الفصل الثالث :انجيل متّى والخدم في الكنيسة

الفصل الثالث
انجيل متّى والخدم في الكنيسة

إن الإطار التاريخيّ الذي فيه ألّف الانجيل الأول يُفلت بقدر كبيرة من قبضة العلم المعاصر. فمن هو صاحب هذا الكتاب؟ أين دوِّن؟ إلى أي نمط كنسيّ تعود جذوره؟ ونحن لا نستطيع أن نجيب عن هذه التساؤلات دون أن نبقى بعض الشيء في الفرضيّات، بل في المجهولات. وأحد الأسباب الرئيسيّة لجهلنا هو الفنّ الأدبيّ الذي أخذ به هذا الانجيليّ. إن الأناجيل الثلاثة الأولى (مت، مر، لو) جمعت مع تذكّرات يسوع إرث نتاج شفهيّ أو خطيّ صيغ في قلب كنائس دلّت على إيمانها وحياتها الملموسة. ومع أننا أمام أشخاص محدّدين، فهم يخفون نواياهم ولا يقولون الظروف التي دفعتهم إلى الكتابة مستعملين مواد سابقة قد تضلّنا.
وهناك صعوبة أخرى حول نيّة الانجيليين. فليس هدفهم وضع الأسس لتنظيم الكنيسة، بل إنعاش الحياة المسيحيّة واصلاحها. هذا ينطبق بشكل خاص على متّى الذي نكتشف عنده بوضوح النظرة الخلقيّة. ولكننا نبقى ضعفاء، حين نتساءل عن مسيرة هذه الجماعة التي كتب إليها، عن بنيتها والخدم التي تمارس فيها. لهذا يبدو الحديث عن الخدم في إنجيل متّى محصورًا. فإن كانت معلوماتنا حول كنيسة متّى (بنيتها، تنظيمها) ضئيلة، فالنظرة إلى الكنيسة بشكل عام تبقى أوسع. لهذا، وقبل أن نتحدّث عن التنظيم، نتحدّث عن فكرة الجماعة المسيحيّة كما نستخرجها من الانجيل الأول.

1- المسيح وسط أخصائه في حضور آني وحاسم
مهما كانت الأمور التي تربط كنيسة متّى بما سبقها في العالم اليهوديّ، فهي تنفصل عن هذا العالم بيقين جوهريّ تشارك فيه مجمل المسيحيّات الرسوليّة، دون أن تنسى الطابع الخاص بها. فيسوع التاريخ هو في البعيد، في الماضي. ولكن هذا لا يهمّ. فالايمان الذي يعبّر عن نفسه في الانجيل الأول يرفض البقاء في تذكّر بسيط، لأنه يعتقد بحضور المسيح الممجّد وسط أخصّائه، فيعود إليه كما إلى الموجِّه الحيّ لمصيره الفرديّ والجماعيّ. فالمسيح ليس فقط مؤسّس الكنيسة (18:16)، بل القاعدة التي تحدّد الحياة الخلقيّة لدى أعضاء هذه الكنيسة. فكلمات يسوع (24:7-26) ما زالت تتوجّه إليهم فيشرحها "المعلمون" ساعة يقيم هو في جماعتهم (18: 20).
هذه الحقيقة هي مركزيّة جدًا في اللاهوت المتّاوي، بحيث وُضعت في نهاية متّى كقول يُجمل سائر الأقوال. "ها أنا معكم كل الأيام حتى انقضاء الدهر" (28: 20). إن لفظة "معكم" تدلّ على حضور ديناميكي محرّك. فبحسب التوراة "كون الله معنا" يعني عونًا يقدّمه الله لشعبه عبر كل تاريخه، فيقوده إلى الهدف الذي حدّده له (تث 1: 42؛ 20: 1، 4؛ 6:31، 8؛ قض 16:6؛ أش 7: 14؛ 41: 10؛ 43: 1، 5؛ حج 1: 13). ووظيفة المسيح "عمانوئيل" (أي الله معنا) تُقرأ في بداية الكتاب (23:1) وفي نهايته: إن المسيح يمدّ تدّخلات الله في الماضي من أجل الخلاص، ويتوّجها تجاه شعب اسرائيل أولاً ثم الكنيسة التي حلّت محلّه بعد أن رفض الاستماع إلى يسوع.
فالمسيح بشخصه هو هنا. يفعل بقدرته ووحيه. يُؤوِّل على الدوام التفجّر الأول للتجديد الذي يعلنه. إذن، لا خطر من الغرق في قواعد مجمَّدة، لأن هذا الحضور حياة. ولقد حاول متّى دومًا أن يفلت من هذا التصلّب: فالكلمة لا تخدّرنا فتجعلنا ننام، بل توقظنا، تحرّكنا، تصلحنا، ولا تترك المسيحيّ أبدًا "في راحة" (5: 20) في قلب هذا "البرّ". وهكذا نفهم أن يكون الايمان قد رفض كل جمود دينيّ، وانتعش بعلاقة مباشرة مع المسيح، فاحتاج إلى أن يعبّر عن نفسه في إنجيل متّى مشدِّدًا على دور البنى البشريّة التي نفترض وجودها والتي قد تكون خفّفت لدى القارئ هذا اليقين الأساسيّ بميزة الموجّه الالهي والدفع الذي يأتي منه.

2- عودة إلى الماضي
مهما يكن في ذلك من مفارقة، تدلّ الأناجيل على آنيّة المسيح، آنيّة تعليمه، والمتوجّبات التي تنبع من هذا التعليم. وفي الوقت عينه تشير إلى اهتمام بالعودة إلى الماضي لكي نستقي منه النور الذي يوجّه حياتنا. لن ندهش من ذلك في زمن (حوالي سنة 85 ب. م) بدأت الكنيسة تبتعد عن جذورها، وغاب الشهداء الأولون للتقليد، الواحد بعد الآخر، أولئك الذين "أكلوا وشربوا" مع المخلّص (لو 13: 26) منذ بضعة عقود من السنين. فالكنيسة تلتفت منذ الآن إليهم. وبما أنها لا تستطيع أن تطرح على شخصهم الأسئلة، فهي تعود إليهم كالوارثين المباشرين ليسوع، فتُحيي العلائق التي عرفوها في الماضي مع معلّمهم ومعلّمها. هؤلاء المميّزون هم "الاثنا عشر" معًا. هم المجموعة التي وصل ذكرها إلى متّى بالتقليد الشفهيّ والمصادر المكتوبة. إن هؤلاء الاثني عشر يلعبون في مت دورًا هامًا سنحاول أن نحدّده.
من جهة، تميل مجموعة الاثني عشر (عند مت) أن تذوب مع مجموعة "التلاميذ". في هؤلاء التلاميذ يرى قراّء الانجيل المسيحيون أنفسهم، مع سماتهم الايجابيّة والسلبيّة، وهم يتلقّون فقاهة تتكيّف ووضعهم الحاضر. فإن متّى يتجنّب أن يتحدّث عن مجموعة الاثني عشر وحدها (ما عدا في 10: 5 حيث ترتبط لفظة "الاثنا عشر" في اللائحة السابقة بالارسال، و47:26= مر 14: 43: "يهوذا أحد الاثني عشر"). تجاه ذلك، تفرَّد بين الانجيليين فاستعمل عبارة "اثني عشر تلميذًا" (10: 1؛ 11: 1؛ 26: 20؛ رج 28: 16: الأحد عشر تلميذًا). وجعل بعض المرات "التلاميذ" حيث يقول مرقس الرسل (13: 10؛ ق مر 4: 10؛ 8: 1؛ ق مر 35:9). أو هو يستعمل مناوبة التسميتين، فيدلّ على أننا نستطيع أن نحلّ الواحدة تجاه الأخرى. نقرأ في 37:9: "حينئذ قال لتلاميذه". وفي 10: 1، 2، 5: "دعا تلاميذه الاثني عشر.. وهذه أسماء الاثني عشر رسولاً... هؤلاء الاثنا عشر" (رج 7:28، 8، 16). فالاثنا عشر كمجموعة مميّزة، تركوا جزءًا من هويّتهم، فدلّوا بذلك على وجهة نمطيّة وشاملة تجعل وجههم حاضرًا الآن وفي كل آن.
ومن جهة ثانية، لم يتحوّل هؤلاء الاثنا عشر إلى مجرّد ممثّلين على مسرح، أو أشخاص باهتين لا يلعبون دورًا سوى أن يجسّدوا الكنيسة الحاضرة. فهم يتحرّكون حول يسوع التاريخي الذي عاشوا معه خلال حياته على الأرض، وينالون منه التوصية والتوبيخ. لهذا السبب لم يُلغ متّى كليًا اسم "الاثني عشر" الذي يسجّلهم في الماضي بما فيه من ثقل وأوامر محدَّدة. فالمسيحيون لا يرون في هؤلاء الاثني عشر، صورتهم وحسب، بل كافليهم في ما يتعلّق بالترتيب الذي تجعل منه الكنيسةُ اليوم حياتها عائدة إلى يسوع (رج 28:19= لو 22: 30 والقول على اثني عشر كرسيًا: سيحلّ يسوع ومؤمنوه محلّ اسرائيل اللامؤمن).
إن كان من البديهيّ أن نشدّد على هاتين الوجهتين فيما يخصّ الاثني عشر، فبالاحرى فيما يخصّ بطرس. إن حصرنا نفوسنا في بعض المقاطع، قد نرفض له شخصيّة خاصة فنجعله تجسيدًا "مقولبًا" للتلاميذ في كل الأزمنة، من خلال مواقفه الايجابيّة (4: 20؛ 16: 16) والسلبيّة (14: 30- 31 خاص بمتى؛ 16: 22-23= مر 8: 32-33؛ 17: 5= مر 9: 5؛ 26: 33-35= مر 14: 29-31؛ 26: 40= مر 14: 37؛ 69:26-75= مر 14: 66-72). ولكن بطرس يحتلّ عند مت (أكثر ممّا في سائر الأناجيل) مكانة خاصة. فهو أول المدعوّين (18:4-20= مر 1: 16-18). وهو يحتلّ الرأس في لائحة الاثني عشر (10: 2= مر 3: 16)، وفي لائحة الأشخاص الحميمين (17: 1= مر 9: 2؛ 26: 37= مر 14: 33). وهو مرّات عديدة يتحدّث باسم المجموعة (16:16= مر 29:8؛ 16: 22= مر 8: 32؛ 17: 4= مر 9: 5؛ 27:19= مر 28:10).
قد نستطيع في هذا المجال أن نتحدّث عن أبولوجيا، عن دفاع عن بطرس. ولكن يبقى أن حضور بطرس يجتاح الكتاب فيدله على اهتمام خاص من قبل الانجيليّ به. ولكن ما يساعدنا على إبراز هذا الوجه هو مشهد قيصريّة فيلبّس كما توسّع فيه متّى وأطال: هنا يحتفظ لنا متّى بدور خاص لا ينحصر في وظيفة جماعيّة ولا في نمط من الأنماط. إن بطرس لا يجسّد الكنيسة وحسب، بل هو الاساس الذي عليه يبني المسيح كنيسته.
نشير هنا إلى ما يختصّ به بطرس، بحيث تتفوّق شخصيّته على شخصيّة سائر الرسل. في 28:14- 31 نراه يمشي على الماء للقاء يسوع ويجابه الريح، وحين يخاف يمسكه يسوع بيده. في 15: 15، هو الذي يطلب من يسوع أن يفسّر المثل (ق مر 7: 17: سأله تلاميذه عن المثل). في 17: 24-27، يشارك يسوع في دفع الجزية؛ في 18: 21، سأل يسوع: كم مرّة يخطأ أخي إليّ فأغفر له (ق لو 4:17). ولكن هناك موضعًا يتحدّث فيه مر 11: 21 عن بطرس، بينما يذكر مت 21: 20 "التلاميذ".
ونشير أيضًا إلى أن بطرس لا يبدو في مت صاحب مزايا دينيّة وخلقيّة تجعل منه "قدّيسًا" على طريقة ما نعرف عند "قدّيسي" ذاك العصر. ونلاحظ أنه لم يكن أي امتياز لبطرس في القيامة: ق مر 7:16 (= مت 7:28)؛ لو 24: 34؛ يو 21: 15-23؛ 1 كور 15: 5؛ رج لو 24: 12؛ يو 20: 2، 20؛ 21: 1- 11.
ونعود إلى 16: 16-18، ونطرح سؤالاً حول مسؤوليّة بطرس. لقد نال بطرس من المسيح كل كفالة وكل سلطان. هذا التأليف المطبوع بالطابع الفلسطيني، مليء بعبارات تقليديّة نستطيع أن نفهمها بدون صعوبة. بطرس هو "الصخر"، وهذا يعني أن الكنيسة تستطيع (ويجب عليها) أن تستند إليه كما على "كافل" ديمومتها، والقوّة التي في يدها لتقاوم هجمات قوّات الموت (أبواب الجحيم). وهي تستطيع أن تستفيد من ملء السلطان الذي سلّم إليه من أجل توجيه المؤمنين نحو ملكوت السماوات. هذا هو معنى "المفاتيح" التي سلّمت إلى بطرس والتي تتعلّق بكل "وكالة" الملكوت (اش 22: 20-22).
ونقول أيضًا عن "ربط" و"حل" في خط المفاتيح استتباعًا لها. فبطرس يستطيع أن يقرّر بالنظر إلى سلطان المسيح نفسه: حين تنظر الكنيسة إلى بطرس، فهي متأكّدة بأنها نالت هذا السلطان. لهذا أدرج مت القول حول "الربط" و"الحلّ" في الخطبة الكنسيّة (18:18): لا نستطيع أن نفصل 18:18 عن 16: 19، وكلاهما يشيران إلى ترتيب التوبة داخل الكنيسة المحليّة؛ ثم إن قاعدة 18:18 يجب أن تُفهم في امتداد ما سلِّم إلى بطرس من سلطان.

3- حياة جماعة مسيحيّة
إن الايمان المسيحي يعود دومًا إلى الماضي، ولكن ليعاش في الحاضر من أجل مستقبل حاسم. هذه الحياة كما تبرز في مت، لا تتميّز أساسًا عن تلك التي تشهد لها سائر الكتابات الرسوليّة. غير أنها تقدّم سمات خاصّة تستحقّ أن نتوقّف عندها.
أ- مجتمع انفصل عن العالم اليهوديّ
لا نستطيع أن نشكّ في الأصول اليهودية للجماعة المتّاويّة. بل إن الكتاب نفسه يكشف موقفًا لا نستطيع أن نقول فيه إنه تخلّى عن إرث المجمع وتعاليمه ونظمه. ومع ذلك، فمتّى اتّخذ موقعًا مميّزًا بين كتّاب العهد الجديد، فحفر أعمق هوّة بين الكنيسة والعالم اليهوديّ. ونحن نفهمه حين نتذكّر أنّه صدى مجابهات محدّدة بين اسرائيل والحركة التي خرجت من قلب اسرائيل. في سائر الأناجيل، لا يحفظ تذكّرُ الصراعات القديمة أكثر المرات سوى الطابع النمطيّ. ولكن ليس الأمر كذلك في الانجيل الأول. فالاتصال مع الجماعات اليهوديّة في سورية حيث سيطرت الارثوذكسيّة الرابينيّة، قد أعطى حياة جديدة لجدالات تقليديّة، بل زاد في إشعال الحرب متوسّلاً البراهين التي تحطم "الخصم". وقد أصاب مت الجبهة الفرّيسية، لأنها تمثّل في هذا الإطار التاريخيّ، الشكل الوحيد للعالم اليهوديّ الذي وجب على متّى أن يحاربه. وهذا الإلحاح لا يمكن أن يكون أسلوبًا من الأساليب، بل يعترف أن الانجيلي وجماعته قد عاشوا بدورهم العداوة التي جعلت "اليهود" في وجه "الهراطقة"، في فلسطين، بدءًا مع يسوع وخلال السنوات السابقة لدمار الهيكل سنة 70 ب. م.
فعلاقات متّى وكنيسته مع اليهوديّة سيّئة جدًا، بل هي انتهت بالقطيعة حوالي سنة 80 ومجمع يمنية، على الشاطىء الفلسطيني. فالمسيحيون لم يعودوا يؤمون المجامع. فهي قد صارت "مجامعهم" (23:4؛ 9: 35؛ 10: 17؛ 13: 54. رج "كتبتهم" في 29:7؛ "مدنهم" في 11: 1، وهذا ما لا نجده عند سائر الانجيليين)، مجامع اليهود الذين رفضوا أن يؤمنوا واضطهدوا الكنيسة. أيكون الانفصال الرسمي قد تمّ، كما في لو 22:6؛ يو 22:9؛ 42:12؛ 16: 2، بحيث تعيش كنيسة متّى خارج العالم اليهوديّ؟ ربّما.
ب- مؤمنو شريعة متجدّدة
إن الايمان الذي يعبَّر عنه في العهد الجديد، والذي يتوافق مع كرازة يسوع كما توسّع فيها العالم الجلياني المسيحيّ في بدايته، يغوص (ما عدا بعض الشواذات) في مناخ من الانتظار الاسكاتولوجيّ. ومتىّ يسير هو أيضًا في هذا الخطّ العام. كان واعيًا لآنيّة الخلاص، ومتأكّدًا من حضور المخلّص الممجّد وسط أخصّائه. ومع ذلك، فقد وضع نظره على الاستحقاق النهائيّ الذي سيضع حدًا للكنيسة الأرضيّة. بل ألحّ على هذه النقطة، مذكّرًا قرّاءه بدينونة الله (3:5-12، 19، 22، 29-30؛ 6: 1، 4، 6، 15، 18) التي لا نقدر أن نتجنَّبها، محاولاً أن يتغلّب على الملل الناتج من تأخر المجيء الثاني (48:24؟ 25: 5، 9).
غير أن هذا التأخر ونتائجه، لا تدفع متّى إلى إعادة الحياة إلى انتظار قريب. بما أننا نجهل اليوم والساعة (24: 36)، فيجب علينا أن نحسب حساب زمن طويل (48:24؛ 25: 5، 19). لهذا كان من المهم أن نقوّي في الكنيسة الظروف التي تتيح لها أن تسير مسيرتها كل الزمن الذي يقرّره الربّ الآتي. واسم "الانجيل الكنسي" الذي سمّي به متّى، يبقى صحيحًا لأن كاتبه يقدّم تعليمًا خاصًا يتعلّق بحياة المسيحيين الجماعيّة. ولأن كنيسة تظهر عبر سطوره، فتقتني بقيادة معلّمها متانةَ مجتمع يستطيع أن يجابه الدهور.
ولكن يجب أن نحدّد طابع هذا السلاح. لن نتحدّث كما فعل بعضهم "عن كثلكة قبل الكثلكة" نجدها في مت ولو، بمعنى نظرة تراتبيّة أو عقائديّة. بل نتوقّف بشكل خاص عند عناصر متّاويّة لدستور تُشرف عليه الوجهةُ الخلقيّة: إن متّى يقدّم لقرّائه قاعدة حياة.
هذه القاعدة لم يستنبطها متّى من لا شيء. فهو كابن من أبناء اسرائيل، قد وجدها في شريعة موسى التي ظلّت له تعبيرًا لا ينازَع عن إرادة الله. قد ندهش حين نعلم أن السبب الجوهريّ للقطيعة بين العالم اليهوديّ والحركة المسيحيّة، يكمن في واقع أحلّت فيه المسيحيّة بشكل عمليّ، المسيح محلّ التوراة. ومع ذلك، فليس من يهوديّ صار تلميذ يسوع، قد فكّر أن ينفي الشريعة من معتقده الجديد. وإن استطاعت عبقريّة بولس الحاسمة في هذا المجال، أن تأخذ بموقع ناجح في جذريّته، فلا نقدر أن نقول الشيء عينه عن سائر التيّارات المسيحية في ذاك العصر. بينهم نجعل فكر متّى، دون أن نماهي بينه وبين النظريات المتهوّدة التي عارضت بولس فحاولت في انتمائها إلى المسيحيّة، أن لا تضحّي بأي شيء من إرث المجمع.
فهذه الشريعة التي يعلنها متّى، والتي يؤكّد ديمومتها (18:6)، ينظر إليها الانجيليّ نظرة جديدة. قدّم الشرعة القديمة التي أعلنها موسى في الماضي، ولكن كما قادها المسيح أيضًا إلى ملئها (17:5)، بعد أن أعادها إلى مبادئها الجوهريّة، وخلّصها من علم الفتاوى الذي يحصرها في نطاق ضيّق. وحدها هذه الشريعة التي نسمعها بهذه الطريقة، ونمارسها، تستطيع أن تنتج "البرّ" الحقيقيّ (5: 20)، وأن توجّه المؤمنين في طريق "الكمال" (5: 48؛ 19: 21). بهذه المحاولة المدهشة، تخلّص متّى من الشريعة الشفهيّة أو تقليد الرابينيين (أو المعلّمين). وفي الوقت عينه اصطدم بالذين يعتبرونها مساوية لما في البنتاتوكس أو الأسفار الخمسة.
ارتدى يسوع هنا لباس مفسّر مأذون، فتوخّى برهانُه المستند إلى الكتاب المقدّس، أن يستبق كل ملامة بأنه تصرّف تصرّفًا اعتباطيًا. فشرعة ملكوت السماوات تستند إلى التوراة (حسب نظر متّى) التي يراها متّى قد فُهمت فهمًا أفضل بنعمة الروح النهائي الذي أسقطه المسيح عليها.
وهذا اللجوء إلى الشريعة كأساس حياة مسيحاويّة، ليست النقطة الوحيدة التي فيها خان الفكر المتّاويّ إرثه اليهودي والرابيني. فالانجيل الأول الغني بـ "الخطب"، قدّم لنا أيضًا جماعة المسيحيّين بشكل مدرسة شرف عليها الرباط أن معلّم ومتعلّم. ولفظة "تلميذ" التي تعود إلى الأصول، قد استعملها متّى بشكل خاص: فمن صار مسيحيًا في نظره، "صار تلميذًا" (تتلمذ، ماتينواين، 52:13؛ 57:25؛ 19:28. لا يظهر هذا الفعل في كل العهد الجديد سوى في أع 14: 21). تقبّل "نير" المعلّم الالهي. جعل نفسه في مدرسته، تعلّم منه (11: 29؛ 8:23). والمثال هنا هو "فهم" الكلمة (13: 23). و"أنجلة" (حمل الانجيل) الأمم تعني بالنسبة إلى التلاميذ أن "يعلّموهم"، وينقلوا إليهم التعليم الذي اقتبلوه هم (28: 19).
وننتقل الآن إلى الصلاة وشعائر العبادة. حين أشار متّى إلى الصلاة، اهتمّ فقط بنوعيّتها كرفض للتظاهر والتبجّح (6: 6، 6)، رفض للثرثرة وكثرة الكلام (7:6). وهناك واجب يفرض علينا أن نكون منطقيّين مع صلاتنا: التوصية حول مغفرة الذنوب التي ترافق الصلاة الربيّة (6: 14-15). وفي النهاية الصلاة هي صلاة مع المسيح، صلاة متّحدة مع صلاته في قلب المحنة والتجربة (26: 40- 41؛ ق مر 14: 37-38).
وبين سائر ممارسات الديانة، ينوّه متّى بالصوم الذي يبدو لديه عملاً عاديًا في الجماعة (4: 2). ولكن ليس هو هنا موضوع ترتيب خاص: يكفي أن تكون ممارستنا له مطبوعة بطابع الخفر والتواضع (6: 16-18). أمّا في ما يخصّ العبادة في حصر المعنى، فالمعنى المُعطى في 23:5-24، يبقى في الخطّ السابق: إن كان لا يعلّمنا شيئًا عن الطقوس في الكنيسة، إلاّ أنه يجعل شعائر العبادة تخضع للمحبّة التي نعبّر عنها بالغفران والرحمة (رج 9: 13).
ولا يطيل متّى الحديث في ما تبقّى من ممارسات. هو يشير إلى أن المسيحيين اعتادوا أن يجتمعوا للصلاة (18: 20؛ رج أع 2: 42 ي). ولكن ما يهمّه ليس أن يورد ما يحصل في هذه الظروف، بل أن ينقل الايمان اليهودي بـ "الحضور" (شكينه، أي السكن) الالهيّ إلى إيمان بحضور المسيح وسط المؤمنين المجتمعين للصلاة أو لغاية دينيّة أخرى. ولا نعرف عن الافخارستيّا أكثر ممّا نعرف في مرقس (مت 26:26-28= مر 14: 22-24). وإذا كانت جماعة متّى قد حافظت على السبت في ممارستها الاسبوعيّة، فالإضافة في 24: 20 (لئلاّ يكون هربكم في الشتاء أو في السبت) لا تشير إلى هذا الوضع. فمهما يكن أصل ومعنى هذا الأمر القديم (رج 8: 4؛ 23: 16-22)، فالأمر بالهروب الذي يتوسّع فيه السياق، لا يوافق خبرة حاليّة ولا مقبلة لدى مسيحيّ كنيسة متّى، بل يتسجّل في لوحة ما يسبق الاسكاتولوجيا مع قمّة في دمار أورشليم: إذن، نحن أمام أحداث سابقة. في الواقع، حين يتطرّق هذا الانجيل إلى السبت، فلا يفعل لكي يدافع عن هذا النظام أو ليلغيه، بل لينظّم ممارسته ويخضعه لممارسة المحبّة حسب شهادة الكتاب (9: 1-8).
ج- جماعة فيها مزيج من البشر
إذا أراد المسيحيّ أن "يدخل إلى ملكوت السماوات" وجب عليه أن يسير في طريق لا يُخفي متّى صعوباته: "الباب ضيّق والطريق التي تؤدّي إلى الحياة حرجة" (7: 14). هل سار فيها جميعهم؟ هذا ما نشكّ فيه حين نقرأ مت. فإذا جعلنا جانبًا التشاؤم المعروف لدى الوعّاظ، يبقى الشعور بأننا أمام جماعة فيها المزيج من الأخيار والأشرار. فإذا كنا ننتظر الدينونة الاسكاتولوجيّة لنرى الفرز الذي لا تقدر الكنيسة نفسها أن تفلت منه (36:13-43، 45- 50؛ 25: 31- 46)، فنحن أمام وضع حالي يشير إليه متّى بشكل نبوءة حين يذكر سقوط الكثيرين والخلافات الداخلية وبرودة المحبّة وسط التلاميذ (24: 10-12). وهناك مقاطع أخرى تؤكّد هذه اللوحة وتبرز الظلال (5: 21-22؛ 7: 15 ي؛ 7: 21-23؛ 18: 1-10، 15-17؛ 8:23- 12).
ولكن يبدو أن هذا الوضع لا يمتدّ على المستوى التعليمي، فنتحدّث عن وجود حركة داخل الجماعة تعارض الشرعية (كما قال بعض الشرّاح). فاللوم "بالاثم" (أنوميا، اللاشريعة) الذي يستندون إليه، يدلّ على العصيان "لمشيئة الآب الذي في السماوات" (7: 21-23)، على رفض حياة المحبّة (24: 12).
وعى متّى ما ينقص كنيسته، فقدّم مصير الأفراد بشكل دراماتيكي. فرأى أن قليلين سيحاولون عبور الباب الضيّق، وأن كثيرين يتوجّهون إلى الهلاك (13:7 ب، 14 ب؛ 22: 14). غير أن غيرته تمنعه من أن يرمي السلاح يائسًا: فهو لايني يذكّر قرّاءه بمثال الحياة المسيحيّة. فإن خمدت المحبّة، فهو يحاول إشعالها من جديد.
د- جماعة من الإخوة
هناك لفظة في إنجيل متّى تحدّد العلائق بين المسيحيين: "الأخ". يعود استعمالها إلى العالم اليهوديّ وهي ذات بُعد دينيّ محض، وتُستعمل للدلالة على أعضاء الجماعة المسيحيّة الذين تجمعهم دعوة واحدة ورباطات المحبّة. ويتفرّع من المحبّة نتائج عديدة يقدّم عنها مت فقاهة تتوافق وحاجات كنيسته.
هنا نميّز استعمال "أخ" وتسمية التلاميذ كإخوة يسوع (مت 12: 49-50؛ 25: 40؛ يو 17:20؛ روم 8: 29؛ عب 2: 11-12. في هذه الحال، لا تعود العلاقة أفقيّة (بين أخ وأخ) بل عموديّة (بين المسيح والأخ): يصبح المسيح مبدأ يكوّن عائلة جديدة من النمط الروحيّ. والأعضاء يشاركون في مصير البكر بينهم (يسوع) شرط أن يخضعوا لإرادة الله في المسيح. أما لفظة "أخ" على المستوى الافقيّ، فنجدها في 5: 22-24 (من غضب على أخيه)، 47 (تسلّموا على اخوتكم)؛ 18: 15 (إذا خطئ أخوك)؛ 23: 8 (معلّمكم واحد وجميعكم إخوة). وفكرة الأخ هنا تغتني مع العودة إلى أبوّة الله، وهو موضوع عزيز على قلب متّى. هنا نقرأ في 8:23-9: "كلكم أخوة"، و"أبوكم واحد وهو الذي في السماوات".
جميع الإخوة مدعوّون إلى الكمال. فالعهد الجديد، شأنه شأن العهد القديم، لا يقسم المؤمنين فئتين: بعضهم يُدعى إلى الكمال والآخرون يكتفون بمرحلة أدنى. ذاك هو فكر متى حين يستعمل الصفة "كامل" (تالايوس). في نهاية النقائض التي نجدها في عظة الجبل (48:5) تعبّر هذه اللفظة عن تتمّة أمينة لشريعة جدّدها يسوع المسيح. أما الأمر الذي أعطاه يسوع للشاب الغني (19: 21)، فهو لا يدفع أحدًا ليطمح إلى حالة تختلف عن الحالة المفروضة على الجميع: في هذا الحوار الذي أعاد الكاتب صياغته بعناية، "فعلُ الصلاح" و"الكمال" لا يتضمّنان، رغم الظواهر، مستويين من الحياة المسيحيّة، بل مستوى واحدًا. فنحن لسنا على مستوى ديانة من الدرجة الدنيا. لأن الكمال (واللفظة معبِّرة في ذاتها) يطلب من مجمل المسيحيين "زيادة" (5: 43) بحيث يتجاوز "برّهم" برّ الكتبة والفريسيين (5: 20). ثم إن المعيار هنا هو كمال الله بالذات (48:5). وهذا ما يرسم للمؤمن برنامجًا لا حدود له، برنامجًا على قدر محبة الله اللامتناهية التي تدبّر العالم.
حين يحدَّد بهذا الشكل هدفُ الحياة المسيحيّة، فهو يمنع بعض العناصر في الجماعة من أن يرتفعوا فوق الآخرين، ويطالبوا بصفة دينيّة خاصة أو بامتيازات على المستوى القانونيّ. بل على الجميع أن يتزاحموا على مستوى التواضع. ذاك هو التعليم الأساسي الذي نقرأه في رأس خطبة الجماعة (18: 1-4) وفي أماكن أخرى من الانجيل: على تلاميذ يسوع أن يختلفوا عن الفريسيين، فيتخذ الواحد تجاه الآخر موقف "الصغير"، موقف الطفل (18: 2-4؛ 19: 14). ولا يُعفى أحد من هذا الموقف حتى الذي يتمتّع ببعض العلم أو بوظيفة تربويّة تمنحه بعض "الامتيازات": "كلكم أخوة" (23: 8). هذا ما كتبه متّى مشدّدًا على أن العظمة الحقيقيّة تقوم بأن يكون الواحد آخر الجميع (18: 1، 4؛ 23: 11-12؛ رج 20: 25-27) على مثال المسيح الملك "المتواضع" (21: 5)، المخلّص "الوديع والمتواضع القلب" (11: 29)، الذي ما جاء ليخدمه الناس، بل ليخدمهم ويبذل حياته من أجلهم (20: 48).
بعد هذا، لا ندهش حين نرى الانجيليّ يعظ بالمحبّة تجاه الضعفاء. وإن تطلّع إلى الكنيسة بنظرة قاسية، فليس لكي يعتبر أنه يحقّ له أن يحكم على الجميع مستبقًا دينونة الله. بل هو يحثّ قرّاءه على الجهاد، ويعمل لإصلاح الانحرافات المقترفة (18: 15-18). أما موضوع فقاهته المميّز فهم "الصغار"، هؤلاء الضعفاء الذين ليس لهم سوى إيمانهم، الذي يشكّكون بسرعة (18: 6) وقد يكونون من الخطأة. فالمسيحيون الأقوياء يميلون إلى إهمالهم. أما متّى فيجعلهم في حمايته، ويطبّق عليهم مثل خروف الضالة (18: 10-14): فحبّ الله تجاههم ورحمته هما كبيران بحيث يجب على الجماعة أن تجهد من أجل عودتهم إلى القطيع في حال ابتعدوا عنه في سرعة عطبهم.
وبما أن الانجيلي يعرف أن الله يحيط الأبرار بعنايته، وبالتالي يجازي بالخير أولئك الذين يؤدّون لهؤلاء الضعفاء الاحترام والمحبّة (10: 42)، فالقول الذي نجده في مر 9: 41 (من شكّك هؤلاء الصغار المؤمنين) قد حوّله متّى لكي يشدّد على أمرين: ليس الأنبياء والمسيحيون والصالحون (الأبرار) وحدهم التلاميذ، بل أولئك الذين يقفون في أسفل سلّم القيم في الكنيسة. لهذا السبب فهم ينعمون باهتمامات الله. من أجل ذلك، أقلّ عطيّة تُوهب لهم، تصبح بركة على المعطي.
ذاك هو اهتمام متّى بهؤلاء المعوزين. فالسلوك الذي نتّخذه تجاههم هو المعيار الحاسم في الدينونة الأخيرة والشاملة (25: 31-46): "كل ما فعلتموه مع أحد هؤلاء الصغار الذين هم إخوتي، لي فعلتموه". هذا ما يقوله المسيح ليذكّرنا باهمالات عديدة يُفترض وجودها في الجماعة.


4- الواجبات في الجماعة وتنظيمها
ويزيح متّى بعض المرات الستار الذي يغطّي مسيرة الجماعة الملموسة وقواعدها ووظائفها وممارساتها. وحين نلاحظ كل هذه الاشارات، نحسّ أنه ينقصنا الشيء الكثير، لأن الانجيليّ لم يتوخّ العمل التاريخيّ الذي يصوّر كل ما يجد حوله. ولكن رغم ذلك، نجد من خلال السطور لوحة (وإن ناقصة) ترينا بعض وعي الكنيسة لذاتها ولمسؤولياتها.
أ- تعليم للمسيحيين الخاطئين
نبدأ بكلمة حول خطبة الجماعة (ف 18). أخذها متّى من مر 33:9- 50 (توسّع فيها وأعاد صياغتها). لن نرى فيها كتابًا تنظيميًا كما في قمران، ولا توجيهات راعوية تتوجّه إلى الرؤساء. والقول المتعلّق بـ "الربط" و"الحلّ" (آ 18) لا يدلّ في سياقه إلاّ على مجمل الجماعة المحليّة. والتعليمات المتعلّقة بالواجبات تجاه الصغار، لا تتضمّن شيئًا يرتبط بالمسؤولين وحدهم: فالشك واحتقار الضعفاء يهدّد بالأحرى الأقوياء. أما بداية الخطبة (آ 1-4) فهي ما يعطي نبرة الخطبة كلها: توقّف مر 33:9-35 عند مسألة الأولويّة في الجماعة. أما متّى فجعل نفسه على المستوى الخلقيّ، وترك مسألة التراتبيّة، فتوجّه إلى جميع المسيحيين من دون تمييز، ليوصيهم بتصرّف متواضع في علاقاتهم المتبادلة (حلّ "التلاميذ" محلّ "الاثني عشر". "الأعظم في ملكوت السماوات". نظرة إلى مجازاة اسكاتولوجية تتبع التصرّف الخلقي. "من وضع نفسه مثل هذا الطفل"). هذه الوجهة الخلقيّة، "الأفقيّة" هي ما يُشرف على الخطبة كلها، وفيها يكتفي متّى بأن يذكّرنا بشروط الأخوّة الحقيقيّة.
ونجد في هذه الخطبة قاعدة (آ 15-18) تعرض ما يجب أن نعمل تجاه المسيحيّ الخاطىء. وهي ترتدي للوهلة الأولى وجهة تنظيميّة وقانونيّة. ولكن هذا شعور وليس بيقين، ولاسيّما حين ننتبه إلى استعمال البنتاتوكس (لا 17:19؛ تث 17:19): لسنا أمام إجراء حرم، بل أمام فقاهة خلقيّة حول الإصلاح الأخويّ. نجد في هذا النصّ بالتدرجّ، ثلاث وسائل لإقناع الأخ الخاطىء والعودة به إلى حضن الجماعة على مثال "الخروف الضال". أما الوسيلة الأخيرة فهي اتهامه العلنيّ في الجماعة المسيحيّة. واستبعاده عن "اكلاسيا" التي ليست الكنيسة الجامعة كما في 18:16، بل الكنيسة المحليّة.
ب- المعلّمون
هناك مقطعان جوهريّان في مت يعرّفاننا بالدور المسيطر لوظيفة التعليم في الجماعة التي نبت فيها الانجيل الأوّل.
الأول (19:5) هو جملة تلقّاها متّى من التقليد، فدخلت ببعض صعوبة في شميلته الشخصيّة: فلا هو ولا كنيسته استطاعوا أن يعتبروا تفاصيل البنتاتوكس مفروضة على المسيحيّين. فمع متّى، تخسر ممارسة الشريعة طابع الكميّة الذي ينسبه إليها العالم اليهوديّ. ولكننا لا نستطيع القول بأن هذه العبارة قد قيلت في محيط يهوديّ محض: إذا كانت فتاوى الرابينيين قد عرفت أن توزعّ فرائض الشريعة بين "ثقيلة" و"خفيفة"، فهي تعتبر أن من أهمل ممارسةَ بعض الوصايا، وإن خفيفة، سيكون له الموضع الأخير في الدهر الآتي. بل نحن هنا أمام قول مسيحيّ متهوّد يشهد على جدالات حول مسائل طرحتها فرائض خفيفة في التوراة.
وهذه الكلمة التي ترد في مت بعد إعلان مبدأي عن قيمة الشريعة الموسويّة ومعناها بالنسبة إلى المسيحيّين، قد فُهمت كتعبير لاستمراريّة هذه الشريعة بشكل إجماليّ في الكنيسة. وهي تفرض بالتالي بأن تعلَّم. لاشكّ في أن متّى، حين أورد هذا القول، قد فكّر بمعلّمين مسيحيّين: كشف عن وجودهم. واستفاد من المناسبة ليحدِّد مهمّتهم كتعليم حول الشريعة (التي وصلت إلى ملئها بالمسيح) دون أن يحذفوا شيئًا منها. وبرز بوضوح دورُ هؤلاء الأشخاص: إنهم خدّام الكلمة التي نقلها المعلّم الوحيد، يسوع المسيح.
إن هذا النداء إلى التواضع بالنظر إلى مضمون التعليم، يترافق عند متّى مع دعوة مماثلة تلامس الوظيفة نفسها. هذا هو المقطع الثاني الذي نجده في قلب الخطبة التي تهاجم الفريسيين (8:23-12)، كمقابل للقسم الفقاهي للوم وجّهه الرب إلى القوّاد الدينيّين في العالم اليهودي.
لن نتوقّف عند هذه القطعة المركّبة من عناصر عديدة (ف 23)، بل عند التعليم الذي يقدّمه الانجيليّ. فتجاه الموقف الذي يقفه معلّمو العالم اليهودي فيستحقون اللوم، يحدّد متّى الموقفَ الذي يجب أن يقفه المعلّمون المسيحيون الذين قد يكونون مالوا إلى التشبّه بالمعلّمين اليهود فينعزلون ويؤلّفون طبقة تطالب بالامتيازات والكرامة. ومهما يكن من أمر، فالانجيلي الذي لا يعارض هذه الوظيفة أو هذه الخدمة، يحذّر مع ذلك حامليها (هذا هو معنى منع حمل الألقاب) من كل أولويّة مفرطة ومتسلّطة.
وإذ أراد متّى أن يبرّر هذا المنع، قدّم نوعين من البراهين: من جهة، كل أعضاء الجماعة متساوون. فالجميع بمن فيهم المعلّمون، ينالون التعليم من الله والمسيح (رج 1 كور 4: 7). ومن جهة ثانية، وهنا يعود الانجيلي إلى الأقوال التقليدية حول التواضع في الجماعة، العظمة الحقيقيّة للمسيحي، تقوم بأن يتّضع في الخدمة.
وهكذا نرى أن متّى الذي يعلّق أهميّة كبيرة على التعليم، الذي ينتمي هو نفسه إلى فئة المعلّمين، لم يتّجه لكي يمنحهم سلطة تحمل علّتها في ذاتها، أو أولويّة كرامة على مثال ما في هذا العالم. ولكن كيف كان يمارَس هذا الارشادُ؟ لا نجد جوابًا في انجيل متّى.
ج- الأنبياء وصانعو المعجزات
لاشكّ في أنه توزّعت مواهب خارقة على بعض المسيحيين في محيط متّى. ولكنها لا تفيدنا كلها إذا حاولنا أن نتعرّف إلى الوضع الحالي لكنيسة متى. مثلاً، لا نجد أية معلومات في هذا المجال حين نستند إلى اللائحة التي نقرأها في 34:23 (أنبياء، حكماء، كتبة). نحن هنا أمام عبارة نقرأها أيضًا في لو 11: 49. وقد يكون أصلها كتابة يهوديّة لابيبليّة تذكر تدخّلات الله في تاريخ اسرائيل. كيّف متّى مرجعه محتفظًا بلائحة المرسلين القديمة: أنبياء، حكماء، كتبة. ولكن هؤلاء يظهرون في سياق يصوّر الرسالة المسيحيّة لدى اليهود، والفشل والاضطهاد اللذين ينبعان من هذه الرسالة. لاشكّ في أن الانجيليّ يهتمّ للدلالة على هؤلاء الرسل الأولين، باستعمال تسميات تجعلهم في تواصل مع أناس ترجموا إرادة الله في العهد القديم. وهكذا يدلّ على وحدة العهدين. ولكن لا شيء يسمح لنا بأن نفترض أن مسيحيّي متّى ظلّوا يبشّرون اليهود (هذا لا يعني أن كنيسة متّى منعت اليهود من الارتداد والدخول في الجماعة المسيحيّة، رج 28:11-30). فالوقائع المذكورة هنا هي من الماضي، والتنويه بها يغذّي الصراع ويضع اسرائيل في موضع الاتهام.
ولكن الأمر ليست كذلك في مقاطع أخرى حيث الأنبياء المسيحيون هم الذين يمارسون الآن مواهبهم الخارقة. نجدهم أول ما نجدهم في نهاية الخطبة الرسوليّة (ف 10) كفئة لها حقّ باحترام خاص من قبل المؤمنين. ويذكرهم مقطعان آخران في منظار مختلف بعض الاختلاف.
المقطع الأول (7: 15- 20) يعلمنا أن بعض أعضاء الجماعة اغتصبوا الوظيفة النبويّة وأهملوا تقديم الكفالة المطلوبة لممارستها. فقدّم الانجيل تجاههم المعايير التي تساعد على كشف القناع عن هؤلاء الناس: "ثمارهم". أي سلوكهم الخلقيّ. ففي نظر متّى، وحده المسيحيّ الصادق يحقّ له أن "يتنبَّأ": فمواهب الله تحيط بالانسان كله وبكل حياته.، وإلاّ كانت كذبًا لدى الذي يظنّ أنه يمتلكها.
ونجد في هذا المجال تعليمًا آخر في القطعة التي تلي (7: 21-23). لم نعد هنا أمام مواهب كاذبة، بل أمام مواهب حقيقيّة تكوّن موضوع الفقاهة. فمتّى لا يتوقّف عند الأنبياء، بل يصل إلى الذين يُخرجون الشياطين ويصنعون العجائب. دوّن متّى هذه القطعة مستعملاً "عظة" تقليديّة (كما فعل لو 6: 46؛ رج مت 7: 21) وعنصرًا آخر من المرجع المشترك (آ 22-23؛ رج لو 13: 25- 27). وهي تعالج مسألة خطيرة: نحن في إطار الدينونة الأخيرة، وهذا يعني أن التنبيه لا يصيب نقطة ثانويّة.
ما هو الموضوع؟ أهمية المواهب الخارقة في الحياة المسيحيّة. فالأشخاص الذين يشير إليهم النصّ، ليسوا من الهراطقة. و"الاثم" (أنوميا) الذي تشير إليه آ 23، لا يعني معارضة للشريعة، كما سبق وقلنا: إنه عصيان لمشيئة الآب السماوي كما تفوّه بها يسوع المسيح. ومقابل هذا، إن الطاعة لإرادة الله تشكّل مصداقيّة الحياة المسيحيّة الحقّة، وتفتح أبواب الملكوت السماويّ. فإن غابت هذه الأمانة التي لا يُستغنى عنها، فالمواهب الأكثر سطوعًا لن تكون سوى مادة بديلة: فالمسيح الديّان السامي لا يهتمّ بها، ويدين بدون رحمة أولئك الذين تواقحوا ليبرزوها ويعطوها قيمة ليست قيمتها.
وإن جعل متّى هكذا تراتبيّة على مستوى القيم، فهو لم يتوخّ أن يرذل هذه المواهب. فمن المستغرب أن يقف هذا الموقف مع أنه شدّد مطوّلاً على سلطات الرسل، ومنحهم حتى سلطة إقامة الموتى (10: 8). ثم إن المعجزات تحتلّ حيّزًا هامًا بين النشاطات الكنسيّة: فخاتمة خبر "المصروع" (17: 19- 21) التي تشدّد على ضرورة الايمان كشرط للمعجزات، تعتبر مع ذلك أن المعجزات أمر شرعيّ جدًا.
فالمسيح لا يحكم على النبوءة ولا على المعجزة في ذاتها، في 7: 21-23. بل يحكم على المسيحيّين الذين ينسون أن يضمّوا إلى هذه المواهب جوهر الحياة في المسيح. ولكن يبقى أن الانجيليّ لا يحبّذ كثيرًا مثل هذه الممارسات: ففي المهمّة الأخيرة، لا نجد شيئًا من ذلك (رج مر 17:16-18)، بل فقط التعليم والتعميد (28: 19- 20 أ). وحتّى إن امتلك هذه المواهب "الكثيرون" (7: 22)، فهذا لا يؤثّر على متّى الذي يُبرز مرة أخرى الهدفَ الأخلاقي لفقاهته: بما أنهم فاعلو الاثم، فالله لا يعرفهم.
د- متّى وتبشير الوثنيين
كان صاحب الانجيل الأوّل من أصل يهوديّ، وقد شارك في ولادة جماعة لا شكّ في جذورها اليهوديّة. ولكن تحيط به الآن أكثريّة من المسيحيين جاؤوا من العالم الوثنيّ: ونحن نفهم بصعوبة أن يكون متّى المحاط بمسيحيّين متهوّدين، قد جعل الملكوت وقفًا على الوثنيين وحدهم. بل إن التعليم الذي يقدّمه قد انفتح انفتاحًا واسعًا على خلاصهم حين انضموا إلى الجماعة المسيحاويّة: وهذا واضح حين نقرّب بداية الانجيل وحدث المجوس، من النهاية والأمر بالرسالة الذي أعطاه القائم من الموت. وبين هذين الطرفين، نجد مقاطع أخرى (9:22؛ 14:24؛ 13:26) تبرهن أن متّى لم ينفصل عن نظرات الشموليّة التي نجدها في العهد الجديد، بل هو أخذ بها بدون تحفّظ.
وما يلفت نظر المؤوّل والمؤرخ في الانجيل الأول، هو الطريقة التي بها ينظر متّى بشكل ملموس إلى العمل الرسوليّ، وإلى مسيرة الوقائع التي آلت إلى تكوين كنيسته (هاتان الوجهتان تبدوان مترابطتين). فحين نتذكّر مجيء الوثنيين إلى المسيحيّة، نلاحظ أن متّى يتصوّر هذا المجيء حسب الرسمة النبويّة القديمة، بشكل حجّ تقوم به الأمم الآتية إلى نور المسيح (2: 1-12؛ 8: 11. وهناك موضوع "الجموع" التي تتبع يسوع، والتي تدلّ على دخول عدد كبير من الوثنيين في الكنيسة، رج 4: 24-25)، أو كانتصار الايمان (في الحالات الفرديّة) على تردّدات الخاصيّة اليهوديّة (8: 5-13؛ 15: 21-28). قد ترتبط هذه الخبرة بتوصيات عظة الجبل حيث يحضّ المسيح تلاميذه على بناء الذين في الخارج بسلوكهم المثالي، على أن يكونوا "نور العالم" (5: 17-16) كما يقول اسرائيل عن نفسه.
فهل نقول، بعد هذا، إن نظرة الانجيليّ إلى الرسالة، كصدى واقع حاضر، تتلخّص في شهادة تقدر أن تجتذب الوثنيين إلى الكنيسة دون أية محاولة دعاوة؟ مثل هذا الاستنتاج لا يكون ممكنًا إلا إذا أهمل متّى نفسُه تحديد "أنجلة" العالم كـ "رسالة" في المعنى الأصليّ للكلمة، ساعة جعل من هذه المحاولة موضوع توجيهات سامية وأخيرة تفوّه بها الربّ الممجّد: "إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم" (28: 29). بل إن المسيح حين سلّم إلى الأحد عشر هذه الوظيفة فسمّاهم "رسلاً" و"مرسلين" (11: 2)، قد أسّس بلا شكّ عملاً اعتبرته الكنيسة وسوف تعتبره من جوهر صلاحيّتها. أما الظروف وإمكانيّات هذه الرسالة فارتبطت بروح مختلف الجماعات وبما يحيط بها. يمكن أن لا تكون جماعة متّى قد قامت بنشاط خاص في هذا المعنى. ولكن هذا لا يهمّ كثيرًا. ففي النهاية، التعليم الذي يصل إلينا هنا هو شرعة الرسالة التي تحثّ المسيحيين على التحرّك لإدراك سائر البشر ونقل الحقيقة إليهم.

خاتمة
نسوق هنا الملاحظات التالية:
1. دلّ الانجيل الأول على كنيسة عادت إلى أصولها فتأمّلت فيها يسوع والتلاميذ الأولين لكي تفهم نفسها فهمًا أفضل في قلب التدبير الالهيّ، ولتثبّت من جديد مبادئها الخاصة في الحياة، وتصحّح أخطاءها.
2. عارض متّى نظرة قانونيّة محضة، فأبرز الظروف الخلقيّة للحياة المسيحيّة حسب تعليم المسيح المعلّم الأوحد. ينتج عن ذلك أن إرث الماضي لم يكن نقل وظائف ومسؤوليات وحسب، بل أمانة لتعليم المؤسّس الالهيّ. كان المسيح المفسّر النهائي للشريعة، ففرضها في "ملئها" مع الأمر بنشرها في مجتمع جديد أسّسه، كالشرعة الوحيدة التي تقدر أن تسير بالبشريّة إلى هدفها.
3. لا تعيش الكنيسة في الماضي ومن الماضي وحده، بل هي اغتنت بالحضور الآني للمسيح الحيّ والعامل وسط جماعته "إلى انقضاء الدهر". وهكذا تقوم بينه وبين مؤمنيه علاقة دائمة تجعل في الظلّ البنى البشريّة من أجل سلطة المسيح الذي هو الموجّه السامي لشعب الله الجديد.
4. ومع ذلك فهذه البنى هي موجودة، مع أن متّى لا يقدّم توجيهًا حول التنظيم الكنسي. بل هو حين يتطرّق إلى بعض المهام أو الوظائف، يذكّر بالصفات الخلقيّة التي يجب أن يدلّ عليها أولئك الذين يقومون بها. ووُجهة المساواة التي تميّز جماعة متّى، لا ترتبط بوضع قانونيّ بقدر ما ترتبط بنداء إلى التواضع والخدمة. ويُطرح سؤال: كيف كانت تُدبَّر هذه الجماعة؟ معلوماتنا ضئيلة. ولكن يبدو أن دور "المعلّمين" كان مسيطرًا في هذه الجماعة، لا في خط المعلّمين اليهود، بل بالنظر إلى السلطة الحاسمة التي يرونها في كلمة يسوع.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM