الفصل الثامن :الاصلاح الأخوي في عيلة الله

الفصل الثامن
الاصلاح الأخوي في عيلة الله
18: 15- 20

آيات ست هي خاصّة بإنجيل متّى. وقد قرّبها الشرّاح من مت 18:16-19 حول الكنيسة وسلطة الحلّ والربط، ولو 17: 3-4 (إن خطىء أخوك فعاتبه، وإن تاب فاغفر له) ويو 20: 23 (فمن غفرتم خطاياهم غُفرت لهم) التي ترتبط على ما يبدو بالموضوع عينه وهو حياة المؤمنين في الكنيسة والروح التي تحرّك أعمالهم. هنا نتذكّر أن ما يشرف على مت 18 هو فكرة التفكير بالإخوة ولاسيّما الصغار (آ 5، 6، 10، 14) وأن هذا الفصل ينتهي بالغفران المتبادل. لسنا هنا أمام تنظيم قانونيّ بل أمام تعليمات من أجل الحياة في الجماعة. فالانجيليّ حين دوَّن إنجيله، لم يؤسّس قواعد جديدة، بل افترض أن هذه القواعد موجودة وهي تحتفظ بقيمتها. يبقى علينا أن نعرف كيف نتعامل معها داخل عيلة أبناء الله.
بعد أن نتوقّف عند "تنظيم رعائي" في داخل الكنيسة، نقرأ ما يقوله الربّ عن الاصلاح الأخويّ (آ 15-17) وننهي بالصلاة المشتركة (آ 18- 20).

1- إرشاد رعائيّ
ما يلفت النظر في بنية انجيل متّى، هو الخطب الخمس التي تقدّم للمؤمن أقوال الرب. فبعد عظة الجبل (ف 5-7) والخطبة الرسولية (ف 10) وخطبة الامثال ف 13)، نصل إلى الخطبة الرابعة التي نعونها خطبة الكنيسة، لأنها تحاول أن "تنظّم" الحياة داخل الكنيسة بشكل عام، وداخل كل جماعة من جماعاتنا. في ف 18 يقع النصّ الذي ندرس الآن، ونحن نحاول أن نتوقّف عند مجمل هذه الخطبة الكنسيّة فنجد فيها ثلاث دورات.
أ- الدورة الأولى (آ 1- 14)
بدأ يسوع كلامه فحدّث تلاميذه بواسطة علامة (أو: فعلة رمزيّة) على مثال الأنبياء: أخذ طفلاً وأقامه بينهم. وهكذا أجلس التواضع على عرشه في الكنيسة. هذا المناخ الروحيّ سيضمّخ بعطره ف 18 كله. إن آ 4 تكوّن تضمينا مع آ 1 فتعلن أن التواضع الذي يدلّ عليه هذا الطفل هو قاعدة العظمة الحقيقيّة في ملكوت الله.
وتأتي قاطعة بشكل انتقالة (آ 5-6) فتربط بين فكرة الطفل (الولد الصغير، بايديون الذي نقرأه في آ 2، 3، 4، 5) وموضوع الصغار الذين سيكونون الموضوع الذين يتوسّع فيه النصّ حتى نهاية الحركة الأولى (مكروس، صغير، آ 6، 10 ,14).
هناكُ موقفان ممكنان تجاه هؤلاء "الصغار". موقف إيجابي هو موقف الحماية والحراسة (آ 5). وموقف سلبيّ هو موقف الشكّ والعثار (آ 6). ويهاجم النصّ بشدّة قاسية مسبّبي الشكوك، ويطردهم من الجماعة بلا شفقة (آ 6-9). ويعود موضوع "قبول" الصغير في آيتين ذات إلهام لاهوتيّ ورعائيّ (آ 10، 14)، يحيطان بشكل تضمينة بمثل الخروف الضالّ (آ 12-13).
وتبدو آ 14 بوضوح على أنها خاتمة هذه الدورة الأولى التي تشرف عليها فكرة الدفاع عن الصغير الذي يؤمن بالربّ (آ 6)، ولكنه يبقى ضعيفًا أمام الشكوك التي قد تضلّه أو تهلكه (14). وهكذا طلب الانجيل من المؤمن أن يشدّد كل واحد من هؤلاء الصغار ويسانده (آ 5، 6، 10، 12، 13، 14) لثلاثة أسباب. الأولى: الرب نفسه يتماهى معهم (آ 5). الثاني: ملائكتهم في السماء يشاهدون كل حين وجه الآب (آ 10). والسبب الثالث: لا يريد الآب أن يهلك أحد من هؤلاء الصغار (آ 14).
ب- الدورة الثانية (آ 15- 20)
نقطة الاهتمام في هذه الدورة، هي الاهتمام الرعائي بالأخ الخاطئ. وارتباطها التدوينيّ بما سبق نجده في تقارب على المستوى السوسيولوجيّ: من تعليمات من أجل الضعيف المهدّد بالهلاك، ننتقل إلى تفحّص حالة محدّدة: أخ سقط فأخطأ ضدّ ما تطلب منه مسؤوليّته كمسيحيّ.
هذه الدورة شأنها شأن الدورة الأولى، تتألّف من مجموعة عناصر متفرّقة. فبعد قواعد تأديبيّة في الجماعة (آ 15-17)، نجد ثلاثة أقوال حول سلطة التلاميذ (آ 18)، حول فاعليّة الصلاة المشتركة (آ 9)، حول حضور الرب في قلب "جماعته"، في قلب الكنيسة (آ 20).
ج- الدورة الثالثة (آ 21- 35)
تبدأ هذه الدورة بتدخّل من بطرس (آ 21). للوهلة الأولى، هي تعود إلى مسألة سابقة (وضع الأخ الخاطىء). ولكنها في الواقع تبدأ موضوعًا جديدًا. وضع الأخ الذي أخطأ إلى أخيه. إذا كان تلميذ من التلاميذ موضوع إغاظة شخصيّة (أغاظه أحد)، فلا يحقّ له أن ينتقم، بل عليه أن يغفر من كل قلبه ويغفر المرة بعد المرة بدون ملل (آ 21-22).
ويأتي مثل جديد (آ 23-34)، ينتهي هو أيضًا بقول (آ 35) يعطي سببين يؤسّسان فريضة الغفران كما يأمر بها الانجيل. "هكذا يفعل أبي السماوي بكم إن لم يغفر كل واحد منكم لأخيه، من كل قلبه".

2- في قلب الكنيسة
حين ألقينا نظرة على ف 18، اكتشفنا وسعه وتشعّبه. ونحن نستطيع أن نعطيه عنوانًا عامًا جدًا: تعليمات وارشادات نسكيّة وراعوية للتلاميذ. غير أن التعليمات تدخلنا في الارشادات. ويُنظر إلى النسك لا في حدّ ذاته بل بما أنه يلهم العمل الرعائيّ. وإذ نتحدّث عن العمل الرعائي، نتطلع إلى البعد الجماعيّ، إلى البعد الكنسيّ.
حين ألّف المدوّن الأخير الانجيل الأول، استعمل عدّة مواد مأخوذة من الفقاهة الرسولية الشفهيّة والمكتوبة. وحاول الشرّاح أن يحلّلوا الطريق التي وصلت بهذه المعطيات إلى مرحلة التدوين. ونحن نحتفظ من هذه الدراسات بواحدة من الاستنتاجات الأساسيّ: إن الانجيليّ جمع هذه التعليمات التي تفوّه بها الرب، بالنظر إلى ظروف ملموسة لجماعة (لكنيسة) محليّة محدّدة. وأقوال يسوع التي حفظتها الكرازة الرسوليّة بأمانة، قد دوّنها متّى بأمانة مماثلة في إنجيله. ولكن حين دوّنها، وبالنظر إلى أمانته للكلمة، راعى بشكل خاص الظروف الرعائيّة الملموسة في جماعاته. إذن، أقام رباطًا حيًا بين هذه الكلمة وحياة كنيسته. لهذا، اختار مختلف المواد الفقاهيّة التي كانت بتصرّفه، فكيّفها وجمعها بحسب معايير خاصة بعد أن طبعها بطابعه الشخصيّ.
إن إعادة بناء هذه المسيرة التدوينيّة تتيح لنا أن نكتشف الوجه الخاص لهذه الجماعة الأولى التي كتب فيها متّى إنجيله. وقد لا نجد في مت صفحة أخرى تكشف أكثر من هذه الصفحة الأثر الذي تركته كنيسته في إنجيله. وهي تدعونا إلى أن نقترب من مشاكلها وصعوباتها، من فكرها اللاهوتيّ وروحانيّتها. قد نجد بعض الأمور الغامضة، لأن الكاتب أرادها كذلك لكي تبقى مفتوحة على القارئ في كل زمان ومكان. ولكننا نستطيع ساعتذاك أن نتخلّص من فضولنا "العلمي" (على مستوى العقل) لنتوقّف عند الحياة التي تلهمها كلمة الله. فبهذه التلميحات السريعة، يُلقي الانجيل ضوءه على المشاكل الحاليّة في الكنائس المسيحيّة اليوم.

3- الاصلاح الأخويّ (18: 15-17)
أ- إذا خطىء أخوك (آ 15)
إن آ 15 تطرح مشكلة على مستوى النقد النصوصيّ. فبالرغم من مجمل الشهود الذين يقرأون: "إذا خطىء أخوك ضدك"، هناك من يعتبر أننا أمام خطأ علنيّ يصيب الجماعة كلها، ولسنا أمام إغاظة لأخ يُطلب منه أن يصلح أخاه. هذه النسخة التي يشهد لها عدد كبير من المخطوطات، قد أخذ بها أفضل الشرّاح. لاشكّ في أن آ 21 (إذا خطئ أخي إليّ) اجتذبت آ 15 وألّفت معها تضمينًا. لهذا ظنّ عدد من الشرّاح أن الحالة الأولى (آ 15) تشبه الحالة الثانية (آ 21) فجعلوا "ضدك" وكأننا أمام إساءة شخصيّة. غير أن الشريعة التي تفرض علينا أن نغفر بلا قيد ولا شرط الإغاظات التي تلقيناها (18: 21-35؛ رج 39:5-42، 44-48؛ 12:6، 14، 15)، تمنعنا من أن نطبّق على أخ لم يخطأ إلينا خطأ شخصيًا، النظام الذي يطبّق في الكنيسة.
إن فريضة يسوع هذه (إذا خطئ أخوك) قد احتفظ بها لوقا (17: 3) أيضًا. فالانجيل واقعيّ، وهو يعرف أن الأخ بعد أن ارتبط بحريّة بالجماعة المسيحانيّة أو الشعب المقدس، يستطيع أن يعود إلى الخطيئة. وهذا ما يفترض ذنبًا خطيرًا يجعله في تعارض فاضح مع التزامات إيمانه. في ذلك الوقت، لا يستطيع أخ أن يبقى لامباليًا: يُفرض عليه واجب توبيخ الخاطىء كما قال لا 17:19 (لا تبغض أخاك في قلبك، بل عاتبه عتابًا) في نصّ قريب من ذلك الذي يأمر المؤمن بأن يحبّ قريبه، بحيث نستطيع أن نعتبر آ 17 تطبيقًا ملموسًا لأمر الربّ هذا.
معاتبة (أو: لوم) الأخ فنّ، بل من أصعب الفنون. هذا ما يدلّ عليه الفعل اليوناني "إلانخاين" الذي يقوم بأن "نبرهن" لخاطىء، نجعله يرى بعين العقل أن عمله لا قيمة له، وأن موقفه ينافي القيم الحقّة. هكذا نحرّك من قبله وبفضل بواعث دينيّة نقدّمها، مسيرة طوعيّة وشخصيّة من التوبة والارتداد الداخليّ (ميتانويا، رج لو 3:17). نحن هنا أمام عمل محبّة لا يتوخّى إلاّ خير الأخ الذي أخطأ. لهذا نبدأ فنلومه على حدة، بيننا وبينه. المبادرة تعود إلى الراعي كما في مثل الخروف الضالّ (آ 12-13). ويكون فرحه عظيمًا حين يربح أخاه إلى الحياة. وهذا الربح هو أعظم من "ربح العالم كله" (16: 26) بالنظر إلى القيمة السامية التي يراها الانجيل في كل شخص بشريّ. وأمرُ الرب هذا لا يجد تفسيرًا أفضل من نهاية رسالة يعقوب وما فيها من لهجة قاطعة: "يا إخوتي، إن ضلّ أحدكم عن الحقيقة، وردّه إليها آخر، فاعلموا أن من ردّ خاطئًا عن ضلاله، قد خلّص نفسه من الموت وستر جمًا من الخطايا" (يع 5: 19-20).
وتفتح آ 15 أمامنا آفاقًا متفائلة. فهي تقدّم حلاً إيجابيًا وسهلاً (= لو 3:17). غير أن متّى اختبر جماعة يمتزج فيها الزؤان مع الزرع الجيّد (13: 26 ي)، وشهد "شكوكًا" خطيرة في الكنيسة (18: 6-9). لهذا زاد على إرشاده الرسوليّ توسيعًا بشكل عظة، تأسّس على ثلاثة أمور عمليّة. هذه الأقوال التي تبدو فريدة في الانجيل، هي الجذور الأولى لما سمّي فيما بعد الحقّ الكنسيّ أو الحقّ القانونيّ (أو: القانون الكنسيّ).
ب- الالحاح الأول (آ 16)
لام الأخ أخاه. فإن سمع الأخ المذنب يكون أخوه قد ربحه. وإلاّ فيلحّ عليه بحضور شخص أو شخصين يأتي بهما ذاك الذي بادر ليصلح أخاه. بحسب نهج يميّز العالم المسيحيّ المتهوّد، نتذكّر هنا تث 15:19: "لا يقوم شاهد واحد على أحد في شيء... ولكن بقول شاهدين أو ثلاثة" (رج 6:17: بقول شاهدين أو ثلاثة). كان لهذا القول تأثير كبير على العقليّة القانونيّة في أرض اسرائيل. وهكذا يكون الأخ المخطىء في وضع مزعج، يكون وكأنّه في محاكمة، مع أن المناخ هو مناخ المحبّة الأخويْة.
ج- الإلحاح الثاني (آ 17 أ)
إذا رفض الخاطئ أن يسمع (باراكوسي) تحريض هذه "اللجنة الصغيرة"، تعود هذه اللجنة إلى الجماعة الكبرى، إلى الكنيسة. عندئذ يصبح عناد الذي يكرّر خطأه، شكًا للجميع، ويعرّض المجموعة للخطر (8:18-9). إذن، يجب أن نتجنّبه بالنظر إلى الكنيسة. ولكن قبل أن يُستبعد الخاطىء بصورة نهائيّة، يلجأون إلى توبيخه بحضور كل الجماعة المسيحيّة التي ينتمي إليها، ويستندون في عملهم إلى هذه الجماعة (الكنيسة) وما لها من سلطان الحلّ والربط.
حين أعطى متّى اسم "كنيسة" (اكلاسيا) لجماعة مسيحيّة محليّة، فقد أخذ باستعمال عُرف في أعمال الرسل، ورسائل القديس بولس، والفصول الثلاثة الأولى في سفر الرؤيا. فهو يعني بـ "الكنيسة" الجماعة المسيحاويّة الحاضرة بشكل ملموس في مكان معيّن أو مجموعة سوسيولوجيّة محدّدة. وهذا ما يتحقّق عندما يجتمع اثنان أو ثلاثة أعضاء على الأقل (آ 20) باسم يسوع.
والتلميح الوحيد الواضح إلى طريقة "المحاكمة" التي يشير إليها متّى هنا، لا يوجد في العهد الرسوليّ إلاّ في كنيسة كورنتوس التي أسّسها بولس (2 كور 6: 1 ي). أما اليوم، فلا نستطيع أن نطبّق هذه القاعدة بشكلها الأصليّ، لأن مناخ حياتنا في المجتمع يختلف عمّا كان عليه في الكنيسة الأولى، بل الرعيّة كلها. ومع ذلك، نستطيع أن نحتفظ بروح هذا القول الرباني. مهما كان النهج الذي نستعمله، فعلى كل كنيسة أن تعمل على حماية الإخوة الضعفاء من الشكوك التي يسبّبها شخص واحد أو قلّة من الأشخاص.
د- القرار النهائي (آ 17 ب)
إن المراحل السابقة قد حصرت الخاطىء وأجبرته على اتّخاذ القرار: فعليه أن يختار بعد اليوم. لم يعد للإخوة من براهين يقدّمونها له. فإن اختار أن ينفصل عن الجماعة، فالجماعة "تصادق" على قرار الانفصال، وتبقى مستعدّة لاستقباله ساعة يريد أن يرجع مثل الابن الضالّ. وإذ أراد الانجيليّ أن يعبّر عن الموقف المطلوب تجاه الأخ الخاطئ، لجأ إلى تشبيه ومقابلة: ليكن لك كما كان العشّار (خاطىء معلن، معروف) والوثنيّ (غريب عن شعب الله) بالنسبة إلى يهوديّ متشدّد في إيمانه. مثل هذه العبارة التي تستعمل عادة في العالم اليهوديّ، لا تتضمّن بالضرورة أن نأخذ ما فيها من أفكار مسبقة (لاسيّما على مستوى العالم اليهوديّ). ما يأمر به هذا النصّ الانجيليّ هو استبعاد الخاطىء من الجماعة. وهذا العقاب بدا عاديًا للمسيحيّين المتهوّدين لأنه يقابل الاجراءات التي كان يتّخذها رؤساء المجمع أو المجلس الأعلى في أورشليم (رج لو 6: 22؛ يو 9: 22؛ 2:16). راجع ما كان يُعمل في قمران: نظام الجماعة 25:5 ب- 6: 1؛ وثيقة صادوق أو وثيقة دمشق 9: 2-4.

4- الكنيسة حضور السماء على الأرض (18: 18-20)
وأنهى الانجيليّ الدورة التي بدأها في آ 15 بثلاثة من أقوال الرب. فإذا لأخذنا كل قول بمفرده، يكون له كيانه الخاصّ على مستوى المعنى وعلى مستوى المبنى. أما إدراج هذه الأقوال في هذه القرائن فيعطيها بعض التماسك: إنها تبرّر هذا التدخّل الرعائي الكنسي الذي تحدّثنا عنه، مهما بدا قاسيًا ومؤلمًا.
أ- سلطان الحلّ والربط (آ 18)
إن فعلي "ربط" و"حلّ" اللذين استعملا في معنى رمزي في عبارات عبريّة يرتديان عددًا كبيرًا من الإمالات. مثلاً، حلّ الربّ المرأة المنحنية التي ربطها الشيطان (لو 13: 16). أو شعر بولس أن أمرًا من الروح يربطه، يقيّده، يجعله أسيرًا (أع 20: 22).
أما الزوج "ربط"، "حلّ" فقد ارتدى عند الرابينيين مدلولاً يكاد يكون تقنيًا. كانوا يرون فيه واجبًا يفرضونه على إنسان (وهذا ما يدلّ على رباط)، أو يحلّون منه انسانًا من الناس. كانوا يعلنون هذا العمل مسموحًا أو غير مسموح. إجباريًا أو اختياريًا على أساس تفسير مقطع كتابيّ في الوعظ. وسلطان "الحلّ والربط" يدلّ في هذه الحالة على امتياز ينعم به القاضي الذي كلّف، بالنظر إلى وظيفته، بتفسير كلمة الله تفسيرًا أمينًا (مت 19:5).
هناك من فسّر الزوج "ربط، حلّ"، بما فيه من تعارض، تفسيرًا خاصًا: به نؤكد أن شخصًا من الأشخاص ينعم بملء السلطات أو نؤكّد فاعليّة تامّة لعمل محدّد في إطار معيّن. مثلاً، حين وعد يسوع بطرس بـ "المفاتيح" (16: 19)، سلّمه كل السلطان الذي يدلّ عليه امتلاك هذه المفاتيح. نحن هنا أمام فاعليّة المحبّة الرعائيّة التي مارسها التلاميذ بروح من المشاركة والاتحاد.
غير أن الرباط المباشر بين هذا القول المتّاويّ والقول الذي سبقه، يجعلنا نفكّر لا بسلطان التعليم، بل بالقانون الاجتماعي داخل الكنيسة. فـ "حلّ وربط" يدلّ على قرار الجماعة التي تستبعد من حضنها عضوًا غير جدير به أو تحلّه من "حرمه" بعد عودته عن خطأه.
إن المجهول اللاهوتيّ الذي عرفه العالم العبريّ ومارسه متّى مرارًا (ما تربوطنه يُربط... ما تحلّونه يُحلّ) يعلن أن الله هو الذي يتمّ العمل. فنقول: "ما تربطونه على الأرض، يعتبره الله مربوطًا (يربطه الله) في السماء". و"الخاطىء" الذي يستمرّ على رفض اليد التي تمدّها إليه الكنيسة داعية إياه إلى التوبة والارتداد، يبرهن على أنه "محروم" (مُبعد) من الكنيسة السائرة على الأرض، بل من كنيسة السماء حيث تتخذ "الرباطات" كيانًا اسكاتولوجيًا. إن هذا القول الذي أدرجه متّى في هذا الإرشاد الرسوليّ، يدلّ في النهاية على أن مشيئة الله تعطي قرار الكنيسة الرعائيّ كل وزنه. لهذا، يجب أن يحترمه كل من أعضائها احترامًا مقدسًا (10: 14- 15، 40).
بالإضافة إلى ذلك، إذا اعتبرنا القيمة اللاهوتيّة العميقة لحياة البشر في سرّ الكنيسة، حيث تلتقي "السماء" و"الأرض" تحت نظر الآب المنير، لن ندهش إن عنى "حلّ، ربط" منحَ غفران الخطايا أو رفض هذا الغفران في المعنى اللاهوتيّ القويّ للفظة غفران. هذا ما قاله يوحنا بشكل واضح في قول حُدّد موقعه مساء الفصح والقيامة (يو 20: 23، من غفرتم له خطاياه تغفر له...). وهكذا يكون أصل هذا القول وانتقاله في الفقاهة الأولى، مرتبطين ارتباطًا وثيقًا مع ما نقرأ في 16: 19 (بالنسبة إلى السلطان المعطى لبطرس) وفي 18:18 (بالنسبة إلى السلطان المعطى للرسل).
ب- السماء تتقبّل صلاة الكنيسة على الأرض (آ 19)
يتأمّن الانتقال بين القول الأول وهذا القول (الثاني) بالزوج "الأرض والسماء"، الذي يدلّ على سرّ الاتصال المسيحاويّ بين عالم البشر وعالم الله. هنا نتذكّر أن آ 18-19 تشكّلان مركز تعاكس (أو: تصالب) يضمّ آ 15- 21 ويتألّف من ثلاثة تضمينات دائريّة. أ: إذا خطىء أخوك (آ 15). ب: شاهدان أو ثلاثة (آ 16). ج: على الأرض في السماء (آ 18). ثم ج ج: على الأرض وفي السماوات (آ 19). ب ب: اثنان أو ثلاثة (آ 20). أ أ: إذا خطىء إليّ أخي. وهكذا تبدو آ 19 ذات معانٍ متعدّدة، فتؤكّد قبل كل شيء البُعد السماوي (أو: الالهي) للسلطة الرعائيّة في الكنيسة أو للصلاة.
إذا أخذنا هذا القول في حدّ ذاته وبمعزل عن سياقه، فهو شكل من أشكال المواعيد التي قدّمها يسوع أكثر من مرّة: "تأكّدوا أن الله يستجيب صلاة طلبكم" (مت 21: 22؛ يو 14: 13- 14؛ 7:15، 16؛ 23:16). إن هذا النوع من الجمل يتضمّن دومًا شقّين: الطلب هو عمل الانسان الدينيّ (وظيفة نقوم بها). أما نجاح هذا العمل فيرتبط ببعض الاستعدادات: نؤمن حقًا. نثبت في يسوع. نحفظ كلامه، وصاياه. نجعل ارادتنا توافق ارادته. وأخيرًا نطلب "باسمه". هنا يوضع شرط خاص من أجل فاعليّة الصلاة: التوافق مع الجماعة في قلب الكنيسة.
حين نضع في السياق هذه الصلاة الطبيعيّة التي قد تكون ماديّة وروحيّة، فموضوعها الخاص يبقى الأخ الذي ظلّ خاطئًا. فإن آ 18 ب ترجو أن "يحلّ". وتتحدّث آ 19 على أن ليس من قرار بـ "الربط" تأخذه الكنيسة قبل أن تتلو صلاة مشتركة. ونستطيع أيضًا أن نستعمل قوّة هذه الصلاة لنعجّل في مصالحة الخاطئ التي قد تصل به خطيئته إلى الموت (1 يو 5: 14-16).
"اثنان" منكم. لسنا أمام عمليّة حسابيّة دقيقة بل أقلّ ما يمكن. ثلاثة أفضل. ومهما زاد العدد كان أفضل. إن آ 20 ترتفع بكثافتها اللاهوتيّة إلى مستوى استعارة الكرمة كما نقرأها في يو 15، أو جسد المسيح كما في 1 كور 12.
ج- حضور الرب وسط الجماعة (آ 20)
يبدو هذا القول الأخير في شكل أمثالي مثنّى (حيث... هناك) نجده في جميع الحضارات (رج مت 6: 21: حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك: 24: 28؛ يو 12: 26؛ 14: 3؛ 17: 24). والتقريب التدويني بين هذا القول والذي سبقة يُسهّل بوجود عبارة "اثنتان أو ثلاثة". من الوجهة اللاهوتيّة، نجد بين هذين القولين علاقة هي علاقة العلّة بالسبب. فالصلاة فاعلة لأن (آ 20) الرب حاضر في الكنيسة. ومن الوجهة السيكولوجيّة، العلاقة هي في التوازي بين مترادفين يكمّل الواحد الآخر: حين يكون الاثنان معًا في الجماعة، هذا يعني بشكل عمليّ أن "يكونا مجتمعين باسم يسوع".
ويؤكّد الشق الثاني من العبارة حضور الرب. بعد أن أعلن الشقّ الأول حضوره، فعلى المؤمنين أن يكونوا "مجتمعين". أن يكونوا "معًا" (هنا نتذكّر الجماعة الأولى كما في أع 42:2-47). إن الفعل اليونانيّ المستعمل هنا (سيناغاين) يتفرعّ من الاسم "سيناغوغي" (جماعة، اجتماع، حلقة. وفي معنى خاص المجمع أو الكنيس حيث يصلّي اليهود)، ويدلّ على واقع دينيّ قريب (وفي بعض الوجهات يتماهى) من واقع "الكنيسة" (اكلاسيا، يع 2: 2؛ 14:5). حين نجتمع (نتكوّن في كنيسة)، نكون أمام واقع اجتماعيّ تحدّده بواعث تتلخّص كلها بالنسبة إلى تلميذ الانجيل، في عبارة تعود إلى أصل عبريّ: "باسم يسوع".
في التوراة، الاسم هو في الوقت عينه العلامة والقوّة والحضور، وفي النهاية الشخص الذي ندلّ عليه. وعندما نجتمع باسم يسوع، نجعل من يسوع الدافع الوحيد الذي يدفعنا لنكون في جماعة، في كنيسة، وذلك في كل الأبعاد وعلى جميع المستويات. وهكذا نستطيع أن نحدّد الكنيسة في نظر متّى: "هؤلاء الذين يجتمعون باسم يسوع". ونعطي كل لفظة معناها الذي عرفته في القرن الأول المسيحي.
لقد أكّد الرب حضوره وسط الذين يجتمعون باسمه، وسط كنيسته. يورد الشرّاح جملة من المشناة منسوبة إلى رابي حنانيا بن تراديون (135 2): "حين يجلس اثنان وينكبّان على كلمات الشريعة تحلّ عليهما الشكينة". "الشكينة" هي حضور الرب المميّز في هيكله ووسط شعبه. هذه الجملة تفترض جماعة من "الدارسين" حيث تجتذب دراسةُ الشريعة الحضور الالهيّ. أما نصّ مت فيقع في مناخ مقدّس، مناخ الكنيسة، ويجعل محل "الشكينة" (رج كلمة سكن في العربية) شخص يسوع الممجّد.
وهكذا أحاط يانجبل متّى تأكيدان قويّان عن حضور الرب في قلب الكنيسة: نقرأ الأول في الحاشية البيبليّة عن اسم يسوع (عمانوئيل، إلهنا معنا) في بداية (1: 21-23). ونقرأ الثاني في النهاية مع الوعد المُعطى للرسل: "ها أنا معكم كل الأيام، وحتى انقضاء العالم" (28: 20 ب). وبين هذين التأكيدين يشكّل القول الذي نقرأ الآن (إذا اجتمع اثنان أو ثلاثة) حجر الغلقة في هذا "التضمين" الذي يشمل الانجيل كله، وان الضوء المباشر أو غير المباشر حول فكرة الحضور هذه، ينير لاهوت متّى كله. ويدلّ بشكل واضح على التواصل الكياني والديناميكيّ بين يسوع الذي عاش تاريخه القصير في الزمان والمكان، وبين يسوع ذاته الذي يواصل حضوره وعمله في العالم في قلب لكنيسة. يتألّم في الذين يتألّمون، ويحقّق الخلاص حتى نهاية الأزمنة.
هذا هو معنى هذا التواصل الذي قاد المسيحيّين جيلاً بعد جيل وسط الضيقات الفرديّة والجماعيّة، ويبقى اليوم نورًا لطريقنا. ففي "كنيسة" متّى، ندرك بوضوح حضور المسيح الربّ في ديناميّة رسالته (28: 18-19)، وفاعليّة صلاته (18: 19-20)، والطابع المقدّس لفقره الذي تجسّد في "الصغار" و"الضعفاء" (18: 15)، في اعضائه المرضى والمتألّمين (25: 35-36، 42- 45). وهذا الضوء المنتشر يستطيع ضمنًا أن يفسّر بدون تشويه ويؤوّن أفعال الرب وأقواله في جماعتنا اليوم مع الأخذ بعين الاعتبار حاجاتها الرعائيّة.

خاتمة
نحسّ في هذه الأقوال الثلاثة، كما في ف 18 كله، حياة الكنيسة بكل قوّتها. فهذه الحياة تتكوّن من تلاقٍ بين نظام السماء ونظام الأرض. وهذا التلاقي الذي قد تحقّق في الجماعة، يتطلّع إلى ملئه في المستقبل الاسكاتولوجيّ. ويضمّ "السماء والأرض" في واقع متسامٍ يسمّى "ملكوت السماوات". غير أن هذه العبارة تتقبّل سمات ملموسة فتصبح "عائلة الله". في هذه العائلة حيث الجميع (28:23) إخوة لأنهم أبناء أب واحد، يلتقي خطّ البنوّة (نحن أبناء الله) العموديّ مع خط الأخوّة (كلُّنا إخوة) الأفقي في سرّ حضور يسوع الذي هو علّة (السبب الذي لأجله تجتمع) الجماعة وقلبها (آ 20) وموضوع إيمانها (آ 6) وينبوع فاعليّة الصلاة (آ 19) وقوّة السلطة الرعائيّة (آ 18) والطابع المقدّس "للصغار" (آ 5). هؤلاء "الصغار" هم على الأرض علامة وحضور يسوع وشكله، وفي السماء، فرح الآب الذي يشاهدهم عبر وجه ملائكته (آ 10).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM