الفصل الخامس :وجهات من العالم الرمزي في انجيل متّى

الفصل الخامس
وجهات من العالم الرمزي
في انجيل متّى

السمة اللافتة في التعليم عن شعائر العبادة كما نجده في مت 6: 1-18، هي ارتباطها بأشكال من التقوى اليهوديّة النموذجيّة. فالصدقة والصلاة والصوم هي موضوع نقاش في طريقة جعلت عددًا من الشرّاح يرون في هذا المقطع جدالاً داخل العالم اليهوديّ. فهذه المتتالية قد تعود إلى حركة إصلاح داخل العالم اليهوديّ مع بعض التشديدات المسيحيّة المميّزة.
تجاه هذا الخطّ من التفسير، هناك من قال إن هذه المتتالية عن شعائر العبادة التقليديّة في تدوينها وإدخالها في عظة الجبل، تنتمي إلى جماعة قطعت كل رباط بالعالم اليهوديّ على المستوى العمليّ. ما زالت هذه الجماعة تتعلّق برموز دينيّة نجدها في العالم اليهوديّ. غير أن هذه الرموز قد امتلأت بمدلولات جديدة ودُعيت إلى إظهار شرعيّة عالم رمزيّ يختلف بالأحرى عن العالم اليهوديّ.
وهكذا نكون أمام خيارين في عالم الدراسات المتاويّة الحاضرة. وكلاهما يفترضان الطبيعة اليهوديّة لهذه المتتالية حول شعائر العبادة. في الأول، نجد نظريّة بتس حول التدوين النقديّ: إن المتتالية العبادية هي مع سائر ما في العظة على الجبل، نتاج جماعة مسيحيّة متهوّدة يختلف فيها عالم الايمان اختلافًا جذريًا عمّا عند المدوّن المتّاويّ. أما أوفرمان فانطلق من نظرة سوسيولوجيّة فتحدّث عن صراع بين اليهوديّة المتّاويّة بشكل عام وتدوين متّى بشكل خاص، وبين اليهوديّة التي كانت تكوّن نفسها كسابعّة للعالم اليهوديّ الرابينيّ. أما نحن فنودّ أن نقول إن تقليد متّى وتدوينه يدلاّن على وحدة النصّ. وإن هذا التقليد وهذا التدوين يُبرزان ممارسة مسيحيّة مميّزة وايديولوجيّهّ جديدة.
في قسم أول نشدّد بشكل خاص على التقليد المتّاوي الذي رتِّب بحسب ثلاث كلمات هي نموذج الاتصال. في هذا النموذج يفهم الواقع البشريّ في ألفاظ من "عالم النص" (أو بشكل أوسع، عالم المواضيع العباديّة). "العالم الرمزي" (المستوى التفسيري للواقع). "العالم الملموس" (أو واقع الحياة). هذا النموذج المثلّث يضمّ مثالاً أدبيًا (عالم النصّ تجاه العالم الملموس) مع مثال يقف في مستويين اجتماعيين حيث تتميز البنية الايديولوجيّة من بنية الواقع. والمزج بين هذين المثالين في نموذج تفسيريّ مثلّث لا بدّ أن يطرح الاسئلة على الكاتب أو على القارئ.
وبعد تحليل سنكروني (= إجمالي) لهذه العوالم الثلاثة في العبارات التقليدية يتطلع القسم الخامس بشكل خاتمة إلى التوسّع التاريخي في إطار دياكروني (= تفصيلي).

1- عالم النص في مت 2:6-6، 16-18: تعليم عباديّ
نبدأ فننظر في عالم النص لهذا القسم العبادي. هو يتضمّن كل عناصر النصّ التي يستطيع القارئ بمعرفته الدقيقة للحياة الواقعية والظروف الايديولوجية واللغويّة، أن يتعرّف عليها كعامل يتوقّف عند "ما قيل في النصّ وكيف قيل". إن "ما" تتضمّن (1) حوارًا ضمنيًا بين الأشخاص (المتكلّم: يسوع. تلاميذ يسوع: هم الذين يتكلّم إليهم). (2) والعاملين المذكورين في هذا الخطاب (الله، المراؤون، الشعب، ضمير المخاطب المفرد والجمع أي الأشخاص الذين إليهم يتوجّه الكلام). (3) والمواضيع (الصدقة، الصلاة، الصوم). (4) المكان (المجامع، زوايا الشوارع، المخدع). (5) الزمان (صيغة الحاضر). (6) أمور من الحياة اليوميّة (اغتسل، دهن نفسه). أما "كيف" فهي وسيلة إخبار وكلام تساعد القارئ على إدراك المناخ العام أو "لون" النصّ: ما هو ضمنيّ وما هو صريح في النصّ، الاسلوب وسماته. تبدو "ما" وكأنها تدلّ على عناصر ملموسة. و"كيف" وكأنها تحمل عناصر تفسيريّة أو رمزيّة. فالاثنتان (ما، كيف) هما سماتان في عالم النصّ تمثّلان الواقع الملموس والرمزيّ معًا.
من المعروف أن 6: 1-18 يعود بنا إلى مقطع عبادي سابق لمتّى. استعاد الانجيلي صياغته وتوسّع في شكله الأدبيّ. إن جعلنا جانبًا آ 1 التي هي مقدّمة تدوينيّة، وما يتعلّق بالصلاة الربية (آ 7-15)، نجد نفوسنا أمام وحدة تقليديّة تتميّز بموضوعها وببنيتها. على مستوى الموضوع، تتوقّف هذه القطع عند ثلاثة أمور تتعلّق بالعبادة. على مستوى الشكل (أو البنية) نحن في إطار علم الفتاوى. لهذا سمّينا هذه القطعة "التعليم العباديّ". ومع ذلك، فالشعور بأننا أمام تعليم عباديّ لا يتثبّت بالنصيحة المعطاة. فعبثًا نجد إشارات عمليّة. ففي الحالات الثلاث، يصوَّر السلوك الخاطئ والسوك القويم عن طريقة الاستعارة مع أسلوب السخرية والمفارقة.
أ- النفخ في البوق استعارة معروفة في الادب اليونانيّ، وهو يلفت الانتباه إلى شخص من الأشخاص. وهكذا لا نكون متيّقنين حول الممارسة اليهوديّة التي تصوَّر في آ 2. فالصورة هي صورة تطواف مع أناس يسيرون وهم ينفخون بالبوق أمام الذي صنع الصدقة. وهي بعيدة كل البعد عن الواقع اليومي. ويصوَّر السلوك اليوميّ أيضًا عن طريق الاستعارة وما فيها من مبالغة. ففكرة إعطاء الصدقة في الخفية، تتوافق مع التقوى اليهوديّة. لهذا جاء التعبير بشكل مفارقة حين قال "لا تعرف شمالك "ما صنعته يمينك".
ب- القسم الأول من الجزء المخصّص للصلاة (آ 5) هو قريب من واقع الحياة. فتصرّف "المرائين" يدلّ من الخارج على مظاهر التقوى اليهوديّة. فالوقوف هو طريقة معتادة في الصلاة؛ هكذا كانوا يصلّون في المجامع. والصلاة في الهواء الطلق عمل من الواقع وإن لم يكن من المعروف الصلاة في زوايا الشوارع. تجاه ذلك، نجد التعليم الايجابي: يجب على تلميذ يسوع أن يدخل إلى مخدعه ويغلق بابه ويصلّي وحده. لا نفهم هذا الارشاد في المعنى الحرفيّ. بل مثلُ هذه الصلاة هي مستحيلة بعد أن أوردت آ 9-13 الصلاة الربيّة التي تُتلى في العبادة المسيحيّة العامّة مع صيغة المتكلّم الجمع (أبانا، نحن).
ج- في القطعة الأخيرة، ترتبط الاستعارة بنوع الصوم الذي تعنيه. هناك صوم يوم التكفير. وصوم يرتبط بكارثة وطنيّة. وصوم يرتبط بالجفاف والقحط. فالسلوك الذي يهاجمه يسوع هو ما يُنتظر من كل يهوديّ تقيّ ساعة يدهن رأسه. غير أن هذا ليس بمعقول. فكيف يلفت "المرائي" الانتباه عندما يصوم في تلك الحالة؟ إن النص يعود إلى الصوم الخاص الذي يصومه الفريسي (رج لو 18: 12). وهكذا لا يكون الصوم الحقيقيّ تحديًا للآخر، بل عمل مصالحة. وهكذا يقودنا الإرشاد إلى مفارقة. يجب أن يكون عدم تظاهرنا كاملاً فندلّ على أنفسنا وكأننا لسنا صائمين.
هذه الاستعارات لا تلفت النظر في ذاتها. فهناك سمات مشابهة نجدها في مقاطع إزائيّة تشبه هذا التعليم العباديّ. ففي الويلات ضد الكتبة والفريسيين في مت 23، يصوَّر السلوك المرائيّ بتفاصيل مليئة بالألوان (مثل العصائب والأهداب في آ 5، ولائحة البقول من نعنع وسذاب في آ 23)، في أسلوب مضخَّم (تجولون البر والبحر لتربحون دخيلا واحدًا، آ 15)، وفي سخرية مرّة (تبنون القبور للأنبياء الذين قتلوا، آ 29، رج لو 48:11 ب).
هنا أيضًا، تتعارض التقوى الحقّة والتقوى لدى "المرائين"، ويضاف ارشاد حول التقوى الحقة. وهناك مواد أخرى مشابهة تضمّ ارشادًا فيه أقوال حكميّة فتعطي الخطوط الكبرى للتقوى الفرديّة (23:5-24). وفي بعض هذه الأقوال، يرتبط التحريض بعودة إلى الجزاء (مر 9: 43، 45، 47-48؛ مت 25:5-26؛ لو 8:14- 10- 12- 14). فأقوال الحكمة هذه تعطي نظرة عمليّة، ثم تتعدّى الواقع فتعطي مثالاً عن السلوك المستقيم: قدّم الوجه الآخر. أعط الرداء مع القميص. إمش ميلين لا ميلاً واحدًا (مت 5: 39 ب- 40).
وفي الوقت عينه، تختلف هذه القطعة العباديّة عن الويلات وأقوال الحكمة في طرق لافتة. ففي ويلات مت 23، جاءت اللهجة الهجوميّة مخفَّفة مع التوافق على تعليم وسلطان الكتبة والفريسيين (آ 2-3). وفي خطّ هذه الصراحة الاساسيّة، هناك نصائح أدبية في التوجّه (وتوبيخ) إلى "المرائين" كما لو أنهم يستطيعون أن يصلحوا طرقهم. أما التعليم العباديّ، فلا ينتظر شيئًا من هذا. لا يحاول يسوع أن يقنع "المرائين".
وهناك اختلاف آخر. في الويلات، تبدو صفة "المرائين" مرتبطة بالكتبة والفريسيين. لكن في التعليم العبادي، تبدو لفظة "مرائي" وكأنها لفظة ثابتة مع معنى عام. قد تشير اللفظة إلى الكتبة والفريسيين، ولكن لا بصورة حصريّة. لقد صارت اسمًا للممارس اليهوديّ بشكل عام. وإذا قابلنا القسم العباديّ مع الأقوال الحكمية الارشاديّة، نرى أنها ترتبط في توجهها "بالهلكة" بسلوك المؤمن. فهذا المقطع لا يتعلّق بممارسات تقويّة خاصة، فيركّز على فقاهة محدّدة كما هو الأمر بالنسبة إلى الأقوال الحكميّة الارشاديّة، بل يدلّ أيضًا على بنية علم الفتاوى بشكلها الواحد. فكأنَّ هذا التعليم الاستعاري يريد أن يدمّر هذه الرؤية المطلوبة من تعليم تمكن ممارسته، وقد حدِّد تحديدًا خلقيًا.
وبمختصر الكلام، رأينا أن عالم النص في القسم العبادي ظلّ ملتبسًا. ويُطرح السؤال: هل نستطيع أن نسمّي هذه القطعة، في شكلها التقليديّ، تعليمًا؟ والجواب المعقول هو نعم. فهناك بعض السمات تسير في هذا الخطّ. ولكن سمات أخرى تعارض الغاية الفقاهيّة. فليست المسألة فقط مسألة أدبيّة، لأن هناك انشدادًا بين المناخ العام لعالم النصّ ووظيفة النصّ في حياة الجماعة. من أجل هذا، نوجّه أفكارنا إلى العالم الملموس فنتفحّص الإطار الاجتماعي لهذا "التعليم العبادي".

2- الإطار الاجتماعي للتعليم العبادي: وظائف موضوع السّرية
حين درس بروكس المواد الخاصّة بمتّى، قدّم رسمة عن العالم الملموس التي نجدها من خلال "تعليم العبادة" فقال: "تكوّنت مجموعة مسيحيّة متهوّدة عرفت السلام النسبي داخل المجمع (أو في إطار العالم اليهوديّ) قبل سنة 70 ب م. وأكدّت هذه المجموعة سلطة التعليم في خط أولويّة المجمع ساعة انتقدت السلوك التقويّ لدى رؤساء المجامع والأعضاء. وقد تأسّس هذا النقد على أقوال نُسبت إلى يسوع. وأشارت هذه المجموعة إلى الممارسات الدينيّة التي تحصر نفسها في الجزاء الذي يأتي من الله الذي يصوَّر على أنه ذاك الذي يرى في الخفية (أو: السرّ). فممارسات الصدقة والصلاة والصوم الاسبوعي، تشبه إلى حدّ بعيد، ممارسات أعضاء المجامع، ما عدا أنها كانت تعاش في عدم تظاهر خارجي.
مجموعة من اليهود المسيحيين الذين يؤمّون المجامع ويمارسون أشكال التقوى عينها التي يمارسها سائر اليهود (ولكنهم كانوا يخفون بعناية هذه الممارسات): هكذا نكون أمام الواقع اليوميّ. إذا كانت المجموعة المسيحيّة تتصدّق على فقراء اسرائيل، وتصلّي في المجمع، وتعبد الله، وتصوم مرّتين في الأسبوع، فمن الصعب جدًا، بل من المستحيل إخفاء هذه الممارسات. ولماذا حاولوا كل هذا وجعلوه في المقام الأول؟
إن تفسير "بروكس" يجعل عالم النصّ يعكس العالم الملموس في عدة طرق ويجعله شفافًا. بعد أن أدخل عالم النصّ ثلاثة أقوال حول التقوى اليهوديّة، التي يمارسها تلاميذ يسوع، وُجدت بشكل ملموس جماعة تمارس هذه الفرائض. وبعد أن طلب هذا النصّ أن تكون هذه الممارسات في الخفية، تلا ذلك أن المجموعة "أخفت" حياتها العبادية، ورفضت التظاهر بها. ومع أن هذه الأمور قد تبدو طبيعيّة، فالصورة التي نتجت عن واقع هذه الحياة هي أبعد ما تكون عن الطبيعة: مجموعة من اليهود الذين يحاولون بقلق أن يخفوا عن سائر اليهود أنهم يقومون بذات الممارسات المعتادة. إن بناء "بروكس" سريع العطب، لأنه يستند إلى القول بأن القطعة العباديّة تمثّل المرحلة نفسها من تقليد الأقوال التي نجدها في مت 23: 2-3، 5. في الواقع (وكما قلنا أعلاه)، إذا قرأنا التعليم العباديّ وحده دون نظرة إلى مت 23، لا شيء يؤكّد على سلطة رؤساء المجمع، ولا ما يساعد على المماهاة بين "المرائين" ورؤساء المجمع.
قد يكون ضيّقًا الطريق من عالم النصّ إلى الواقع الملموس. فجميع سمات عالم النصّ ليست اعتبارًا مباشرًا إلى الوضع الآنيّ. فالمشكلة المنهجيّة الأساسيّة هي: كيف نجد مدخلاً خاصًا إلى عالم النصّ يقود إلى واقع الحياة؟ في الحالة الحاضرة، يقدِّم ذكرُ المجمع نقطةَ انطلاق واعدة. فالمجمع يظهر مرّتين في إطار سلبيّ كمسرح فيه يُتمّ "المراؤون" عرضهم (آ 2، 6). وهذا يبدو مهمًا. ساعة لم نكن نتوقّع أن يُذكرَ المجمع في السياق، نوقشت الصدقة والصلاة دون إشارة سلبيّة إليه. وما يلفت النظر بشكل أكبر، هو أن يسوع يقول بصراحة إلى تلاميذه بأن لا يصلّوا في المجمع، بل في المخدع (آ 6). إذا أخذنا بعين الاعتبار هذه الاشارة، نستطيع القول إن الجماعة ليست أولاً يهودًا يؤمّون الهيكل. فبعض أعضائها قد يكونون واصلوا الذهاب إلى الهيكل، ولكن حياة الجماعة الدينيّة تبدو وكأنها مركّزة خارج المجمع.
إذا كانت الجماعة تلتئم التئامًا خاصًا بها، وبالتالي كان لها تدبير مستقلّ بعض الاستقلال، ستظهر ممارسات هذه الجماعات مختلفة عن ممارسات "المرائين". فبدلاً من وضع النقود في "الخزانة" وتقديم العطايا لجباة الهيكل، سيكون "المال" سندًا للجماعة وللمحتاجين فيها. والصدقة المعطاة بهذا الشكل ستكون "سريّة"، وكأنها غير موجودة في نظر المجمع. والصلوات التي تُرفع في اجتماعات خاصة لا تحتاج إلى أن تكون تلك التي تُتلى في المجمع. فهي تتضمّن بلاشكّ الصلاة الربيّة كما نجدها في انجيل متّى. ونقول الشيء عينه عن الصوم. فأسهل طريق لاتّباع هذا الارشاد ليس بأن نصوم. مثل هذا "الصوم" كان خفيًا جدًا بحيث إن الذي يصوم لا يستطيع أن يراه أحد.
وهكذا يظهر الآن مدلول "السّرية" في ضوء جديد. لا نستطيع أن نرى في إغلاق الباب (آ 6) عودة إلى خوف المسيحيين من اضطهاد على يد اليهود (يو 19:10). ما نستطيع أن نكتشفه بشكل مباشر هو الخوف الذي يحسّ به اليهود (وشعوب آخرون) من ممارسة الجماعة أو عدم ممارستها الحاليّة. ولكن لماذا خافوا؟ ليس من الواقعيّة في شيء أن نقول إن المسيحيين خافوا أن يرى سائر اليهود ولاءهم التام للتقوى التقليديّة. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، نفهم خوفهم أن يروا ممارساتهم الدينيّة تختلف عن تلك التي في المجمع. وبقدر ما الذين في الخارج كانوا جاهلين للطبيعة الحقيقيّة لممارسة الجماعة، نستطيع القول إن هذه الممارسات كانت شبيهة بأشكال التقوى اليهوديّة، ما عدا نوعيّتها العالية.
وكان لموضوع السرّ، داخل الجماعة، وظيفة أخرى اجتماعيّة، وهي المحافظة على الوحدة على مستوى رمزيّ. فالتعليم حول الصوم ينكر في المبدأ امكانيّة معرفة الاختلافات الحاليّة داخل المجموعة. فإذا كان الذين هم خارج الجماعة لا يستطيعون أن يقولوا من الذي يصوم ومن الذي لا يصوم، فهذا ينطبق أيضًا على الذين في الداخل. فالتعليم العبادي يتيح للأعضاء أن يتصرفوا بطريقة مختلفة بعضهم عن بعض. قد يستطيع الواحد أن يصوم ساعة لا يصوم الآخرون. ولكن في أي حال، يجب عليه أن يتصرّف وكأنه ليس بصائم.
لا نجد برهانًا محدّدًا يقول بأنه وُجد في الجماعة عدّة ممارسات للصوم. ولكن مت 19: 10-12 يلمّح إلى وجود نزعات صوفيّة تمارسها الأقليّة (آ 11، هذا لم يُعطَ للجميع). في هذا الوضع، نستطيع أن نفهم أن الانسان "يخفي" تقواه المفرطة. فإن كان البعض متعلّقًا بالصوم أكثر من البعض الآخر، فتصرّفهم هو الذي يحمل (أو لا يحمل) لهم الاستحقاق أمام الله. ولكن ليس لهم أن يبحثوا عن ربح استحقاق اجتماعي ملمّحين إلى أنهم أفضل من سائر الأعضاء في الجماعة.
وهناك اختلاف ممكن داخل الجماعة بالنظر إلى الصدقة. فبعض الأعضاء اليهود في الجماعة قد يكونون أحسّوا بأنهم مجبرون أن يخدموا سيّدين، فيتقبّلوا ما يعرضه المجمع وما تعرضه الجماعة. وهذا ما يفقرهم بسهولة، بحيث ينتج عن ذلك طريقة حياة نسكيّة. ساعة ينتقدهم أعضاء لا يحسّون بواجب يفرض عليهم من قبل المجمع، لأن قلبهم مقسوم في المشاركة في التدبير المشترك، فمقطع الضريبة للهيكل (مت 17: 24-27) يبدو انعكاسًا لهذه المسألة. لقد دفع يسوع ضريبة الهيكل، وإن لم يكن "من جيبه" بل من "صندوق" عجائبيّ. وبحسب هذا النموذج يجب أن تُسند المؤسّسات اليهوديّة، إن لم يكن ذلك ثقيلاً، على الجماعة. ثم إن موضوع "السرية" يحافظ على الوحدة. فإن أراد المسيحيّ المتهوّد أن يدفع للمجمع، فهذا أمر يتعلّق به، شرط أن لا يؤثّر على "ماليّة" الجماعة.
وهكذا قدّمنا وظيفتين لموضوع "السرية". الأولى، إخفاء ممارسات الجماعة عن أعين الذين في الخارج، يُساعد على إبطال انتقاد ممكن يقول بأن الجماعة أهملت أشكالاً عاديّة من التقوى. الثاني، إخفاء الاختلافات في الممارسة العباديّة داخل الجماعة، يساعد على المحافظة على الوحدة الداخليّة. هما وظيفتان خفيّتان لأن الجماعة لا تستطيع أن تعي الأسباب الآنيّة لهذا الاخفاء.
ونستطيع أن نضيف وظيفة ثالثة خفيّة. إن التعليم عن الصدقة يشير إلى أن على الفرد أن يخفي عمله الملموس عن نفسه. وهكذا لا يعرف الواحد ما صنع. هذه النظرة غريبة عن الحياة العمليّة. ومسيرة "التشريع" تبقى ناقصة إلى أن يصبح عالم الجماعة في قلب الفرد. هذا لا يعني أننا نقف عند مضامين العالم الرمزيّ. فقبل كل شيء على الفرد أن يُدخل في ذاته ديناميّة العالم الرمزيّ للجماعة. وإذا أراد أن يشعر بنفسه أنه في الجماعة كما في بيته، عليه أن يأخذ بهذه القيم الرمزيّة كما بالاستراتيجيّة للمحافظة على هذه القيم. وهذه الاستراتيجيّة تفترض الاخفاء وعدم النظر إلى أعمال ملموسة. وعلى الفرد أن يأخذ بالممارسة عينها: لا تعلم شمالك ما صنعته يمينك.

3- العالم الرمزي في التعليم العبادي: شرعة شرف
إذا قرأنا التعليم العبادي حسب الخطّ الذي قرأناه أعلاه، نرتبط بنص ايديولوجيّ من الدرجة الأولى. وهدفه الرئيسيّ ليس في أن يعطي قواعد عمليّة من أجل نشاط عباديّ، بل نشْر فهم لهذا النشاط وتقديمه بشكل شرعيّ. قد يكون الكاتب أراد أن يعطي تعليمات عباديّة. ولكن في الواقع، سيطر تعليمه الايديولوجيّ على هذا الهدف. فما هي هذه الايديولوجّيا التي يودّ عالم النص أن يبرزها؟ هناك امكانية لتقييم ايديولوجيّة النصّ، حين يعتبر أن عالم النصّ شفّاف بالنظر إلى المستوى الايديولوجي، وأن هذه الايديولوجيا تبرز في مفاهيم لاهوتيّة وعقائدية.
وقد فسْر "بتس" التعليم العبادي كما يلي: "إذا أراد الانسان أن يدرك المنطق الداخليّ الذي يُبرز التعليم العبادي، وجب عليه أن يعكس عليه الفرضيات اللاهوتيّة التالية. فمدلول الاله الخفيّ الذي "يقيم في السماء" (6: 1)، الذي هو "في الخفية" (6: 6، 18)، والذي "يرى في الخفية" (6: 4) هو مهمّ جدًا. ويفترض أيضًا مدلول المجازاة. والبر المطلوب من البشر، يُعتبر كشرط الفداء. غير أن المجازاة من أجل الأفعال الصالحة تعطى مرّة واحدة. فعلى الانسان الورع الذي يحتاج إلى مجازاة يحملها من أجل الفداء في الدينونة الأخيرة (6: 1 ب: "أمام أبوكم الذي في السماء")، أن يتجنَّب طلب مجازاة مسبقة في هذه الحياة (6: 1 أ: "أمام الناس") في أي ظرف كان. ومدلول الاقتداء بالله يجعل هذا ممكنًا. وهكذا يتّخذ العمل العبادي مكانه "في الخفية". هذا الأساس التعليميّ يقود إلى انتقاد ملحوظ للعبادة التي تصبح في الجهة المقابلة. إذا استبقنا المجازاة الاسكاتولوجيّة أضعناها حين نُتمّ عمل البرّ على أعين الآخرين الذين يلاحظونه ويوافقون عليه (6: 1).
ويلاحظ "بتس" أن التعاليم الموجودة في "التعليم العباديّ"، بما فيها التعليم حول المجازاة، تقوم كلها في حفظ الفكر الديني والممارسة داخل العالم اليهوديّ. من البديهيّ أن جميع العلماء داخل اليهوديّة لا يوافقونه هذا الرأي. ولكن هل هناك تعاليم في التعليم العباديّ؟ حين نتطرّق إلى هذه المسألة، يجب أن نميّز مفاهيم تعليميّة (بُرهن عليها بعناية) ثابتة، من رسمات موسّعة (بشكل منهجيّ) ومستقلّة من أجل أهداف دفاعيّة أو ارشاديّة. المدلولات التعليميّة هي وحدها ايديولوجيّة بشكل مباشر. أما الرسمات فهي عناصر فكريّة تقدّم أفكارًا متشعّبة سريعة الاستعمال. أو شبكة من فكرات مختارة وممزوجة قد أعيدت صياغتها، وتلوّنت بلون إيديولوجي (أي تلوّنت بلهجة التهكّم والسخرية أو بوسائل بلاغيّة أخرى) لكي تنتج مدلولاً رمزيًا محدّدًا. هذا يعني أن الرسمات الدفاعيّة والارشاديّة لا تدلّ على إيديولوجيّة النصّ في حدّ ذاته. بل هي عناصر فكريّة في خدمة إيديولوجيّة النصّ.
يتضمّن الفرق بين التعليم والرسمة، أن الرسمة تمتلك قوة إيضاحية قليلة. إذا كانت فكرة المجازاة تعليمًا (أو عقيدة ثابتة)، فمن الممكن أن نتحدّث عن برهان يقول إن الجماعة التي تقوم وراء القسم العباديّ احتفظت بعبادتها سرًا لأنها ظنّت أن التوافق العلنيّ سيدمِّر سماتها. ولكن إن كانت الفكرة رسمة خياريّة، سيكون من العبث أن نشرح على هذا الأساس الحياة العمليّة للمجموعة. وكنّا قد أشرنا أعلاه إلى إمكانيّة شرح أخرى في ألفاظ وظائف اجتماعيّة لموضوع السريّة. بالاضافة إلى ذلك، نحتاج إلى تفسير ايديولوجي. اكتشفنا رسمة، وهذا لا يكفي. يبقى السؤال حول الأساس الايديولوجي لتحريك هذه الرسمة.
هناك مثلان من العالم الرابيني قد يوضحان كيف يختلف التعليم والرسمة. فحسب ترجوم بابل (سنهدرين 101 أ)، أحسّ رابي اليعازر أنه مريض، فجاء تلاميذه ليروه. وإذ كان الآخرون يبكون، ضحك رابي عقيبة بشكل لم يتوقّعه أحد قائلاً بأنه كان مهتمًا بجزاء معلّمه في العالم الآتي. كما أنه لم يحزن على شقائه. ولكنه إذ يرى الآن معلّمه في الألم، فهو يفرح (حين يعلم أن الجزاء هو أمامه). والآن، لنفترض أن رابي اليعازر مات في سلام في هذا الظرف بدون أي ألم اطلاقًا. فإن كان لكلام رابي عقيبة أساس تعليمي ثابت، لوجب عليه أن يستنتج أن معلّمه لا ينتظر شيئًا من العالم الآتي. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، إن كان استعمل الرسمة الارشاديّة، فقد يكون طبّق رسمة أخرى مكيّفة مع الوضع.
هذا ما لا نعرفه بالتأكيد. ولكن معقولية الرسمة الأخرى قد يبرهَن عنها في التقاليد المتعلّقة بتعليم عقيبة حول العقاب. في سفره تث 32، نجد تذكّرًا لما قرأناه في هذا النصّ من التلمود (سنهدرين 101 أ)، يقول: إن العقاب ثمين لأنه يُنتج الطاعة. وقد يبرهن عقيبة هذه النقطة عائدًا إلى الملك منسّى الذي تواضع أمام الله حين تألّم من يد الاشوريين. فأعاده الله إلى أورشليم وأقامه من جديد على العرش، وهكذا استطاع أن يحكم اسرائيل خمسًا وخمسين سنة.
هذا التعليم المتعلّق بمرض رابي اليعازر، يُفهمنا أن المعلّم المحبوب يستطيع أن يتعلّم مزيدًا من التواضع من مرضه، فيستعيد قيادة مدرسته لحقبة مماثلة من الزمن. فالمرض قد اعتُبر هنا مفيدًا في هذه الحياة، بحيث نستطيع أن نفترض هذه الافادة كمقدّمة للجزاء المقبل.
ونستطيع الآن أن نطبّق هذا التمييز بين التعليم والرسمة التي تقود إلى عظة الجبل. فإن كان القسم العبادي (6: 1-18) والتطويبات (5: 3-12) قد فُسّرا على أنهما انعكاس للتعليم حول الجزاء، لاصطدمنا بكلمات رمزيّة حين يقول مت 6: 33 إن حاجات هذا العالم تُعطى أيضًا للذين يطلبون ملكوت الله. وإذا كان موضوع السريّة في القسم العبادي يجب أن يُفهم كاستنتاج للتعليم حول الجزاء، سيكون هناك تعليم معارض في مت 13:5-16. وبحسبه يجب أن تظهر أعمال التلاميذ الصالحة لكل الناس. والخطأ هنا هو أن نحتفظ بالبر في الخفية، في السرّ. لهذا يكون من المنطق أن نستنتج أن التعليم ينتمي إلى مجموعات دينيّة مختلفة. والامكانيّة الثانية التي تبدو مفضّلة فهي أن التحريض على السريّ والعلنيّ يرتكز على رسمة ارشاديّة. من الطبيعيّ أن تكون الرسمتان ناشطتين في وضعين مختلفين، بل أن تعكسا التاريح الاجتماعي للجماعة. فالنظرة إلى الرسم وحدها تتضمّن أنهما تقدران وتفعلان بحيث تنتميان إلى عالم رمزي لمجموعة واحدة.
سبق ولاحظنا أن الرسمات المختلفة تنطبق مرارًا على أحداث مختلفة وأوضاع. ورسمة المجازاة تكون في موضعها في سياق هجوم. فالمعارضون (كنموذج) هم المراؤون. هم الذين نالوا أجرهم وليس لهم جزاء مقبل. فحين تأتي "إلينا" هذه الرسمة، فهي تفسّر الشقاء الحاضر. ففي وقت الألم والاضطهاد، يحسن بنا أن نعرف أن الجزاء هو ما يعطي أفضل طمأنينة في المستقبل. فإذا لم تكن الأوقات رديئة، فرسمة جزاءين (الجزاء الحاضر سيكثر في العالم الآتي) أو رسمة رحمة وجزاء (يدلّ الله على رحمته هنا وسيجازي في الزمن المقبل) تصبح معقولة. وهناك أيضًا رسمات أخرى.
إنَّ رسمتي السريّ والعلنيّ يمكن أن تكونا ناشطتين في استراتيجيّات اجتماعيّة مختلفة. والنقاط الارشاديّة فيهما قد تتوافق. فرسمة السريّة لا تحتاج إلى القول بأن صاحب العمل الصالح معرّض لأن يخسر جزاءه. ورسمة العلنيّة تتضمّن أن الأعمال الصالحة تظهر لكي يراها الناس ويرضون عنها. في النطاق العمليّ، رسمة السريّة تترافق مع استراتيجيّة دفاعيّة. أما الرسمة العلنيّة فهي تتوافق مع استراتيجيّة رسوليّة تحاول الامتداد. والمشكلة هو أن هاتين الاستراتيجيتين تقعان في ذات الأوضاع. واختيار استراتيجيّة من الاستراتيجيات قد يرتبط بسمات أساسيّة في بناء العالم الرمزيّ للمجموعة.
وهناك تواز لافت بين الجزء العبادي (6: 1-18) وبين روم 2، حيث يستنتج بولس أن الوثني غير المختون الذي يتمّم ما تطلبه الشريعة هو في الواقع "يهودي في الخفية"، و"ينال مدحه لا من الناس بل من الله" (روم 29:2). نحن هنا أمام مدلول السرية الذي يترافق مع فكرة تقول إن الجزاء يأتي فقط من الله. ونلاحظ أن بولس لا يقول إن البار يخسر جزاءه إن رأى الناسُ برارته. فهل نقول إن هذا المقطع البولسي يضيّع تعليمًا عن الجزاء الحالي في الجزء العبادي؟ الجواب هو كلا على ما يبدو. بل إن هذا المقطع ينبّه المؤمن إلى امكانيّة تقول إن مثل هذا التعليم لا يُفترض أيضًا في الجزء العباديّ.
ولنا أيضًا ملاحظة لافتة. في روم 2، الانسان هو في الخفية، لا الله. فهل نستنتج أن بولس لا يملك "مفهوم" الإله الخفيّ الذي هو حاضر في الجزء العباديّ؟ ولكننا نعتبر أنه لا بولس ولا التقليد السابق لمتّى، يتطرّقان إلى هذا المدلول.
فإذا قُرئ الجزء العبادي على ضوء برهان بولس في روم 2، عند ذاك يبدو وكأن في خلفيّة الجزء العباديّ مدلول "اليهود في الخفية". هذا ما يشير إليه في الواقع الجزء السابق حيث نجد نقاشًا حول الوظائق الاجتماعيّة للتشديد على السرية. فالجماعة التي نجدها وراء الجزء العباديّ كانت واثقة بأن الله يرى ما لا تستطيع العين البشريّة أن ترى. ولكن هذا لا يفترض فكرة مميّزة عن الله. فكما في برهان بولس، لا تتعلق المشكلة الحقيقّة بطبيعة الله. فالمشكلة الملحّة هي بالأحرى مشكلة اجتماعية: كيف تفهم الجماعة المسيحيّة نفسها.
في الموازاة البولسيّة، "اليهوديّ في السرّ" ليس يهوديًا في معنى ملموس (بحسب الطبيعة، بحسب اللحم والدم، حسب البشرية)، بل هو يساوي اليهوديّ المختون في المعنى الرمزي. فاليهوديّة في نظر بولس هي في الأساس (على مستوى العقيدة الأساسيّة والشعور العميق) دستور يحمل الاكرام، والختان هو رمز دينيّ إيجابيّ. من هنا مال بولس إلى تحديد السلوك الخاص أمام الله في لغة يهوديّة. وإذ فعل ذلك، لم يعترف دومًا بالفرق بين الواقع الملموس والمدلول الرمزي، بل أخذ في قول كله مفارقة. ففي سياق هجوميّ، اتّجه نحو واقع قاس فجرّد الختان الملموس لدى اليهوديّ من سموّه. والتفسير الساخر في غل 12:5 (يا ليت الذين يبلبلونكم يقطعون قطعًا) يكشف في نظرة سريعة اغترابه الحالي عن العالم اليهودي الذي يُنكَر مع ذلك على مستواه الرمزيّ.
والطريق التأويليّة عينها تعمل في الجزء العباديّ. فأشكال العبادة اليهوديّة كانت تُعتبر رموزًا دينيّة وضعيّة، ساعة كانت الممارسات الملموسة في الجماعة غير فقاهية مع تلك التي نجدها في المجمع. وإذ صوّر هذا الجزء العباديّ الحياةَ الدينيّة في الجماعة بألفاظ يهوديّة سامية، استعمل لغة الاستعارة. وفي الوقت عينه، صوِّرت العبادات اليهوديّة الحاليّة بشكل سخرية. والنقطة التي انطلق منها لكي يعلّم، لم تكن مدلولاً خاصًا بالله، بل اعتقادًا بأن الجماعة لم تُحرم من كرامة الرموز الهيوديّة، مع أن أعضاءها كانوا يهودًا في الخفية، أي يعيشون خارج المجمع، ويمتلكون أشكالاً جديدة من التقوى. هذا اليقين هو أساس للتأكيد بأن الله ير" "في الخفية". ومع أن الناس لا يقدرون أن ينظروا إلى أعضاء الجماعة كما إلى يهود لا لوم عليهم، فالله يقدّر برّهم.
نستطيع الآن أن نفهم بشكل أفضل لماذا كشف عالم النصّ في الجزء العباديّ عن الوضع الحالي للجماعة في بعض النقاط (المجمع والمخاع). وأخطأ في نقاط أخرى (في التوفيق بين ممارسات المجمع وممارسات الجماعة على اختلافها). يمكن أن يُنظر إلى المجمع بشفافية لأنه لم يُحسب رمزًا دينيًا وضعيًا. فالتوضيح المشابه لم يكن ممكنًا حين نصل إلى اللغة اللاهوتيّة. فاللغة هنا، كما في بولس، بما فيها من استعارة ومفارقة، تدلّ على غياب التفريق بين المدلول المحسوس والمدلول الرمزيّ. فمع أن عالم الايمان لدى بولس قد بُني بشكل يختلف عن عالم متّى الرمزيّ، فالديناميّة التأويليّة عند الاثنين ليست غريبة عن عالمهما.

4- عوالم مختلفة على مستوى التقليد والتدوين التاريخي
بعد أن فسّرنا "الجزء العبادي" (6: 1-18) بشكل سنكروني (= إجمالي) في ألفاظ حلّلت في عوالم ثلاثة، يبقى أن نختبر التفسير بشكل دياكروني (= تفصيليّ) لنرى إن كان يستطيع أن يساعدنا لنفهم التوسّع التاريخيّ. وهنا أيضًا يقف التحليل عند نموذج عوالم ثلاثة. ولكن علينا الآن أن نظهر الفوارق بين العالم الرمزيّ لنصّ من النصوص والعالم الرمزي لكاتبه أو للمجموعة التي أوصلته (قد يكون متّى أو تقليد سابق لمتّى). ولا يتّحد الاثنان إلاّ في صنع النصّ، وذلك قبل وبعد أن ينفصلا. فالنصّ والناس يسير كل منهما في طريق منفصل. وتاريخ العالم الرمزيّ يرتبط بعالم النصّ، ساعة يعيش العالم الرمزيّ في الافراد والجماعات ويتحوّل بهم.
إن فصل الطرق لا يشكّل مشكلة منهجيّة جديّة في الجزء العباديّ. أما التاريخ الادبي الملموس فيبدو وكأنه يتكيّف تكيّفًا نسبيًا. فهذا الجزء وفي بنيته المثلّثة والمتعارضة، قد تكوّن في جماعة متّى، مع العلم أن أقواله الفرديّة تعود إلى يسوع. وهكذا نستطيع أن نرسم مرحلتين أدبيّتين في هذا الجزء العباديّ.
دلّ التحليل السابق على أن الجزء العبادي قد يعكس وضعًا متأخرًا عمّا نجد في "الويلات" (مت 23) حيث تؤكّد الجماعة في المبدأ سلطة الكتبة لدى اليهود. ويبدو أنه مؤسّس على الوعي بأن يسوع هو المعلّم الأوحد، والمعلّم في الجماعة (23: 8- 10). فالنقائض الأولى في عظة الجبل مع عبارة "أما أنا فأقول لكم"، قد قيلت في هذا الروح. والنتيجة القائلة بأن الجزء العباديّ لا ينتمي إلى أقدم ما في متّى أو إلى الطبقة المحافظة في المواد الكنسيّة، قد تجد ما يثبتها عبر ملاحظات أخرى.
فالجزء العباديّ يدلّ على اهتمام عميق بسمات الجماعة وحياتها. من هذا القبيل، نستطيع أن نشبّهه بالتطويبات في عظة الجبل، التي هي توسّع لما نقرأه في المعين (مت+ لو). على المستوى الاجتماعي، دلَّ التحليل السابق على أن فصل الجماعة عن المجمع هو واقع ملموس وأن ارتداد الوثنيين أمر مقبول. وهذا ما يقودنا إلى مرحلة متأخرة في التقليد المتّاويّ. فالهويّة الدينيّة للجماعة تلتصق برموز يهوديّة في طريقة غير مختلفة. فالفكرة القائلة بأن الجماعة المسيحيّة هي اسرائيل الحقيقي، التي اعتبرها بعضهم في قلب اللاهوت المتّاويّ، هي حاضرة في الجزء العباديّ.
فلا ننتظر تبديلاً جذريًا حين نصل إلى التدوين المتّاوي. فالعمل الأدبيّ الرئيسيّ الذي قام به الانجيليّ، كان إدخال هذا الجزء في سياق أوسع، هو سياق عظة الجبل. وهكذا يكون التبديل الرئيسي في العالم الرمزي، في أن هذا الجزء شارك في إيديولوجيّة متّى في عظة الجبل وفي الانجيل كله. في هذا المجال نستطيع أن نكتشف بعض اللطائف. في مت، ليست رسمة "الخفية" وسيلة للدفاع عن الذات أو دواء ضدّ العار كما كان في الماضي. فرسمة "الخفية" التي هي جزء من نظرة متّى إلى رسالة في العالم الواسع، تبدو متحرّرة من كل إيديولوجيّا دفاعيّة، كما تبدو معقولة كوسيلة للتكلّم عن العبادة الحقيقيّة.
إن 6: 1 يلعب وظيفة التنبيه لما نجد في 2:6-18. فهو يفسّر التقوى العباديّة كجزء من البرّ الموجّه توجيهًا خلقيًا والمطلوب من الجماعة (5: 10، 20؛ 33:6). يرسم متّى المدلول الرمزي لهذه الارشادات مع هذا التفسير المعمّم. نحن أمام أكثر من ثلاث ممارسات. نحن أمام طريقة حياة ككلّ، أمام طريقة تقود الحياة (13:7-14). وقد حاولت الكاتب بأن يدلّ على أن هذه الارشادات التقوية تقود إلى حياة ملموسة في الجماعة.
وتعليم الصلاة الربيّة يميّز تمييزًا واضحًا المعتقدات المسيحيّة وممارستها. وتفضيل صيغة المخاطب الجمع في الأقسام التي أعاد الانجيل صياغتها، يخفّف من مناخ الأقوال الحكميّة ويُبرز الشعور بأننا أمام تعليم عباديّ. وهكذا نكون أمام مجهود من أجل توجيه ملموس، مع أن التعليم الرمزي ما زال مسيطرًا. فالجزء التقوي كمجموعة في عظة الجبل هو برنامج ايديولوجيّ قبل أن يكون سلسلة من الممارسات. وفي النهاية، هناك عودة إلى الأمم في مقدّمة الصلاة الربيّة (7:6-8). هل يدلّ هذا على نظرة يهوديّة حصريّة تعطّل منطق التوسّع الذي اعتبرناه تاريخيًا؟ بل العكس هو الصحيح. فيبدو الآن أن "مرائيّ" المجمع ليسوا فقط المجموعة الوحيدة التي تشارك الجماعة وعيها لذاتها.
نجد في تأليف متّى عالمًا مسيحيًا رمزيًا في طريق تبدو خيارًا ثالثًا تجاه العالم اليهوديّ والعالم الوثنيّ. لا، لم تصبح الجماعة شعبًا من اليهود. فهذه التي كتب إليها متّى إنجيله تأكّدت أنها شعب يسوع المسيح (23:1) الذي أعطي له كل سلطان في السماوات وعلى الأرض (28: 18). لا شكّ في أن هذه الهويّة لم تتركّب في البداية بواسطة رموز مسيحيّة مميّزة. بل نحن أمام مسيحيّة هي في طور التكوين، في طور الصيرورة.
نأسف أن يكون تاريخ الجماعة المتّاويّة، قد ظلّ بعد تدوين الانجيل، مجهولاً لدينا. وهكذا لا نستطيع أن نعرف بالتحديد كيف نما العالم الرمزي في الجماعة. فهذا العالم في الجزء العبادي له تاريخ يرتسم في طريق تأثّر بعالم الايمان لدى مفسّريه. ونحن نجد شيئًا من ذلك في "الديداكيه" (تعليم الرسل) الذي هو كتاب كنسيّ يعود إلى بداية القرن الثاني، وقد يكون دوِّن في سورية حيث عاشت جماعة متى. والتعليم عن الممارسات العبادية في هذا الكتاب (8: 1-3) يبدو قريبًا ممّا في مت 6: 1-18. فالسمات المشتركة هي: إشارة إلى المرائين. تقديم الصلاة الربيّة بعد كلام هجوميّ حول الصلاة. وشكل الصلاة الربيّة في الديداكيه (8: 2-3) هو أقرب إلى كلمات متّى، لا إلى كلمات لو 11: 2-4. وعبارة "كما أمر الرب في إنجيله" (ديداكيه 8: 2) قد تعود إلى مت وإن بشكل غير مباشر.
ومع وجود هذه المقابلات، نلاحظ اختلافات بين الجزء العبادي وديداكيه 8. فالديداكيه تبدو أكثر وضوحًا من مت. وهي لا تحتاج إلى لغة الاستعارة. كما أنها تناقش ممارسات الجماعة بشكل رئيسيّ وتقابَل مع ممارسات المرائين الذين هم اليهود الأتقياء بشكل عام. وبحسب الديداكيه، يصوم "المراؤون" أيام الاثنين والخميس، ساعة تصوم الجماعة أيام الأربعاء والجمعة. فالتشابهات (الصوم مرتين في الأسبوع) والاختلافات (أيام مختلفة) ظاهرة. وهناك نقاش حول الصلاة الخاصة بشكل مماثل: تقال الصلاة الربيّة ثلاث مرات في النهار (تجاه الصلاة الهيوديّة). وترد الصلاة الافخارستيّة والتعاليم حول الطعام المشترك (الديداكيه 9- 10). لا يهتمّ صاحب الديداكيه بأن يُظهر شرعيّة الممارسات التي تتمّ في جماعته. بل هو يوردها بكل بساطة. فموضوعه الأساسيّ هو تعليم كنيسته في أمور العبادة، وهو يفعل في خطّ الانجيل فقط. قد يكون لاهوته سطحيًا في نظر بعض الدارسين. ولكن تعليمه واضح بما فيه الكفاية ولاسيّما في ما يتعلّق بشعائر العبادة في الكنيسة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM