الفصل التاسع :المغفرة بين الإخوة

الفصل التاسع
المغفرة بين الإخوة
18: 21- 35

حين دوّن متّى إنجيله، جعل فيه خمس خطب تتركّز كلها حول فكرة ملكوت السماوات. وهكذا أراد الانجيليّ بطريقة تربويّة، أن يرتّب تعاليم يسوع قبل أن يقدّمها لنا. أولاً: عظة الجبل (ف 5-7)، وفيها أعلن يسوع شرعة الملكوت. ثانيًا: الخطبة الرسوليّة (ف 10)، وفيها أعطى يسوع "للمرسلين" تعليمات من أجل الرسالة. وفي خطبة الأمثال (ف 13) كشف يسوع لتلاميذه أسرار الملكوت. وفي الخطبة الكنسيّة (ف 18) أعطى يسوع القواعد التي توجّه الجماعة المسيحيّة. والخطبة الخامسة هي الخطبة الاسكاتولوجيّة (ف 24- 25) حيث يبيّن يسوع لأخصّائه الموقف الروحي الذي يجب أن يكون موقفهم في نهاية الأزمنة.
أما المقطوعة التي نقرأها الآن (18: 21-35) فهي جزء من الخطبة الرابعة. جعلها متّى في موضع هامّ وسط الشرائع التي توجّه العلاقات بين "الإخوة" داخل الجماعة الكنسيّة. وإذ جعلها خاتمة "الخطبة الكنسيّة" جعل منها "قاعدة أساسيّة" في كنيسة يسوع.
بعد أن نقرأ حوار بطرس مع يسوع، نتوقّف عند مثل الدائن الذي لا يرحم.

1- إغفر سبعين مرّة (18: 21- 22)
إن القول حول الغفران سبعين مرّة يكشف بشكل نموذجيّ خاص، الكمال الذي يحمله الانجيل إلى شريعة بشريّة سبقت العهد القديم وكانت مسيطرة في القبائل، بل ما زالت في أيامنا هذه التي تطلب الانتقام والانتقام اللامحدود.
إن الحركة الأولى لدى الذي نال الإساءة، تقوم بأن "ينتقم" أي أن يردَّ على الكيل بالكيل وأكثر، أن يردّ الصاع صاعين، يعني مع "الفائدة". في الواقع، إن الشرّ الذي يشبه حيوانًا مفترسًا، يقبع في قلب الانسان، يقف على باب بيته (تك 4: 7). ويتدخّل الله بالشريعة ليخفّف من ردّة الفعل، ليضع حدًا للانتقام، فكانت شريعة المثل (كما تعاملني أعاملك) التي تجد جذورها في "دستور حمورابي" والتي تحدّد أصول التبادل في الانتقام. ""عين بعين، سن بسنّ" (لا 24:20). إذا كسر لك أحد سنّك، فالشريعة تسمح لك بأن تكسر له سنّه فقط. لا زيادة. لا تكسر له فمه كله. اقتلع لك أحد عينيك، اكتف بعينه ولا تقتلع له رأسه.
وسوف تسير شريعة المثل على مهل وبخفر، حتى تصل إلى الانجيل. إذا سقط حمار عدوّك فلا تمرّ بقربه دون أن تساعد صاحبه. ومع إرميا نفهم أن البار لا ينتقم أبدًا، بل يسلّم أمره للرب (11: 20). في هذا المجال نتذكّر ما قاله سفر الأمثال: "إن جاع مبغضك فأطعمه خبزًا، وإن عطش فأسقه ماء، فإنك تركم على هامته جمرًا، والربّ يجازيك" (25: 21). ونقرأ أيضًا: "إذا سقط عدوّك لا تشمت (لا تفرح) وإذا وقع لا يبتهج قلبك، لئلا يرى الرب ويسوء الأمر في عينيه" (24: 17). أجل، هذا ما يريده الرب. ويردّ سفر الأمثال على ما في خر 21: 25: "لا تقل: كما صنع بي (عدوي)، هكذا أصنع به. وأرد لكل واحد بحسب عمله" (أم 24: 29).
وجاء الانجيل يطلب منا أن نتجاوز الاعتبارات القانونيّة في العلاقات البشريّة. بل إن يسوع، رفض شريعة المثل، وطلب منا أن نصلّي من أجل أعدائنا ونحبّ مضطهدينا. نقرأ في مت 5: 43-45: "وسمعتم أنه قيل: أحبب قريبك وأبغض عدوك (هذا ما استخلصت جماعة قمران من تشريع العهد القديم). أما أنا فأقول لكم: أحبّوا أعداءكم، وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات". إن أبغضنا أعداءنا لا نكون أبناء الله، بل أبناء ابليس وأبناء قايين الذي كان قاتلاً (1 يو 3: 12). جعلنا متّى في إطار القضاء، أما لوقا فتحدّث عن كل "عدوان" يصيبنا، فقال: "أحبّوا أعداءكم، وأحسنوا إلى من يبغضكم. باركوا من يلعنكم، وصلّوا لأجل من يفتري عليكم" (27:6-28).
وهكذا نصل إلى النصّ الذي نقرأه (مت 18: 21-22) والذي يطلب منا أن نغفر بدون حساب. أن نغفر سبعين مرة سبع مرات (العدد سبعة هو عدد الكمال والملء الذي لا حدود له). في العهد الجديد، تحوّل قول لامك تحوّلاً كليًا: من الانتقام إلى آخر حدود الانتقام، حتى الغفران إلى آخر حدود الغفران.
تدخّل بطرس كما اعتاد أن يفعل (28:14؛ 15:15؛ 24:17؛ 27:19)، فطرح باسم التلاميد سؤالاً لم يكن في محلّه. ولكن لا بأس، فيسوع سيجيب عليه. ولكنه سؤال ما زال على مستوى علم الفتاوى اليهوديّة: ما هو الحدّ الذي أستطيع الوصول إليه لئلا "أخطأ". رفض يسوع أن يقف معه في هذا المناخ. عرف العالم اليهودي لدى الرابينيّين فكرة الغفران الأخويّ (فقط بين الإخوة، أبناء العيلة والقبيلة وشعب الله، وما خرج عن ذلك صار الغريب والعدوّ)، ولكن داخل نظام الشريعة. كانوا يجادلون مثلاً حول عدد المرّات التي فيها يغفر الأخ لأخيه. وقد وصلوا إلى الرقم أربعة. أما بطرس فاعتبر أنه تجاوز كل حدود حين وصل إلى الرقم سبعة. أما يسوع فضرب سبعة ب سبعين، فكان لنا 490 غفرانًا في اليوم الواحد. هكذا نكون أبناء الآب الذي في السماء.
أجاب يسوع جوابًا استعاد فيه نشيد الانتقام الذي لا حدود له كما جُعل في فم لامك ابن قايين: "قتلت رجلاً جرحني، وسحقت فتى شدخني. إذا انتقموا لقايين سبعة أضعاف، فسينتقمون للامك سبعًا وسبعبن مرّة" (تك 4: 23-24). وكما سبق وقلنا، قلبَ يسوع هذا الكلام وحوّله إلى غفران لا يعرف حدودًا. كانوا قد وضعوا حدودًا اجتماعيّة وسيكولوجيّة للانتقام. ولكن كل هذا يتعارض الآن مع المغفرة بين الإخوة (ولا ننسى: كلنا إخوة وأبناء أب واحد، مت 23: 8-9). وحده الغفران يستطيع أن يخلّص الجماعة الجديدة من الدمار. فالكنيسة، شأنها شأن العالم، تعرف واقع الخطيئة وما فيه من قساوة، وتعرف ما يرافق الاساءات الشخصيّة. وما يدهشنا هو أن انجيل العبرانيين (انجيل منحول نقرأ نصوصه عند ايرونيموس مترجم البيبليا الشعبيّة) أورد كلمة يسوع هذه، ولكنه أحسّ بالحاجة إلى شرحها: كيف يستطيع أخ أن يخطأ بعد وهو عضو في الكنيسة؟ أما يسوع فكان واقعيًا. وحدّثنا متّى عن هذه الواقعيّة.
نشير هنا إلى أن فكرة الغفران الاخوي لم تكن غائبة عن عالم الرابينيين ولا عن عالم الاسيانيين (جماعة قمران، قرب البحر الميت). غير أن هذا الغفران ينطبع بثلاث سمات تعطيه وجهًا آخر لا نجده في الانجيل: نغفر لأنه يليق بنا أن نغفر (عيب علينا. أين الله في كل هذا؟). نغفر لأننا نخاف بشكل خاص البلبلة التي تحملها إلى الجماعة صراعات بين الأخوة. نغفر غفرانًا يكون على مستوى القانون الذي فرضته علينا الجماعة، ولا نغفر مغفرة شخصيّة على مثال الله الذي حين يغفر لنا يخلقنا من جديد. ويقوم هذا الغفران على ما يبدو ببضع كلمات تهدئة، بترتيبات حبيّة. وأخيرًا كان موضوع الغفران يغوص في عدد من الفرائض المتفرقة. هو ما ارتدى يومًا في العالم اليهوديّ المكانة التي احتّلها في العالم المسيحيّ. في الأناجيل.
قال رابي يوسي: "إذا خطىء واحد مرة، مرتين، ثلاثًا، نغفر له. ولكن لا إذا خطىء أربع مرات حسب خر 34: 7 (الجيل الثالث والرابع) وعا 2: 1 (معاصي موآب الثلاث والأربع)". ونقرأ في باب آخر من التلمود: "حتى بعد أن أعطاه المذنب ما يتوجّب عليه، لا يُغفر له إلا إذا طلب المغفرة من الذي أذنب إليه".
عرف العالم اليهوديّ فكرة غفران الله. ولكننا نستطيع أن نقول عن هذا الغفران ما قلناه عن المغفرة الأخويّة. ففي طقوس اللعن (أو الدعوة على الآخر) في نظام الجماعة (في قمران) نقرأ: "لا ينعم عليك الله حين تدعوه، ولا يغفر لك لكي تكفّر عن شرورك" (8:2). وبشكل عام، يتأمّن الغفران للذين سبق لهم وتطهّروا. "فجميع أعمالهم هي في حقّك، وبسبب نعمك تدينهم برحمة عظيمة وغفران وافر" (المدائح في قمران 6: 9). وأخيرًا، لا يرتبط الغفران بحدث تاريخي، كما في الأناجيل، حيث يرتبط بيسوع المسيح، بحياته وموته وآلامه. الغفران هو موضوع معرفة، موضوع حدس وخبرة شخصيّة. "مبارك أنت أيها السيّد... لأنك عرّفتني غفرانك العجيب الذي لن أسكت عنه نهارًا وليلاً" (المدائح 10: 14).

2- مثل الدائن الذي لا يرحم (23:18- 35)
تجاه رحمة لا حدود لها، وغفران لا قياس له، نجد نفوسنا أمام وحشيّة العلاقات البشريّة من أجل ديون تافهة. هذا ما نكتشفه في مثل الدائن الذي رحمه سيده، فلم يرحم أخاه، ولم يسامحه بالدين. فاستحقّ غضب السيّد. بعد نظرة عامة إلى المثل نتوقّف عند أربع محطات: السيّد وعبده (آ 23-27). العبد ورفيقه في الخدمة (آ 28-30). الحكم على العبد الذي لا يرحم (آ 31- 34). القول الأخير (آ 35): "هكذا يفعل أبي السماوي بكم...".
أ- نظرة عامة
هذا المثل الذي هو خاص بمتّى، يبدو بشكل خاتمة لما في ف 18 حول الحياة داخل الجماعة. لهذا يجب أن نفهمه في هذا الإطار الأدبيّ. ثلاثَ مرّات ظهرت فيه لفظة "الغفران" (آ 27، 32، 35، رج آ 21). وهذه اللفظة ترد عند متّى أكثر ممّا ترد في أي جزء من العهد الجديد. كما لا ننسى أن مت هو الذي يشدّد على الأعمال، على الكنيسة، على الغفران. لهذا، يجب أن نفهم هذا المثل كتذكير موجّه إلى بطرس (آ 21-22) وإلى سائر التلاميذ، بالغفران الذي نالوه من المسيح، وبالمتطلّبات الأخويّة (سندولوس، آ 28، 29، 31، 33، العبد الذي هو معه) التي تنتج عن هذا الغفران. إذن، لسنا أمام نظريّة عامّة عن غفران الله في علاقته مع غفران البشر بعضهم لبعض، بل أمام تعليم خاصّ يتوجّه إلى التلاميذ، ومن خلال التلاميذ إلى كنيسة متّى وإلى كنيستنا التي تحتاج هي وكل فرد فيها أن يتعلّموا الغفران العميق كما قدّمه الانجيل.
في هذا الخبر، كل شيء يبدو كثيرًا جذا وهو يتجاوز كل معقول: دين العبد الأول: 15 مليون ليرة ذهب. كيف وصل إلى هذا الدين؟ وهل يستطيع أن يفيه إن باع نفسه وامرأته وأولاده الذين يساوون كلهم ليرة ذهب؟ هذا يعني أنه يستحيل عليه كل الاستحالة أن يفي دينه. ثم قرار الرحمة الذي اتخذه هذا الملك. ما عفاه من بعض الدين، بل عفاه من كل الدين لأنه طلب منه. لم يؤخّر الدفع. لم يطلب الدفع على أقساط كما يتمّ في مجتمعاتنا. تحنن السيّد عليه، وترك له الدين. وهناك العنف الذي تصرَّف به ذاك الذي أعفي من دينه، مع دائن له عليه فقط بضع ليرات ذهبية، لا تقاس بالدين "الملكيّ". وأخيرًا ردّة فعل الملك الأخيرة. كأني به تراجع عن قراره الأول حين رأى تصرّف العبد مع أخيه. أترى الله يتراجع حين لا يغفر كل واحد منا لأخيه من أعماق قلبه؟
هكذا نجد نفوسنا حين نقرأ هذا المثل في إطار بلاط شرقيّ (مثلاً في أرض أشور، أو في بلاد فارس، أو في أنطاكية)، لا في عالم فسطين وما فيه من فقر. فهل نشكّ بصحّة هذا المثل؟ ولكن هل نسينا طريقة التضخيم في الأخبار داخل عالمنا الشرقيّ. هكذا أراد الراوي أن يبيّن عظمة الدين الذي يجب علينا لله، والذي لا نستطيع أن نفيه مهما عملنا، وضآلة ديوننا بعضنا لبعض ورفضنا أن نترك الدين الذي لنا عند إخوتنا (لو 11: 4؛ مت 6: 12 حيث الحديث يدور في المعنى الحرفيّ على الدين). ونزيد أن العالم اليهوديّ استعمل مرارًا مثل هذه الصور، وهكذا كان يسوع إبن عصره حين أعطانا هذا المثل.
ونزيد أن الانجيل حين أراد أن يكلّمنا عن الغفران، لم يستعمل صورًا وكلمات باهتة تقول كل شيء ولا تقول شيئًا. فالعنف الذي به عامل العبد أخاه ورفيقه في الخدمة، يدلّ على الطريقة التي بها يتعامل الإخوة، داخل جماعة تلاميذ يسوع، كما يدلّ على النزاعات التي تمزّق هذه الجماعات. نتذكّر هنا ما قاله بولس عن جماعة كورنتوس: "أيجترئ أحدكم وله دعوى على آخر أن يحاكمه لدى الخطأة... تظلمون وتسلبون من هم إخوة لكم" (1 كور 6: 1، 8). وقساوة الأغنياء تجاه الفقراء أمر معروف في رسالة يعقوب التي قد تعود إلى محيط قريب من محيط متّى، وهي تستحقّ العقاب القاسي من الله (يع 5: 4-6) "حكمتم على البار وقتلتموه". نحن هنا أمام مثل، ولكن عناصره تطبّق على جماعة متّى كما على جماعاتنا. لهذا نقرأ في آ 33 كلام الرب: "أفما كان ينبغي لك أنت أيضًا أن ترحم رفيقك كما أنا رحمتك"؟ الربّ رحم، فيجب علينا أن نرحم على مثال الآب السماوي (مت 7:5: طوبى للرحماء؛ لو 6: 36: كونوا رحماء، كما أن أباكم السماوي رحيم هو).
ب- السيّد وعبده (آ 23-27)
* هو العبد الأول الذي سنتعرّف إليه فيما بعد: هو لا يرحم (رج يع 13:2: ستكون الدينونة بلا رحمة على من لا يصنع الرحمة). والسيّد هو الذي يطالب بالحساب. إن الفكرة التي تقول إن الملك المسيحاني سيكون ديّان الساعة الأخيرة، فيمارس عدالة تحمل الرحمة للأبرار ولا ترفق بالخطيئة، هذه الفكرة تغرز جذورها في العهد القديم. بل هي أحد المواضيع المحبَّبة إلى صاحب المزامير حيث نقرأ: "يدين الشعوب والأمم في حكمة برّه" (17: 31، أو عدالته). "في الجماعات يدين قبائل الشعب المقدّس" (47:17). "إنه ملك عادل (أو بار) علّمه الله وأقامه عليهم، فلا يكون كفر في وسطهم خلال أيّامه" (35:17). "يرعى قطيع الربّ في الايمان وفي البرّ.... ويقودهم في الإنصاف". تدلُّ هذه الاستشهادات على أن الفريسيين (دوّنوا مزامير سليمان) انتظروا من هذه الدينونة المسيحانيّة تطهير شعب الله الحقيقيّ. أن تتمّ هذه العدالةُ الملكيّة مع إعفاء لا حدود له من الدين وحكم لا رجوع عنه على أخ ناكر الجميل، فأمر لا نجده في مزامير سليمان.
* "يشبّه ملكوت السماوات بانسان ملك" (آ 23). لا تعني هذه العبارة أن الملكوت يشبه ملكًا. بل أن في الملكوت الذي دشّنه المسيح، تتمّ الأمور كما في المثل. نشير إلى وجود مثل ملوكيّ آخر في متى (22: 2-14) هو مثل عرس ابن الملك. إن الملك الذي يمثّل الله في الكتابات البيبليّة، هو ملك "شرقي" قدير له حقّ الحياة والموت على عبيده. والكرامة الملكية تتضمّن أيضًا وظيفة القاضي الأعلى الذي لا يحقّ لأحد أن يعارضه. أما الفعل المستعمل هنا فهو "سينايراين" (رج 25: 19) الذي يدلّ على الحساب كله وبشكل نهائيّ.
قال النصّ: "إنسان". ثم "ملك". هكذا يتوجّه النظر إلى الملك السماويّ (رج 22: 2، 7 حيث نجد الطريقة عينها: إنسان، ملك. ق لو 7:14، 21). فالحالة التي يقدّمها متّى ليست تقديم حساب بسيط بين شيخ القبيلة وأحد الأفراد فيها. وهكذا فهمت الجماعة منذ البدء أنها مدعوّة لتمثل أمام عرش الملك السماويّ.
ويقدّم إلينا مشهد يتجاوز كلَّ تصوّر: عبد يجب عليه أن يدفع عشرة آلاف وزنة.
نحن بلاشكّ أمام موظّف كبير وقع في حالة ميأوس منها. فاستدان مالاً كثيرًا. وإذا أردنا أن نكوّن فكرة عن المبلغ الذي استدانه هذا الرجل، نتذكّر أن الجليل وبيريه كانا يجمعان 200 وزنة من الضرائب (رج يوسيفوس، العاديّات اليهوديّة 17: 318). نضرب هذه الضريبة بخمسين فيكون لنا دين ذلك العبد.
في الواقع، لا مخرج لهذا الرجل على المستوى البشريّ. لسنا أمام دين على مستوى المال والأملاك. بل أمام دين "لاهوتيّ". فالمثل يريد أن يفهمنا أننا أمام الله دائنون لا يستطيعون أن يدفعوا دينهم مهما فعلوا. قد نستطيع القول إن دين هذا العبد لا حدود له. لا ننسى أن الرقم 1000 هو رقم كبير جدًا، رقم ملء الاعداد لأنه مكعّب 10 (10× 10× 10= 1000). ثم إن الرقم عشرة آلاف (أو: ربوة) هو عدد كبير جدًا لا نعدّ شيئًا بعده. مثلاً، قال لو 12: 1 إن الناس الذين اجتمعوا إلى يسوع كانوا ربوات. رج 1 كور 14: 19 حيث يقول بولس إنه يفضّل أن يقول خمس كلمات بعقله على أن يقول بالألسنة عشرة آلاف كلمة.
نقطة الانطلاق هي أننا خطأة. وحين يغفر الله لنا فغفرانه مجانيّ. فمهما عملنا في الملكوت لا نستطيع أن نفرض على الله شيئًا، وإلاّ شابهنا الفريسيين. والرب نفسه يقول لنا إننا عبيد بطّالون، وبالأحرى "عبيد عاديون"، لم نفعل شيئًا لا يفعله البشر. فكيف نتأمّل بعد ذلك أن نفي ديننا الكبير جدًا؟ على كل حالة، استبق الرب كل طلباتنا، فمات المسيح عنا ونحن بعد خطأة (روم 5: 8).
* أمر السيّد أن يباع" (آ 25). اعتاد القانون في فلسطين أن يسمح بأن يباع الاسرائيليّ كعبد إذا سرق شيئًا واستحال عليه أن يردّه (خر 22: 2). ولكن لا يباع المدين الذي لا يستطيع أن يفي دينه. كما لا تباع امرأته (إن بيع الزوج، تبقى امرأته بقربه ولكنها تبقى حرّة). هذا يعني أننا لم نعد في أرض فلسطين، بل في أرض وثنيّة. هذا يعني أن الوثنيّ الذي يعامل "عدوّه" اليهوديّ مثل هذه المعاملة، يستحقّ قساوة سيّده. فما يكون موقف السيّد حين يعامل الأخ أخاه بهذا الشكل؟ على كل حال، لا عدوّ للمسيحيّ في منطق المسيح.
بيع الرجل، بيعت امرأته، بل سيُباع أولاده وفلذة كبده. تلك آخر درجات القساوة في تعامل يستبعد كل عاطفة بشريّة. هناك مثل رابينيّ يروي أن ملكًا باع أبناء وبنات رجل لم يستطع أن يفي دينه. وزاد: "في تلك الساعة عرفوا أنه لم يبق له شيء". هذا يعني أن الاولاد هم آخر ما يملك الانسان. فإن باعهم لن يبقى له شيء. وحتى لو باعهم، لن يصل إلى نتيجة: بضعة دنانير تجاه عشرة آلاف وزنة.
"وتحنّن سيّد ذلك العبد، وأطلقه، وترك له الدين" (آ 27). وعد ذلك العبدُ بأن يفي، وكل ما طلبه هو مهلة وسوف "يدفع". إنه يذكّرنا بالابن الأصغر (لو 19:15) الذي عرض على أبيه أن يعمل كأجير (قد يعوّض الخسارة الكبيرة). إن فعل "ابوديدوناي" الذي يعني "وفى، ردّ يلعب دورًا هامًا في علم الفتاوى اليهوديّة (ق مت 5: 26؛ 6: 4؛ 8:20). غير أن الملك منح عبده أكثر بكثير ممّا طلب. بل منحه عطاء لا حدود له. فعلة لا ينتظرها انسان. منذ لحظات، هدّد السيّد عبده بأن يُباع هو وامرأته وأولاده. وها هو يقدّم له عشرة آلاف وزنة. ما الذي حدث؟ تحنّن السيّد، تحرَّكت أحشاؤه كالأم تجاه ابنها. فالاحشاء هي موضع العاطفة والإرادة. هذه اللفظة التي نجدها مرارًا في العهد القديم (الرحمة، سبلنخنا)، قد طبّقها الانجيل على يسوع، فصّور عاطفته البشريّة أمام الأبرص (مر 1: 41). أمام الجموع التعبة الحائرة التي تبدو كخراف لا راعي لها (مت 14: 14؛ ق مر 6: 34؛ مت 15: 32؛ مر 32:8). أمام أرملة نائين ودموعها بعد أن فقدت وحيدها (لو 13:7). إنَّ تحنّن هذا الملك الذي يدلّ على تحنّن الله على الشقاء البشريّ، هو مهمّ جدًا لكي نفهم المثل فهمًا كاملاً. إنه يكشف الينبوع الذي منه يجري الغفران "الملوكيّ"، والذي منه يجب أن يجري غفران الأخ لأخيه: "كان يجب عليك أن ترحم رفيقك" (آ 33).
ج- العبد ورفيقه في الخدمة (آ 28- 30)
النصّ الأول ملأ السامعين إعجابًا أمام سخاء السيّد الملوكيّ وعظمة غفرانه لعبده. أما المشهد الثاني فيثير القرف والحزن أمام بخل هذا المدين الذي صار دائنًا، فبدا قلبه قاسيًا قساوة الوحوش. ما ان استعاد حرّيته وأملاكه، حتى التقى برفيقه في الخدمة (سندولوس)، وقد كان له عليه مئة دينار. مبلغ زهيد جدًا ولاسيّما إذا قابلناه بالوزنات العشرة آلاف. ولكن تحوّل قلبُ ذاك العبد، وما عاد يفهم لغة الرحمة التي غمره بها كرم سيّده. ورفض أي تفاهم. لا يريد أن يمهل رفيقه. أمسكه، أخذ بخناقه. وطلب دينه كله وفي الحال. توسّل إليه صاحبه، فلم ينفع التوسّل.
هنا نلاحظ كيف أن توسّل العبد لرفيقه، يشبه توسّل العبد الأول لسيده:
آ 26 آ 29.
فخرّ العبد على قدميه فخرّ رفيقه على قدميه
وسجد له قائلاً: وتوسّل إليه قائلاً:
أمهلني فأوفيك أمهلني فأوفيك
كل ما لك.
مهما قيل عن المثل وحالاته اللامعقولة، فهو يبقى واضحًا، وإن ضُخّمت الأرقام والصور. أما نجد في الانجيل مثلاً مقابلة بين القشة والخشبة (أو جسر الخشب. العارضة)؟ فمن يستطيع أن يجعل عارضة في عينه؟ ومثل الجمل الذي يدخل في ثقب الأبرة. تلك طرق تدلّ على أننا أمام أمر مستحيل على المستوى البشريّ. لا على مستوى الله.
د- الحكم على العبد الذي لا يرحم (آ 31-34)
تصرّف العبد الذي لا يرحم تصرّفًا مدهشًا. لم ينتظر بعض الوقت لينسى. بل ما إن خرج من عند الملك حتى قبض على رفيقه. رآه الناس فاشمأزوا. فما يكون رأي الله؟ انتهى المثل في جوّ من التهديد والرعب، يذكّرنا بالدينونة الاسكاتولوجيّة (25: 31-46). أما قساوة السيّد الذي لا يرحم، فتتوخّى إبراز الدينونة الرهيبة التي تصيب الانسان الذي لا يريد أن يغفر لأخيه من أعماق قلبه. سُلّم إلى الجلادين.
"أفما كان ينبغي لك أن ترحم"؟ إذا توقّفنا عند العدالة، بحصر المعنى، نقول إن هذا الدائن الذي لا يرحم، كان محقًا حين طالب بدينه. فحين أعفاه سيّده من الدين، فهذا الاعفاء لا يجبره أن يعفو عن رفيقه. ولكن هنا مرمى الخبر: فالملك يحكم على عبيده لا على مستوى العدالة البشريّة، وقمّة العدالة قمّة الظلم، بل على مستوى الرحمة التي يمارسها الواحد تجاه الآخر. وهكذا تتجاوز هذه الدينونةُ الملوكيّة جميعَ المقولات القانونيّة، وتقف على مستوى المحبّة والغفران. ولا ننسى أن الرحمة هي إحدى الشرائع الأساسيّة في شرعة الملكوت: "أريد رحمة لا ذبيحة".
ونودّ أن نقول إن العبد الذي لم يستطع أن يدفع دينه، لم يطلب الاعفاء من الدين، بل مهلة. فما كان يمكنه أن يتخيّل مثل هذه النعمة الخارقة. ورفيقه طلب منه أيضًا مهلة. فواهب هذا العبد الدائن لا يرتبط بمتطلِّبة بشرية، بل بالنعمة التي نالها. هنا ترد أداة "كما". عليك أن ترحم كما أنا رحمتك. أنت لا تعرف أن ترحم، إذن لا تستحقّ الرحمة. وإن أعطيتْ لك لا تعرف أن تتمتّع بها.
إن فعل "الاياين"، رحم، أشفق، يرد مرارًا عند متّى كما قلنا. فابن طيما الأعمى صرخ: "يا يسوع ابن داود ارحمني" (مر 10: 47-48 وز). والكنعانيّة هتفت: "ارحمني يا ربّ، يا ابن داود" (مت 15: 22). وكذا فعل والد الولد الذي أصيب بداء الصرع: "يا رب، إرحم ابني" (مت 17: 15).
مارس يسوع هذه الرحمة فأتمّ مشيئة الله التي جاءت في الأزمنة المسيحانيّة لتدعو الخطأة. لا الأبرار. وقد حدثتنا عب 17:2 عن يسوع الذي صار شبيهًا باخوته فكان الحبر الرحيم الذي يكفّر عن خطايا شعبه. فيه نزلت رحمة الله من السماء إلى الأرض. إنه ظهور هذه الرحمة، إنه ذاك الملك الذي يرحم بلا حدود ويغفر بدون حساب. غير أن الأزمنة المسيحانيّة التي فيها ظهرت رحمة الله، يجب أن تكون أيضًا الزمن الذي فيه تظهر رحمة الإخوة تجاه بعضهم بعضًا. فمن مارس هذه الرحمة عجّل في مجيء الملكوت. ومن رفض أن يرحم قريبه، استبعد نفسه عن الملكوت الذي سيكون بلا رحمة لمن لا يعرف الرحمة.
والفكرة التي تقول إن الله يعاملنا كما نعامل اخوتنا، نجدها في الطلبة السادسة من طلبات الصلاة الربيّة (مت 6: 12-15؛ مر 11: 25-26) وفي القول حول الدينونة: "لا تدينوا لئلا تدانوا. وكما تدينون تدانون" (مت 7: 1- 2؛ رج لو 6: 37-38). كما تدينون إخوتكم، يدينكم الله. ولكن يجب أن لا نعتبر فريضة الرحمة والغفران شريعة مقلوبة لشريعة المثل، وهذا ما نفهمه في عدد من الأمثلة في العهد القديم. يجب على عمل الانسان أن يقتدي بعمل الله. ولكن عمل الله يتجاوز كل النظام المخلوق. ومحبته هي "أعظم من السماوات" (مز 108: 5؛ رج 103: 11). فالانسان ينال غفران الله كنعمة وُعد بها، لا كواجب مفروض عليه. الرب هو رحمة وغفران كما أن الشمس هي نور وحرارة. ولكن من لا يرحم جعل قلبه غير قابل لرحمة الله. لذلك لن يعرف أن يستفيد من هذه الرحمة ولا من هذا الغفران. فقلبه الصخريّ لا يترك "مياه" الله تدخل إليه. وهكذا نفهم طلبة الأبانا حيث من لا يغفر لا يستفيد من غفران الله. نرحم فنتمتّع برحمة الله. نغفر فننعم بغفران الله.
هـ- القول الأخير (آ 35)
اعتاد متّى أن ينهي أمثاله بقول أخير يُجمل تعليم يسوع من أجل الجماعة. هذا ما اكتشفناه في شفاء الولد المصروع (17: 20- 21). وهذا ما نكتشفه هنا. شدّد متى على صدق المغفرة التي نمارسها، فتخرج من أعماق القلب لا من الفم والشفاه. هنا نتذكّر كلام متّى الذي استعاد نبوءة أشعيا (2: 13): "هذا الشعب يكرّمني بشفتيه، أما قلبه فبعيد مني" (مت 8:15). يجب على عبادة الشفاه أن تحلّ محلّها ديانةُ القلب. فالله يحكم على قلب الانسان. يدخل إلى قلبنا ليحكم على غفران منحناه لإخوتنا.

خاتمة
وهكذا انتهى هذا التعليم عن الرحمة والمغفرة. بدأ بطرس فتحدّث عن الأخ الذي يجب أن نغفر له ثلاث مرات... سبع مرات! وانتهى مع قول يسوع: يغفر كل واحد لأخيه. نحن في الكنيسة جماعة مؤلفة من إخوة لهم أب واحد (مت 23: 9). بل نحن في العالم إخوة نعود إلى عائة واحدة هي عيلة الله. فقد خلقنا جميعًا على صورة الله ومثاله. أما القاعدة التي نسير عليها، فليست القاعدة البشريّة المبنيّة على العدالة الصارمة التي فيها تتغلّب الأنانيّة على المحبّة، والطمع على التجرّد، والأخذ على العطاء. القاعدة هي الرحمة. نرحم كما رحمنا الرب. نرحم لأن الرب رحمنا. ونغفر لأن الله غفر لنا. على مثال ما قال بولس الرسول في الرسالة إلى أفسس: "كونوا بالحري ذوي رفق بعضكم ببعض، شفقاء، متسامحين كما سامحكم الله في المسيح. أجل، كونوا مقتدين بالله كأبناء أحبّاء" (4: 32-5: 1). ذاك هو المعنى الأساسيّ لهذا المثل الانجيليّ الذي ينهي الخطبة الكنسيّة بما فيها من نداء إلى المحبّة داخل جماعة تلاميذ المسيح.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM