المَرحَلَة الرابعَة: عَشْرُ مُعجَزات الفصل الثامن والعشرون: سلطة الملكوت: يسوع يشفي المرضى
 

الفصل الثامن والعشرون
سلطة الملكوت: يسوع يشفي المرضى
ف 8- 9

1- موقع هذين الفصلين
يشكل هذان الفصلان ما يسمّيه الشرّاح: "الشعبة الاخباريّة"، أو شعبة "المعجزات". في الحقيقة لا يستعمل مت أبداً لفظة "معجزة، وعجيبة". وحتى الآن لم نجد في النصّ إلا عبارة قريبة من المعجزة: في 7: 22، يبرّر بعض الناس نفوسهم فيعلنون أنهم اجترحوا باسم المسيح "أعمال قوّة" (ديناميس). أما الفصلان اللذان ندرسهما فيبيّنان يسوع عاملاً عبر عشر معجزات فيها تدلّ كلمته الفاعل على السلطان الذي يتمتّع به. نشير هنا بشكل عابر إلى أن رقم عشرة يدلّ على أصابع اليد وبالتالي على مجمل نشاط الإنسان.
ويُطرح سؤالان في هذا المجال. الأولى، حول المعجزات وتفسيرها. الثاني الرباط الذي به يوحّد الكاتب كل هذه الأخبار ويوضح لنا مدلولها. ولكن قبل أن نعالج هذين السؤالين، نوضح موقع هذين الفصلين في مت، ونحاول أن نكتشف بنيتهما.
كيف يرتبط هذان الفصلان بما سبق؟ قدّمت لنا عظة الجبل (ف 5- 7) يسوع وهو يعلّم. فبهتت الجموع من تعليمه. ويبيّن لنا ف 8- 9 يسوع وهو يعمل وهذا العمل يظهر في ما يسمّيه الانجيلي "أشفية" (4: 23- 24). إن يسوع يتكلّم ويفعل. نتذكّر الأهميّة التي اتخذها التوافق بين "قال" و"فعل" في نهاية الخطبة التي سبقت (7: 12- 27). وهكذا تتجاوب الأقوال والأفعال كتعبيرين اثنين عن "سلطة" (اكسوسيا، سلطان) فريدة ينعم بها المسيح.
نقرأ في 4: 23: "وكان يطوف في الجليل كله، يعلّم في مجامعهم ويبشّر بإنجيل الملكوت، ويشفي كل مرض وسقم في الشعب". وسنجد الإجمالة عينها في 9: 35 كتضمين مع 4: 23، وكمقدّمة للشعبة التالية. ولكن حلّ محلّ الجليل "كل المدن والقرى". ولم يُذكر الشعب.
ما هو رباط هذين الفصلين مع ما يلي؟ ستبيّن الفصول التالية أن سلطة يسوع هذه سوف تنتقل إلى الرسل (ف 10) الذين اختارهم وأرسلهم، وأن عمله الخيرّ صار ليوحنا المعمدان وتلاميذه علامة عن مسيحانيّة يسوع (ف 11).

2- البنية الإجماليّة
نستطيع أن نكتشف حالاً بنية هذه الشعبة. إنها خاصّة بمتّى الذي يستقى كل أخباره تقريباً من التقليد الإزائيّ. فمرقس ولوقا يوردان الأخبار عينها ولكن في ترتيب مختلف جداً. وزّع المدوّن المتاوي عشر معجزات (عشر كلمات فاعلة) ليسوع في ثلاث مجموعات جعل بينها استراحة تُلقي الضوء على مجمل الشعبة.
أ- ثلاثة أقوال شفاء (8: 2- 15) من أجل ثلاثة أنواع من الناس.
أولاً: أبرص طهُر (8: 2- 4): نحن أمام شخص يهوديّ. فيسوع، بعد أن شفاه، أوصاه بأن يذهب إلى الكاهن ويقرّب التقدمة التي تفرضها الشريعة (رج لا 14: 1- 32).
ثانياً: قائد مئة يُستجاب (8: 5- 13): شُفي خادمه بكلمة تفوّه بها يسوع من بعيد. هذا الرجل هو وثنيّ: أعلن يسوع أنه لم يجد مثل هذا الإيمان في اسرائيل.
ثالثاً: حماة بطرس أُنهضت (8: 14- 15): بدت شخصاً من محيط يسوع. فقد دخل إلى "بيت بطرس" (أي: الكنيسة)، وشفى حماته التي قامت حالاً وأخذت تخدم المعلّم (ترمز إلى الجماعة المسيحيّة).
ب- إجمالة تذكر عدداً من تقسيمات يسوع وأشفيته. وهذا ما يتيح لمتّى أن يدرج إيراداً لأشعيا (53: 4) نقله بطريقة حرّة من العبريّة، مشدّداً على أنه تمّ في يسوع. نحن أمام مقطع يتحدّث عن آلام عبد يهوه (8: 16- 17). وجاء بعد هذه الإجمالة خبران مصيران يوضحان متطلّبات اتّباع يسوع (8: 18- 22): خرج كاتب من الجمع، وخرج آخر من مجموعة التلاميذ. وهذا ما حدا بيسوع إلى أن يعلن جذريّة الانجيل في أوضاع ملموسة.
ج- ثلاثة أقوال سلطان (8: 23- 9: 8) ترينا يسوع وهو يقف في وجه قوى الشّر. يرى اليهوديّ أن المرض والشّر يرتبطان ارتباطاً حميماً. أما الشّر الجذريّ فهو الخطيئة.
رابعاً: العاصفة التي هدأت (8: 23- 27) تقدّم لنا يسوع وهو يأمر الرياح والبحر. ويُعتبر البحر في العالم الساميّ القديم كالمسكن الطبيعيّ للشياطين.
خامساً: متشيطنا جدارة (8: 28- 34). قد تخلّصا من تغرّبهما الذي جعلهما عنيفين شرسَين. وطرد يسوع الشياطين فنزلت إلى الهاوية بعد "توقّف" قصير في قطيع من الخنازير.
سادساً: المقعد الخاطىء قام عن سريره (9: 1- 8): غفر له يسوع خطاياه، وأعطاه القوّة ليقوم عن فراشه ويعود إلى بيته. أما الجموع فتعجّبت من سلطانه.
د- ونقرأ خبر دعوة جديداً يضع أمامنا العشّار متّى الذي أخذ يتبع يسوع (9: 9). ثم مشهدَي جدال حول تصرّف المعلّم الذي انتقده الفريسيون مرة وتلاميذ يوحنا مرة أخرى. أما موضوع هذه الجدالات فهو أن يسوع وتلاميذه جلسوا إلى مائدة واحدة مع العشّارين والخطأة (9: 10- 13). وأن التلاميذ تعاملوا بحرّية مع فريضة الصوم (9: 14- 17). وأعطى هذان الجدالان المناسبةَ ليسوع لكي يقدّم نفسه على أنه طبيب البشر والعريس المسيحانيّ. وهنا أيضاً وُضع نصّ من الكتاب المقدّس: "أريد رحمة لا ذبيحة" (هو 6: 6)، فدلّ على الموقف الجديد الذي يطلبه ذاك الذي يقدّم الخمرة الجديدة (رج عا 9: 13؛ إر 31: 12).
هـ- أربعة أقوال ليسوع توسّع فيها الانجيليّ (9: 18- 34). جعلها مت اثنين اثنين. كان القولان الأولان قد دُمجا في التقليد الإزائي (9: 18- 26= مر 5: 21- 43= لو 8: 40- 56). وقام مت بدمج القولين الآخرين. دلّت هذه الأقوال على سلطان يسوع على الحياة وعلى الموت (9: 18- 26) وجعلتنا نكتشف أن الأشفية التي قام بها يسوع هي حقاً مسيحانيّة (9: 27- 34).
سابعاً: نازفة خلصت (9: 20- 22) حين لمست ثوب يسوع الذي يرمز إلى قدرته (هناك معطف إيليا، 1 مل 19: 19؛ 2 مل 2: 13- 14). فقدان الدم عندها هو في الواقع فقدان الحياة، لأن "حياة كل جسد هي دمه" (لا 17: 11، 14؛ رج تث 12: 23).
ثامناً: ابنة رئيس قامت من الموت (9: 18- 19، 23- 26) حين أمسك يسوع بيدها. وانتشر خبر هذه "القيامة" في المنطقة.
تاسعاً: أعميان يريان (9: 27- 31) بعد أن وجّها كلاماً ليسوع فأعطياه لقباً مسيحانياً: "ابن داود". شُفيا بحسب إيمانهما بلمسة من يسوع، فنشرا الخبر مع أن يسوع منعهما من ذلك.
عاشراً: ممسوس (أي: شخص فيه شيطان) أصم وأخرس يتكلّم (9: 32- 34). قدّمه الناس إلى يسوع كما في 8: 16. وحين شُفي هتفت الجموع للجديد الذي يحدث في اسرائيل. أما الفريسيون ففسّروا هذه الظاهرة بسلطة يسوع الشيطانيّة.
و- خاتمة بشكل انتقالة (9: 35- 38) تستعيد إجمالة 4: 23 حول نشاط يسوع، وتفسّر موقفه تجاه الجموع على أنه اهتمام الراعي بخراف تخلّى عنها الرعاة. ويبدو هذا الكلام المتاوي تذكّراً لما قاله النبيّ ميخا بن يملة (يرد في 1 مل 22: 17)، وامتداداً لما في قول حز 34: 5 حول رعاة اسرائيل، وإشارة إلى نشيد عبد يهوه الرابع (أش 53: 6). أما الآيتان الأخيرتان فتنطلقان من موضوع الحصاد الذي ينقصه العمّال، لتعلنا دعوة الرسل وخطبة الرسالة كما في ف 10.

3- "المعجزات" وتفسيرها
نطرح السؤال الأول: هل تنقل لنا أخبار المعجزات حدثاً تاريخياً نستطيع أن نبرهن عنه بواسطة الوثائق، أم هل نحن أمام تفسير لاحق جاء من الجماعات التي استقت من الماضي فأعطت هذا "الواقع" مدلولاً جديداً في حالة ملموسة؟ والسؤال الثاني: في هذه الحالة، هل نستطيع أن نفصل الحدث بحدّ ذاته عن التفسير الذي ناله، فنعتبر هذه الأخبار "صوراً في أسطورة". أم نعتبرها التعبير الحقيقيّ لحدث حصل حقاً؟ السؤال الثالث: هل نستطيع أن نعتبر هذه الأخبار مجرّد بناء فكري وسطراً (فكرة في خبر) أو مثلاً من الأمثال أو مدراشاً لا يرتبط أي ارتباط بحدث خاص وملموس؟ وعلى مستوى تهدئة العاصفة يقولون: هي خبر استنبطته الجماعة، هي مثل من الأمثال وثمرة فقاهة حول موت المسيح وقيامته. جاءت المواضيع والصور من العهد القديم فجمّلت الخبر. أو هل هي تفكير الجماعة الذي تركّز على احتفال ليتورجيّ؟
ونوسّع السؤال فنقول: هل الحدث هو الذي حرّك الإيمان أو هو الإيمان الذي خلق الحدث؟ نحن هنا في موضوع هام طُرح في الغرب ووصلت آثاره إلينا: ما هي العلاقة بين "يسوع التاريخ" (كما نعرفه في الواقع ومن خلال النصوص) و"ربّ الإيمان" (خصوصاً بعد القيامة)؟ سيكون جوابنا (أو محاولة الجواب) في ضمن مراحل متعاقبة.
أ- منهجيّة العمل
الانجيل هو نصّ حيّ. والوثيقة التي نمتلكها هي التعبير عن تقليد طويل يمتدّ من أحداث حياة يسوع، التي شهدها الرسل، حتى حياة الجماعات الأولى، سواء كانت مسيحيّة متهوّدة (جاءت من العالم اليهوديّ وحافظت على بعض أو كل ممارساته)، أو مسيحية أممية (جاءت من الأمم الوثنيّة) في النصف الثاني من القرن الأول. فلا نعجب إذن إن ميّزنا عدّة مستويات توافق مختلف مراحل هذا التقليد. غير أن الطبقات المتنوّعة في هذا التقليد قد جُمعت ودُمجت وأعيدت صياغتها بحيث لا نستطيع اليوم أن نفصلها بوضوح بعضها عن بعض.
فإذا أخذنا الانجيل الأول، ليس مستوى التدوين المتاويّ الأخير مطابقاً كل المطابقة لمستوى الجماعات المسيحيّة الأولى في شمالي فلسطين، في لبنان وسورية، تلك الجماعات التي كتب لها متّى حوالي سنة 80. فهذا الكاتب قدّم نظرة شاملة عن الطريقة التي بها كانت تُروى حياة يسوع في الاجتماعات الليتورجيّة. يجب أن نبحث عن أساس أخبار هؤلاء المؤمنين في شهادة التلاميذ الذين رافقوا يسوع خلال رسالته في الجليل واليهوديّة، حتى موته. غير أن هذه الأخبار تتسجّل في إطار زمانيّ ومكانيّ، هو إطار العالم اليهوديّ في القرن الأول المسيحيّ، الذي هو ثمرة تقليد قديم تغذّى من العهد القديم. فأعاد قراءته وتفسيره داخل الجماعات على ضوء قيامة المسيح (هذه القيامة أعطت هذه الجماعة المفتاح لكي تفهم العهد القديم). ثم إن متّى توجّه إلى قرّاء محدّدين، إلى أولئك الذين كتب إليهم في القرن الأول، وإلينا نحن على عتبة الألف الثالث. قرأنا كلنا هذا النصّ وأعدنا قراءته على ضوء حياتنا وفي قلب تقليد كنسيّ واحد.
إذن، يجب أن نتنبّه إلى هذه المستويات المختلفة من القراءة، فنحاول أن نوضح المستوى الذي نقف عليه لئلاّ يكون هناك من التباس. وبما أنه النصّ النهائي الذي نقلته إلينا الكنيسة، فيجب أن نفهمه كله (لا جزء منه أو بعض مقاطع) إذا أردنا أن يكون النهج الذي نتبعه دقيقاً. وإذ نتحدّث عن الكل نذكر موت وقيامة يسوع اللذين يعطينا الروح معناهما. ونفهم أن سائر المستويات تستطيع أن تجد نوراً لها، لا سيّما المرحلة السابقة للفصح والقيامة والمرحلة اللاحقة.
فإذا طبّقنا هذا النهج على مقطع تسكين العاصفة، نكتشف أن الرسمة التي هي هي تقريباً في الأناجيل الإزائيّة الثلاثة (8: 23- 27= مر 4: 35- 41= لو 8: 22- 23) تستعيد رسمة مستعملة في سفر يونان (1: 3- 6، 15- 16) تروي غرق النبيّ. مع اختلافة قصيرة وهي أن المياه تهدأ حين يُرمى النبيّ في المياه. وهناك نصّ آخر موازٍ للنصّ الانجيلي يُروى بدون عنصر عجائبيّ في أع 27: 9- 28: 6: غرق سفينة بولس قرب جزيرة مالطة.
حين نقابل نصّ مت مع نصّ مر ولو، نفهم أن النقاط الأصيلة في خبره ليست من قبل الصدف. قال مت إن يسوع صعد إلى السفينة حين كان التلاميذ "يتبعونه" (8: 23). كلمة "تبع" الواردة مراراً عند مت (8: 1، 10، 19، 12، 23؛ 9: 9، 19، 27) قد غابت من لو ومر. تحدّث لو ومر عن العاصفة، عن الريح العاصفة. أما مت فعاد إلى العهد القديم (8: 24) واستعمل كلمة لا توافق السياق: زلزال، هزّة أرضيّة (سايسموس. نشير هنا إلى أن الزلزال يدلّ على حضور الله). وصراخ التلاميذ الذين يوقظون يسوع هو ابتهال ليتورجي في مت: "يا رب خلّص". خلّصنا (كيريي سوسون، 8: 25). إنه يقابل لفظة "هوشعنا" (أو: أوصنا). عند مت، بدأ يسوع فوبّخ التلاميذ بسبب "قلّة إيمانهم" (8: 25) قبل أن يرسل أمره إلى العناصر الهائجة. أما مر ولو فيأخذان الطريقة المعاكسة. أخيراً، إذا كان مر قد أشار إلى ردّة فعل التلاميذ على أنها "خوف عظيم" ولو على أنها "مزيج من الخوف والإعجاب"، فقد أورد مت أن "الناس" (الرجال)، لا التلاميذ، هم الذين دهشوا (8: 27).
نحن أمام خمسة تفاصيل تبدو بسيطة في الظاهر، ولكنها تكفي لكي تدلّ على أن مت قرأ الحدث قراءة كنسيّة، فأخذ جميع الكلمات الخاصة به، من العهد القديم، من الليتورجيا، من تصرّف المسيحيّ الذي يتبع يسوع. وهكذا نبدو بعيدين عن بحيرة طبرية وهيجانها المفاجىء فنتساءل: هل لهذا النصّ أساس تاريخي؟ ونجيب حالاً: نعم. وسوف نرى ذلك.
ب- صدقيّة المعجزة
يودّ الإنسان اليوم، وبقدر الإمكان، أن يثبت "تاريخيّة" كل كلمة وكل حدث تورده الوثائق: ما الذي حدث حقاً؟ وإذا عدنا إلى تسكين العاصفة، ما الذي نستطيع أن نبرهن عن حقيقته، وفي أي مستوى من التأكيد؟
يتضمّن الخبر إشارات زمانيّة ومكانيّة. هي غامضة ولكنها مهمّة، لأنها تعبرّ عن واقع أول لا نستطيع أن نرتاب فيه: يسوع الناصريّ كان مع تلاميذه. وفي يوم من الأيام، كان على شاطىء البحيرة. فهذا الإنسان له تجذّر جغرافي وتاريخيّ. هو لا ينحصر في فكرة (كما نقول في الميتولوجيا) أو في تعليم منقطع عن الزمان. وفي يوم من الأيام وُجد في قارب وسط الأمواج الهائجة. فمن الطبيعيّ أن يكون يسوع تجوّل على البحيرة بين المدن المحاذية للشاطىء، لأنه أقام في كفرناحوم (4: 13؛ 9: 1). والعواصف التي تهيج فجأة وتهدأ فجأة أمر معروف في ذاك المكان. كل هذا يجعلنا في إطار المعجزة كما حصلت وكما ترويها الأناجيل الإزائيّة الثلاثة. ولكن هذه الأناجيل قد عادت إلى مرجع لخبرها. وهذا ما يطرح مسألة المراجع.
كيف فسّر النقّاد العقلانيّون هذا الحدث؟ توافق صدفي بين هدوء العاصفة واستيقاظ يسوع! استعمل يسوع أساليب "سحريّة" أو "وسيطاً" على المستوى الكوسمولوجي! وجعل بعضهم "المعجزة" كعمل بشريّ محض لفت انتباه التلاميذ. تسكين العاصفة يعني أن المسيح سيطر على الأمور ساعة خاف التلاميذ من "الغرق". وإذ أعاد إليهم روعهم ساعدهم على الخروج من هذا المأزق وعلى الانطلاق نحو المياه الهادئة.
هنا لا بدّ من العودة إلى النصوص كما وردت في الأناجيل الإزائية الثلاثة.
ج- تسكين العاصفة: مثل في خبر
بما أننا لا نستطيع أن نحيط بالواقع الملموس (؟) نتساءل: هل حصل حقاً؟ أما هو أسطورة أو استنباط من العقل أو مثل في خبر؟ وهكذا يكون الكاتب انطلق من خبر يونان وبنى مثلاً على هذا الخبر وطبّقه على يسوع. ونقول أيضاً: إن هناك أخباراً لدى الرابانيين أو في العالم اليونانيّ، تتحدّث عن مثل هذه الظاهرة، فتفسّرها امتيازاً إلهياً. وتكوّنت أساطير تدلّ على سلطة الآلهة على الكون. أما في العالم اليهوديّ، فتستلهم الأخبار خبر يونان وتبرز قوّة الصلاة وعناية الله واهتمامه بالمؤمنين.
ولكن سياق ف 8- 9 يعاكس اعتبار معجزة تسكين العاصفة وكأنها مثل في خبر. فإذا قلنا بأن هذا الحدث "خبر مستنبط" و"وليد المخيّلة" اعتبرنا العجائب العشر المذكورة هنا من عالم الخيال.
ولكن يُطرح السؤال: لماذا هذه الأمور "اللامحدودة"؟ لماذا لم يقدّم لنا الانجيل التفاصيل الدقيقة التي تجذّر المعجزة في الواقع؟ لو فعل، لكان الخبر باهتاً. لكان بشرياً بحتاً. ولكن الكاتب ترك لنا فسحة للتفكير والتعمّق: توجّه إلى حرّية القارىء فدعاه إلى جواب يدلّ على إيمانه. فالموضوع هو الإيمان. تحدّث لو ومر عن غياب الإيمان ومت عن قلّة الإيمان (اوليغوستوس) (6: 30؛ 8: 26؛ 14: 31؛ 16: 8: قليلي الإيمان). وهكذا نلاحظ أن معجزات يسوع "مفتوحة" على التفسير (وليست منغلقة على الحرف)، بمعنى أننا لا نستطيع أن نحصرها في تفسير واحد، من أي نوع كان. معجزات يسوع لا تفلت من نواميس الطبيعة كما أنها لا تحاول التسلّط على البشر. بل هي تطرح سؤالاً على مستوى الإيمان.
وهكذا يكون خبر تسكين العاصفة تعبيراً حقيقياً عن واقع تاريخيّ. وهذا الواقع لا يصل إلينا كله إلا داخل الإيمان. نعم، هناك جزء من الواقع لا يصل إليه العقل وحده. وفي النهاية، كل الأسئلة تصل بنا في النهاية إلى هذا السؤال الذي طرحه "الرجال" (أو الناس) بعد العاصفة: "من ترى هذا" (8: 27)؟
د- خبر يسوع كما نقرأه في الإيمان
يسوع، هذا الانسان الذي من الناصرة، الذي معه عاش التلاميذ وساروا وأكلوا وعملوا، وبقربه ناموا. هذا الرجل وكل لقاءاته وكل ما اختبره في الواقع اليوميّ، كل هذا يشكّل مادّة الأناجيل، وهو لم ينل ملء مدلوله إلا على ضوء موت المسيح وقيامته. ذاك هو الواقع الأساسيّ والكليّ (تحدّث متّى عن التتمة: لكي يتم) الذي يعطي كل أحداث حياة يسوع معناها. وبما أنه هذا التمام النهائي لكل حدث في حياة كل إنسان، صارت كل أحداث حياة البشر أحداث حياته.
في هذا الضوء، تذكّر التلاميذ أقوال وأعمال يسوع، فأتاح لهم هذا الضوء أن يعبرّوا عن كل حقيقة التاريخ. في هذا المعنى نستطيع القول إن العماد يعيد قراءة التاريخ وتفسيره، ولكن حدث يسوع هو الذي يحرّكه. إذن، ليس هناك من حلقة مغلقة. فيسوع هو في الوقت عينه مركز التاريخ ومعناه، وهو يقوده إلى تمامه. فلا نستطيع أن نفصل بين الإيمان والتاريخ: فمسيح التاريخ هو يسوع الإيمان. فقد صار رجل الناصرة بواقع قيامته، حين طرح على معاصريه سؤالاً يكشف فيه عن بعض سرّه في أقواله وأعماله، صار معاصر كل إنسان. ما قاله وصنعه منذ ألفَي سنة، ما زال يقوله أيضاً ويصنعه. هذا هو في نهاية الأمر واقع التاريخ.
لا شكّ في أننا لا نستطيع أن ننكر رجوع خبرنا الضمني إلى خبر غرق يونان. وهكذا نكون في جوّ مدراشي (درس وتأمّل في النصوص الكتابيّة). وهذا أمر عاديّ لدى كاتب مثل متّى، الذي كان ضليعاً بأساليب الرابانيين. ولكننا نشهد في الوقت عينه تفخر المدراش التقليديّ، بمعنى أننا لا نعيد إلى يونان ما فعله يسوع على البحيرة، بل إن فعل يسوع هو الذي يساعدنا على فهم غرق نبيّ نينوى، كما يساعدنا على فهم غرق بولس.
إذن، قلبَ مت النهج المدراشيّ رأساً على عقب، فرأى في يسوع ذلك الذي يتمّ كل صورة. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، حين شدّد على تجذّر يسوع في التاريخ البشري، أعطى المدراش قوامه الحقيقيّ وخلّصه من عالم التجريد. والعودة إلى الوجود الملموس للناصري وتلاميذه، وإلى مغامرتهم على الأمواج، تبعدنا عمّا سمّيناه "المثل في خبر" الذي يتوقّف عند شموليّة واقع معيوش دون أن يستغلّ ظروف الزمان والمكان.
المهمّ هو أن ندرك أن الحدث لا ينفصل عن تفسيره. غير أن هذا الواقع التاريخيّ لا يفرض على المستوى الظاهري مدلوله كله: فمعنى "واقع خام" لا يفرض ذاته. ونحن لا نستنفد الخبرة بما نحسّ فيها، بما ندركه منها، بما يظهر منها. وبكلام آخر، الواقع التاريخيّ يبقى "مفتوحاً" على تفاسير في اتجاهات مختلفة. أي أنه يرتدي بُعداً "رمزياً" ويظلّ في الوقت عينه تاريخياً.
يقدّم لنا النصّ قراءة في الإيمان لعمل المسيح. وهو واقع من الماضي. والواقع التاريخيّ التام، والحدث الكامل (غير مبتور) هو جمع بين الواقع الذي يطلب تفسيراً، والإيمان الذي يترجم هذا الواقع كله. وهكذا يكون في حدثٍ مُعطى "أفعال قدرة"، كما يقول مت، "آيات" كما يقول يوحنا، "معجزات" حسب اللغة المعروفة المضاءة بالإيمان.
هل "المعجزة" هي برهان للإيمان، وعلامة تدعو الإنسان إلى الإيمان؟ كلا، إذ فهمنا المعجزة تجاوزاً لنواميس الطبيعة يعنّف الإنسان أو عناصر الطبيعة. نعم، إذا انفتح الإنسان على بعد للأشياء له مدلوله، ويكتشف نفسه مستعداً لاكتشاف سرّ يسوع الحاضر في كل حدث من أحداث حياتنا اليوم.
هذا ما يشهد له حدث تسكين العاصفة. ففي سياق جماعة معرّضة للاضطهاد، على ما يقول أعمال الرسل، يُطرح السؤال: من هو يسوع حقاً؟ وهل نحن مستعدّون لاتباعه حتى النهاية؟ هل نحن مستعدّون أن نقول له، مثل الكاتب: "أتبعك إلى حيث تمضي" (8: 19)؟ إن موضوع اتباع يسوع الذي يدلّ على اهتمام فقاهيّ، يرد مراراً في مت 8- 9. فمتّى يريد منا أن نكتشف حضور يسوع الفاعل وسط قلق الجماعة المضطهدة: قد يبدو نائماً، ولكنه يستيقظ دوماً ليلوم المسيحيين القلقين بسبب "قلّة إيمانهم".
ونجد في قلب هذا الخبر نداء الإيمان ودعوة لنقرأ في الحق أحداث العالم. فالعالم لا يسير إلى الدمار، هذا إذا عرفنا أن نرى فيه حضور الربّ، إذا استطعنا أن نؤمن أن الواقع الجوهريّ هو "ملكوت السماء وبره" (6: 23). في هذا النور يتحوّل الواقع ويتجلّى رغم الظواهر التي لا تتبدّل. وساعة يسمع التلميذ نداء الربّ الحي والقائم من الأموات، يكتشف في خوفه أن إيمانه ضعيف وأنه لم يفهم فهماً ملموساً معنى "اتباع يسوع حتى النهاية" (8: 19؛ 24: 13). الإيمان هو طريق، وهو تعمّق متواصل. ولهذا كان لوم يسوع لتلاميذه تحريضاً لمتابعة الطريق. والجماعة الليتورجيّة تذكّر التلميذ بمتطلّبات الإيمان كلها. فيصرخ نحو ربّه في روح الصلاة الربّية دون أن يتخلّى عن مسؤولياته. وهكذا تدعو الليتورجيا الجماعة إلى التساؤل عن نوعيّة إيمانها بحضور يسوع في وسطها.
إذن، دلّنا مت على قراءة للحدث في وجهاته كلها: بعد الفصح والقيامة، وفي قلب جماعة "مضطهدة لأجل البرّ" (5: 10)، أدرك الإنجيليّ المتشّرب من التعليم التوراتيّ مدلول آية يونان (12: 38- 39؛ 16: 4) كما أعطاها يسوع. هو يعيد قراءة التاريخ ويتجاوز التقارب النبويّ. لأنه دخل في التتمّة التي هي موت يسوع وقيامته.
هـ- آنيّة سرّ يسوع
إن دراسة خبر تسكين العاصفة، كما أوردته الأناجيل الإزائية الثلاثة، تتيح لنا أن لنكتشف كيف عبّر التقليد عن نفسه في واقعه الحقيقي، في الحدث وفي التاريخ. لأن ما حدث مرة واحدة في حياة يسوع، قبل الفصح، ما زال يحدث بعد الفصح، في حياة التلاميذ وفي حياة الجماعة. إن سأل أحد: "ما الذي حدث على البحيرة"؟ نجيب: "ما يحدث اليوم بنعمة القائم من الموت". ففي ما يخصّ تفاصيل الحدث، نبقى على جوعنا، لأن التاريخ لا يعود إلى الوراء، والبحث التاريخي لا يستطيع أبداً أن يستنفد مضمون حياة يسوع وحياة الجماعات المسيحية الأولى.
هناك نقطة تلتقي عندها الأناجيل، وهي أننا لا نستطيع أن ندرك سرّ يسوع. وليس البحث التاريخي وحده هو الذي يجعلنا نلامس السرّ، لأننا قبل كل شيء أمام سرّ الإيمان: إيمان بحضور يسوع الذي كان هنا، الذي هو اليوم هنا، كالقائم من الموت بعد أن مرّ في الموت. وإذا أراد المؤمن أن يدرك هذا السرّ سيكون له دوماً "إيمان قليل". فعليه أن يترك الربّ يوجّه إليه اللوم الذي نجده في قلب خبر تسكين العاصفة: "لماذا تخافون، يا قليلي الإيمان" (8: 26)؟

4- الهدف اللاهوتيّ
نستطيع الآن أن نتطرّق إلى مسألة "تماسك النصوص المتّاوية": ما هو معنى الكلمات العشر التي فعلت فعلها في ف 8- 9 ورتبها الإنجيليّ كما رتبها؟ ما هي العناصر التي توحّدها وتدلّ على حركتها؟ ستكون نظرتنا نظرة الابن أمام عمل الله، وكما ظهرت في عظة الجبل (ف 5- 7). فـ "المعجزة" هي لقاء بين يسوع الفاعل دوماً في التاريخ البشريّ، والإنسان الذي يتقبّل ربّه الحاضر في التاريخ، يتقبّله في إيمان يشرف على كل حياته.
أ- المعنى الكرستولوجيّ للمعجزات
كان العهد القديم قد أدرك أن الله يكشف عن قدرته وأبوّته عبر عمله في التاريخ البشري. هذا ما نجده في تث 7 و26 ومز 76- 81؛ 104- 107. هذه النصوص تبرز طرق تربية الله التي أعلن الأنبياء عن تتمّتها في الخلاص النهائيّ (أش 61). واستعادت الأناجيل هذه النظرة فدلّت على أن عمل يسوع الخيرّ يُتم هذا الوحي، وحي مخطّط الله الخلاصيّ، ويجعلنا ندرك الواقع الحاضر لملكوت السماوات كما يمتدّ حتى نهاية الأزمنة. لهذا، لا تنفصل معجزات يسوع عن بشرى الخلاص التي يحملها متمّماً المواعيد الإلهيّة (4: 23؛ 8: 17؛ 9: 35؛ 11: 2- 6). هي أعمال برّ وأعمال صِلاح، وهي تكشف دينونة الله التي تفرض على الإنسان أن يختار، فتصبح له محنة يمر فيها إيمانه. فما يقسم الناس فئتين، هو موقفهم تجاه كلمة الله، تجاه انجيل الملكوت. فالذين يرون فيها كلام الحياة الأبديّة، يعطون ذواتهم لله بدون تحفّظ. والذين كوّنوا لنفوسهم فكرة خاصّة بهم عن الملكوت، سيرفضون الآيات الإلهيّة وتخيب آمالُهم.
إن شعبة "المعجزات" في مت تكشف بشكل رئيسي حضور يسوع وسط البشر، حضور ملكوت السماوات الذي اقترب (4: 17) والذي هو ينبوع وتمام السعادة التي كشفت عنها التطويبات (5: 3- 12). إذن، يجب أن نهتم لا بالأشفية ولا بالذين ينعمون بها، بل بذلك الذي "يشفي من كل مرض وسقم" (4: 23؛ 9: 35).
أولاً: "أخذ يسوع عاهاتنا"
هذا هو الموضوع الذي يتوزّع عند مت (8: 17؛ رج أش 53: 4) السلسلة الأولى من الأشفية: البرص، الشلل، الحمّى. يجب أن نرى هنا أكثر من أمراض شخّصها الطبّ (رج لا 13- 14 وطقوس التطهير عن البرص: عد 12: 9- 10؛ 2 أخ 26: 16- 21 حيث يكون البرص عقاباً من الله؛ عد 12: 11- 15؛ 2 مل 5: 9- 14 والشفاء من البرص بقدرة الله). إن هذه الأمراض تدلّ على نجاسة، على تشويه للأمانة لله، على ما يعجزنا عن التحرّك نحوه، عن سجن يمنعنا من أن نكون حاضرين لخدمته. وهي تدلّ على ضعف ونقص عند اليهوديّ (الأبرص) والوثني (قائد المئة) والتلميذ (حماة بطرس). فكل واحد من هؤلاء الثلاثة قد استيقظ انطلاقاً من وضعه الخاصّ (8: 15) إلى الإيمان (8: 10، 13)، إلى الربّ (8: 2، 6، 8) الذي ينكشف سلطانه (8: 9) باللمس (8: 3، 15) أو بالكلمة (8: 8). فيطلقهم (8: 4، 13) من أجل الخدمة (8: 15).
وإذا تذكرنا أن العبد المتألّم (في أش) كان مشوّهاً (أش 52: 14) مثل الأبرص (أش 53: 3)، ومزدرى بعد موته وسط الأشرار (أش 53: 9)، ساعة أدركه ذراع الرب (أش 53: 1) وأعطاه أن يرى النور (أش 53: 11)، نستطيع أن ندرك التماسك في الرؤية المتاوية. فهذه الرؤية تقدّم لنا "يسوع الشافي" في سمات عبد الله المتألم والممجّد كما في أشعيا. فهو يتماهى مع كل عاهة بشريّة ليُخرج منها قدرة الخلاص الشاملة، ويدفع الإنسان إلى اتخاذ موقف (8: 1- 12؛ أش 53: 12). واتباع يسوع في هذه الظروف ليس طريقاً مع المعلّم وحسب (8: 19). بل هو لقاء بمن هو ربّ الحياة (8: 22) الذي يسير في طرق البشر الصعبة دون أن يتغرّب عن ذاته (8: 20). وهو يطلب في كل حدث بشريّ التزاماً حصرياً لا تراجع فيه ولا تردّد (8: 20- 22). يجب علينا أن نختار أو نضع الديانة والإيمان جانباً.
ثانياً: أعطي يسوع سلطة فائقة
لقد ظهرت هذه السلطة في "القول" (7: 29) وفي العمل (8: 9؛ 9: 6؛ 8: 10: 1)، وهذه السلطة تهاجم الشّر في جذوره. فهي تسيطر على هجمات الطبيعة كالعاصفة. كما تسيطر على تقلّبات الجماعة المسيحيّة (8: 25)، كما على أعمق التغرّبات التي تلج حياة البشر والمجتمعات، كما على الخطيئة التي تدرك الإنسان في قلب حريّته، وتجمِّد قواه الحيّة تجميداً تاماً.
إن جميع قوى العنف التي نخضع لها، ليست بشيء أمام سلطة ابن الإنسان (9: 6)، لأنه قد واجهها خلال حياته على الأرض. وإذ غفر يسوع القائم من الموت الخطايا (9: 2؛ رج 6: 2- 5)، وأنهض المائتين (8: 25- 26)، أيقظ أيضاً البشريّة المشلولة (9: 5- 7) وأعطاها أن تمشي (9: 6) في إيمان متجدّد (8: 6؛ 9: 2). منذ داست قدم ابن الله (8: 29) أرضاً وثنية، خسرت النجاسة التي يرمز إليها الخنازير (لا 11: 7) قدرتها الشريرة (8: 29). وهكذا دخل يسوع إلى العالم الوثنيّ (7: 6). فـ "هنا" و"قبل الوقت" كما قال مت 8: 29، واستباقاً للانتصار النهائيّ على الموت (أش 65: 1- 5)، قد دلّ الملكوت على قدرته في حياة يسوع على الأرض. وممارسات التقسيمات (من أجل طرد الشياطين) في الجماعات الأولى هي إعلان حيّ لهذا الإيمان الذي لا يُقهر، في الكنيسة التي لا تستطيع قوى الجحيم أن تنتصر عليها (16: 18).
وكلام مت 9: 9- 17 عن النداء الموجّه إلى الخطأة والخمرة الجديدة، يعبّر تعبيراً واضحاً عن وجهة من الجدّة الاسكاتولوجيّة التي ترتديها سلطة يسوع. فهذه السلطة هي سلطان إلهيّ يُعطى للبشر (9: 8؛ رج 8: 27- 29)، وهي أيضاً سلطان مسيحانيّ، كما يدلّ على ذلك شفاء الأعميين وشفاء الممسوس الأصمّ والأخرس. فإذا أردنا أن نتبع يسوع (9: 9) يجب أن نستقبله في قلب خطيئتنا، في قلب تعاطينا مع العشّارين. يجب أن نترك هذا الطبيب الذي لا يوجد أمامه خطأة وأبرار، بل أشخاص ساءت حالهم (9: 12- 13)، يجب أن نتركه يشفينا. وحين نسير وراءه نتقبّله كالعريس الأسكاتولوجيّ الذي يجدّد كل شيء فينا، ويفجّر كل ما لا ينفتح على هذا الجديد الجذريّ (9: 15- 17). يبقى أنه يجب علينا أن نقبل بأن نعبر معه في الموت (9: 15) لنصل إلى القيامة.
ثالثاً: يسوع هو حياة الملكوت الجديدة
هذا ما تبرزه الأخبار الأربعة الأخيرة في هذه الشعبة. فسلطان يسوع هو قوّة حياة تخلّص من الموت الذي دلّ عليه نزف الدم (9: 20- 21) ورمزَ إليه الموت (9: 24). فجماعة الملكوت هي أم تخلّت عنها الحياة شيئاً فشيئاً وبُنيّة نائمة. والإيمان وحده بقدرة القيامة يستطيع أن يخلّص (9: 22)، أن ينهض من الموت (9: 25).
حين استيقظت الجماعة، تقبّلت موهبة نبويّة، موهبة النظر والكلمة. فالملكوت هو الفسحة التي فيها يعمل ملكوت يسوع المسيحانيّ. والجماعة العمياء التي ترى فيه ابن الله (9: 27) وتتركه يلمسها (9: 29)، تستطيع أن تصل إلى الإيمان (9: 28- 29) بالربّ (9: 28). والشيطان الذي يمنعها من الكلام يُطرح خارجاً، فتعود إليها إمكانية الكلام (9: 33). إذا كانت الجموع قد دهشت لهذا الجديد الذي لم يُعرف في إسرائيل (9: 33)، فالجميع لا يدركون الآيات المسيحانيّة (9: 34). يجب أن يتابع عملُ يسوع انتشاره، لا في الجليل وحسب، بل في كل المدن والقرى (9: 25). وهذا العمل هو هو، لأن ما صنعه يسوع مرّة، يصنعه دوماً. ولكنه في الوقت عينه جديد دوماً لأنه يتمّ في الزمن. يسوع ليس وحده: فهناك جماعة مسيحانيّة تبدو مثل حصاد قد نضج لا بدّ من وضعه في الاهراء (9: 37- 38). ولكن الوحدة لم تتكوّن بعد. فعلى الجماعة، شأنها شأن إسرائيل القديم، أن تتعرّف إلى راعيها وتتركه يجمعها (9: 36).
وتشكّل هذه الشعبة المتاوية (ف 8- 9)، شأنها شأن سابقتها (ف 5- 7) وحياً عن يسوع، وعبر يسوع وحياً عن الآب. فأعمال قدرته تدلّ عليه، وواقع الملكوت قد اقترب من البشر. فالملكوت في نظره هو هنا، لأن أفعاله تدلّ عليه وأقواله تقول ما هو هذا الملكوت. غير أن كلمته تصل في أمثال، وأعماله في آيات. كل منها هي حضور الملكوت، ولكنها فعلات بشرية لا بدّ من أن تتكرّر. يستطيع يسوع أن يشفي بلا ملل جميع المرضى الذي يأتون إليه، ولكنه يجد دوماً مرضى جدداً، والذين شفوا اليوم سيعودون مرضى في الغد. في كل خطوة من خطوات يسوع، يأتي ملكوت الله معه، ولكن عليه أن يمدّه إلى أبعد. والملكوت يأتي دوماً دون أن نستطيع القول إنه وصل.
ويتمّ وحي الملكوت هذا عبر اللقاءات والاتصلات اليوميّة. وردّات فعل يسوع تتيح لمن يعرف أن يفتح عينيه أن يرى واقعاً جديداً يعمل في العالم بشكل يحيّرنا. هذا ما تعبّر عنه "المعجزة": ليست فقط برهاناً عن قوّة أو عن أصل تعليم يسوع العلويّ، بل ظهور عطوبيّة قلب الله وحبّه الرحيم للبشر (تي 3: 4).
رابعاً: ألقاب يسوع
إن الألقاب التي أعطاها يسوع لنفسه في هذه الشعبة لها مدلولها. بدأ مت فأبرز موقف يسوع على أنه موقف "عبد يهوه" الذي يأخذ عاهات البشر وخطاياهم، ويستقبل في ذاته ثقل الشقاء ليخلّصه حبّ الآب الذي هو "ربّ الحصاد" (9: 38). إنه "ابن الإنسان" (9: 6) الذي يغفر الخطايا. وفي هذا الغفران يتجلّى أعظم تحوّل في الإنسان وبلوغ إلى الحريّة الحقّة، حريّة أبناء الله. ويعلن نفسه "الطبيب" (9: 12) الذي ينحني على المرضى ويلمس جراحهم دون أن يتأثّر بها، ويأكل مع الخطأة فلا يتأثّر بخطيئتهم بل يغذّيهم بقداسته. ويقدّم نفسه أيضاً "العريس" المحبّ للبشريّة والمغرم بها إلى حدّ غمرها بحضوره وجعلها تعيش في غيابه صوماً استعدادياً للأعراس الأخيرة. ويريد نفسه "الراعي" (9: 36) الذي يقود قطيعه إلى المرعى ويُربضه في بيت الآب.
تعبّر هذه الألقاب في الوقت عينه عن اهتمام حنون وبساطة متواضعة. فيسوع لا "يحطّم" الناس بقدرته ولا بمجده. لقد رفض مثل هذا الاسلوب في أيام تجاربه في البرّية (4: 1؛ 11). بل هو يأخذ على عاتقه كل أبعاد الواقع الذي يعيشه البشر ويحمله إلى قلب حياته. ليس هو مثل طبيب أو مثل عريس. إنه الطبيب. إنه العريس. وهو يلعب دوراً خاصاً به، وإذ يلعب هذا الدور يدلّ على طبيعته. لهذا، ليس هو الطبيب المثاليّ والعريس الذي لا يضاهيه عريس، بل هو العريس وحسب. الآن لا عريس آخر في الكون جاء يقوم بفعلة لا يعملها الإنسان إلا مرّة واحدة. هناك مياه حيّة واحدة، وهناك أب واحد، وهناك راعٍ واحد، وهناك عريس واحد.
أما البشر فاكتشفوا فيه "المعلّم" الذي أرادوا أن يتبعوه، دون أن يدركوا بعدُ متطلّبات هذا الاتّباع. وبدا بالنسبة إلى الشياطين "ابن الله" الذي يهزّ سلطانهم بقدرته. وهو للاعميين "ابن داود" الذي يحمل الشفاء المسيحانيّ. وبالنسبة إلى الجماعة المسيحانيّة حيث يلتئم المسيحيون الآتون من العالم اليهودي كالمخلّع (8: 2) أو الآتون من العالم الوثني كقائد المئة (8: 6، 8)، والعميان الذين قادهم إلى رؤية الأشياء رؤية حقيقيّة (6: 28)، لكل هؤلاء هو "الربّ" والقائم من الموت الذي لا يكتشفه إلا الذين يسيرون معه مثل تلاميذ (8: 21- 25).
ب- جواب الإنسان في الإيمان
أولاً- في خطى يسوع
قدّم مت كل هذه الشعبة في إطار مجموعة من الرجال والنساء الذين قادهم يسوع على خطاه بعد أن حرّرهم من قلبهم، من جسدهم ودمهم. وهم لا يتبعون يسوع بمبادرة منهم: يجب أن نتقبّل هذا النداء كعطيّة من الآب، ولا نستطيع أن نضع له شروطاً (8: 18- 22). كما لا يستطيع أحد أن يتهرّب من هذا النداء، ولا يحسّ أنه مستبعَد ولو كان من العشارين والخطأة والوثنيين: فكلهم مدعوّون. والمتطلّبة هي هي: إذ أردنا أن نتبع يسوع، يجب أن نقبل بأن نجد فيه الماء الحيّ الذي يخلّص (9: 18- 22). ونترك من يمسك بيدنا يوقظنا من الموت (9: 23- 25). ونتركه يُلبسنا قدرته النبوية التي تجعلنا نرى ونتكلّم (9: 29- 33). أن نتبع يسوع يعني أن نقبل بتجدّد يحوّل الإنسان (9: 16، 17) ويؤهّله للدخول إلى وليمة المصالحة الشاملة (9: 10).
بين هؤلاء الناس الذين جمعهم يسوع (8: 2- 15)، نجد في متتالية أولى اليهوديّ والوثنيّ، وربّة بيت بطرس. وترينا المتتالية الثانية (8: 23- 9: 8) التلاميذ، الوثنيين، يهوداً من كفرناحوم. وترينا المتتالية الثالثة (9: 18- 34) بداية الجماعة النبويّة (من خلال وجه المرأة: النازفة، ابنة يائيرس) التي ستتعلّم أن ترى وتتكلّم.
وهكذا نشهد ولادة جماعة الملكوت. غير أن الطريق ما زالت بعدُ طويلة قبل أن نكتشف تماسكها ووحدتها. أما الآن فهي خليقة تخرج من الفوضى. فكل من الأمراض وقوى الشّر المذكورة هنا، يمثّل حاجزاً يجب أن يتغلّب عليه عملُ يسوع المحرّر. وهذ التحرير يجد ذروته في "النهوض" (اغايراين، 8: 15، 25، 26؛ 9: 5، 6، 7، 19، 25) الذي هو صورة عن قيامة يسوع (27: 13، 64؛ 28: 6، 7) التي يشارك فيها أولئك المدعوّون لكي يتبعوه. وهذه المشاركة يعبرّ عنها مت بفعل "لمس" (هبتو، 8: 3، 15؛ 9: 20، 21، 29). يسوع هو الذي يلمس المرضى، ولكن في حدث النازفة، المرأة هي التي تبادر وتتّصل بالقدرة التي ارتداها يسوع ورمز إليها معطفه. فما فعلته هذه المرأة وما فعله المعلّم سيكونان التعبير الأسراري الذي سيرتسم في الجماعات الأولى التي وُلدت في نور القيامة.
ثانياً: كيف نتبع يسوع
إذن، يجب أن نتبع يسوع الذي بدا حضوره المرتدي بالسلطة، نداء يتوجّه إلى الخطأة. ولكن من هو هذا الرجل؟ نحن لا نستطيع أن نتجنّد له بروح الخفّة، بل بالجدّية والرصانة. ويُطرح السؤال: كيف نتبع يسوع؟ أعطيت أجوبة عديدة حسب انفتاح البشر على هذا الحضور الجديد، وحسب ردّة فعلهم على مجيء الملكوت وسط مجموعة من البشر تعيش في منطقة محدّدة.
- هناك الذين تبعوا يسوع مثل متّى، فاكتشفو فيه نداء محدَّداً بالنسبة إلى حياتهم (9: 9).
- هناك الذين لم يدركوا كل متطلّبات هذا النداء، مثل الكاتب (8: 19)، أو الذين يطلبون مهلة لكي يجيبوا على هذا النداء مثل التلميذ (8: 21).
- هناك الذين أعجب يسوع بإيمانهم فاستجاب لهم مثل قائد المئة (8: 10)، مثل المخلّع والذين يحملونه (9: 2)، مثل النازفة (9: 22) والأعميين (9: 28- 29).
- هناك الذين يرتابون مثل تلاميذ يوحنا. فهم ما زالوا مغلقَين على تمثّلهم للمسيح، وما زالوا يتساءلون (9: 14).
- هناك الذين يلومهم يسوع "لقلّة إيمانهم": هم تلاميذ يحاولون أن يتبعوه ولو في قلب العاصفة (8: 26).
- هناك الذين يُظهرون معارضة متنامية مثل الكتبة (9: 3) والفريسيين (9: 10) الذين يحكمون على تلاميذ يسوع (9: 10) ثم يتّهمون يسوع نفسه (9: 34)
- هناك الذين بدأوا يتبعون يسوع (مثل الجموع) في دهشة وحماس (8: 1، 10، 27، 9: 8، 10، 33) فقدّموا له مرضاهم (8: 16؛: 2، 32). ولكنهم سوف ينفصلون عنه شيئاً فشيئاً (لهذا أجبر يسوع فجعلهم خارجاً، 9: 25) فيحرّكون شفقته (9: 36) واهتمامه الرسوليّ (9: 37).

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM