الفصل الأول: انجيل متّى والعالم اليهوديّ

الفصل الأول
انجيل متّى والعالم اليهوديّ

ندرس في هذا الفصل العظة على الجبل (ف 5-7). ونتساءل: هل هي قريبة من عالم المعلّمين (الرابينيين) اليهود؟ هل تشكّل قطيعة مع العالم اليهوديّ؟ ظنّت فئة أن مت 5-7 هو الردّ المسيحي على العالم اليهودي بعد كارثة سنة 70 ب. م ودمار أورشليم. ولكن الفئة الكبرى رأت أن هذه العظة المتّاويّة الكبيرة هي مختصر تعليم يسوع، وهي تلعب وظيفتها داخل الكنيسة. قد لا تكون في الأصل توجّهت إلى العالم اليهودي، ولكن موضوعها يهوديّ في جذوره: نحن أمام تفسير الشريعة (أو التوراة بالمعنى الحصري) التي تعبّر عن إرادة الله.
عظة الجبل هي لاهوت الشريعة، لهذا هي قريبة من العالم اليهوديّ في وجهه الفرّيسيّ. غير أن الطرح حصر سلطة تفسير الشريعة في المسيح، جعل هوّة سحيقة بين العالم اليهوديّ والعالم المسيحيّ.
هذا ما نحاول أن نظهره في ثلاث محطات: على مستوى الفن الأدبي. العودة إلى الشريعة. والنتيجة: قطيعة بين العالم اليهوديّ والعالم المسيحيّ.

1- الفنّ الأدبيّ
حين نقرأ عظة الجبل، نجد أن الفنّ الأدبي الذي دوّنت فيه بعيد كل البعد عن عالم قمران والأسيانيين: نظام الجماعة، وثيقة صادوق (أو دمشق). أو عن مقال رابيني هو "أقوال الآباء". أما النصّ المسيحي الأقرب إلى هذه العظة، فهو الديداكيه أو تعليم الرسل ولاسيّما ف 1-6. غير أن جميع العناصر التي تجعل من الديداكيه كتاب التنظيم الكنسي تبقى غائبة من مت 5-7.
أ- عظة الجبل "مختصر"
هذا البعد بين عظة الجبل والعالم التوراتي واليهودي يطرح علينا سؤالاً: هل نحن أمام مؤلَّف فريد من نوعه؟ لا نظنّ أن الأمر هو هكذا.
هناك إشارتان أدبيّتان تتيحان لنا مقاربة أولى. الأولى، سمّى الانجيليّ نفسه هذه اللفظة "تعليمًا". نقرأ في 7: 28: "بُهتت الجموع من تعليمه". ويُقدّم 5: 2 (الذي هو البداية) و7: 29 (الذي هو نهاية العظة) يسوع على أنه المعلّم، على أنه يعلّم. "فتح فاه وجعل يعلّمهم قائلاً"؛ "كان يعلّمهم كمن له سلطان". هذا من جهة، ومن جهة ثانية، تبدأ الخاتمة بموضوع تقليدي في التعليم الاخلاقيّ في ذلك العصر: تعليم الطريقين (تث 30: 15 ي). من تبع الطريق الضيّق أي راعى التعليمات التي دوّنت في الخطبة ينال الخلاص. أما التصرّف المعاكس فآخرته الهلاك. تدلّ هاتان الاشارتان، حتى في نظر الانجيلي، على أننا أمام تعليم ليسوع يتيح لنا أن نبلغ الحياة الأبديّة.
نحن هنا أمام "مختصر". هذا الفنّ الأدبيّ قد انتشر في العالم الهلنستيّ على المستوى الخلقيّ، ونحن نجده في التقاليد الرواقيّة والأبيقوريّة. أما تحديد المختصر فهو تقديم ملخّص لمؤلّف كبير. لسنا هنا أمام مقاطع مختارة، ولا اختصار واختذال لطلاّب مدرسة. فالكتاب يتصرّف بحريّة تامّة، فيدلّ على موهبته ككتاب في صياغة نصّ. وهو يقدر أن يطبع المواد بطابعه الشخصي، هذا مع العلم أنه يُفرض عليه الايجاز والدقّة في عمله.
فهذا المختصر يتيح لنا أن ندخل إلى قلب هذا الفكر فندرك تعابيره الأساسيّة. وإن توخّى افهامنا نهجًا فلسفيًا أو أخلاقيًا أو دينيًا، إلاّ أنه لا يعود إلى إعمال الذاكرة إعمالاً آليًا: أي نحفظه ونكرّره بشكل حرفي. بل نجعله جزءًا منا، فنكتبه في حياتنا ونغنيه في خبرتنا. إذن، ليست عظة الجبل مقالاً للذين في الخارج، ولا هي تتوجّه إلى المبتدئين الذين لم ينفتحوا بعد على أسرار الملكوت. بل هي للتلاميذ الذين هم من الداخل، الذين أعطيت لهم أسرار الملكوت.
ب- مختصر كرازة يسوع
ونخطو خطوة ثانية. بعد تحديد "المختصر" الذي وُجد في العالم اليوناني والروماني، نقول إن عظة الجبل هي مختصر كرازة يسوع. فبطريقة اختيار أقوال يسوع وبوضعها في خطبة مبنيّة بناء محكمًا، قدّم الانجيلي تعاليم المعلّم الأساسيّة ونسّقها بحسب مواضيعها. وهكذا وجد التلميذ نفسه وجهًا لوجه أمام ملخّص للاهوت يسوع. وبالتالي نال الوسائل التي تتيح له أن "يهضم" هذا التعليم. غير أنه يجب أن نلاحظ أن هذا المختصر لا ينفصل عن نموذج من نماذج الاتصال. فالتلميذ يُطلب منه أن "يسمع" أقوال يسوع و"يحفظها" (أي يضعها موضع العمل، يمارسها في حياته). ماذا نفهم بهذين الفعلين؟
فالسماع الذي إليه يُدعى القارئ، ليس قبولاً منفعلاً (لا نفعل فيه شيئًا. لا يكون لنا فيه دور عمليّ) بل "هضمًا" وادراكًا. وما يدلّ على نشاط السامع نجده في صور مختلفة من عظة الجبل. فعبارة "سمعتم أنه قيل" في النقائض، تدلّ على أن كل سماع لا يحمل الحقيقة. وأن هناك مسافة نقديّة تفرض أن نحافظ عليها، إذا أردنا أن لا نقع على تعاليم خاطئة حول التوراة. وهناك نداء إلى التمييز كما في 6: 1 (احترزوا من أن تصنعوا برَّكم قدّام الناس)؟ 15:7 (إحذروا من الأنبياء الكذبة). ونداء إلى الملاحظة: "تأمّلوا زنابق الحقل كيف تنمو" (28:6). وهناك استعمال متكرّر لأفعاله تدلّ على "النظر"، فتجعل القارئ يلعب دور الشاهد الناشط والناقد أمام الواقع. وأخيرًا، إن هذا التفحّص الدقيق وهذا السهر اللذين نجدهما في 7: 15- 20 (كيف تُعرف الثمار) يصلان بنا إلى المعرفة.
غير أن السماع لا يستطيع أن يتوقّف عند "هضم" نظري لأقوال يسوع. فالنصّ يفرض تفاعلاً متواصلاً بين السماع والعمل، لاسيّما وأن الغاية الأخيرة لهذه الخطبة التي تدشّن تعليم يسوع كما في مت، هي وضع الشريعة موضع العمل. وكما يقول مثلُ البيتين الذي ينهي هذه العظة (7: 24-27)، يُطلب من القارئ أن يتماهى مع "الرجل العاقل" (الحكيم)، أي مع ذلك الذي حقّق التوزان المطلوب، والتفاعل الضروري، بين السماع الواعي وتجسيم الكلمة التي تلقّيناها بكل ما فيها من متطلّبات.
وهكذا، إن توقّفنا عند الفن الأدبي أو عند ستراتيجيّة الكتاب في إيصال كلامه إلى القارئ، يبدو مت 5-7 مقالاً تعليميًا. تصوّره الكاتب مختصرًا يقدّم بشكل موجز العناصر الأساسيّة في تعليم يسوع، فوضع أقوالاً تفوّه بها يسوع في مناسبات مختلفة، داخل عظة تحمل مواضيعها. وبهذا توخّى أن ينقل إلى أعضاء الجماعات المسيحيّة القريبة من متّى، العناصر التي تتيح لكل مؤمن أن يفهم التعليم الذي قيل في الماضي، وأن يطبِّقه في حياته بشكل متجدّد. إذن، لسنا في إطار مواجهة مباشرة مع العالم اليهوديّ. ولا في إطار دفاع عن الكنيسة بوجه المجمع اليهوديّ. بل أمام تعليم في داخل الكنيسة.
ج- خصوم يسوع
تذكر عظة الجبل بوضوح أولئك الذين توجّه إليهم كلام يسوع: الجموع والتلاميذ يصل إليهم الكلام في صيغة المخاطب الجمع: "طوبى لكم إذا عيّروكم... أنتم ملح الأرض... لا تظنّوا... سمعتم أنه قيل...". إذن، نحن أمام عظة تتوجّه إلى تلاميذهم صورة عن جماعة متّى، وعن كل جماعاتنا التي يرمز إليها وجود الجموع. هذا الاطار الكلامي يقودنا إلى التعليم لا إلى الدفاع والهجوم. اختلفت عظة الجبل عن الجدالات المتّاوية مع المجمع، فحاولت أن تبرّر طريقة عيش التلاميذ وتبيّن توافقها مع العهد القديم، فما توجّهت إلى سامعين يهود، ولا هي أرادت أن تقدّم إليهم بإلحاح تعليم يسوع.
وما يُثبت هذا الطابع التعليميّ هو نمط البراهين المستعملة. فالسامعون ليسوا موضوع هجوم من قبل أحد. ولكنهم يحذَّرون من خصوم قد يطرأون. لهذا تعلّمهم الخطبة كيف يميّزون أربع مجموعات يجب أن ينفصلوا عنها.
* المجموعة الأولى: الكتبة والفريسيون (5: 20: إن لم يزد برّكم على ما للكتبة والفريسيين). نحن هنا أمام مفهوم واضح في الزمن الذي فيه كُتب مت: نحن أمام القوّتين اللتين أمسكتا بمقاليد العالم اليهوديّ بعد كارثة سنة 70 ب. م. الرابينيون وحزب الفرّيسيين. غير أن النصّ الذي يبدو بشكل برنامج في 17:5-20، لا يحرّك الجدال معهم. هم هنا كنموذج لبرّ فاسد يقود إلى الدمار. ولا يُذكرون إلاّ هنا في مجمل الخطبة.
هذا التحفّظ في ذكر اليهود يفترض أن القطيعة قد تمّت بين المجمع والكنيسة المتّاوية. وما يدلّ على ذلك من الجهة اليهوديّة، هو أن المباركة الثانية عشرة تطلب استبعاد المسيحيّين من المجمع. ومن الجهة المتّاويّة، هو الشجب الجذريّ لاسرائيل والاعلان عن تكوين الشعب الجديد (مت 21: 33-22: 14). وهذا ما نلاحظه في 29:7 حيث يتحدّث الانجيليّ عن المعلّمين اليهود ويسمّيهم "كتبتهم". هذا يفترض أنه لم تعد لهم علاقة مع التلاميذ. ثم إن التعبير العام عن تطويبة المضطهدين (5: 11-12)، تجلعنا نفهم أن العداوة ضد الكنيسة مصدرها الوثنيّون واليهود معًا.
* المجموعة الثانية: المراؤون (6: 2، 5، 16). تُبرز هذه اللفظة تصرّفًا أخلاقيًا مطبوعًا بتعارض بين المدلول الظاهر لعمل من الأعمال وهدفه الخفيّ. نحن هنا أيضًا أمام مثال معكوس يعمل عمل الإبعاد عن تصرّف من التصرفات في تقديم البرهان. نستطيع أن نماهي بين "المرائين"، "الكتبة والفرّيسيين" (كما في 5: 20)، غير أن النصّ لا يقوم بهذا التماهي بوضوح. وهكذا يكون النقد في قالب محدّد، وهو لا يدلّ على هجوم على العالم اليهوديّ، مبنيّ بناء محكمًا.
* المجموعة الثالثة: الوثنيّون (5: 47؛ 6: 7، 32). يرمز الوثنيّون إلى الكفر وعدم الورع. هذا موضوع معروف في الحرب اليهودية والمسيحيّة المتهوّدة. وحين تظهر هذه المجموعة هنا كمثالة معكوس، يتبيّن أن هجوم عظة الجبل لا يتوجّه بشكل خاصّ ضدّ العالم اليهوديّ.
* المجموعة الرابعة: الأنبياء الكذبة. في الواقع، النقد الوحيد المركّز هو ضدّ "الأنبياء المسيحيين الكذبة" (7: 15-23). وجبهة الحرب هي في داخل الكنيسة، لا ضدّ الشعب اليهوديّ. والخصم الذي يجب أن نكشفه والذي يمثّل خطر الموت، ليس المجمع (= اليهودي)، بل مواهبيّون مسيحيون نالوا عطايا روحيّة خارقة ولكنهم لا يمارسون مشيئة الله كما نجدها في عظة الجبل.
ودراسة السياق تثبت بشكل لافت دراسة الفنّ الأدبيّ. فالتعليمات إلى المجمع الفريسيّ نادرة جدًا، وهي تلعب على مستوى البراهين دور الابعاد. فخطبة متّى الكبرى لا تدخلنا في حوار مع العالم اليهوديّ، ولا في حرب. فالذين يتوجّه إليهم هذا التعليم هو المؤمنون، والتحذيرات التي نجدها تتمّ في الكنيسة ومن أجل أعضاء الكنيسة.
بعد هذا، هل يعني غياب المواجهة المباشرة مع العالم اليهودي أن لا علاقة بين نصّ مت والمواجاهة الفرّيسيّة والرابينيّة؟ سنجد الجواب على هذا السؤال بعد أن نقوم بتحليل المواضيع التي تتطرّق إليها خطبة الجبل.
د- مواضيع عظة الجبل
حين نقرأ هذه العظة نجد معلَمين واضحين. الأول (17:5-20) يعلن الطرح الذي سيتوسّع فيه الانجيلي فيما بعد والذي يبدو مضمونه كما يلي: إن مجيء المسيح يدلّ على تتمّة مشيئة الله. والثاني (7: 12) يستعيد تفسير الشريعة كما عُرضت في ف 5-6: قلب الشريعة (أو التوراة في المعنى الحصريّ) هو محبّة القريب.
بين هذين المعلَمين، نجد الجسم المركزي (5: 21-7: 11) الذي نستطيع أن نقسمه قسمين: التناقضات الستة (5: 21-48) التي تشكّل التوسّع الأول، وموضوعها البرّ الذي تطلبه شريعةٌ أعيد تفسيرها. وموضوع القسم الثاني (6: 1-7: 11) هو البرّ الذي يرضي الله كما يعلنه 6: 1. يتوسّع النصّ في بُعد الحياة المسيحيّة هذا عبر تذكّر الأعمال الثلاثة الكبرى في التقوى اليهوديّة، وهي الصدقة والصلاة والصوم. كما يتوسّع في فقاهة جماعيّة حول المال والهموم والدينونة والصلاة (6: 19-7: 11).
وتُحيط بهذا الجسم المركزيّ مقدّمة تتحدّث عن سعادة التلاميذ ودعوتهم (3:5-16)، وإرشاد (13:7-27) يستعمل رسمة الطريقين فيُبرز المدلول الحاسم للعمل، لتتمّة مشيئة الله بشكل ملموس بالنظر إلى مسألة الخلاص الاسكاتولوجىّ.
يُبرز هذا التذكير الموجز وحدة الموضوع في خطبة المسيح التدشينيّة التي موضوعها تفسير التوراة والتعبير الأخير عن مشيئة الله. كل هذا يطرح علينا سؤالاً: كيف نفهم أن لا تكون عظة الجبل حوارًا مباشرًا مع العالم اليهودي، مع أن موضوعها الأساسيّ هو الشريعة التي هي حجر الزاوية في الايمان اليهوديّ؟

2- العودة إلى الشريعة
أ- لاهوت متّى لاهوت الشريعة
إن المسافة التي تميّز هذه الخطبة، بين سياق غاب عنه المجمع اليهوديّ وموضوع مركزُه الشريعة، تدلّ على أصالة متّى المذهلة. فالتحدّي والجدّة تكمنان هنا في أن تبيّن كنيسةُ متّى أن القطيعة مع المجمع الفرّيسي لا تتضمّن إطلاقًا التخلّي عن العهد القديم الذي ما زال التعبير الصحيح لمشيئة الله. فالتوراة (في المعنى الحصري) كما أتمَّها المسيح، صارت إطار متّى اللاهوتيّ. ولنقل بشكل موجز: لاهوت متّى هو لاهوت الشريعة.
إن هذا الدور الذي يكوّن "التوراة" يحدّد تحديدًا أصيلاً موضع متّى بالنظر إلى المسيحيّة الفتيّة كما بالنظر إلى العالم اليهوديّ. فبالنظر إلى العالم المسيحي، يتميّز مت 5-7 عن تعليم يسوع الأول الذي كانت نظرته الأساسيّة المجيء القريب لملكوت الله. كما يتميّز عن بولس الرسول الذي لم يعتبر الشريعة حجر الزاوية في الايمان المسيحيّ. وإن هي احتفظت بمكانتها في التدبير المسيحي، فبعد أن انتُقدت نقدًا جذريًا وتطلّعت إلى الايمان. ومرقس الذي سبق متّى على المستوى الأدبي قد انتقد الشريعة انتقادًا لا يرضى به الانجيل الأول. إذن، متّى هو صاحب عودة مميّزة بالتوراة إلى مقدّمة اللاهوت المسيحيّ، وهي عودة تُعبر عنها عظة الجبل تعبيرًا بارزًا.
هذه العودة التي تدهشنا بحضورها الكبير، تربط متّى بالعالم اليهودي (الرابيني) كما تفصله عنه. تربطه بقدر ما تشكّل التوراة (أي الشريعة) له وللمجمع اليهودي، الطريقَ الموصل إلى الله. في هذا المعنى يبدو الانجيل الأولى أكثر كتب العهد الجديد ارتباطًا بالعالم اليهودي. وفي معنى آخر يبدو مت أكثر الأسفار المناوئة للعالم اليهوديّ بقدر ما يأخذ جوهر العالم اليهودي (وهو التوراة) ويدخله في الايمان الجديد. لاشكّ في أن الحوار انقطع بين المجمع وكنيسة متّى التي سارت مسيرتها الخاصّة منذ ذلك الوقت. غير أنها حين أدارت ظهرها للذين شاركوها إيمانها في القديم، أخذت معها الشريعة واعتبرت نفسها وحدها المستودع الشرعي الوحيد لها. هذا ما تدلّ عليه ف 5-7 من الانجيل الأول.
ب- "التوراة" قلب عظة الجبل
إن الطرح الذي يُشرف على مجمل النصّ نجده في 17:5: "لا تظنّوا أني جئت لألغي الشريعة أو الأنبياء. ما جئت لألغي بل لأكمّل". فهنا كما في كل أقوال يسوع التي تبدأ بـ "جئتُ"، نحن أمام إعلان يعبّر عن قلب رسالة المسيح ومعناها. وبحسب هذه الآية، يكمن قلب التزام يسوع في تكملة الشريعة والأنبياء، أي في تفسير "التوراة" وفي ربطها بالواقع الجديد.
هنا نبتعد عن رأي يقول إن النقائض التي تلي 17:5 تُضعف الطرح الأساسيّ "وتكذّبه" بمضمونها. فهي لا تتوخّى إلغاء (نقض) الشريعة، بل إعادة بنائها في قوّتها الأصليّة وصحّتها. ما قيل للأقدمين لا يُمحى، بمعنى أن غياب الاكراه يلي مبادئ عفاها الزمن. بل إن المتطلّبة التي تعود إلى الماضي صارت محدّدة وجذريّة. لا تُعلّق الطاعة المطلوبة، بل تتعمّق بحيث تلزم الانسان في شخصه كلّه. لسنا فقط أمام القتل بل أمام الشتيمة. لسنا فقط أمام الزنى، بل أمام الشهوة التي تقود منذ الآن إلى جهنّم. فالطلاق بحسب الشريعة، والقسَم (الحلَف) بحسب الشريعة، والانتقام بحسب الشريعة، ومحبّة المواطن وحده، كل هذا مما عاد يكفي. فحلّت محلَّه الأمانةُ الذي لا تقاسُم فيها. واستقامة الكلام المطلقة، وعدم مقاومة الشرير، والحبّ الذي يصل إلى الاعداء، هذه هي الشريعة "الجديدة".
ونقول الملاحظة عينها في ما يخصّ الأعمال الكبرى الثلاثة في التقوى اليهوديّة. هي لا تُلغى بعد أن صارت ضحيّة نقد لحياة طقسيّة تحصر نفسها في الطقوس. بل إن الانجيل يحافظ عليها. وما يندّد به يسوع هو ممارسة كاذبة لها. فالصدقة والصلاة والصوم يرضى عنها الله إذا مارسناها أمانة لله وحبًا به. فلا قيمة للعمل في حدّ ذاته. يجب أن يكون التعبير عن التزام باطنيّ يصل بنا إلى الله.
والارشاد نفسه (13:7-27) لا ينفصل عن هذا الدفاع عن الشريعة. فخيار الطريقين هو في الوقت عينه تنديد بالأنبياء الكذبة. فهم مخطئون، رغم المواهب الفائقة التي نالوها، في حمل ثمار. ونداء إلى المؤمن ليكون انسانًا عاقلاً وحكيمًا. أي يسمع الكلمة ويعمل بها.
ج- وصيّة الوصايا
ما اكتفت العظة على الجبل بأن تعلن الشريعة التي أتمّها المسيح. بل طرحت السؤال الأساسيّ حول قلب الشريعة. وهذا ما نجده في نصّين اثنين.
أولاً، تجاه الطرح لتتمّة الشريعة بشكل برنامج حياة (17:5-20)، نجد القاعدة الذهبيّة: "فكل ما تريدون أن يفعله الناس لكم، إفعلوه لهم: هذه هي الشريعة والأنبياء". فمركز الثقل في الشريعة التي يفسّرها المسيح هو وصيّة المحبّة. قد يبدو هذا القول عاديًا، باهتًا. ولكن المقابلة مع تعليم يسوع التاريخ تُبرز فرادةَ هذا القول. فمتطلّبة الحبّ ترتبط في نظر يسوع بإعلان اقتراب الملكوت. بما أن الله يقترب في رحمته من الخطأة، فقد خضعت العلاقات بين البشر لتدبير جديد. لم يعد متّى يطرح السؤال بالنظر إلى الملكوت الآتي، بل في ارتباطه بالتوراة. فمتطلّبة الحبّ (وهذا قول خاص بالانجيل الأول) قد صارت إجمالة للشريعة: المحبّة هي الوصيّة التي توجّه سائر الوصايا، وتقدّمها في تراتبيّة تفرض نفسها علينا.
ثانيًا، ونجد تأكيدًا لهذا الموقف في النقائض (5: 21-48). فإعادة تفسير الشريعة تتمّ حصرًا في اللوحة الثانية من الدكالوغ (= الوصايا العشر): الموضوع هو العلاقات بين البشر. تحيط النقيضة الاولى والسادسة بالمقطع وتعطيه لونًا خاصًا. فالأولى التي تستبعد كل عدوانيّة ضدّ القريب ولو كانت على مستوى الكلام، تشدّد على احترام غير مشروط يحقّ لكل إنسان. وإذ تعلن النقيضة السادسة محبّة الأعداء تختتم مجمل النصّ بشكل غير مباشر، فتقول إن الالتزام تجاه الغير لا يعرف الحدود. فجميع البشر، حتى الذين يطلبون حياتي، يستحقّون محبّتي.
د- من أعظم الوصايا إلى أصغرها
إن تركيز المتطلّبة الخلقيّة على وصيّة المحبّة، يقودنا إلى حصر الشريعة في هذا الأمر والتخلّي عن الشريعة في بعدها الطقوسيّ. فالعظة على الجبل تدلّ أن متّى رفض أن يخطو هذه الخطوة التي بدت ضروريّة في إطار الرسالة المسيحيّة بين الوثنيين.
إنّ النصّ البرنامج في 5: 17- 20 يقدّم هنا أيضًا المعلومة المطلوبة. ففي نظر متّى، ليست تتمّة الشريعة موازية لإلغائها وتحجيمها: "الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الشريعة حتى يتمّ كل شيء. فمن خالف وصيّة من أصغر هذه الوصايا وعلّم الناس أن يعملوا مثله، عُدَّ صغيرًا في ملكوت السماوات. وأمّا من عمل بها وعلّمها، فهو يُعدُّ عظيمًا في ملكوت السماوات" (5: 18-19). لا تستطيع التفاسير "الذكيّة" أن تخفي المعنى البديهيّ لهذا الاعلان الذي احتفظ به متّى. فالتوراة كلها قد أخذ بها التعليمُ الجديد. ففي إطار الجماعة المسيحيّة يجب أن تعلَّم التوراة كلها كما وردت في العهد القديم وأعاد المسيح عبارتها. والطاعة المطلوبة من المؤمن هي أمانة تشمل كل الوصايا حتى الصغيرة منها.
والنصّ نفسه يعطينا مثلين يميّزان تمييزًا خاصًا هذه الطاعة التي تتضمّن الشريعة بما فيها من طقوس. في النقيضة الاولى، يُوقف النداء إلى المصالحة العمل بالفريضة الطقسية ولكنه لا يلغيها. فبعد العودة إلى التناغم، يجب أن نعود إلى المذبح لكي نقدّم تقدمتنا (23:5-24). إن متطلّبة المحبة تسبق الواجب الطقسي دون أن تلغيه. وهكذا وُضع نظام الأولويات في مجمل الفرائض التي تحتفظ كلها بشرعيّتها. ونقول الشيء عينه عن فريضة الصوم (6: 16-18) التي لا تُرفض. فهذه الفريضة الطقسيّة تبقى ممارسَة في كنيسة متّى. ولكن حُدِّدت ظروف ممارستها ممارسة صحيحة.
إذن، مت 5-7 هو بلا شك تعبير عن حلقات تعلّقت بكرازة يسوع، ورغبت في الوقت عينه أن تحافظ على تجذّرها اليهوديّ. وهذه الحلقات لا تكفي بأن تطالب بالتوراة (أي الشريعة) في تعابيرها. بل تطالب بها كلها وتدخلها في الايمان الجديد.
هـ- تشابهات تدعو إلى القلق
إن الخيارات التي ذكرناها الآن تطرح سؤالاً حول علاقة هذه الخطبة باللاهوت الرابيني كما نادى به الفريسيون ولاسيّما رمزهم "يوحنان بن زكاي". ما يبرّر هذا السؤال هو أن أكادمية يمنية (أو يبنة) اتخذت في النقاط التي أثرناها، قرارات قريبة من تلك التي نجدها هنا. فتحديد اللائحة القانونيّة للأسفار المقدّسة لدى اليهود، وولادة المشناة، يدلاّن دلالة واضحة أن التوراة هي في قلب العالم اليهودي بعد سنة 70 ب. م. وهذه التوراة تحتفظ بقيمتها ككل. وقد جعل يوحنان بن زكاي ترتيبًا بين الوصايا: الرحمة تسبق مجموعة الفرائض الطقسيّة. وعلى خطى هلاّل، تساءل المصلّون عن قاعدة القواعد.
هذه التشابهات تستحقّ دراسة مفصّلة. ولكن ما قلناه يكفي لكي يجعلنا نواجه واقعًا يدعو إلى القلق. فمتّى في خطبة الجبل، ويوحنان بن زكاي، يقفان في وضع تاريخيّ أصبح فيه كل حوار بينهما مستحيلاً، فحلّ محلّه المقارعة المتبادلة. ومع ذلك، فهذان الأخوان العدوّان قريبان قربًا لاهوتيًا فريدًا في تاريخ العلاقات بين الكنيسة والمجمع. فمحبتهما المشتركة للتوراة تحمل في ذاتها امكانية جدال صادق وبنّاء. غير أن هذا التبادل في الآرء لم يتمّ، لأن نقاط التفاهم التي أبرزناها اختفت وراء خلاف لا دواء له.

3- القطيعة الكرستولوجيّة
ما هي عناصر هذا الخلاف؟ ولماذا فصلت هوّةٌ سحيقة هذين التيارين اللذين يرجعان إلى إرث واحد، والى مرجع واحد هو التوراة؟
أ- يسوع وحده مفسّر الشريعة
برزت القطيعة في الدور الذي أعطاه متّى للمسيح في تفسير الشريعة. إن التأكيد الذي هو في أصل هذا الصراع الذي لا يمكن تجاوزه، يقول: لا تكمن سلطة التوراة في ذاتها. سلطتها هي خارجًا عنها. سلطتها في المسيح. هذا الطرح الذي لا يمكن أن تقبل به آذان يهوديّة يظهر في شكلين اثنين.
أولاً، الشكل الأدبي للنقيضة يدلّ دلالة كافية على هذه العلاقة الجديدة. فالتعارض بين "سمعتم أنه قيل للأقدمين" وبين "أمّا أنا فأقول لكم"، يفترض أن المسيح يجعل سلطته توازي سلطة التوراة التقليديّة. فحين استند فقط إلى "أنا"، "شوّه" معطيات الشريعة القديمة، وأحلّ محلها إرادة الآب كما في البدء. وإذ فعل ما فعل، اعتبر أنه يتكلّم باسم الله ضد الشريعة كما دوّنت في الكتاب المقدّس. أكدّ أنه يعلن الشريعة الاسكاتولوجيّة ضدّ الشريعة التي تلقَّاها موسى، بحيث تحلّ محلّها. والسلطة التي يطالب بها هي فوق الشريعة، لأنها تتجاوز حرف الكتاب المقدس، وتعتبر نفسها أهلاً لتعلن مشيئة الله الاسكاتولوجيّة التي حجبها التقليد. وحين أتمّ هذه المهمّة في إعادة الشريعة إلى الأصل وتفسيرها، أكّد أنه ربّها. منذ الآن، لم يعد للتوراة سلطة في ذاتها كوحي الله في سيناء. بل نالت وضعها كقاعدة حياة من (يسوع) المفسّر الاسكاتولوجي (في منتهى الزمن، في ملء الزمن) الذي يعلنها في الحقّ.
ثانيًا، يُثبت طرح 5: 17 الملاحظة التي استخلصناها من النقائض. فالعبارة "لا تظنّوا أني جئت لأحلّ الناموس أو الأنبياء: ما جئت لأحلّ (لألغي) بل لأكمّل"، تبرز الواقع التالي: إن تتمّة التوراة أي ترتيب معناها الحقيقيّ ووضعها موضع العمل في الواقع اليوميّ، ترتبط برسالة المسيح. فهذا الحدث الرئيسي يتمّ في مجيء يسوع. إذن، خضعت تتمّة الشريعة والأنبياء لتتمة مصير الناصري، لا العكس. وأخذت التوراة سلطتها من المسيح خلال القيام برسالته: هذا يعني في الوقت عينه أن المسيح هو منذ الآن شرط الدخول إلى الشريعة الحقّة. وما عاد بعد الآن من سماع صادق لمشيئة الله إلاّ في اتّباع المسيح.
هذا الطرح الذي يعلن سموّ المسيح بالنسبة إلى الشريعة، يتأكّد أيضًا بواسطة الارشاد. فارتباط إعلان الدينونة لصانعي الاثم (7: 21-23) بمثَل البيتين (7: 24-27)، يدلّ بوضح على أن تتميم مشيئة الله وممارسة أقوال يسوع كما عبّر عنها في هذه العظة، صارا شيئًا واحدًا. يبدأ مثل البيتين بهذه العبارة: "فكل من يسمع كلماتي هذه"، فيبيّن أن الشريعة لا تنفصل بعد اليوم عن تعليم يسوع كما يقدّمه لنا متّى. بل إن كلمات يسوع، أي تفسيره للتوراة، صارت مقياس الخلاص الاسكاتولوجي. وهكذا خطا الانجيلي الخطوة الأخيرة فقال: "وحدها التوراة" كما يعلّمها المسيح في مت تقود إلى الخلاص.
ب- لاهوت بيبلي
طرح أحد الشرّاح فرضيّة تقول إن عظة الجبل هي الجواب المسيحي على العالم اليهودي الذي خرج من يمنية. نستطيع أن نتخلّى بعض الشيء عن مثل هذه الفرضيّة.
أولاً، نتوقّف عند الفنّ الأدبي وترتيب البراهين: نحن أمام ملخّص لتعليم يسوع موجّه إلى أعضاء الكنيسة المتّاويّة فيستطيعون أن "يهضموا" ويفهموا ويأخذوا تعليم معلّمهم في الحياة اليوميّة. إذن، ليس هذا الكلام دفاعًا ولا هجومًا يصيب المجمع (أي العالم اليهوديّ). فقد تمّت القطيعة بين الكنيسة والمجمع، ولم يعد هناك من دواء، وما عاد من اتصال على مستوى الكلمة بين الفريقين. أما الاتصال الوحيد فهو الحرم المتبادل.
ثانيًا، إلا أن هذا الملخّص للاهوت يسوع يقدَّم بشكل برنامج على أنه تتمّة الشريعة. رُفض المجمع ولكن التقليد الذي يكوّنه ظلّ حاضرًا. بل إن المطالبة المسيحيّة بالتوراة تتمّ في كلمات قريبة من كلمات العالم اليهودي الرابيني. فالمسيح في هذه الخطبة يعبّر عن شخصه مقابل التوراة وعبر التوراة. ووظيفته وكرامته هما وظيفة وكرامة مفسّر الشريعة. وسموّه الذي لا شكّ فيه والذي يشكّك، يقوم في أنه منذ الآن الطريق الضروريّ الذي يقود إلى الشريعة الحقيقيّة.
إذن، يجعل النصّ القارئ في انشداد مدهش. لم يعد اسرائيل التاريخي هو الشريك. ولكن التوراة ظلّت في قلب الايمان. في هذا المعنى بدا مت 5-7 النموذج المميّز لمحاولة تعامل بين الكتاب المقدس كما يفهمه اليهود وكما يفهمه المسيح. وهو في بداية المسيحية يطلب من الايمان الجديد أن يتذكّر جذوره ويعيش منها. من هذا القبيل، هو عبارة عن لاهوت يربط العهدين. أو إذا شئنا، لاهوت يرتبط ارتباطًا كليًا بالعهد القديم. نحن أمام لاهوت بيبلي.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM