ما قاله أشعيا في بداية رسالته (أش 8:5- 24؛ 10: 1- 11)، فدلّ على دينونة الله في شعبه.
ما هو بُعد هذا القول "الويل لكم"؟ ما لعن يسوع انسانًا قطّ. ورسالته تقوم بأن يفتديهم من اللعنة. قال: "ما جئت لأدعو الأبرار، بل الخطأة" (9: 13) وهو هنا يكشف الشقاء الذي يصيب أولئك الذين رفضوه. فالانسان يقدر أن ينكر يسوع، كما يقدر أن يتوب، وإن متأخرًا (رج 29:2)، ويقول يومًا: "مبارك الآتي باسم الربّ" (آ 39). وكما أن وعد الخلاص يلي التهديد في عدد من نبوءات تعلن الشقاء (هو 8:2، 11، 16؛ أش 13:6)، تتفجّر الآية الأخيرة، في ف 23 (مبارك الآتي) كرجاء يحيط بنوره بمجمل الخطبة.
لا نستطيع أن نستعيد هنا بالتفصيل كل ويل من هذه الويلات، مع التلميحات التوراتيّة واليهوديّة التي تختفي وراءها. لهذا، نتوقّف عند بعض السمات، ولاسيّما تلك التي تتحدّث عن أضرار الرياء كما ندّد به يسوع.
"تغلقون في وجه الناس ملكوت السماوات " (آ 13). هذا يعني: تخفون عمل الله في تاريخ البشر (تمنعون البشر من رؤيته) حين ترفضون القول إن يسوع هو الطريق الذي يقود إلى الله. هذا النقص في الشفافيّة يذكّرنا بالقول حول نور العالم (5: 16). "تأكلون بيوت الأرامل وتطيلون الصلاة رياء" (غائب من عدد من المخطوطات، رج مر 12: 40؛ 20: 47). هذا يعني: تضايقون الصغار والوضعاء ولا تعون أن حقيقة العلاقات مع الله لا تلزمكم فقط بالمصالحة الأخويّة (5: 22-24)، بل بأن تأخذوا على عاتقكم الفقراء والأشخاص الذين ليس لهم من يدافع عنهم (أش 2:10) على مثال من جاء ليخدم (28:20).
"تكتسبون دخيلاً واحدًا فتصيّرونه ابن جهنم" (آ 15). هذا يعني: لا تردّون البشر إلى الاله الحقيقيّ، بل إلى نظرتكم الخاصة، مقدّمين البحث عن الخروف الضال بشكل مشوّه (18: 12-14). يجب أن يكون الواحد أعمى لكي يُدخل الشعب في طريق الفتاوى والتمييزات حول القسَم، ساعة تُلزمنا الكلمةُ التي نتعهّد بها أمام الله بأن نعمل، مهما كانت العبارة التي نستعملها (33:5-37). والعمى نفسُه يصيب (آ 23-24) أولئك الذين يمارسون بدقّة فرائض ثانويّة في الشريعة، ولا يهتّمون بالوصايا الأساسيّة: احترام حقّ القريب (5: 38-42). الرحمة (9: 13؛ 12: 7؛ 18: 33). الأمانة لمشيئة الله (12: 50). بل إن تتميم البرّ (أو: العدالة) هو ما يعطي الفرائض معناها (5: 17-19).
والنجاسة الحقيقيّة (آ 25-26) ليست تلك التي تأتي من الخارج، بل تلك التي تخرج من القلب (18:15-20): يشدّد النصّ من خلال العودة إلى العبارات عينها، على التذكير بالتعليم حول الطاهر والنجس (15: 12-14). وظاهر البرّ (أو القداسة) الذي يظهر به (آ 27-28) لا يمنع نظر الله من الولوج في الخفية (6: 1-6، 16-18). فالثمار تعرّفنا في النهاية إلى الشجرة (7: 15- 20). وأخيرًا، من انتحل مجد أنبياء الزمن الماضي (آ 29-32)، دون أن يقرّ بأن خطايانا اليوم تجعلنا متضامنين مع إساءات الآباء، جعل الكأس تفيض (آ 32: مكيال آبائكم) على مستوى الضلال والكذب.
حين أبرز الانجيليّ رياء رؤساء الشعب، لم يعارض ممارسة الشريعة، وهو الذي ارتبط بها حتى آخر نقطة (18:5). بل تشويهَ الشريعة واحتقارها في جماعة تعتبر نفسها أنها تخدم الله.
ثالثًا: دم الانبياء (33:23-36)
إن "الأنبياء" الذين وصل إليهم الكاتب عبر لفظة "قبور" (آ 27، 29)، سيظهرون الآن كالمتهمين الحقيقيّين لرؤساء الشعب القتلة. وهكذا نستعيد موضوعًا توسّع فيه مثلُ الكرّامين القتلة (21: 34-36)، ومثلُ المدعوّين إلى العرس (3:22-6). كما استعاد يسوع كلام يوحنا المعمدان (7:3) الذي استُعمل في سياق مماثل (12: 34)، ساعة عارض الفرّيسيون للمرّة الأولى "ابن داود" الذي عرفته الشعوب المدهوشة (12: 32- 34).
لقد دقّت الآن ساعة الدينونة التي أعلنها المعمدان. والأنبياء في القديم قد وجدوا في يسوع وفي جماعته المسيحانيّة، تتمة تاريخ مؤلم: من رذلَ الأنبياء رذل يسوع (17: 12-13). والتلاميذ أيضًا يُضطَهدون، شأنهم شأن ربّهم (5: 11-12؛ 10: 17-20، 25). إن الألفاظ التي نجدها هنا (آ 34) تستعيد ألفاظ حاش (= آلام) يسوع وخطبة الرسالة.
وهذا التاريخ الطويل هو تاريخ يسوع والملكوت: فكل قتل على الأرض، منذ القتل الأول، أي قتل هابيل (رج تك 8:4) حتى الأخير، أي قتل زكريا (الذي هو حسب 2 أخ 24: 20-22 ابن يوياداع لا ابن برخيا)، يرسم الصورة التي سوف يُتمّها يسوع. وخبر التتمّة هذا يدين البشر، أولئك الذين من هذا الجيل، أي أولئك الذين يتوجّه إليهم ملكوت يسوع بحضوره (16:11؛ 41:12، 42-45؛ 34:24).
رابعًا: رفض أورشليم (37:23- 39)
وانتهى اتهام يسوع بثلاث آيات تنادي أورشليم بلهجة الحزن والضعف التي تتعارض للوهلة الأولى مع لهجة العنف التي بها قرعّ يسوع الكتبة والفريسيين.
واتخذ "رثاء أورشليم" هذا نسق المراثي التي عرفها الفكر اليهوديّ. وهذه الخاتمة تجد ما يقابلها بشكل حرفيّ تقريبًا في لو 13: 34-35 ما عدا الاداة "أبرتي" (منذ الآن) التي نقرأها في آ 39 والتي تدلّ في مت على التحوّل الذي اتخذه يسوع في مسيرته إلى الحاش والآلام.
وصورة الطير الذي يجمع صغاره ويسهر عليها فيدلّ على اهتمام الله بنا، صورة معروفة في العهد القديم (رج تث 32: 10- 11؛ مز 8:17؛ 8:36): استعملها أش 31: 5 عن أورشليم التي وبّخها على عدم عرفان الجميل. لقد اصطدم يسوع بالرفض: "أردت... ولكنكم ما أردتم" (آ 37). فاقتبال يسوع يلزم الحريّة. وصلاة يسوع في جتسيماني تدلّ على الحدّ الذي يصل إليه تقبّل مشيئة الآب (26: 39، 42).
ويأتي إيرادان كانا قريبين. أنهيا واختتما مسيرة يسوع التي بدأت في 19: 1. الايراد الأول (إر 22: 5) يستعيد قولاً وجّهه النبيّ إرميا إلى بيت الملك: أنبأ بالدمار والخراب لأن بيت داود لم يكن أمينًا للعهد (إر 21: 11- 22؛ 9). وبسبب السياق الداودي لهذا المقطع، نفهم الايراد الثاني (مز 118: 26) الذي يرتبط بدخول إبن داود إلى أورشليم (21: 9) وبمثَل الكرّامين القتلة (21: 42). نجد في هذه النهاية لمعة من الأمل: ينطلق يسوع إلى موته، ولكن لم تغب كل امكانيّة قبول لدى الشعب اليهوديّ.

4- البعد اللاهوتي للنصّ
حين قرأنا ف 18 وجدنا نفوسنا في رؤية مثاليّة للجماعة المسيحانيّة كما دشّنها إعلان الملكوت. ولكننا أدركنا صعوبة تحقيق هذا المثال تحقيقًا ملموسًا، خلال مسيرة يسوع والتلاميذ الصاعدين إلى أورشليم، موضع الموت والقيامة.
منذ البداية، رأينا الأحداث والأشخاص تهدّد الوحدة العميقة بين الصغار الذين يجمعهم حضور يسوع. تهدّد الصغير وسط إخوته (18: 2، 20) في المسؤولية المتبادلة والغفران المتقاسَم. فالحبّ الثابت (الذي لا ينفصل بالطلاق) الذي يجد بنبوعه في الله، لا يمكن عيشه حتى في عهد عميق يربط الرجل بالمرأة (3:19-12). هذا الحب يجب أن نتقبّله كما يفعل الطفل (13:19- 15). وعرفنا أنه من الصعب أن نكون "كبارًا" أي أن نتخلّى عن خيراتنا وعن نفوسنا (19: 16-23).
هذا التبدّل الانجيليّ الذي يدلّ على انتماء حقيقيّ إلى الملكوت. هو مستحيل على البشر، لأن ميراث الحياة الأبديّة يتضمّن أن نتقبّل "معًا" حبّ الآب الذي هو هو للجميع، الذي يأتي ليغمر بنعمه بطريقة مجّانيّة، الفقراء، الذين لا عمل لهم، الذين لا خلاص لهم (19: 24-16:20).
والتلاميذ الذين هيِّئوا لعيش هذه الوحدة المستحيلة، لم يسعهم أن يدركوا جذريّة نداء يسوع الذي يقودهم إلى الموت (10: 17-19). ومع ذلك، فقد وعوا عمق هذا النداء الذي يتوجّه إليهم، واكتشفوا في الوقت عينه أنهم لا يستطيعون أن يجعلوا نفسوهم في خدمة إخوتهم، ويخاطروا بحياتهم من أجل ربّهم وفي خطاه (10: 20-28). فيجب على الجماعة الصغيرة التي يرمز إليها أعميا أريحا، أن تترك الرب يفتح لها عيونها، وأن ترى في يسوع المسيح، ربَّ داود وابنه (10: 29- 34).
فالملكوت يتطلّب خيارًا حاسمًا، لأنه يعرّي الوجدان الممزّق. فهناك دعوى كبيرة في كل التاريخ البشري. ذاك هو معنى دخول يسوع إلى أورشليم وتعليمه في الهيكل. فالنبيّ يسوع، الملك المسيحانيّ المتواضع الذي يهتف له الأطفال، يقدّم نفسه كالدّيان الاسكاتولوجيّ الذي تحدَّث عنه يوحنا المعمدان: جاء لينقّي بيدره، فيجمع القمح في الاهراء ويسلّم إلى النار القشّ والزؤان (21: 1-17).
والدينونة التي وصلت إلى قلب المعبد، أي الموضع الذي فيه يبدو الله أقرب ما يكون من البشر، تحفر كلمة عميقة في ضمير كل إنسان فتجبره على الانفتاح على الله. أمام تينة عقيمة ويابسة ندهش من سلطة تعمل (18:21-28). وهكذا وُضع العالم اليهوديّ على المحكّ. فامتياز شعب اسرائيل هو أن إله العهد والاختيار، لم يتركه يرتاح، بل فرض عليه دومًا أن يطرح السؤال على نفسه. فختان الله لأبنائه لايني يعلن مشيئته ويطلب منهم الثمر الذي ينتظره. وحين يرفض البعضُ نداءه يدعو البعض الآخر، يدعو الجميع إلى وليمة الملكوت (28:21-22: 10). ولكن يصعب علينا أن نتقبّل كل شيء، أن نترك نعمة الله تغمرنا بكليّتنا. يصعب علينا أن نقبل أن نكون أبناء. فالابن الوحيد يقدر وحده أن يكشف هذه النعمة ويتّمها في الذي يقبل تدخّل الله في حياته (22: 11- 14).
ما إن يلج يسوع حياتنا الحميمة يبدأ الجدال، لأن كل الأسئلة تمرّ عبر مصفاة حضور الله: اللعبة السياسيّة (22: 15-22). التساؤل حول الآخرة (22: 23- 33). العلم الخلقيّ والشريعة (22: 34- 40). فلا شيء يُفلت من السؤال الذي يطرحه يسوع على العالم (22: 41-46). ففي المجموعات اليهوديّة الدينيّة التي تأتي إلى يسوع، نجد مختلف مجالات اللاهوت محطّمة، لأنهم لا يؤمنون بأن يسوع هو المسيح، ابن الله الحيّ: وهكذا يترافق التاريخ والعقيدة، الاخلاق والتفسير. وحده يسوع الذي نقرّ به كابن داود الحقيقي وابن الله الحقيقيّ، يتيح لنا أن نحدّد موقع علاقتنا بالدولة، وأن نكتشف واقع القيامة كنتيجة الاتحاد الشخصيّ بين الله والانسان. وهو وحده يعطينا الديناميّة التي يحتاج إليها عملنا.
السؤال الأساسيّ المطروح هو هويّة يسوع وأصل سلطانه. سؤال عمل الموت أو الحياة للعالم وللبشر. فمن أراد أن يدرك الملكوت دون أن يقبل يعنف السؤال المفروض، يؤخذ منه هذا الملكوت (21: 34). إذا أردنا أن نعتنق نظرة الله، نتخلّى عن ذواتنا، فنسير إلى الموت مع يسوع ومثله. وأمام سرّ الملكوت هذا يصمت كل فم (46:22).
في هذا الاطار من الصمت، يُسمع اتهام الدينونة، فيعبّر عن جدّية الرجاء المسيحانيّ، ويكشف الرياء، ويدعو كل أورشليم في العالم لأن توجّه أنظارها إلى ذلك الآتي باسم الرب. بعد الآن يستحيل علينا أن نُسكت صوتَ المصلوب الذي يدويّ في التاريخ. فالطريقة الوحيدة التي بها نخلّص البشر من ريائهم، هي أن نكشف لهم شقاءهم، ونعيدهم إلى حريّتهم أمام الآب.
وحين نقرأ ف 23 على هذا الضوء، نجده شبيهًا

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM