الفصل السادس :الإيمان في الأناجيل الازائيّة

 

الفصل السادس

الإيمان في الأناجيل الازائيّة

حين نقابل الأناجيل الإزائية مع بولس ويوحنا، لا نجد فيها عرضًا منهجيًا ولاهوتيًا عن الايمان، كما نجد عندهما. ومع ذلك، فهي تتكلّم عن الايمان بشكل غنيّ وحيّ يتيح لن أن نكتشف سماته الاساسيّة: دوره كشرط أساسيّ من أجل الخلاص، طبيعته التي هي تقبّل الكلمة. والايمان يفرض تسليم الذات لله، كما يفرض الالتزام التام. وتتحدّث الأناجيل عن الايمان وتقلّباته، كما عن قدرته وإشعاعه. أجل، إن الايمان يمتلك قدرة إقامة ملكوت الله وسط البشر.

1- الايمان شرط الخلاص
الايمان هو متطلّبة يسوع الأولى. حين بدأ يعلن الإنجيل، جاءت كلمته الأولى تُجمل نداءه في هذه الآية: ((تمّ الزمان واقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا بالانجيل)) (مر1: 15). وحين أراد أن يجري المعجزات، ذهب يطلب الايمان لدى الذين يطلبون الشفاء. جاءه أعميان يطلبان الشفاء. فسألهما: ((هل تؤمنان أنني أستطيع أن أصنع ذلك))؟ فقالا له: ((نعم يا رب)). عند ذاك لمس أعينهما وقال: ((ليكن لكما حسب إيمانكما)) (مت 9: 28-30). وجاء من يقول ليائيرس: ((ماتت ابنتك، فلماذا تزعج المعلّم بعد))؟ ولكن يسوع هدّأ روعه: ((لا تخف. آمن فقط)). وكانت المعجزة: طليتا قوم، أي يا صبيّة قومي (مر 5: 35-36، 41؛ رج لو 8: 49 - 50، 54). وتوسّل والد الولد المصروع وهو خائف: ((إن استطعتُ شيئًا فأغثنا شفقة منك علينا)). فقال له يسوع: ((إن استطعتُ!... ولكن كل شيء مستطاع للمؤمن)) (مر 9: 22-23). إن تقبّل الإيمان هذا ضروريّ جدًا، بحيث إن غاب الايمان يمتنع يسوع عن العمل. قال مت 13: 58 إن يسوع في الناصرة ((لم يصنع عجائب كثيرة بسبب عدم إيمانهم)) (مت 13: 58؛ رج مر 6: 6).
فالإيمان هو في نظر يسوع شرط لا غنى عنه. بل يبدو كافيًا. يكفي أن تؤمن. ويسوع لا يطلب شيئًا آخر. حين يجد يسوع الايمان، يمنح الشفاء والصحّة والخلاص. يمنح الجسدَ الشفاء، والنفسَ غفران خطاياها. جاؤوه بمخلّع، ووصلوا إليه بصعوبة كبيرة بسبب الزحام. فلما رأى يسوع إيمانهم، قال للمخلّع: ((ثق، يا ابني، مغفورة خطاياك)) (مت 9: 2؛ رج مر 2: 5؛ لو 5: 20). وجاءته الخاطئة إلى بيت سمعان. ما طلبت بشفتيها شيئًا، بل اكتفت بأن تبكي. حينئذ قال لها يسوع: ((إيمانك خلّصك، إذهبي في سلام)) (لو 7: 50). وجاءته النازفة، فما تجرّأت أن تنظر إليه وجهًا لوجه وهي ((النجسة)). دلّت على إيمانها حين لمست رداءه فقط: ((لتطب نفسك يا ابنتي، ايمانك خلّصك)) (مت 9: 22أ).نداء الايمان وجواب الرب. ((وبرئت المرأة من تلك الساعة)) (آ22ب). وعبّر ابن طيما عن إيمانه بصراخ أزعج الناس. فكان جواب يسوع: ((إيمانك خلّصك)) (مر 10: 52). وهذا الايمان هو من القوّة بحيث يصل إلى كل انسان، يهوديّ أو وثني أو سامريّ. شُفي برصٌ عشرة. ولكن واحدًا جاء فقط. كان سامريًا، لا يهوديًا. كان غريبًا. ومع ذلك، نال من يسوع مديح الايمان: ((إيمانك خلّصك)). وما كان يحقّ للكنعانيّة أن تأكل من ((خبز البنين)) المحفوظ أولاً ((للخراف الضالة في اسرائيل)). ولكن إيمانها العظيم المتواضع بدّل الأمور. بل أجبر يسوع على أن يبدّل الخطّة الرسولية، فحصلت هذه الوثنية على ما لم يحصل عليه أبناء الشعب اليهوديّ. ((إيمانك عظيم، أيتها المرأة! فليكن لك كما تريدين)). فشُفيت ابنتها من تلك الساعة (مت 5: 28 رؤ).
وكما نالت الكنعانيّة بإيمانها شفاء ابنتها، كذلك جعل قائدُ المئة يسوعَ يتعدّى الحواجز بين يهوديّ ووثنيّ، ويعلن إعجابه بهذا الايمان الكبير: ((الحق أقول لكم، لم أجد مثل هذا الايمان عند أحد في اسرائيل)). وقال له يسوع: ((إذهب، وليكن لك حسب إيمانك)). فشُفي المريض (مت 8: 5-13؛ لو 7: 2-10). في هذا الاطار، أعلن يسوع أن الوثنيّين قد نالوا الخلاص بإيمانهم تجاه اسرائيل الذي رفض أن يؤمن. ((أقول لكم: كثيرون سيأتون من المشرق والمغرب، ويتّكئون مع ابراهيم واسحاق ويعقوب في ملكوت السماوات. أما أبناء الملكوت فيُلقون في الظلمة الخارجيّة)) (مت 8: 11-12)، بعيدًا عن نور الآب.
2 - الايمان لقاء بين الانسان والله
ويُطرح سؤال: ما هو سرّ هذه القوّة التي يمتلكها الإيمان؟ الإيمان فعلة بها يتقبّل المؤمن كلمة الله. فالله يدلّ الانسان بكلمته على مشيئته الخلاصيّة. هي كلمة حقة، كلمة فاعلة. هي كلمة لا تغشّ، فتحقّق حالاً ما تقول. قال الله: ليكن نور. قكان نور (تك 1: 3). ونقرأ في مز 33: 9: ((قال فكان كل شيء. أمر فثبت كل كائن)). أعلن الله كلمته بشكل مباشر أو بواسطة كلمته، فتنفّذت حالاً هذه الكلمة. وعد زكريا فوُلد يوحنا المعمدان. ووعد مريم فصارت أم يسوع. وكما فعل الله، كذلك فعل يسوع الذي هو كلمة الله المتجسّد. فمن آمن بيسوع آمن بالله الآب. قال: ((من يقبلني لا يقبلني، بل يقبل من أرسلني)) (مر 9: 27). إذا كان البشر يطلبون الملكوت، فهذا الملكوت قد اقترب في شخص يسوع (لو 17: 21). والخلاص يقدَّم لمن يريد أن يتقبّله. يستطيع الخطأة أن ينالوا الغفران، والمرضى الشفاء، والموتى القيامة. يكفي أن يؤمن الانسان بقوّة الخلاص التي ترتبط بكلمة يسوع لينال ما طلب.
ونقول: إن قدرة الله مطلقة في ذاتها، ولا حدود لها. هذا صحيح. ولكنها تحترم كل الاحترام الانسان، تلك الخليقة العاقلة والحرّة. إن الله لا يستعمل العنف معنا. لا شكّ في أنه يحرّك قلوبنا وعواطفنا بواسطة نعمته التي تحنو علينا. ولكنه ينتظر منا قبولاً حرًا. يا لسرّ الله العظيم الذي لا يُستقصى! هو يقف على الباب كالشحّاذ، وينتظر منا أن نفتح له الباب حين نسمع صوته. ينتظر منا أن نسلّم ذاتنا إلى مشيئته، أن نثق به كلَّ الثقة، أن لا نستند إلاّ إليه. كلمة الله حقّ هي، فنجعلها كلمتنا. كلمة الله قوّة، ونحن نتخلّى عن قوّتنا لنجعل معونتنا باسم الربّ.
وهكذا يبدو الايمان في وجهتين متكاملتين: وجهة سلبيّة من التجرّد والاستسلام والتواضع. ووجهة إيجابيّة من الثقة وعطاء الذات والالتزام. هذا ما نجده في الأناجيل الازائيّة، حيث الناس الذين يقربون يسوع يدلّون على إيمانهم أو لاإيمانهم، عن قبولهم للخلاص أو رفضهم لهذا الخلاص. فأعمى أريحا تحدّى كل حياء بشريّ، وظلّ يصرخ رغم احتجاج الجمع: ((يا ابن داود ارحمني)) (مر10: 48 وز). وهذه النازفة التي يئست من الأطبّاء، ومن كل عون بشريّ، قالت: ((يا ليتني أستطيع أن ألمس رداءه فقط)) (مت9: 21؛ رج مر 5: 28). وهذه الخاطئة التعيسة لم تهتمّ لما يقوله سمعان عنها، ولا بما ينعتها: هي خاطئة. وهذا الضابط الرومانيّ لم يهتمّ بما يقوله اليهود من أمور بشرية، بل دلّ على إيمانه بطريقة ملموسة جدًا: ((يا سيدي، لست بأهل أن تدخل تحت سقفي. ولكن قل كلمة فقط فيبرأ غلامي. فإني أنا أيضًا انسان تحت سلطان، ولي جند تحت يدي. فأقول لهذا اذهب فيذهب. ولآخر تعال فيأتي. ولغلامي اعمل هذا فيعمل)) (مت 8: 8-9؛ رج لو 7: 7-8).
كل هؤلاء آمنوا بيسوع. يكفي ان يقول كلمة فيتمّ ما يقول. هذا ما حدث في الخلق. قال الله: ليكن جلد، فكان كذلك. لتجتمع المياه، فكان كذلك. لتنبت الأرض نباتًا، فكان كذلك (تك1: 7، 9، 11). وهذا ما يحدث في حياة يسوع. بكلمة من فمه يشفي. بإشارة من يده يشفي. يُعيد خلق الانسان فيهتف الناس: ما أحسن ما صنع (مر7: 37). وهذا الايمان لا يكتفي بأن ينال نعمة منظورة، نكتشفها في شفاء يتمّ. بل هو يطلب الاستعداد لأن يترك الانسان كل شيء ويتبع يسوع. سأل يسوع أعمى أريحا: ((ماذا تريد أن أصنع لك))؟ أجاب الأعمى: ((أن أبصر)). فقال له يسوع: ((اذهب)). فالبصر سيحصل عليه هذا الأعمى. وما يطلبه يسوع منه الآن هو أن ينطلق معه في الطريق التي تقود إلى أورشليم، إلى الآلام والموت والقيامة.
وما طلبه يسوع من هذا الأعمى، سبق وطلبه من تلاميذه الأولين. وصل إلى بطرس واندراوس وابني زبدى: ((اتبعوني وأنا أجعلكم صياديّ سمك)). تركوا الشباك والقوارب والاهل وتبعوا يسوع. وهكذا دلّوا على إيمانهم بهذا الذي لا يبدو غنيًا بغنى البشر، ولا قديرًا بقدرة الناس، بهذا الذي لم يكن له حجر يُسند إليه رأسه (مت 4: 18-22 وز). وما فعله الأربعة الاولون، سيفعله متّى وهو الموظّف الذي يعيش عيشة مرتاحة. ترك مائدة الجباية والتحق بيسوع (مت 9: 9 وز). ومريم العذراء. إلى ماذا استندت لتقول: ((ها أن أمة للرب فليكن لي كقولك))! ستعطى ولدًا مع أنها لا تعرف رجلاً. هذا يتعدّى مفهوم البشر. ولكن اليصابات أعطتنا الجواب: ((طوبى لتلك التي آمنت بأنه سيتمّ فيها ما قيل لها من قبل الربّ)) (لو 1: 45).
ولكن الجميع لا يؤمنون. فالحسابات البشريّة تقف في وجه كلمة الله. وعدَ ملاكُ الرب زكريا بأنه يكون له ولد. فأجاب زكريا الملاك: ((كيف يكون (من يؤكّد لي) هذا؟ فأنا شيخ وامرأتي قد طعنت في أيامها)) (لو 1: 18). نقص زكريا الايمان الذي ملأ قلب ابراهيم على ما قال بولس الرسول في الرسالة إلى رومة. ((لم يشكّ قط في وعد الله، بل تقوّى في الايمان ممجّدًا لله، ومتيقّنًا أن الله قادر ان يُنجز ما وعد به)) (4: 20-21). وهناك الجبن والخوف. والتعلّق بخيرات الارض. مثل ذاك الشاب الغنيّ الذي أحبّه يسوع محبّة خاصة. ((إن شئت أن تكون كاملاً، فاذهب وبع مالك وأعطه للمعوزين، فيكون لك كنز في السماوات ثم تعال فاتبعني)) (مت 19: 21). ماذا كان الجواب؟ أجواب الايمان؟ كلا. ((فلما سمع الشاب هذا الكلام مضى حزينًا، لأنه كان ذا مال كثير)) (آ22). وهناك كبرياء الانسان الذي يظنّ أنه لا يحتاج إلى الله، فيستند إلى نفسه وينغلق على النداء. لهذا قال يسوع لرؤساء اليهود: ((جاءكم يوحنا من طريق البرّ (أي الطريق التي يقدّمها الله)، فلم تؤمنوا به. أما العشّارون والبغايا فقد آمنوا به. ولقد رأيتم ذلك ولم تندموا من بعد لتؤمنوا به)) (مت 21: 32؛ رج لو 7: 29-30). وجاء تلميذ آخير يضع شروطًا على يسوع. فما هو هذا الايمان الذي يضع شروطًا على الرب الذي يدعوه؟ لهذا جاء الجواب قاسيًا: ((من يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء ليس أهلاً لملكوت الله)) (لو 9: 61-62).

3- الايمان استسلام لله
كيف نفهم الاستسلام؟ نفهمه في ما يعارضه، وهو طلب الطمأنينات البشريّة. قبل أن نؤمن نريد يقينًا يستند إلى علل بشريّة. فالفرّيسيون طلبوا من يسوع آية من السماء (مر8: 11وز)، أي آية ساطعة تبرهن بوضوح عن رسالته الالهيّة. ولكن في الواقع، لم يكن قلبهم مستعدًا. فطلبوا ما طلبوا كي يجرّبوه. لن يكون لهم هذا الوضوح، ولن يستطيعوا الوصول إليه. فحين شفى يسوع أمامهم ممسوسًا، نسبوا سلطانه إلى بعل زبول، رئيس الشياطين (مر3: 22 وز). رفضوا من جهة المبدأ أن يروا فيه عمل الروح، وهذه هي الخطيئة التي لا يمكن أن تُغفر (مر 3: 29 وز)، لأنها تغلقنا على النور، وتمنعنا أن نشرب من ينبوع الغفران. لكي نؤمن يجب أن نريد أن نؤمن، أي أن يكون لنا قلب مستقيم يشكّ في ذاته ليتقبّل تدخّل الله. فالمعجزة في حدّ ذاتها، وفي ماديتها كـ ((آية))، لا تستطيع أن تفرض الايمان. فقد تضلّنا: فالمسحاء الكذبة والأنبياء الكذبة ((يصنعون آيات ومعجزات كبيرة تستطيع أن تضلّ المختارين إذا أمكن)). إذن، لا نصدّق كل ما يقال فيها (مت 24: 23-24 وز). وحتى إن جاءت المعجزة من عند الله، فنحن نستطيع أن نرفضها. رأت كورزين وبيت صيدا وكفرناحوم معجزات يسوع وما تابت (مت 11: 20-24: لو10: 13-15). وتخيلّ الغني أن إخوته سيتوبون إن رأوا لعازر الفقير يقوم ويعود إليهم. ولكن ابراهيم أجابه: ((إن لم يسمعوا لموسى وللانبياء، حتّى إن قام واحد من الموت لا يصدّقوا)) (لو 16: 27-31). وهزئ رؤساء اليهود عند الصليب من يسوع قائلين: ((خلّص آخرين ولا يستطيع أن يخلّص نفسه! إنه ملك اليهود. لينزل عن الصليب فنؤمن به)) (مت 27: 42؛ رج مر 15: 31-32). غير أن طلبهم كله مكر ووقاحة. فهم لا يريدون أن يؤمنوا. وسيقول لهم يسوع ساعة مثوله أما المجلس (السنهدرين): ((إن قلت لكم (إني المسيح)، لن تصدّقوا)) (لو 22: 67).
ومع ذلك، فقد أجرى يسوع معجزات لكي يدلّ على رسالته. أفلا يحقّ للايمان أن يطلب أسبابًا تبرّر تعلّقه بالربّ. هذا ما لا شكّ فيه. غير أن هذه الاسباب هي إشارات توجّه خطانا، وليست أبدًا براهين تجعل الايمان فرضًا واجبًا. لهذا، فالانسان يستطيع أن يتهرّب. فالعجائب والبراهين الكتابيّة تقدّم موضوع الايمان، وتطلب قبولاً من قلب الانسان. إنها نور عظيم لنا. ولكن يجب أن لا يبقى هذا النور خارجيًا، بل يجب أن نقبله في داخلنا بقلب مستقيم قد لامسته النعمة. قد يجد الانسان في العجائب شروحًا بشريّة يقف عندها ولا يتعدّاها. فإذا أراد، وجب عليه أن يتجاوز مستوى العقل كي يرى الأمور في ضوء الروح. إن الايمان يتطلّب تواضع القلب.
رفض يسوع هذه ((الآيات))، ولكنه أجرى معجزات. غير أنه كان متحفّظًا، فما اتّخذ مبادرة في هذا السبيل ليُظهر قدرته. ويرينا الانجيل كيف يلبّي يسوع طلب الناس، يشفق عليهم، ولا يريد أن تُعلن المعجزة (مر 1: 40-44). فهو يتهرّب من هذه الظواهر أمام ((جيل شرير فاسق)) يطلب آية (مت 12: 39وز؛ رج 1كور 1: 22)، ويلاحق آمالاً مسيحانيّة زمنيّة، ويبحث عن ((الطعام الفاني)) (يو 6: 27). وما نلاحظه أيضًا هو أن يسوع لا ينتظر الايمان كنتيجة لمعجزة أجراها الآن، بل يطلب هذا الايمان كشرط ضروريّ لهذه المعجزة. وهكذا يكون موضوع الايمان شخصَ يسوع نفسه، قبل أن يكون الواقعَ العجيب الذي يُتمّه الربّ.
موضوع الايمان هو مشيئة وقدرة خلاص وصل إلى البشر من قبل الآب. هذا ما نراه مع ((آية يونان)) التي ستُعطى وحدها في النهاية: ((هذا الجيل الشرير الفاسق)). فإذا فهمناها حسب نص لوقا (11: 29-32)، فهي تدلّ على شخص ابن الانسان الذي يدعو إلى التوبة ويعلن مخطّط الخلاص وما فيه من حكمة. والموازاة مع أهل نينوى وملكة سبأ، تدلّ على أن الايمان به يتطلّب قلبًا مستعدًا يتخلّى عن سلوكه الخاطئ وعن حكمته الخاصة. وحسب نصّ متّى (12: 38-42)، هذه الآية ستكون قيامة يسوع الذي خرج من بطن الأرض بعد ثلاثة أيام وثلاث ليال.
غير أن هذه المعجزة المركزّية في الانجيل، والايمان الذي يجد فيها سنده الاساسّي، لا يكونان واضحين وضوح معجزة يتصوّرها محاوروه. فيسوع القائم من الموت ينتمي إلى عالم آخر لا تدركه إلاّ المعرفة الفائقة الطبيعة. فإن انحصر العقل البشريّ في حدوده، لا يصل إلى يسوع. فالقبر الفارغ فسِّر على أنه ضلالة (مت 28: 13-15). ورُفضت الظهورات على أنها هلوسة (لو 24: 11؛ مر 16: 11، 13). والكتب المقدّسة لم تبرهن شيئًا لليهود، ولا للتلاميذ ما داموا ((قلوبًا بطيئة عن الايمان)) (لو 24: 25)، ولا للعقل الذي يغطّيه حجاب كثيف (2 كور 3: 14-15). كل هذه ((البراهين)) لامست فقط القلوب المستعدّة، التي تخلّت عن نورها الخاص لكي تترك النور العلوي يلجها. وتلميذا عماوس لم يفهما الكتب ولم يعرفا المعلّم إلاّ بعد أن فتحت الكلمة لهما عيونهما (لو 24: 15-31). وحين تخلّى الاحد عشر، وبينهم توما، عن المقاومة أمام جراح القائم من الموت، برز فعلُ ايمان حقيقي وإن جاء متأخّرًا: ((لانك رأيت آمنت يا توما)). لم يقل له ((عرفت))، بل ((آمنت)). لقد استسلم في النهاية إلى النعمة حين رأى جسد المعلّم واعترف به ساجدًا: ((ربي وإلهي)) (يو 20: 28-29).
وفي النهاية، الايمان هو عطيّة من الله. وهو ككل عطيّة يطلب من الانسان أن يتقبّله تاركًا الاستناد إلى ذاته. فالنور الخاص بنا لا يساعدنا على وضع يدنا على الايمان. فنحن لحم ودم. فنحن ضعف وعجز. حين أعلن بطرس إيمانه بيسوع المسيح، أظهر أنه انفتح على نور علويّ: ((طوبى لك، يا سمعان بن يونا، لأنه لا لحم ولا دم أوحى لك ذلك بل أبي الذي في السماوات)) (مت 16: 7). وهذه العطيّة لا تُمنح للجميع. ((لكم أعطيت معرفة أسرار ملكوت السماوات. ولكنها لم تُعطَ لأولئك)) (مت 13: 11 وز). هذا لا يعني أن الله اعتباطيّ في عطاياه. ولكنه لا يستطيع أن يمنح نور الايمان إلاّ للوضعاء. فهم وحدهم يتقبّلونه: ((أشكرك يا أبت، ربّ السماء والارض، لأنك أخفيت هذا عن الحكماء والفهماء، وأظهرته للاطفال)) (مت 11: 25؛ لو 10: 21). وهكذا كرِّم التلاميذ تكريمًا يوم دُعوا ((هؤلاء الصغار الذين يؤمنون بي)) (مت 18: 7 وز).

4- الايمان التزام تام
ليس الايمان فقط تجرّدًا سلبيًا وتخلّيًا. بل هو أيضًا التزام ايجابيّ. فالمؤمن لا يتخلّى فقط عن ذاته،بل هو يعطيها. بع ما تملك، تخلّ عمّا تملك، وأعطه . ثم تعال اتبعني. وكلمة الله ليست حقيقة مجرّدة نتقبّلها رغم العقل البشري. إنها حقيقة حياة تحقّق ما تعلن، فتحوّل الانسان الذي ينفتح لها.
قال الرب في عظة الجبل: ((ليس من يقول لي: يا ربّ، يا رب، يدخل ملكوت السماوات، بل من يصنع إرادة أبي الذي في السماوات)) (مت 7: 21؛ رج لو 6: 16). فسماعُ الكلمة سماعَ الأذن لا يكفي. بل يجب علينا أن نمارسها. أن نضعها موضع العمل. ويشدّد يسوع على هذا الأمر في مواضع ُيبرزها لوقا. ((أمي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها)) (8: 21). وهتفت له امرأة من الجمع: ((طوبى للبطن الذي حملك، وللثديين اللذين أرضعاك)). أجاب يسوع: ((بل طوبى لمن يسمع كلمة الله ويحفظها)) (في قلبه وفي حياته) (11: 27-28). ونجد هذه المتطلبّة عينها في مثل قصير ينهي عظة الجبل: ((كل من يسمع هذه الاقوال ويعمل بها يشبه رجلاً حكيمًا بنى بيته على الصخرة. سقطت الامطار وجرت الأنهار وعصفت الرياح واندفعت على ذلك البيت فلم يسقط، لأن أساسه كان على الصخر.وكل من يسمع أقوالي هذه ولا يعمل بها يشبَّه برجل جاهل بنى بيته على الرمل، فهطلت الأمطار وجرت الانهار وعصفت الرياح واندفعت على ذلك البيت. فانهار وكان انهياره عظيمًا)) (مت7: 24-27؛ رج لو 6: 47-49). فالايمان بدون أعمال باطل ولا قيمة له. هو ميت كما قال يع 2: 14-26؛ رج 1: 22-25.
وجاء مثل الزراع (مت 13: 3-9، 18-23) صورة عن هذا التعليم. فالبذار الذي هو كلمة الله يقع في أراض مختلفة تتقبّلها بأشكال متنوّعة. عند البعض، لا يتجذّر البذار فيجفّ ويموت بعد المحنة الأولى. عند البعض الآخر، ترتفع النبتة، ولكن تخنقها همومُ العالم وسحرُ الغنى. كان لكل فئة من هذه الفئات إيمانها، ولكن هذا الايمان ((الفتيّ)) لم يحمل ثمارًا. أما الايمان الحقيقي والفاعل فهو الذي وُجد لدى الذين ((سمعوا الكلمة بقلب نبيل وصالح. فيحفظونها ويثمرون بالصبر)) (لو 8: 15).
وهكذا نفهم أن النداء إلى الايمان هو نداء إلى التوبة. هذا ما قال يسوع في بداية الانجيل (مر 1: 15). وأهل نينوى كانوا مثالاً لهذا الجيل لأنهم آمنوا، بل لأنهم ((تابوا حين سمعوا كرازة يونان)) (مت 12: 41؛ لو 11: 32). ومن الواضح أنه إن كان العشّارون والبغايا يصلون إلى ملكوت الله قبل رؤساء اليهود، فلأنهم آمنوا بيوحنا المعمدان (عكس الرؤساء، مت 21: 31-32)، ولأن إيمانهم كان تبدّل حياة (لو 7: 29)، كان ((معمودية توبة لغفران الخطايا)) (لو 3: 33). وحين قال يسوع للخاطئة ((إيمانك خلّصك))، فلأن هذا الايمان عبّر عن نفسه، لا بالكلام، بل بدموع التوبة (لو 7: 37 -50). وهذه التوبة هي عودة الانسان كله، قلبًا وعملاً، هي تحسّر على الماضي مع تطلّع إلى حياة جديدة في المستقبل.
وإلى هذا الانقلاب في الحياة، ينضمّ شكل حياة جديدة، في خدمة الله، لا في خدمة الذات. فهناك محبّة الله حتى بغض الذات، ومحبّة الذات حتى بغض الله، كما قال القديس أوغسطينس. أجل، يُدعى الانسان لأن يتبع يسوع، لكي يصير ((إبن الملكوت)). والايمان هو ((الباب الضيّق )) الذي ينفتح على ((طريق حرج يقود إلى الحياة)) (مت 7: 14). فالتلاميذ الحقيقيون، ((هؤلاء الصغار المؤمنون)) بيسوع (مت 18: 6)، هم الذين قدّموا إليه ذواتهم دون النظر إلى الوراء (لو 9: 59-62)، فتبعوه وهم يحملون صليبهم (مت 16: 24 وز).
5 - نموّ الايمان وتقلّباته
هنا نفهم أن الايمان يستطيع أن ينمو. بل يجب أن ينمو وإلاّ ذبُل ومات. فلو كان الايمان مجرّد معرفة عقليّة، فهو لا يعرف التقلّبات: فنحن نعرف أو لا نعرف. نحن نفهم حقيقة أو لا نفهمها. ولكن بما أن الايمان هو تحرّك القلب الذي يسلّم ذاته إلى الرب، فهو يسير من كمال إلى كمال بأعمال تتكرّر وتتكمّل في حياة الانسان. فعلى الانسان أن يجدّد تخلّيه وتجرّده، لأنه يجرّب في أن يعود إلى ذاته وإلى أنواره الخاصة، بدلاً من أن يضع ثقته في حكمة الله التي تتكلّم بشكل سريّ وتقودنا إلى حيث لا نعلم (رج يو 3: 8). فعلى المؤمن أن يحقّق في كل لحظة متطلّبات التزامه الأول بسخاء يتنامى يومًا بعد يوم، والويل له إن تراخى وما ثبت! الويل له إن نظر إلى الوراء فبدا له الصليب ثقيلاً.
بدأ الايمان بذرة صغيرة. هذا ما قاله لنا مثل الزارع ومثل حبّة الخردل. وعلى هذه البذرة أن تنمو لتعطي ثمارًا. غير أن الرب ينبّهنا بأن هذا النموّ يتمّ في الألم والصعوبة. فالايمان الحماسي في بدايته يشبه نار القشّ. يضعف وربّما ينطفئ بسبب التقلّبات في حياتنا والتجارب. وهذا الايمان بما فيه من سخاء في البداية، هو سريع العطب. هو موضوع رجاء فينا قبل أن يتحقّق. فيجب أن يتجذّر ويرتفع ويعطي أغصانًا يستظلّها طير السماء (مت 13: 31-32 وز). والايمان ليس عطية جامدة تَبرز في شكل واحد ولا تتغيَّر. فبقدر ما ننفتح على عطاء الله ينمو هذا الايمان. على مثال الوزنات: نتاجر بها فتنمو. نخبئها في الأرض فيؤخذ منا حتّى الذي لنا.
ويتوسّع الانجيل في نموّ الايمان هذا. طلب والدُ الولد المصروع وهو خائف. أجابه يسوع: ((كل شيء ممكن لمن يؤمن)).حينئذ هتف الرجل: ((أنا أؤمن. فأعن قلّة إيماني)) (مر9: 22-23)! دلّ الوالد على تواضعه،ولجأ إلى الوسيلة الوحيدة التي تنمي هذا الايمان: الصلاة. والتلاميذ كانوا أول من آمن، وتعلّقوا بيسوع بشجاعة، وتبعوه. ولكنهم بدوا خائفين، متردّدين في إيمانهم. ارتعبوا من العاصفة التي تهدّد السفينة بالغرق، فأيقظوا المعلّم النائم: ((يا رب، نجنا! لقد هلكنا)). فأجاب يسوع: (( لماذا أنتم خائفون، يا قليلي الايمان)) (مت 8: 25-26)؟ وستكون عبارة مر 4: 40 (رج لو 8: 25: أين ايمانكم) أقوى: ((أما عندكم إيمان))؟ لا شكّ في أنهم يؤمنون بيسوع، ولكنهم لم يستسلموا بعد إلى الطمأنينة التي يؤمّنها حضورُه.
وبطرس نفسه سمع كلام يسوع، فراح في مغامرة جعلته يمشي على الماء. هو فعل ايمان حارّ، ولكن فيه بعض التحفّظ. رأى عنف الريح، فخاف وبدأ يغرق. فصرخ: ((يا رب نجّني))! فأمسكه يسوع بيده وقال له: ((يا قليل الايمان، لماذا شككت)) (مت 14: 28-31)؟ وكانت مناسبة أعطيت للرسل بأن يمارسوا إيمانهم مع الولد المصروع. فالمسيح أعطاهم سلطان الشفاء (مت 10: 1 وزّ). ولكنهم ما استطاعوا. قال والد الولد: ((قدّمته إلى تلاميذك فما استطاعوا أن يشفوه)). عندئذ تحسّر يسوع بألم وقال: ((أيها الجيل الغير المؤمن، الأعوج، إلى متى أكون معكم؟ إلى متى أحتملكم))؟ وسأل التلاميذ: ((لماذا لم يستطيعوا طرد الشيطان))؟ فأجابهم يسوع: ((لقلّة إيمانكم. فالحق أقول لكم لو كان لكم من الايمان مثل حبّة خردل، لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل، ولما استحال شيء عليكم)) (مت 17: 16-20وز).
كان إيمان التلاميذ إيمان الخائفين. ونقصَه النورُ الكافي. فعقلهم البشريّ لم يرتفع بما فيه الكفاية إلى الواقع الروحيّ. وحين يحدّثهم يسوع عن طريق الاستعارة عن ((خمير الفريسيين والصادوقيين))، أي عن تعليمهم، ظنّوا أنه يوبّخهم لانهم نسوا أن يأخذوا معهم خبزًا. حينئذ قال لهم: ((يا قليلي الايمان، لمَ تفكّرون في أنفسكم أن ليس معكم خبز ؟ أفلا تذكرون الخمسة الارغفة للخمسة الآلاف وكم قفَّة رفعتم منها؟ ولا السبعة الارغفة للاربعة آلاف وكم سلّة رفعتم منها؟ كيف لا تفهمون أني لست في شأن الخبز قلت لكم : إياكم وخمير الفريسيين والصادوقيين (( (مت16: 5-12؛ رج مر8: 14-21)؟
هذا اللافهم في إيمان صادق وإن كان ناقصًا، يظهر بشكل خاص في اعتراف بطرس في قيصريّة فيلبس. أعلن بطرس أن يسوع هو المسيح، فهنّأه يسوع على إعلانه. ولكنه فكّر في مسيح قويّ ومنتصر. لهذا، سيثور حين يعلن يسوع عذاباته وموته. ((حاشاك يا رب، فهذا لن يحدث لك أبدًا)). ايمان بشريّ قريب من العمى. لهذا وبّخه يسوع: ((إذهب خلفي با شيطان، فأنت عائق لي، لأن أفكارك ليست أفكار الله بل أفكار البشر)) (مت 16: 22-23؛ رج مر 8: 32-33). وإن يسوع يعرف أن ضعف الايمان لدى أخصّائه لن يُقهر إلاّ بالقيامة وملء مجيء الروح. وليلة آلام يسوع، ظنّ بطرس أنه فهم أهميّة المحنة الكبرى، فوعد أنه سيكون قويًا. فأعلن له يسوع أنه سينكره: ((سمعان، سمعان ها إن الشيطان طلب أن يغربلكم كالحنطة. ولكني صلّيت لاجلك لئلا يضعف إيمانك. وأنت متى عُدت فثبِّت اخوتك)) (لو 22: 31-32). وفي ساعة الخطر، سوف ينكر بطرس معلّمه . وفي ساعة الانتصار، سيكون بطيئًا هو واخوته لكي يؤمنوا بدون تحفّظ بالمعلّم الالهي الذي قام وعاد إلى الحياة (لو 24: 11، 25، 37، 41؛ مت 82: 17؛ مر 16: 11، 13، 14).
إذا كان أول المؤمنين بالمسيح والقريبون منه قد رأوا ايمانهم معرَّضًا لمثل هذه المحن، وإن وجب عليهم أن ينقّوا هذا الايمان وينموه في التجرد والالتزام المتجدّد، فماذا يكون شأن الآخرين؟ فالايمان لا يستطيع أن يحيا إلاّ شرط أن يحارب وينمو. وإلاّ فهو سيذبل ويموت كالزهرة. خان يهوذا، أحد الاثني عشر معلّمه. ولا شكّ في أنه كان له إيمان حار أقلّه في البداية. ولكنه لم يعرف أن يدافع عن هذا الايمان ضد الانانيّة والحسابات البشريّة. وهناك تلاميذ آخرون تبعوا يسوع، ولكن خاب أملهم وتذمّروا. وبعد أن تحمَّسوا ليسوع تركوه: ((هذا الكلام صعب، فمن يطيق سماعه)) (يو 6: 60-66). فقد أعلى يسوع أن المحبّة ستبرد لدى عدد كبير بسبب الاثم المتكاثر، خلال المحن الاخيرة (مت 24: 12). وتساءل بحزن وكآبة: ((عندما يعود ابن الانسان، هل يجد الايمان على الارض)) (لو 18: 8)؟ فالله لا يُكره القلوب على الطاعة له، بل يترك كل واحد منا يتعمّق في ايمانه ويفتحه على الله. غير أنه يعطينا الوسائل. فنعمته قديرة وفاعلة لمن يقبلها. وقد صلّى يسوع من أجل إيمان بطرس، ومن أجل الذين سوف يثبِّتهم بطرس. ومع أنه عالم بالسقوط والانكار، فهو يقول أيضًا: ((تقوّوا! أنا غلبت العالم)) (يو 16: 33).

6- قوّة الايمان وانتشاره
حين يرتكز الانسان على قوّته الخاصة، يبقى إيمانه سريع العطب وغير فاعل. أما إذا استند إلى قدرة الله، صار إيمانه ثابتًا وقويًا. وقد تلفّظ يسوع بقول ربطه لوقا بموضوع نموّ الايمان. ((قال الرسل للرب: زدنا إيمانًا. فأجاب الربّ: لو كان لكم إيمان مثل حبّة الخردل، لقلتم لهذ التوتة انقلعي وانغرسي في البحر، فتطيعكم)) (لو 17: 5-6). وأورد مت ومر هذا القول بشكل مختلف بعض الاختلاف. تعجّب التلاميذ لأن التينة يبست حين لعنها يسوع. فقال لهم: ((آمنوا بالله. الحقّ أقول لكم إن قال أحد لهذا الجبل انتقل واسقط في البحر، وهو غير مرتاب في قلبه، بل مؤمن بأن ما يقوله يكون، فذلك يكون له)) (مر11: 22: 23؛ رج مت 21: 21). وأورد مت قولاً مشابهًا بعد شفاء الولد المصروع (17: 20). مهما يكن من هذه الاختلافات في قول قد يكون يسوع تفوّه به في أكثر من مناسبة، فهو يؤكد أن كل شيء ممكن للايمان الذي يستطيع أن يزيح الجبل ويزرع شجرة في البحر. يكفي لذلك بعض الايمان ((مثل حبّة خردل)). ولكن يجب أن يكون هذا الايمان صادقًا ، أي يستند إلى الله بدون ارتياب.
وترتبط قوّة الايمان ارتباطًا وثيقًا بالصلاة. ففي حدث الولد المصروع، نجد جوابًا على سؤال التلاميذ: ((هذا النوع من الشياطين لا يمكن أن يخرج إلا بالصلاة)) (مر 9: 29). وفي حدث التينة اليابسة جاء قولٌ بعد القول عن قدرة الايمان: ((لهذا أقول لكم كل ما تطلبونه في الصلاة، آمنوا أنكم تنالونه فيكون لكم)) (مر11: 24). فالرباط حميم بين الايمان والصلاة. في هذا المعنى قال مت 21: 22: ((كل ما تطلبونه في صلاة مليئة بالإيمان تنالونه)) (مت 21: 22). فالايمان، شأنه شأن الصلاة، هو لجوء إلى قدرة الله. ففي الحالين لا يستند الانسان إلى ذاته، بل إلى الله. لهذا، فهما لا ينفصلان. فمن يصلّي ليصلِّ بإيمان، وهو متيقّن أن الله يستجيبه، يريد أن يستجيبه، بل هو قد استجابه. فجواب النعمة سريع وأكيد. والمؤمن يدلّ على إيمانه في صلاته، لأن صلاته فعل استسلام ينتظر كل شيء من الله. لهذا، فهذه الصلاة المؤمنة، وهذا الايمان المصلّي، هما قوّة لا تُقهر. قوّتهما قوّة الله التي لا يقف شيء في وجهها.
نما التلاميذ شيئًا فشيئًا في هذا الايمان. فبعد اللافهم والسقوط، تعلّقوا تعلقًا نهائيًا بمعلّمهم الذي قام من بين الأموات. سقط بطرس رئيسهم، ولكنه وقف بصلاة المسيح. وهو هنا لكي يثبّت الإخوة ويوجّههم (لو 22: 32؛ يو 21: 15-17). وسيأتي الروح فيكونون شهوده. وهكذا يستطيع إيمانهم أن ينطلق ليصل إلى نهاية العالم حسب الرسالة التي أوكلهم بها يسوع. ((إذهبوا في العالم كله واكرزوا بالبشارة إلى الخليقة كلها. فمن يؤمن ويعتمد يخلص ومن لا يؤمن يُدان)) (مر 16: 15-16؛ رج مت 28: 18-20؛ لو 24: 47-48). وستتثبّت كرازتُهم بالمعجزات التي تدلّ على قوّة الايمان. ((وها هي الآيات التي تصحب المؤمنين: باسمي يخرجون الشياطين، وينطقون بألسنة جديدة، ويأخذون الحيّات بأيديهم. وإن شربوا سمًا قاتلاً فلا يضرّهم ويضعون أيديهم على المرضى فيُشفون)) (مر 16: 17-18). سوف يرينا سفر الأعمال، وتاريخ الكنيسة من بعده، هذه المظاهر الخارجيّة في الإيمان الجديد. ولكن أعظم من هذه الأعمال هو ذاك الذي يتمّ في القلوب وهو: ارتداد الوثنيين، انتشار المسيحية، ثبات الكنيسة رغم المحن، ثمار القداسة في عدد من المسيحيين. ستنمو الكنيسة بقوّة الايمان وإن رافقتها الصعوبات. فقد وعدها ذاك الذي غرسها، وعدها ذاك الذي له كلمات الحياة الأبديّة (يو 6: 68)، فقال لها وللمؤمنين ((أنا معكم كل الأيام وحتى انقضاء العالم)) (مت 28: 20).

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM