الفصل السابع: الأطفال والصغار

الفصل السابع
الأطفال والصغار
18: 1- 14

وندخل في خطبة الجماعة مع الأطفال الذين يجب أن نتشبّه بهم. مع الصغار الذين يهتمّ بهم الله، وإن كان لا يعبأ بهم أحد. فالله الآب كملك حقيقي يعتني أولا ما يعتني بالمساكين والضعفاء، والذين ليس لهم من يسندهم. هذا الاله، هكذا عرفناه في العهد القديم، ينحني على اليتيم والأرملة، على الفقير والغريب، على المسحوق في شعبه. والنظرة هنا ستكون روحيّة وستشدّد بشكل خاص على استقبال هؤلاء الصغار، على الحذر من أن نكون لهم نحن "الكبار" شكًا وعثارًا.

1- نظرة عامّة
يبدو هذا الفصل في ثلاث مقطوعات. في الأولى (آ 1-5) التي يقابلها مر 33:9-37؛ 10: 43-44؛ لو 46:9-48؛ 26:22، نتعرّف إلى العظمة الحقة. في الثانية (آ 6-9) نتوقّف عند الشكوك فنلتقي بما في مر 42:9-48 ولو 17: 1-2. أما المقطوعة الثالثة (آ 10-14) التي نقرأ ما يشبهها في لو 15: 3-7، فعنوانها الخروف الضال.
أ- العظمة الحقّة
مع ف 18 يتوضّح التعليم الذي بدا لنا مشرفًا على 22:17 (ابن البشر يُسلم إلى أيدي الناس): التواضع الناشط والذي يصبح موقفًا محسوسًا تجاه الله وتجاه الإخوة. وقد هيّىء هذا التعليم بسلسلة من الأخبار منذ 13: 54. إذن، دخل السامعون في فهم كلمات يسوع بمجموعة من الاعتبارات تتمحور بشكل أو بآخر حوله المسيح الذي جاء لكي يخدم ويتألّم. لهذا، حين نقرأ ف 18، لا ننسى الانباءات بالآلام التي تسبقه (16: 21-28؛ 17: 12ب، 22-23). وسيظهر هذا الوضع نفسه في القسم التالي من الانجيل وإن بعبارات مختلفة نأخذها منذ الآن بعين الاعتبار (20: 26-27؛ 23: 8-12).
في هذه الآيات التي امتزجت بعضها ببعض بحيث لا نستطيع أن نفصلها، نحسّ أكثر من أي موضع آخر بتذكّر كلمات يسوع واهتمامات الجماعات المسيحيّة التي فيها وُلد الانجيل الأول. انطلق مت من نص مر المعبّر الذي تبعه لوقا، فكوّن مجموعة متدرّجة تصل بنا إلى قمّة مع مثَل العبد الذي لا يرحم، وهو مثل خاص بمتّى. وهذه المجموعة تشبه أقلّه على مستوى الشرائع الخارجيّة ما نجده عند جماعات قمران.
ب- الشكوك
وبدأ الكلام في المقطوعة الأولى عن الأطفال، عن الاولاد (تجاه الكبار). وهذا ما قاد الانجيليّ إلى أن يضع في هذا المكان تعليم يسوع حول خطر الشكوك تجاه الصغار. وظهر متّى كعادته ذاك المربّي الذي يلفت انتباهنا إلى اهتمامات الكنيسة. أقحم مرقس (38:9- 41) الذي تبعه لوقا (9: 49- 50) خبرًا حول المقسّم (يخرج الشياطين) الغريب (الذي ليس من جماعة يسوع). أما في لوقا فجاء القول حول الشكوك موجزًا جدًا، وورد في سياق مختلف كل لاختلاف.
بسّط مت نص مر، فألغى ذكر الرجل (مر 45:9: إن عثرتك رجلك فاقطعها). ثم كان دقيقًا في كلامه بالنسبة إلى كنيسة عصره، فقدّم تفاصيل سنعود إليها فيما بعد. أسلوب متّى أسلوب أراميّ، ولكن هذا لا يعني أن نصّه سابق لنصّ مر.
نشير هنا إلى أن موضوع الشكوك يظهر أيضًا في الانجيل الأول. في 5: 29- 30 نقرأ: "فإن عثّرتك عينك اليمنى فاقلعها... واطرحها عنك... فخير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يذهب جسدك كله إلى جهنّم". يبدو الشكوك والعثار هنا حاجزًا نصطدم به وفخًا نقع فيه. يبدو حجر عثرة يعرّضنا للسقوط. وفي 11: 6، أورد مت كلام يسوع حول يوحنا المعمدان الذي قد يكون له يسوع سبب عثار: فالموقف الذي يتخذه هذا النبي من يسوع يدينه. وفي 13: 21، يفسّر مثل الزارع في إطار الضيق أو الاضطهاد الذي يجعل المؤمن يعثر، يسقط، يقع في الجحود (رج أيضًا حول الشكوك، 13: 41؛ 15: 12؛ 23:16؛ 27:17؛ 24: 10؛ 26: 31).
أما في المقطوعة التي ندرس (6:18-9)، فنشهد انتقالاً غريبًا من شكّ يصيب القريب بسببنا (آ 6-7: من يشكّك أحد هؤلاء الصغار) إلى شكّ يصيبنا فيعرّضنا للسقوط في الخطيئة (آ 8-9). وهكذا نصبح قريبين جدًا من مت 5: 29- 30 الذي ذكرناه. أشارت آ 6 إلى سقوط في الشكّ والارتياب، في اللامبالاة. أما آ 8-9 فإلى سقوط في الخطيئة. ولكن يبقى أن الانجيل يربط ربطًا وثيقًا هاتين الوجهتين حوله الشكوك.
أما فعل "سكنداليزاين" (شكّك) فيعود إلى نصوص يونانيّة متأخّرة (لا كلاسيكيّة) نجدها في السبعينيّة ولاسيّما في دانيال وابن سيراخ. وقد أراد بولس الرسول (في السنوات الخمسين) أن يلمّح إلى كلمة يسوع التي نقلها التقليد، فرأى من الضروري أن يشرح كلمة "سكندالون" (الشك)، فاستعمل لفظة قريبة من قرّائه (بروسكوما، روم 14: 13؛ 1 كور 8: 9). أشرنا إلى هذا التفصيل لندلّ على أن أقوال يسوع لم تنتقل بشكل آلي، بشكل حرفيّ. بل هي خضعت لحاجات الفقاهة في مختلف المناطق التي وصل إليها الانجيل.
ج- الخروف الضالّ
يبقى السياق المتّاوي متماسكًا جدًا. فنحن نعود بشكل صريح إلى موضوع الصغار (آ10 أ، 14) الذي يفتح هذه المقطوعة ويغلقها. هذا النهج في الاسلوب السامي يشير إلى هدف الكاتب في ما يُسمّى التضمين أو الاحتواء. أما الفائدة الكبرى من هذا المثل الصغير بمداه والعميق بمحتواه، فهي أنه يقع بين سياقين انجيليّين مميّزين. في لو 15 توخّى المثل أن يعطي صورة عن الموضوع الذي يُشرف على الفصل كله: فرحُ الله في استعادة ما ضاع. أما في مت 18، فهو يشدّد على مشيئة الله بأن لا يضيع خروف واحد من القطيع، وعلى استعداده للذهاب في طلب الخروف الضالّ.
أيّة من هاتين النسختين تعود إلى يسوع؟ نسخة لو أم نسخة مت؟ هناك خطان. فالذين يبرزون لو، يلاحظون أن نصّه (15: 1-2) هو صدى ملموس لجدال يسوع مع الفريسينن والكتبة. وقد رأى أحدهم في هذا المثل قولاً ليسوع وجّهه إلى خصومه، ولكن التقليد جعله تحريضًا للتلاميذ، أي إلى أعضاء الجماعات المسيحيّة الأولى. لاشكّ في أن النصّين قد تأثّرا بالتقليد الشفهيّ قبل أن يدوَّنا كتابة. وكلاهما يعطياننا صدى حقيقيًا لمثل تفوّه به يسوع، وهو مثل فيه الكثير من البساطة ومن الغنى بحيث يستطيع أن يولّد اتجاهين متكاملين في تطبيقه. غير أننا نلاحظ أن مثَل الخروف الضال في لوقا كصورة عن الصغار الذين لا نحتقر (آ 1) يلائم ملاءمة أفضل الخطأة الذين احتقرهم الفريسيون والاسيانيون في زمن يسوع. لا أعضاء مغمورين في جماعة مسيحيّة في سورية وفلسطين جوالي سنة 80.

2- القراءة التفصيليّة
أ- مقدمة إلى دراسة الآيات
أولاً: البنية
يبدو 18: 1-14 في ثلاث مقطوعات. في آ 1-5 نتعرّف إلى العظمة الحقيقيّة. في آ 6-9، إلى الشكوك الذي يجعل الصغار يعثرون. وفي آ 10- 14، إلى الخروف الضالّ الذي يذهب الرب في طلبه، ويُسرّ حين يجده. أما المقطوعة الأولى التي تحوي ثلاثة اعلانات مفاتيح (آ 3 ,4، 5)، فهي تشير إلى الولد (بايديون). والمقطوعة الثانية تتضمّن ثلاثة أجزاء رشد (آ 6؛ آ 7؛ آ 8- 9)، يوحّد بينها شكل أمثاليّ (سمفارو: نقع، كالون: خير) يرد ثلاث مرات (آ 6، 8، 9): "خير لك أن تدخل الحياة". والمقطوعة الثالثة لا تتوقّف عند لفظة معيّنة، بل تشير إلى "واحد من هؤلاء الصغار" و"الآب الذي في السماوات"، في آ 10، وآ 14، أي في البداية وفي النهاية.
ثانيًا: المراجع
تتأسّس المقطوعة الأولى (18: 1- 5) على جدال حول العظمة في مر 33:9-37. يبدو أن لو لم يتأثّر كثيرًا بالانجيل الثاني (ترك مر 9: 35 ولفظة احتضن). أما مت فاستعمل مرجعه بحريّة. أوجز المقدّمة السردية (فصارت أقلّ حيويّة). أسقط ما قيل في 9: 35 ("من أراد أن يكون الأول، عليه أن يكون آخر الكل وخادمًا للكل"؛ رج 26:20-27؛ مر 10: 43-44؛ مت 23: 10). وأضاف القول في آ 3 (إن لم ترجعوا وتصيروا كالاولاد) (أخذه من مر 10: 15 أو بالأحرى من المتّاويات) وما في آ 4 (من وضع نفسه مثل هذا الولد) (استند، على ما يبدو، إلى قول من المعين نجده في 23: 12= لو 18: 14). وأخيرًا ألغى نهاية مر 37:9 ("ومن يقبلني لا يقبلني أنا، بل يقبل الذي أرسلني"، رج مت 10: 40). كل هذه التبديلات تفسّر في ميل متّى إلى الإيجاز، ورغبته في جمع الأقوال حول الأولاد، حول الأطفال. هذه الرغبة تفهمنا لماذا ترك مر 9: 35، 37 ج د، ولماذا أضاف آ 3-4. هكذا برزت وحدة الموضوع حول اللفظة الواحدة.
وإذا عدنا إل 18: آ-9 نجد الموازيات التالية:
مت مر لو
18: 6 9: 42 2:17 ب،2 أ
7:18 - 17: 1
18: 8 9: 43، 45 -
18: 9 9: 47 -
إن الآيتين الأخيرتين هما نسخة متّى لما في مر 43:9-45، 47. وقد شابهت جزئيًا 29:5-30 (اللتين ترتبطان بما في مر 43:9-47). يعود 7:18 إلى المعين، على ما في لو 17: 1. وكما في 6:18، قد نكون أمام تداخل المعين مع مرقس. وفي ما يتعلّق بـ 18: 10-14، فنحن أمام مثل من المعين (رج لو 3:15-7) مع مقدّمة تدوينيّة (آ 10) وخاتمة (آ 14). لا يبدو معقولاً أن يكون لو ارتبط بمتّى. فليس في لو أمور يتميّز بها مت. لن نتوقّف عند الذين رفضوا مرجعًا واحد لمثلَي الخروف الضال في لو 15: 3-7 ومت 18: 10-14. فالاختلافات تدلّ على اهتمامات كنسيّة مختلفة لدى متّى ولدى لوقا.
ثالثًا: التأويل
إن 18: 1-14 هو مجموعة من التعليم الاخلاقيّ يتوقّف عند العلاقات بين أعضاء الكنيسة. تطلب آ 1-5 التواضع. وتتحدّث آ 6-9 عن العثار الذي نضعه أمام الآخرين أو أمام أنفسنا. وتطلب آ 10-14 الاهتمام الخاصّ بكل المؤمنين بمن فيهم الصغار، الخطأة، الضعفاء.
إن لفظتي "بايديون" (ولد) و"مكروس" (صغير) هما المفتاح لهذه القطعة. ما العلاقة بينهما؟ ليس من اتّفاق بين الشرّاح. من الواضح أن يسوع يبدأ الكلام في ف 18 بالاشارة إلى الأولاد الصغار، إلى الأطفال (آ 2، دعا ولدًا وأقامه في وسطهم). وفي آ 10-14 يتحدّث عن الصغار فيعني "المؤمنين". فكيف انتقل الانجيليّ من معنى إلى معنى؟ من الصغار إلى المؤمنين؟ ظنّ بعضهم أنه وجد الحلّ في آ 5: "ومن يقبل ولدًا كهذا". نقول إن "بايديون" مفتاح آ 1- 5، و"مكروس" مفتاح آ 6-14. وهكذا نكون أمام الأولاد الصغار في 18: 1- 5، وأمام المؤمنين في آ 6-14. واستعمال لفظة "لمؤمنين" (أخذت من مر) تُثبت هذا الاستنتاج. فبعد آ 5 فقط، نفهم أن المؤمنين هم في الصورة التي يقدّمها يسوع.
وانقسم المؤوِّلون. هل توجّه ف 18 إلى جميع المسيحيين بالتساوي، أم أولاً إلى المسؤولين في الكنيسة؟ هناك اعتبارات ثلاثة تجعلنا نقف مع الذين يقولون إن هذه الخطبة قد توجّهت إلى تلاميذ المسيح كلهم.
أولاً: مضمون التعليمات لا يتطلّب سامعين من نوع خاص. فالتواضع والصلاح والاهتمام بالغفران للآخرين، هي مطلوبة من كل المؤمنين.
ثانيًا: في 10 يتوجّه يسوع إلى مجموعة خاصة، مجموعة المرسلين، مجموعة "الاثني عشر"، كما يقول النص. أما حديث يسوع هنا فيتوجّه بكل بساطة إلى "التلاميذ" (آ 1، تقدَّم التلاميذ).
ثالثًا: لاحظنا في خطبة الرسالة (ف 10) أن مت يتجنّب تقديم تعليمات خاصة تتوجّه إلى أقليّة في الكنيسة. "وما أقوله لكم فللجميع أقوله: كونوا متيقّظين".
ب- التفسير
هنا نبدأ بتفسير الايات.
أولاً: الأطفال (18: 1- 5)
نحن هنا أمام نصيحة أخلاقيّة. فعلى الانسان أن يتبدّل فيصبح مثل الأولاد الصغار (الأطفال). فبهذه الوسيلة وحدها يستطيع الدخول إلى الملكوت (آ 3). على الانسان أن يتواضع كالطفل. ففي الملكوت يصبح المتواضع عظيمًا (آ 4). وعلى الانسان أن يستقبل الصغار "باسمي". فمن قبلهم قبل يسوع نفسه (آ 5). وهكذا نجد في هذه المقطوعة ثلاثة مواضيع: الدخول إلى الملكوت، العظمة في الملكوت، الخدمة في هذا العالم.
حين نقابل نص مت مع مرجعه في مر 33:9-37، نستنتج الملاحظات التالية (1). أوجزت المقدمة الاخبارية (مر 9: 33-34) بحيث لم تعد تُذكر المزاحمة ين التلاميذ. (2). ضُمّ قسما الخبر (آ 1 وآ 2- 5). تصرّف الرسل (آ 1 أ)، ثم تكلّموا (آ 1 ب). وكذلك تصرّف يسوع (آ 2)، ثم تكلّم (آ 3- 5). (3) بدأ الحديث مع التلاميذ الذين طرحوا على يسوع سؤالاً. أما عند مرقس فكانوا صامتين. (4) ألغي مر 35:9، فصار الخبر متماسكًا (يتّفق مفسّرو مر على أن مر 33:9-37 غير مرتّب بسبب 35:9). (5) ألغي الكلام عن يسوع الذي أخذ ولدًا بين يديه (مر 9: 36). (5) أدخل قولان في آ 3-4. (6) ألغي مر 37:9 د.
* سؤال التلاميذ (آ 1-2)
هل جاء سؤال التلاميذ حول العظمة الحقيقية (كما يقول أوريجانس في تفسيره لمتّى، 14:13) على أثر أولويّة بطرس كما في 24:17-27؟ ليس الأمر واضحًا. وقد رأى بعضهم في المثل حول ملوك الأرض في 17: 24- 27، سؤالاً حول ملكوت السماوات. لأن الكلام التعليمي حول حريّة التلاميذ جعلهم يتعجبّون حول معيار العظمة في الجماعة الاسكاتولوجيّة.
ثم إن نصّ مت لا يكشف لنا نوايا التلاميذ: هل فكّروا بأنفسهم أم تكلّموا بشكل عام؟
"في تلك الساعة". هي انتقالة تدوينيّة لا نجدها في مر. رج 13:8. "تقدّم التلاميذ إلى يسوع وقالوا". ق 5: 1، 13: 36؛ 14: 15؛ 3:24؛ 17:26 (كلها تجعل تمييزًا. وفي إيرادين تبدأ خطبة هامة). "من الأعظم في ملكوت السماوات" رج انجيل توما 12. بالنسبة إلى سائر الأسئلة الآتية من التلاميذ، رج 13: 15؛ 15: 12؛ 17: 19؛ 21: 20؛ 24: 3. أضيف "ملكوت السماء". وهذا ما تدلّ عليه المقابلة مع مر 9: 34 (فقط: من هو الأعظم). وهكذا صارت الجملة سبب جدال. هل هي عودة إلى الزمن المقبل، إلى من هو الأعظم السنا هنا فقط أمام مقابلة مع "مايزون" بل تفضيل مطلق، رج 5: 19) في ملكوت السماء؟ أو هل هو تعجّب التلاميذ حول الزمن الحاضر؟ هل تماهت الكنيسة مع الملكوت؟ إن استعمال "استين" (كان، هو) في آ 1، 4 قد يحلّ المشكلة لأن الحاضر يُستعمل من أجل المستقبل في العهد الجديد. وكما في 11: 11، نأخذ بالتفسير الاسكاتولوجي. ولكن يجب أن لا نعارض تفسيرًا (يأخذ الزمن الحاضر) بتفسير (يأخذ الزمن المقبل). حين لا يرى التلاميذ تراتبيّة في العالم الاسكاتولوجي، فرؤيتهم تنعكس في بنية الكنيسة. والعظمة في الملكوت هي العظمة في الكنيسة، على الأرض.
أجاب يسوع (آ 2) بفعلة رمزيّة على ما اعتاد الأنبياء أن يفعلوا. قدّم مثلاً لا بالقول بل بالعمل. دعا ولدًا وأجلسه وسط التلاميذ. وهكذا جاء النظر يساعد السمع. إن وجود الولد يدلّ على أن الراوي لا يظنّ أن يسوع هو في بيت كفرناحوم حيث نجد فقط يسوع والاثني عشر.
* جواب يسوع (آ 3- 5)
"وقال". هكذا أوجز مت مر 9: 36 حيث نقرأ: "ثم أخذ ولدًا... وقال لهم". "الحقّ أقول لكم...". لا تعود آ 3، إلى مرجع مرقسيّ. بل هي تدلّ على قول نقرأه أيضًا في مر 10: 15 (= لو 18: 17)؛ يو 3: 3، 5؛ إنجيل توما 22 و46. رج أيضًا يوستينوس، الحوار الأول 6: 4؛ راعي هرماس، أمثال 9: 29. يبدو أنّ نصّ مت هو أقدم من نصّ مر 10: 15، لأن "قبول الملكوت" هي عبارة بعد فصحيّة. فيسوع تكلّم بحسب مت عن الطريقة التي بها نصير كالأطفال.
ما هو معنى القول في مت؟ أن نصير كالأطفال لا يدلّ على البراءة أو البساطة واللاخطيئة (في "رؤيا بولس" كما في نجع حمادي، الموحي هو ولد صغير. هل هذا الظرف هو نتيجة جعل يسوع يكمّل قوله). ولكن قول يسوع في آ 4 هو دعوة إلى التواضع الذي سمّاه يوحنا الذهبيّ الفمّ أم سائر الفضائل وأصلها وأساسها وقلبها (عظة 1-55 في أع 3:3). هذا لا يعني أن الأطفال يعون تواضعهم، بل أن لا موضع لهم ولا موقع في المجتمع. وتبّاع يسوع الذين يعكسون هذه الصورة، يُبعدون عنهم كلَّ كبرياء التي هي "أصل الخطيئة وينبوعها وأمها" (يوحنا الذهبي الفم، العظة 1-88 في يو 9: 2). كما ينسون موقعهم في العالم.
ولكن ما معنى كلام يسوع حين دعا سامعيه ليكونوا مثل الأطفال؟ إليك بعض الآراء: (1) يدعوهم إلى الانفتاح. (2) يدعوهم إلى الثقة بالله. (3) يدعوهم إلى العفويّة. (4) يدعوهم إلى قبول الملكوت كالطفل الذي يعرف أنه لا يحقّ له أن "يطالب". (5) يدعوهم إلى التواضع. (6) يدعوهم لكي يتعلّموا أن يقولوا: أبّا، أيها الآب. (7) بما أن الملكوت يشبه الطفل، نقبل الملكوت كما نقبل الطفل، بعاطفة المحبّة.
ونقول: حين طلب يسوع من سامعيه أن يكونوا كالأطفال فهو يدعوهم ليعيشوا حياتهم الدينيّة كأنها شيء جديد. وقال تلمود بابل، (يبموت في نظام النساء، 48 ب) إن المرتدّ إلى اليهوديّة هو مثل الطفل الذي وُلد من جديد. هي مقابلة طبيعيّة ترد في مواضع عديدة (مثلاً، 1 كور 27:5؛ فلم 10). فالتوبة التي يطلبها يسوع مع الثمار من أجل الدخول إلى الملكوت، هي مثل الولادة. في هذا الخطّ سار يوحنا. وتفسير مت على مستوى التواضع قد يكون انطلق من هذا المفهوم.
"إن لم ترجعوا" أو: "إن لم تتوبوا" (رج يو 12: 40). أو: "إن لم تتبدّلوا" رج في العربية "تاب"، "ثاب" (في الأرامية "ت و ب". في العبريّة "ش و ب"). وهكذا تعني العبارة: أن نصبح من جديد مثل الأطفال. أما الدخول إلى الملكوت (رج 5: 20؛ 7: 21؛ 19: 23-24؛ 23: 13)، فيقودنا إلى الزمن المقبل.
"فمن وضع نفسه مثل هذا الولد..." (آ 4). هي آية من تدوين مت، ترتبط بالمعين كما في 23: 12= لو 18: 14 (من اتّضع ارتفع). صار "المتواضعون" كـ "الأطفال". وفي ضوء آ 1 (حيث نجد "مايزون"، خير)، الارتفاع هو العظمة.
وتأتي آ 5 (مثل مر 33:9-37) فتختم مع وعدْ لمن يتقبّل الأطفال. ليس الطفل مثالاً نقتدي به، بل موضوع عمل نقوم به. "باسمي". نتقبّل الطفل باسم المسيح، أي نرى المسيح في هذا الطفل، ونتصرّف من هذا المنطلق. وهكذا نكون أمام المبدأ الذي نجده في 25: 31-46 حيث يرتبط ابن الانسان مع الضعيف والمهمّش. صار ابن الانسان واحدًا مع ذاك المحتاج مهما كانت استعداداته الذاتيّة. وهكذا جمع يسوع القول والعمل فدعانا إلى أن نقتدي به
ثانيًا: الشكوك (6:18- 9)
هذه المقطوعة بأجزائها الثلاثة، تحتوي أقوالاً مع فعل "سكنداليزاين" أو الاسم "سكندالون". لم نعد هنا أمام وعد، بل أمام تنبيه وتحذير. طلبت آ 6 من الانسان أن لا يشكّك "واحدًا من هؤلاء الصغار". وشدّدت على العقاب الالهي القاسي (يعلّق بعنقه حجرُ الرحى ويُرمى في البحر). لم نعد أمام الأطفال (كما في آ 1-5)، بل أمام أعضاء الجماعة المسيحيةّ. وتتحدثّ آ7 عن السقوط بشكل عام مع ويلين: ويل للعالم من المعاثر. ويل للإنسان... وفي النهاية، تأتي آ 8-9 فتنقلان انتباهنا من الآخرين إلى أنفسنا: نحذر من أعضاء جسدنا ومن الضرر الذي قد يحصل لنا.
* من يشكّك الصغار (آ 6-7)
مع آ 6، ننتقل من "بايديون" (طفل) إلى مكروس (صغير)، من المعنى المادي إلى الصغير أي الذي يؤمن. ويحذّرنا يسوع الآن في كلام قاسٍ جدًا من الذين يسبّبون الشكوك والعثار للآخرين. إن فعل "عثّر" (شكّك) يعني أفسد، قاد في طريق الشر العقليّ والخلقيّ. يعني جعل الناس يضلّون، يضيّعون الايمان. ويذهبون بعيدًا عن الله. إن عبارة "واحد من هؤلاء الصغار" ترد أربع مرات في مت (15: 42؛ 18: 6، 10، 14). ومرّة واحدة في مر 9: 42 وفي لو 17: 2. وهي تشير إلى المرسلين (كما في 10: 42) والموعوظين والمرتدّين الجدد والمسيحيين الصغار (إيمانهم ضعيف: أو لا يعتبرهم الآخرون).
تحدّث يسوع (في آ 6) عن الصغار في المعنى الحرفي، عن التلاميذ (رج 10: 42)، عن المساكين كما في التطويبات. هم المؤمنون (الذين يؤمنون بي). فمن جرحهم جرح نفسه. فالانسان حين يعثّر الآخرين يعثّر نفسه أيضًا. فالخلاص جزء من مسيرة اجتماعيّة. لهذا لا نستطيع إلاّ أن نفكّر بالآخرين. قال أنطونيوس: "حياتنا هي مع قريبنا وكذلك موتنا. إن ربحنا أخانا ربحنا الله. ولكن إن شكّكنا أخانا أخطأنا إلى الله (الأباء اليونان 65). وما قاله بولس عن الشكوك في روم 13:14؛ 1 كور 13:8 (تطبيق على المؤمنين الضعفاء) ليس بعيدًا عن روح مت 18.
"الويل للعالم من الشكوك" (آ 7). لا نجد في لو ما يوازي هذه الآية، التي تبدو تدوينيّة. فهي تتيح لنا أن ننتقل من آ 6 إلى آ 7 ب. إن لفظة "ويل" يتبعها فاعل غير شخصيّ (11: 21). وإن لفظة "كوسموس" (العالم) هي تدوينيّة، شأنها شأن "سكندالون" التي تتكرّر ثلاث مرّات في هذه الآية. "من الضرورة أن تأتي الشكوك". نحن أمام مراحدة تعود إلى المعين. لماذا؟ بسبب تأثير الشيطان في العالم.
في الأيام الأخيرة، قبل أن ينتصر الله، يزدهر الاثم (24: 6: يوستينوس، الحوار مع تريفون 25). لا يمكن أن نفلت من الشكوك. "ويل للانسان الذي تقع المعاثر على يده". إن كنا لا نستطيع أن نتجنّب الشكوك، وإن كانت ضروريّة، فهذا لا يعني أنه يجب أن نقترفها. علينا أن نمرِّن إرادتنا لئلا نقود الآخرين إلى الخطيئة. فمسؤوليتنا باقية في أي حال.
* من تشكّكه يده (آ 8-9)
هاتان الآيتان اللتان هما تعبير مختلف للموضوع الواحد، قد حوّلتا الموضوع وبدتا وكأنهما تقطعان السياق (آ 10 تتبع آ 7). إن إعلان آ 6 يرتبط مع تشكيك الآخرين. وقد صار تشكيكًا بنوع عام. ولكن الأمر في آ 8-9 يدعو إلى الحذر ممّا يقود الانسان إلى الخطيئة. وتجاوبُ العضو مع الخطيئة يكون سريعًا، أكيدًا، قاسيًا. قد يكون الارتباط مع آ 6-7، في أن ظرف الخطيئة في الانسان قد يقوده إلى أن يعثّر الغير. فإن أراد الانسان أن يجنّبا أخاه العثار، وجب عليه أولاً أن يحذر هو من العثار. في هذا الاطار نتساءل: أما تشبه آ 8-9 في وظيفتها 7: 3-5 ومثَل الخشبة والقذى؟ فإذ أراد المؤمن أن يصلح أخاه، يجب عليه أولاً أن يتحرّر من خطيئته. وهنا أيضًا، قبل أن نحاول أن نحدّد مؤمنًا يستحقّ التوبيخ (آ 15 ي)، نتحرّر نحن من العثار.
"إن شككتك يدك أو رجلك". تمزج هذه الاية مر 43:9 أ مع آ 45 أ، فتشبه مت 5: 30. حوّل الانجيلي قولين من مر فصارا عنده قولاً واحدًا، وصارت اليد والرجل وكأنهما شخص حيّ. ووجود صيغة الحاضر يدلّ على أن العثار كان مشكلة ملموسة في الجماعة المتّاويّة. "فاقطعها واطرحها عنك بعيدًا". رج مت 5: 30. هنا نتذكّر قطع اليد (أو الرجل) المريضة لدى الأطباء على ما يقول كونتليانس. إن عمليّة "القطع" للعضو تجعلنا في خطّ الذين خصوا أنفسهم من أجل ملكوت الله (19: 10-12).
"خير لك أن تدخل الحياة...". يشير هنا النصّ إلى العلاقة بين العمل الحاضر والملكوت الآتي كما تشير إليه "الحياة". إن الحرب مع الخطيئة هنا والآن، تحدّد المصير النهائيّ. يجب أن يُزال كل حاجز في طريق "الحياة"، ومهما كان الثمن. لا شيء له قيمة تجاه كنز الملكوت (44:13). وليس من تضحية عظيمة في هذا المجال. فكلها ترخص من أجل البلوغ إلى الحياة والنجاة من نار جهنّم. فعلى الانسان أن يتألّم هذا "الموت" الذي يعطي الحياة. هذا ما قاله سمعان اللاهوتي الجديد في العظة السابعة والخمسين.
قد يلمّح 18: 8-9 إلى تكوين ربّه حول 2: 3: "سأل فيلسوف رابي حوشايا (من الأمورائيم أو القوَّالين في القرن 3): إذا كان طقس الختان محبوبًا، فلماذا لم يُعط لآدم (حسب الطبيعة)؟ أجابه: لماذا تحلق زوايا رأسك؟ أجاب الفيلسوف، لأنها تنمو من حوله في شطط. فقال له: بالطريقة عينها يجب أن تعمي عينيك وتقطع يديك وتكسر رجليك لأنها تنمو حولك في شطط".
ثالثًا: الخروف الضال (18: 10- 14)
* بين متّى ولوقا
هنا عاد مت إلى المعين، وأخذ مثل الخروف الضالّ (لو 3:15-7). وأضاف على ما وصل إليه، المقدّمة (آ 10) والخاتمة (آ 14). في لو 15 حيث يترافق المثل مع مثل الدرهم الضائع، يبدو المعنى مختلفًا. كان سامعو يسوع الكتبةَ والفريسيين. وقد حاول يسوع أن يبرّر موقفه تجاه انتقاداتهم: لماذا يأكل مع العشّارين والخطأة، مع هذا الشعب صاحب السمعة السيّئة. في لو 3:15- 7، يمثل الخروف الضال الخاطىء الذي ضلّ. والفرح بوجوده هو فرح الله أمام التائب.
أما في مت، فمثل الخروف الضالّ يتوجّه إلى التلاميذ (وهكذا ينعكس المعنى)، فيجعلنا في إطار كنسيّ. كل أعضاء الكنيسة هم موضوع عناية من قبل الله الذي يهتمّ بأن يحافظ على خاصته، حتى "الصغار". لهذا، يجب أن لا نحتقر حتى "الصغير". في لو، الخاطئ قد ارتدّ ورُبح للمسيح في مهمّة انجيليّة. أما في مت، فالعضو الذي سقط قد أعيد ونجا من الدمار.
يتضمّن مثل الخروف الضال (كما هي العادة في مت) موضوع الاقتداء بالله (43:5-48). فالراعي الذي استعاد خروفه الضالّ يشير إلى اهتمام الله بكل واحد. واهتمامه هذا هو نموذج للاهتمام البشري بالصغار (18: 14): حبّ الله للضالّين يدعو حبَّ البشر للضالين.
تبدأ هذه المقطوعة وتنتهي بالعبارة نفسها: "واحد من هؤلاء الصغار". وهي تقرأ حسب الرسمة التالية:
10 أ: واحد من هؤلاء الصغار
10 ب: أبي الذي في السماء
12 ب: ضلّ واحد
12 ج: التسعة والتسعين
12 ج: الذي ضلّ
13 ب: التسعة والتسعين
13 ب: التي لم تضلّ
14 أ: أبوكم (أو: أبي) الذي في السماء
14 ب: واحد من هؤلاء الصغار.
يعتبر الشرّاح هذا المثل على أنه خرج من شفتَي يسوع. فإن كانت المقدّمة اللوقاويّة (15: 1-2) تدوينيّة، إلاّ أن يسوع قد قالها ليردّ على منتقديه لأنه يأكل مع العشّارين والخطأة. لقد ارتبط يسوع مع بعض الأشخاص الذين اعتُبروا أدنى من أن يلامسوا تقواه، من أن يرافقوه، لأنهم من خارج قطيع اسرائيل (9: 10، 13). وجاء مثل الخروف الضالّ بشكل دفاع تجاه الذين عارضوه. أما هدف يسوع فجاء مختلفًا كل الاختلاف كما قال مر 17:2: "ليس الأصحاء يحتاجون إلى طبيب". جاء مثل الدرهم الضائع (لو 8:15-10) بعد مثل الخروف الضالّ في المعين. ولكن مت احتفظ بمثل واحد لأن الخروف الضالّ يمثّل المؤمن الذي يبتعد عن الكنيسة، ساعة لا يستطيع أن "يذهب بعيدًا".
هناك اتصال بين مت 18: 10-14 وحز 34 (كما في السبعينيّة)؛ ق آ 12 مع حز 34: 10- 11 (أطلب غنمي) و12:34؛ ق آ 12 مع حز 13:34؛ ق آ 12-13 مع حز 16:34. ولكن وإن ارتكز المثل على نص حز، إلاّ أنه تحوّل وتكيّف مع الجماعة المسيحيّة. نشير إلى أن مت استعمل لفظة "الجبال" (حز 34: 13) (أوري في اليونانيّة). ثم "بلاناوو" (ضلّ، حز 34: 16).
* لا تحتقروا واحدًا (آ 10- 11)
هذه المقدمة التدوينية (آ 10) التي تسبق الخروف الضالة تبدو انتقالةً تربط بين المقطوعتين. "واحد من هؤلاء الصغار" يعود بنا إلى آ 6 (يعثر أحد..)، فيجعلنا نرى ما يجب أن لا نحتقر. وفي الوقت عينه، الانتقال من "سكنداليزاين" (شكّك) إلى "كاتافروناين" (احتقر) يُفهم القارئ أنه يصل إلى مقطوعة جديدة. وهكذا جمعت آ 10 ما سبق وهيّأت إلى ما يلي.
الاحتقار هو موقف قد ينتج عنه أفعال. ولمذا لا نحتقر "الصغار"؟ لأن ملائكتهم يشاهدون وجه الآب السماويّ. لأن لهم من يمثّلهم في السماء. هناك اعتقاد في العالم اليهوديّ يقول بأن الله في حبّه للبشر قد جعل لكلّ إنسان ملاكًا (مز 34: 7؛ 91: 11؛ المدائح 5: 20؛ 1 اخنوخ 10: 5؛ اليوبيلات 35: 17: وصيّة لاوي 5: 3 وصيّة أيوب 43: 10...). قد يعود هذا الاعتقاد إلى العالم الفارسيّ (فراوشيش أو الأرواح الحرّاس). وهناك من قال إن أسماء الملائكة جاءت من بابل. واعتبرت نصوص بيبليّة أن لكل دولة ملاكًا يحرسها (دا 13:10؛ 12: 1؛ سي 17:17؛ رج 2 مك 11 :6؛ 3 مك 18:6-19؛ 1 اخنوخ 20: 5). وقيل أن الملائكة في مت 18: 10 هم متشفّعون، وسطاء بين الله وكل واحد منا (أي 23:33؛ طو 12: 15؛ 1 أخنوج 40: 6، 9؛ 104: 1؛ وصيّة لاوي 3: 5؛ 5: 6). هل الملائكة خلائق يصعدون إلى السماء وينزلون إلى الأرض، ويقومون بوظائف على مثال رفائيل بالنسبة إلى طوبيا؟ هذا موضع جدال لدى الشرّاح.
نشير هنا أن العالم اليهودي يعتبر أن الانسان لا يستطيع أن يرى مجد الله. ولكن يسوع يقول إنهم يرون مجد الآب الذي في السماء. وإن كان للأطفال ملاك، فهذا لا يعني أنهم بريئين، بلا خطيئة. بل نحن هنا أمام تعبير عن حنان الله تجاه المؤمنين في الكنيسة.
ونقرأ آ 11: "لأن ابن البشر قد جاء ليخلّص ما هلك". لا تقرأ هذه الآية في عدد من المخطوطات. هي قد أخذت من لو 19: 10. لهذا لا تضعها الترجمات في النصّ، بل في الحاشية.
* إنسان له مئة خروف (آ 12-14)
يبدأ المثل مع هذه الآية التي تطرح سؤالين: السؤال الأول يدعو إلى الانتباه: "ماذا ترون"؟ والسؤال الثاني يفترض جوابًا بالإيجاب: "إذا كان لانسان مئة خروف..". "ماذا ترون". ق 17: 25؛ 21: 28؛ 22: 17، 42؛ 66:26 (كلها خاصة بمتّى وليس لها ما يقابلها في سائر الأناجيل)؛ ق يو 11: 56. في هذا النصوص، يحكم السامعون على نفوسهم.
"كان لانسان مئة خروف وضلّ واحد". رج مز 176:119 (ضللت كخروف ضال)؛ 1 بط 2: 25؛ لو 15: 4. عبر التاريخ المسيحيّ، تماهى الرجل والخراف مع يسوع نفسه، فقُرئ نصّ مت مع يو 10. في هذا المجال، نقول إنّ الربّ (آ 14) وافق على أعمال الراعي يسوع الذي ذهب يبحث عن الضالّ (آ 13-14). وعلى المؤمنين بيسوع أن يصنعوا مثله. مثل هذا التفسير طبيعي على ضوء 9: 36؛ 15: 24؛ 26: 31 (يسوع هو كالراعي). هنا نتذكّر أن داود كان راعيًا (2 صم 7: 7-8). ونتذكّر وضع يسوع كالعامل الاسكاتولوجيّ في مخطّط الله. كما نتذكّر أن يسوع هو ابن داود، ونتذكّر النبوءة حول تجميع الخرف على جبل نهاية الأزمنة (أش 40: 11؛ إر 31: 10؛ حز 34: 11-16).
"يترك التسعة والتسعين في الجبال". هذا ليس بمعقول. لهذا، لا نقرأ النصّ قراءة حرفيّة، ولكن نفهم القيمة الكبيرة للخروف الضالّ. ونفهم فرح الآب لعودة ابنه. "وإذا وجده" (آ 13). رج لو 15: 5 (يحمله على كتفه، رج أش 40: 11). "هكذا لا يريد أبوكم الذي في السماوات" (آ 14). ق لو 7:15 (هو أقرب إلى المعين)؛ يو 6: 40 (هذه إرادة أبي). إن إرادة الآب بأن لا يهلك واحد من هؤلاء الصغار، صارت أمرًا للمؤمنين. فعلى التلميذ أن يكون مثل الله، أن يسلك مثل الله الراعي الصالح (مز 23)، أن يشارك الله في نشاطه من أجل خلاص الضالين.
يتضمّن انجيل توما 107 نسخة عن هذا المثل: "قال يسوع: يشبه الملكوت راعيًا له مئة خروف. واحد منها، وهو الأكبر، ترك وراءه التسعة والتسعين، ويحث عنه حتى وجده. بعد أن تحمّل الصعوبات، قال للخروف: أحببتك أكثر من التسعة والتسعين". عاد النصّ إلى الازائيين. ولكنه شدّد على أهميّة الخروف لأنه الأكبر، ولم يشدّد على حنان الرب ورحمته (خسر الرب خروفًا كبيرًا!).

3- خلاصة شاملة
أ- العظمة الحقيقيّة
إن الرباط مع ما سبق هو رباط منطقيّ أو فقاهيّ، لا كرسوتولوجي أو سيروي. لسنا هنا أمام سيرة يسوع. ولسنا أمام تتابع الأحداث. في هذا المجال، تبقى "الساعة" غامضة. لا ننسى أننا في الخطبة الرابعة من خطب مت، وقد جُمعت كتعليم مخصّص للجماعة المسيحيّة. يذكر التلاميذ (ماتيتاي) الذين ليسوا مجموعة الرسل المنظّمة في حلقة. نشير هنا، كما سبق وأشرنا، إلى أن هذا التعليم لا يُحفظ للذين سيقودون الكنيسة. هؤلاء التلاميذ هم قبل كل شيء أعضاء الكنيسة الذين إليهم يوجِّه الانجيلي كلامه.
"أرا" (اذن) لفظة متواترة عند مت وعند بولس. تميّز لغة هذين المعلّمين الكبيرين في المسيحية الأولى. بماذا نربطها؟ ليس فقط بواقع يعلن سلطة بطرس في الكنيسة. بل بتأكيد مركزيّ في الانجيل. لقد رتّب يسوع الملكوت لتلاميذه. فأين هي أماكنهم في هذا الملكوت؟ ولكن ولْي النصّ يرينا، شأنه شأن لو ومر، أننا أمام عظمة خاصة، لا بملكوت الله الآتي، بل بالتصرف الحاليّ للمسيحيّ الذي يحوّل نعمة الله إلى عظمة بشريّة.
ودعا يسوع ولدًا. جاء به عن الطريق. لم يكن مثال البراءة والطهارة والكمال الخلقيّ. ففي فلسطين، بل في العالم القديم كله، كان الولد كائنًا ضعيفًا، لا يجرؤ أن يطلب شيئًا. لا يحقّ له أن يتكلّم في المجتمع، فيكتفي بأن يطيع الأوامر التي تعطى له. هو كالمساكين في مت: يتقبّل بفرح ما يقدّم له. نشير إلى أن لفظة "بايديون" تعني الولد الصغير والطفل (لو 2: 21؛ يو 16: 21؛ مت 2: 8، 9، 11). أو الولد الذي قد يكون "كبيرًا"، كما هو الحال هنا (مت 16:11؛ 13:19 ي؛ 14: 21). إن فعلة يسوع تدلّ على أننا لسنا أمام رضيع ولا أمام مراهق.
"إن لم ترجعوا (آ 3). يتوجّه نداء يسوع هنا إلى التوبة، إلى تلاميذه. فليس لهم أن يعيشوا حلمًا من البراءة على مثال الأطفال، بل أن يتوقّفوا عن المطالبة بالملكوت، وأن يقبلوا ما يُعطى لهم. تهديد خطير. فحتى تلاميذ يسوع ورسله قد يُحرمون من الدخول إلى الملكوت. وهكذا ينتقد متّى بعض الأوساط المسيحيّة في عصره.
إن فعل "سترافاين" يعني: بدّل اتجاهه. غيّر سلوكه (7: 6؛ 9: 22؛ 23:16). فعلى الرسل أن يبدّلوا وجهتهم في تصوّرهم للعظمة التي إليها يطمحون. نحن أمام تبدّل واعٍ، لا على مستوى السلوك وحسب، بل على مستوى الاتجاه الأساسي. ليسً الموضوع أن نعود أطفالاً كما تصوّر نيقوديمس. فالتاريخ البشريّ لا يعود إلى الوراء. لسنا في إطار التقمّص والعودة إلى جسد آخر أو حياة ماديّة أخرى. بل يجب أن نأخذ بطريق التواضع والخدمة بحسب وصيّة يسوع. ففكرة الاتضاع (تاباينون) تدلّ على خدمة ملموسة نقوم بها لله وللقريب. ولا تدلّ على مثال نسكي من الامّحاء أو الطاعة العمياء (23: 12؛ لو 14: 11؛ 14:18؛ رج 2 كور 7:11؛ 12: 21؛ فل 18:2 ي؛ 12:4؛ يع 4: 10؛ 1 بط 5: 6).
"ومن يقبل ولدًا" (آ 5). قد ينتمي هذا القول إلى المقطوعة التالية لأنه يقطع تماسك الفكرة ويقع في سياق تاريخيّ مختلف. ولكن الإزائيين الثلاثة جعلوه في هذا الموضع (مر 37:9؛ لو 48:9؛ رج مت 10: 40). أما المعنى فواضح: قبول الولد هو فعل تواضع ناشط يطلبه يسوع. ووراء هذا الولد (أو الطفل) نجد الصغار الذين أهملوا في الكنيسة الأولى. وهكذا نستشفّ مشاكل داخليّة في الكنيسة، كما نكتشف تحريضًا يدعونا لتقبّل الأولاد.
نقبل الولد، لأنه للمسيح. نقبله باسم المسيح. فيسوع أمرنا بذلك. ستعود الفكرة في 25: 31-46. وزاد مر 37:9؛ ولو 48:9 التماهي بين الولد والمسيح، وبين المسيح والله. يقف هذا التماهي السريّ على المستوى الملكيّ والقانونيّ: أعلن يسوع باحتفال أن ما يُفعل لهؤلاء الأولاد، يعتبره وكأنه فُعل له. فهو سوف يحاسبنا. لسنا هنا أمام كمال طبيعيّ في الولد يرفعه إلى كرامة المسيح نفسه، ولا أمام حضور للمسيح في الولد بحيث تبتلع هويّةُ يسوع هويّةَ الولد.
ب- الشكوك
لقد صار الأولادُ "الصغارَ" (اللفظة عينها نجدها في 18: 10؛ 10: 42؛ 11: 11؛ رج لو 48:9؛ 12: 32) تجاه الحاجة إلى العظمة لدى التلاميذ. من الواضح أننا لسنا أمام الاولاد بالمعنى الحرفيّ. فعبارة "آمن بيسوع" لا ترد إلاّ هنا في الأناجيل الازائيّة. أما الايمان بيسوع فيرد مرارًا (مثلاً، 8: 13؛ 9: 28؛ 21: 21). ويبدو أن الشكوك تكوّن عائقًا أمام إيمان الصغار الذين بدأوا يؤمنون بيسوع. أما المشكك فيزجّ في البحر. لسنا أمام عقاب، بل أمام مصير يليق بكل من يشكك واحدًا من هؤلاء الصغار.
"ويل... " (آ 7)، عبارة غير موجودة في مر، ولكنها حاضرة مع بعض الاختلاف في لو 17: 1 (رج مت 26: 24= مر 14: 21 بالنسبة إلى يهوذا). تدلّ على بكاء، على حالة يُرثى لها. لا على "لعنة" (واي في اليونانيّة، 13:23؛ 19:24). وهذه الضرورة (أنانكي) ليست حتميّة عمياء لا يستطيع يسوع والتلاميذ أن يعملوا شيئًا تجاهها. فالنصّ يحثّنا على أن لا نسبِّب العثار. وليست طريقة بها لا يعود يسوع يتضامن مع تلاميذه الذين يشككون الصغار، فيسلّمهم إلى الدمار على مثال ما كان يفعل الاسيانيّون. إن المسيح كما نراه في الاناجيل، يعرف أن العالم ما زال في قبضة الشرّ. ولكنه يعرف أيضًا أن ساعة الخيار قد جاءت، أن ساعة انتصار الخير على الشرّ قد اقتربت.
"إن شككتك يدك" (آ 8). تستعيد هاتان الآيتان 5: 29-30. وُجدتا مرّات عديدة في مراجع مت. جعلهما الانجيلي الأولى في ف 5، ولكنهما هنا في مكانهما مع الحديث عن الشكوك. لسنا هنا أمام استعارة مضخمة، بل حالة حدوديّة: من شكك الآخرين أو تعرّض للعثار، يجب أن يضحّي بكل شيء.
ج- الخروف الضال
إن فعل احتقر (كاتافروناين) لا يدلّ فقط على عاطفة داخليّة من اللامحبّة تجاه الغير. بل على فعلة منظورة جارحة على مثال النظر في 28:5 (6: 24= لو 13:16؛ 1 كور 11: 22؛ 1 تم 4: 12). هذا الاحتقار يحسّ به الذين هم ضحيّته. إن هذه الاية (آ 10) التي يتوسّع فيها المثل التالي توسّعًا تعليميًا، ليست نصيحة من أجل تنقية داخليّة، بل أمرًا صريحًا.
مع آ 12، نجد تعارضًا إراديًا بين الواحد والتسعة والتسعين. هذا الخروف قد ضلّ في مت. في لو، قد ضاع. ويتّفق مت مع مر، فلا يتحدّث عن مشاركة الخروف في عودته إلى الحظيرة. هي مبادرة الراعي تفعل كل شيء. والخروف يتقبّل هذه النعمة بشكل مجّانيّ. ولكن سوف نرى مع الابن الضال (لو 15) ما سيفعله الابن لكي يعود إلى أبيه.

خاتمة
نسوق في هذه الخاتمة الملاحظات التالية:
1. نكتشف في 18: 1-14 مشيئة الله في داخل الكنيسة. فهذا المقطع يعني أولئك الذين صفاتهم وأعمالهم تجعلهم يحكمون على الآخرين أو تقدّم لهم التنبيه والتوبيخ. يجب أن يكون كل هذا عمل محبّة فيعكس اهتمامًا رعائيًا عميقًا. والطريقة التي بها أخذ الانجيلي أقوالاً مختلفة من مراجع متعدّدة (مرقس، المعين، المتّاويات) ونسّقها، تدهشنا وتثير اعجابنا: هو معلّم يقدّم لنا التقليد بيد بارعة.
2. وتأتي الفضائل التي تمارس في حياة الجماعة: التواضع الحقيقي (آ 3- 4)، العطف تجاه الاولاد (آ 5)، الحذر من وضع عثار للآخرين ولاسيّما الضعفاء والمهشّمين (آ 6-7)، ضبط النفس (آ 8-9)، المحبة للإخوة المؤمنين بمن فيهم الصغار (آ 10-14). وهكذا جاءت أقوال يسوع هذه لا من أجل حياة فردية نعيشها كما في صومعة، بل في حياة نعيشها مع الآخرين. وهكذا لا يُطلب منا أن نهرب من العالم، بل أن نعيش في العالم، ومع الإخوة، ومن أجل الخير العام. لهذا نبدأ بالتواضع الذي هو خدمة تجاه الآخرين. فنحن أعضاء بعضنا لبعض كما قال بولس في أف 4: 25. وكما قيل: من يذهب إلى جهنم يذهب وحده. أمّا من يذهب إلى السماء فلا يستطيع إلاّ برفقة الكثيرين.
3. إن هذه التعليمات تتركّز حول فضيلتين: محبّة الآخرين والامّحاء. والاثنتان تسيران معًا، لا لأن الأمّحاء، بدون الحب باطل (1 كور 13: 3)، بل لأن مت جمعهما في موضوع "الاقتداء". فيسوع يدعونا إلى الاقتداء بالله (5: 45-48). أن نحبّ الآخرين. لأن ما يميّز الله هو الحبّ والرحمة. أما الأمّحاء (تاباينوسيس، التواضع) فهو نتيجة الاقتداء بالمسيح الذي كان في صورة الله فأخذ صورة العبد ليعلّمنا الحبّ والتواضع ويذل الذات.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM