الفصل الثالث: التأليف الأدبي أو ترتيب الإنجيل

لفصل الثالث
التأليف الأدبي أو ترتيب الإنجيل

حين نقرأ مت بعد أن نقرأ مر، نحسّ أننا ننتقل من عالم الطبيعة لندخل إلى الكنيسة. علّمنا مر أن نجد الحيويّة في أخباره، فجاءت في بدايتها قريبة جداً من الواقع. أما مت فنقلنا إلى داخل الجماعة المسيحيّة وهناك بدأ يقدّم لنا تعليم يسوع لأبناء عصره، سنة 80 تقريباً، ولنا نحن العائشين في نهاية الألف الثاني.
نتوقّف هنا عند ترتيب الإنجيل فندرس المفاصل واللحمات. ثم أسلوب الكتابة، وأخيراً البنية الموضوعيّة.
1- المفاصل واللحمات
نحن في عملية الترتيب كما في عملية خياطة تربط العناصر بعضها ببعض، أو عملية تلحيم هذه العناصر لتصبح تأليفاً واحداً. ونذكر هنا اللحمات الكرونولوجية واللحمات الطوبوغرافية، والانتقالات التفسيريّة.
أ- اللحمات الكرونولوجيّة
هي التي تدلّ على التسلسل الزمني وعلى ارتباط الأحداث بعضها ببعض في إطار تاريخي محدّد. فهل من بُعد للحمات الكرونولوجيّة في إنجيل متّى؟ يبدو أن الجواب هو كلاّ. فإذا جعلنا جانباً خبر الحاش والآلام، نلاحظ فقط ثلاث عبارات تتكرّر في الإنجيل. الأولى: "ولما جاء المساء". نقرأ في 8: 16: "ولما كان المساء، قدّموا إليه كثيرين بهم شياطين". وفي 14: 15: "ولما جاء المساء، تقدّم إليه التلاميذ...". وكانت معجزة تكثير الأرغفة الأولى التي توجّهت إلى اليهود. وفي آ 23: "وعند المساء كان يسوع وحده". وقضى ليلته في الصلاة قبل أن يمشي على الماء ذاهباً إلى التلاميذ.
والعبارة الثانية: "بعد ستة أيام". نقرأها قبل حدث التجلّي. "وبعد ستة أيام، أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا". ما زال الشعب يعيّد عيد المظال. فلم يصل إلى اليوم السابع، إلى ملء العيد، ولا إلى اليوم الثامن كما قال لوقا، وكأننا أمام بداية جديدة. والعبارة الثالثة: "في الصباح". نقرأها في خبر التينة الملعونة. وفيما هو (يسوع) راجع إلى المدينة في الصباح، جاع. فرأى شجرة تين على الطريق.
وترد لفظة "حينئذٍ" 92 مرة في مت (ترد في مر 6 مرات وفي لو 15 مرة). وهناك عبارة: "في ذلك الوقت". أو: "في ذلك اليوم". فدخول السابق على مسرح الأحداث، قد ارتبط بإنجيل الطفولة مع عبارة: "في تلك الأيام". نقرأ في 3: 1: "في تلك الأيام ظهر يوحنا المعمدان يعظ في بريّة اليهوديّة". نحن هنا في الواقع أمام حدث جديد. وإن ارتبط بما سبق ارتباطاً كرونولوجياً، إلاّ أن هذا الارتباط ليس بالمتين.
ونقرأ عبارات أخرى لا تدلّ كثيراً على الزمن. مثلاً: "وإذ كان يكلّمهم" (9: 18). لسنا أمام رباط كرونولوجيّ، بل رباط إخباريّ. هكذا اجتمعت معجزة إلى أخرى لتكوّن مجموعة المعجزات العشر التي ستدلّ على أن يسوع قدير في العمل كما بدا قديراً في الكلام. كما نقرأ: "وما إن خرجا (الأعميان) حتى أحضروا إليه (إلى يسوع) أخرس".
وقد نجد عبارات تتوزّع المقاطع توزيعاً كرونولوجياً. فإن خدمة يوحنا المعمدان (3: 1) وتدخّل هيرودس (14: 1: في ذلك الزمان سمع هيرودس التتراخس بخبر يسوع)، يدلاّن على منعطفين في حياة يسوع. الأول: دلّ على بداية رسالته التي تتبع رسالة المعمدان. والثاني: دلّ على موت المعمدان الذي هو نذير بموت يسوع شهيداً من أجل كلمة الله. بالإضافة إلى ذلك نقرأ مرتين: "ومنذ ذلك الوقت". مرة أولى في 4: 17: "ومنذ ذلك الوقت طفق يسوع يعظ". ومرة ثانية في 16: 21: "ومنذ ذلك الوقت شرع يسوع يبيّن لتلاميذه أنه ينبغي له أن يمضي إلى أورشليم". في المرة الأولى نفهم أن يسوع يدشّن "الآن" بشكل احتفالي خدمة كرازته. كرازة بالقول (ف 5- 7). كرازة بالعمل (ف 8- 9). وفي المرة الثانية (16: 21) نفهم أن يسوع بدأ بشكل احتفالي يكشف سرّ ابن الإنسان المتألّم والممجّد. وهكذا يتوزّع الصعود إلى أورشليم ثلاثة انباءات بالآلام والقيامة (16: 21؛ 17: 22؛ 20: 17- 19)، فنكون أمام مرحلتين رئيسيتين في تعليم يسوع.
ب- اللحمات الطوبوغرافيّة
هي التي تدلّ على الأمكنة التي ذهب إليها يسوع. نتوقّف عند قيمتها في شكلها العمومي، وحين لا تتضارب مع معطيات سائر الأناجيل. الناصرة هي تلك القرية الصغيرة التي لا يذكرها العهد القديم، والتي تركها يسوع (بعد أن أقام فيها خلال صباه 20: 23) ليبدأ حياته العلنيّة (4: 13). والتي ما زال ينتمي إليها فقيل فيه خلال الدخول إلى أورشليم: "هذا هو النبي يسوع الذي من ناصرة الجليل" (21: 11).
وتُذكر كفرناحوم التي بدأ يسوع فيها بشارته بعد أن ترك الناصرة. هي مدينة من الجليل تقع على الشاطىء الشمالي الغربيّ لبحيرة طبريّة. كان فيها مركز للجمارك، ومركز من الجنود الرومان بإمرة قائد المئة (4: 13؛ 8: 15؛ 11: 23؛ 17: 24). يبدو أن يسوع أقام فيها خلال رسالته العلنيّة وبالتحديد في بيت بطرس. وهناك دفعَ ضريبة الدرهمين. هل كان ليسوع بيت في كفرناحوم؟ الأمر ممكن، وإن قال بأن ليس له موضع يسند إليه رأسه ليدلّ على أنه في رواح ومجيء دائم من أجل رسالته.
وذُكرت المدن الوثنيّة. صور وصيدا في فينيقية. فإلى مناطق هاتين المدينتين توغلّ يسوع، وهناك شفى ابنة المرأة الكنعانيّة. نشير هنا إلى أن لصور وصيدا معنى لاهوتياً: إنهما تدلاّن على العالم الوثني: لو كرز فيهما يسوع، لو عمل فيهما معجزات كما عمل في كورزين وبيت صيدا، لتابتا شأنهما شأن نينوى (11: 21). ومن المدن الوثنية "جراسة" أو أرض الجراسيين. هي مركز هلنستي يعود إلى أيام السلوقيين، وقد ضُمّت إلى المدن العشر بعد أن استولى بومبيوس الرومانيّ على البلاد. ونذكر أيضاً قيصريّة فيلبس (نميّزها عن قيصريّة البحريّة جنوبي الكرمل والتي سمّيت "برج سترابون") التي تقع قرب منابع الأردن (سمّيت "بانيون" نسبة إلى الإله "بان"، إله الرعاة والقطعان. ثم "نيرونياس" نسبة إلى الإمبراطور الرومانيّ نيرون). في هذه المنطقة جعل الإنجيليّ الأول اعتراف بطرس بيسوع: "أنت هو المسيح ابن الله الحيّ" (16: 13- 16).
ونقرأ في إنجيل متّى اسم "مغدان" التي هي منطقة مجهولة، وإليها ذهب يسوع بعد المعجزة الثانية لتكثير الأرغفة (15: 39). كما نقرأ اسم أريحا الواقعة في وادي الأردن والتي تبعد بعض الشيء عن البحر الميت. في أريحا شفى يسوع أعميين (20: 29- 30). أما مر 10: 46 فيتحدّث عن أعمى واحد واسمه برطيما، ابن طيما. ونذكر بشكل خاص أورشليم، عاصمة الشعب العبرانيّ، والموضع الذي فيه بُني الهيكل، موضع حضور الله. إليها صعد يسوع وفيها سيُصلب بعد أن بكى عليها: "يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الانبياء وراجمة المرسلين إليها" (23: 27).
ويتحدّث مت عن الجليل الذي يشكّل القسم الشمالي من فلسطين، فيقع بين لبنان وسهل يزرعيل. في الجليل نجد طبريّة، الناصرة، كفرناحوم... كان الجليل منطقة خصبة، ولهذا كثُر عدد سكّانه. إتخذ الجليل معنى روحياً في الأناجيل، فصار موضع الانفتاح على البشارة تجاه أورشليم المدينة التي انغلقت على تعليم يسوع بانتظار أن تقتله. كان الجليل مزيجاً من السكان اليهود والسكان الوثنيين. لهذا بدأ فيه يسوع بشارته ليصل إلى اليهود والوثنيين كما سيفعل الرسل وخصوصاً بولس بعده. في الجليل توجّه يسوع إلى شعب يهدّده ليل العالمي الوثني كما كانت تهدّده الحرب الأشورية خلال القرن الثامن ق. م. اعتاد "المصلحون" أن يهربوا من الجليل وفيه ما فيه من مزيج من السكان. هكذا فعل الفريسيون فاحتقروا أهل الجليل وما فكّروا يوماً أن يسوع يمكن أن يظهر من الجليل. وهكذا فعل الإسيانيّون، فانعزلوا عن الناس في بريّة يهوذا. أما يسوع فاختار جليل الأمم. وفيه أقام خلال طفولته وصباه (2: 22). من الجليل انطلق لكي يعتمد على يد يوحنا (3: 13)، وعند بحيرة الجليل اختار تلاميذه الأولين (4: 23- 25). وسيظلّ مدة طويلة يتنقّل في أرجاء الجليل قبل أن يصعد إلى أورشليم (20: 17- 18: "وفيما كان يسوع صاعداً إلى أورشليم... قال: ها نحن صاعدون إلى أورشليم").
ومن الأماكن المذكورة في مت "بيريه" أو عبر الأردن (4: 25). هي منطقة تمتد من بلا في شرقي الأردن، إلى مكاور (حيث توجد قُلعة سُجن فيها يوحنا المعمدان). وسورية التي فيها عاش متّى ولا شك، وفيها كتب إنجيله. ونحن نفهم "سورية" في المعنى الرومانيّ فتمتدّ إلى فلسطين وسهل البقاع دون أن تصل إلى حلب. وتذكر المدن العشر أو دكابوليس: بلا، جدارة، ديون، هيبوس، فيلدلفية أو عمّان الحالية، سيتوبوليس أو بيت شان، جراثة، كناثة، دمشق، ابيله. منها جاء سامعو يسوع كما جاؤوا من بيريه، من سورية ومن اليهوديّة.
تجمّعت هذه الأماكن المذكورة في مت، في ثلاث شُعب كبيرة. 8: 1- 9: 34: بيت لحم، الناصرة، برّية اليهوديّة، المدينة المقدّسة، بحر الجليل، كفرناحوم، أنحاء الجليل. والشعبة الثانية، 14: 1- 16: 20: العالم الوثني، برّ جنيسارت، صور وصيدا، قيصريّة فيلبس. والشعبة الثالثة (21: 1- 27: 66): أورشليم وما يحيط بها: اريحا، بيت فاجي، جبل الزيتون، الهيكل، ساحة الهيكل، بيت عنيا... هل نستطيع أن ننطلق من هذه المواضع لكي نبني مسيرة مفصّلة سار فيها يسوع؟ كلا. فهذه المواضع تبدو إشارات غامضة لم تكتب من أجل معلومات جغرافيّة بل من أجل معلومات لاهوتيّة. ونعطي مثلاً واحداً. نقرأ في 28: 16 ي: ذهب التلاميذ إلى الجليل... ولكن الجليل منطقة واسعة... إلى الجبل. أي جبل، والجليل كله منطقة جبليّة... حيث أمرهم يسوع، حيث تواعد معهم يسوع. ولكن أين كان موضع اللقاء؟ هذا ما لا يقوله النصّ. قد نكون هنا بشكل رمزيّ على "جبل التجارب" أو على "جبل التجليّ". هناك بدا المسيح إنساناً وإلهاً. وهكذا تكون الكنيسة التي أسّسها يسوع إلهية وإنسانية. وهي تنطلق من جليل الأمم، كما انطلق يسوع في رسالته من الجليل، فتُتابع العمل الذي بدأه معلّمها.
وهناك إشارات محدودة، قد تعكس ذكريات حقيقيّة ولكنها أمّحت مع الزمن كما أمّّت الأماكن التي حصل فيها هذا الحدث أو ذاك. غير أنها تساعد على تحديد موقع الخبر الذي يلي. "على شاطىء بحر الجليل"، "صعد ونزل من الجبل"، "في الطريق" "في البيت" أو خارج البيت، "في السفينة". كل هذا لا يستطيع أن يسند بناء طوبوغرافياً تتطلّبه كتابة سيرة انسان في المعنى الحديث.
لم يكن للمسيحيّين الأولين هذا الاهتمام. بل كان توجّههم توجّهاً آخر، وهو أن يحدّدوا في الزمان والمكان، وإن مع بعض الغموض، أصغر الأخبار بشكل واقعيّ. وهكذا نرى يسوع يجلس "على الجبل". نقرأ في 5: 1: "صعد إلى الجبل وجلس" كما يجلس معلّم أمام تلاميذه. وفي 15: 29: "وجلس هناك، فأقبل عليه جموع غفيرة". حينئذٍ كسر لهم الخبز وأطعمهم. وفي بداية الأمثال، نقرأ في 13: 1: "وجلس عند شاطىء البحر، فاحتشدت لديه جموع كثيرة". وفي آ 2: "صعد إلى سفينة وجلس وكان الجمع كله واقفاً على الشاطىء". هو يعلّم كما على منبر. وهو فوق البحر عالم الشر. هو كالملك الجالس وحوله عبيده. ونتحدّث أخيراً عن جلوس يسوع في خطبة "نهاية العالم". "وفيما هو جالس على جبل الزيتون" (24: 3). هكذا وقف الرب على الجبل قبل دمار أورشليم سنة 587 ق. م. على يد البابليين. وجلوس يسوع على جبل الزيتون ينذر بنهاية المدينة المقدّسة التي ستسقط في يد الرومان سنة 70 ب. م.
ويُقال عن يسوع أيضاً أنه يرى، ونظرته ليست نظرة غامضة وكأنها لا تعني شيئاً. نظرته تدلّ على حبّه واهتمامه وكأنه يريد أن يضمّ إليه كل الذين يقعون أمام ناظريه. قبل عظة الجبل، "رأى يسوع الجموع" (5: 1)، وكأني بهم يريد أن يكلّمهم واحداً واحداً. وهو ما زال يرانا ويوجّه إلينا عظته اليوم. وقبل الانطلاق إلى العالم الوثني، "رأى يسوع الجموع تكتنفه" (8: 18) وكأنها تريد أن تتمسّك به قبل أن يذهب إلى العالم الوثنيّ. هذه النظرة ترافق النازفة التي "سلبت" منه الشفاء (9: 22)، وتنظر إلى الباكين حول جثة ابنة يائيرس (آ 23)، وتتوجّه إلى الجموع متحنّنة مشفقة (آ 36). ويقول لنا مت إن يسوع "رأى شجرة تين على الطريق" (21: 19). تلك نظرة الدينونة والقضاء. "يبست التينة من ساعتها" (آ 20).
ونرى يسوع "خارجاً" و"ذاهباً من هناك". "وفي ذلك اليوم خرج يسوع من البيت" (13: 1). "ولما خرج من السفينة" (14: 14). "وخرج يسوع من هناك" (15: 21). "وخرج يسوع من الهيكل ومضى". هذا الخروج هو أكثر من انتقال من موضع إلى آخر. تلك هي عبارة أولى. والعبارة الثانية: "مضى من هناك فرأى أخوين آخرين" (4: 21). "وفيما هو منصرف من هناك، أبصر انساناً" (9: 9؛ رج آ 27؛ 11: 1؛ 12: 9، 15؛ 13: 52؛ 14: 13؛ 15: 21- 29، 19: 15). تتوخّى كل هذه الاشارات التي قد تبدو "تافهة" للقارىء الحديث، أن تجعل القارىء بحضور شخص ملموس رأوه بعيونهم وسمعوه بآذانهم ولمسوه بأيديهم. لا، لسنا أمام مجموعة من اللوحات، أو تكديساً من الأمثلة التي تصوّر تعليماً من التعاليم. نحن أمام حياة حقيقية، هي حياة يسوع الناصريّ.
ج- الانتقالات التفسيريّة
تبدو الانتقالات التفسيريّة عادة خاضعة لاهتمام تعليميّ. ولكنها تعكس أيضاً علاقة بين العلّة والنتيجة، وإن لم تكن هذه العلاقة واضحة دائماً. مثلاً، هناك رباط بين "اعتزالات" يسوع والتهديدات التي أرخت بثقلها عليه بمناسبة توقيف يوحنا أو هجمات الفريسيين. نقرأ في 4: 12: "وسمع يسوع باعتقال يوحنا، فرجع (اعتزل، تراجع) إلى الجليل". "أوقف يوحنا" وُضع في السجن (رج لو 3: 20). هذا ما سوف يحدث ليسوع (17: 22: 26: 2؛ 27: 2، 18، 26). اللفظة اليونانيّة هي في المجهول "أسِلم". إذا كان البشر هم الفاعلون في هذه المأساة، فالله يقود كل شيء بحسب قصده. نقول في لغة اليوم: الله سمح بذلك.
وفي 14: 13 وبعد مقتل يوحنا المعمدان، نقرأ: "فلما سمع يسوع (بهذا الخبر، آ 6- 12)، مضى من هناك في سفينة إلى مكان منفرد". أجل، كما اعتزل حين وُضع المعمدان في السجن، هكذا سيعتزل حين يُقتل يوحنا. فمقتل المعمدان هو مقدّمة لموت يسوع، كما كان مولده مقدّمة لمولد يسوع، بل حياته كلها، وهو السابق، مقدّمة لحياة يسوع. أجل لم يأتِ الوقت بعد لكي يواجه يسوع الآلام والموت.
ونقرأ في 15: 21: "ومضى يسوع من هناك، فاعتزل في نواحي صور وصيدا". أجل كان الجدال قاسياً مع الفريسيين، وقد يريدون به شراً، وهم يعرفون كيف يجعلون الحاكم من جهتهم. لهذا ذهب يسوع إلى "مقاطعة" لا تقع تحت سلطة ملك الجليل. ذاك كان السبب الخارجيّ: الخوف من الملاحقة. وهناك السبب اللاهوتي: صور وصيدا هما بوّابة العالم الوثني. وإذ ذهب يسوع إليهما، بدا وكأنه يفتح الدرب أمام الرسل ليحملوا الانجيل خارج العالم اليهودي ويصلوا به إلى أقاصي الأرض.
وسيكون جدال آخر أشدّ قساوة، لا مع الفريسيين وحسب، بل مع الصادوقيين أيضاً. سمّاهم "الجيل الشرير الفاسق" الذي لا يعرف أن يقرأ علامة الأزمنة، ورفض أن يعطيهم آية تدلى على شخصه. إنهم يشبهون الشيطان الذي يطلب آية من يسوع تدلّ على أنه ابن الله. ويشبهون هيرودس الذي كان "يرجو أن يشهد آية تتمّ على يده" (لو 23: 8). وسيطلبون منه آية هامّة: أن ينزل عن الصليب لكي يؤمنوا به (27: 42- 43). جيل شرير فاسق! لا شكّ في أنهم غضبوا عليه بعد هذا الكلام القاسي الذي ينعتهم بالكفر واللاإيمان. أحسّ يسوع بالخطر "فتركهم ومضى" (16: 4). لا يقول النص إلى أين مضى. ولكن سوف نراه في قيصريّة فيلبس، على حدود العالم الوثني. أجل، لم تأتِ ساعته بعد، وقد يحاول الفريسيون وأتباعه أن يرموه من على "حافة الجبل الذي كانت مدينتهم مبنيّة عليه" (لو 4: 29). أو يسعون إلى رجمه على ما قال يو 8: 59: "فأخذوا حجارة ليرجموه، فاختفى عنهم وخرج من الهيكل" (رج 10: 31- 33؛ 11: 8). قد يكون يسوع هرب لأن ساعته ما جاءت بعد. وفي هذا الهرب إلى قيصريّة فيلبس، كانت عزلة مع تلاميذه وصلت به إلى كشف شخصه بفم بطرس: أنت المسيح ابن الله الحيّ (16: 16).
وهناك انتقالات أخرى قد تدلّ على معانٍ عديدة. فقرائن النصّ ومقابلته مع نصوص مر ولو، تساعدنا على تقدير هذه الانتقالات. مثلاً، قرأنا في 5: 1 أن يسوع "رأى الجموع". هو في الواقع يريد أن يبتعد عن هذه الجموع ليعتزل بتلاميذه ويقدّم لهم تعليمه. غير أن هذه الجموع سمعت تعليمه، على ما يبدو. فنحن نعرف من 7: 28 أنها "بُهتت من تعليمه". وفي 8: 18، تبدو عبارة "ولما رأى يسوع الجموع" كمقدّمة لطلب يسوع مكاناً منعزلاً يكون فيه وحده أو مع تلاميذه فقط. أما في 9: 36، فعبارة "رأى الجموع" تدلّ على أنه يريد أن يذهب إلى الناس "لأنهم كانوا منهوكين، منطرحين، مثل غنم لا راعي لها"


2- أسلوب الكتابة
نتحدّث هنا عن الوسائل التي نستعملها للحصول على نتيجة ما. والنتيجة هنا هي من النوع الأدبي. وهي تدلّ على نهج أخذ به مت، وأسلوب نعرفه في عالمنا الشرقيّ مثل الكلمات الشابكة، والرموز العدديّة، والتضمينات الأدبية، والتوازيات، وتكرار العبارة الواحدة.
أ- الكلمات الشابكة
هي كلمات تربط مقطعاً بآخر وعبارة بأخرى. إنها تساعد الذاكرة على حفظ سلسلة من الأقوال لا يجمع بينها المضمون الواحد ولا المحتوى الواحد. مثلاً في 18: 4 نفهم أنه يجب أن نتّضع مثل "هذا الطفل". وفي 18: 5 أنه يجب أن نتقبّل "طفلاً مثل هذا". وفي 18: 6 أن نتجنّب أن نشكّك "واحداً من هؤلاء الصغار". "فمن وضع نفسه مثل هذا الطفل، فذاك هو الأعظم في ملكوت السماوات. ومن قبل ولداً كهذا، علماً أنه لي، فإياي يقبل. وأما الذي يعثّر أحد هؤلاء الصغار، فحريّ به أن يعلّق بعنقه رحى الحمار ويُزجّ في أعماق البحر" (18: 4- 6). ونستطيع أن نزيد آ 3: "إن لم ترجعوا فتصيروا كالأطفال، فلن تدخلوا ملكوت السماوات". بعد أن حرّض يسوع تلاميذه على أن يجعلوا نفوسهم صغاراً مثل الأطفال، مثل الأولاد الصغار الذين يرتبطون بأهلهم وينتظرون منهم كل شيء، ها هو يطلب منهم أن يتقبّلوا هؤلاء الأطفال كما يتقبلونه هو. هنا نلتقي بما في مت 25: 40: "كل ما فعلتموه مع أحد إخوتي هؤلاء الصغار، فمعي فعلتموه".
وهكذا وحّدت كلمة "طفل، ولد صغير" أقوالاً كانت في الأصل مبعثرة. أما الكلمة الشابكة فقد تكون هي هي في اليونانيّة كما في 18: 3، 4، 5 (بايديون). وقد تتبدّل في آ 6: "مكروس". حينئذ قد تكون الخلفيّة الأراميّة لفظة واحدة. وقد يكون هناك تقارب لا على مستوى المبنى والألفاظ، بل على مستوى المعنى. في 5: 14 نفهم أن على التلاميذ أن يكونوا نور العالم. ولفظة نور تجرّ وراءها لفظة قريبة: "السراج". هذا مع العلم أن الفكرة انتقلت من مكانها وراحت في اتجاه آخر. في 5: 14 كان موضوعُ الكلام الكرازة (لا يوقد سراج ويوضع تحت المكيال، بل على المنارة ليضيء لجميع من في البيت) فصار يدلّ في 5: 15 على السلوك الخلقيّ: "هكذا فليضىء نوركم أمام الناس ليروا أعمالكم الصالحة...".
ب- الرموز العدديّة
تتوافر الأرقام في مت من أجل عمل الذاكرة، كما من أجل بُعدها الرمزيّ.
أحصى مت ثلاث سلاسل من 14 أب ليسوع (1: 17). وهكذا نكون أمام 2 × 7. وأحصى 7 طلبات في الصلاة الربيّة، وكأنه يقول لنا إنها ملء الصلاة ومنها تستقي كل صلواتنا. وهناك 7 أمثال. ولا ننسى أن العدد 7 هو عدد الكمال. و7 ويلات تصيب الفريسيين (الويل لكم، ف 23). فماذا يبقى لهم أن يصنعوا إلاّ أن يتوبوا. ويذكر 12: 45= لو 11: 26 سبعة شياطين. وإن 15: 34، 36، 37؛ 16: 10= مر 8: 5، 6، 8، 20 يذكر سبعة أرغفة وسبع سلال. ويحدّثنا يسوع عن غفران لا يصل بنا إلى 7 مرات فقط، بل إلى 70 (7 × 10) مرة 7 مرات (18: 22).
إن وجود أرقام مماثلة في مر ولو، يجعلنا ندرك أن التقليد المشترك (وليس مت وحده) احتفظ بهذه الأرقام التي قد تكون وصلت إليه من الكنيسة الأولى، أو ربّما من المسيح نفسه. مثلاً، المرأة التي اتخذت سبعة أزواج (22: 25- 28 وز).
وهناك الرقم 3 الذي يبدو مميّزاً عند مت. فالتجارب ثلاث. وأعمال التقوى ثلاثة: الصدقة، الصلاة، الصوم. والأعشاب التي تعشّر ثلاث: النعنع، الشبث، الكمّون. ويتحدّث النصّ عن العدل والرحمة والأمانة (23: 23). وصلوات يسوع في جتسيماني ثلاث. "تقدّم قليلاً وسقط على وجهه، وصلّى قائلاً (26: 44). صلاة تذكر ثلاث مرات، وهذا ما يدلّ على أنها كانت حارة وشديدة.
وأخيراً، اهتم متّى بشكل خاص بالرقم 2، وهو عالم بأهمية وجود الشاهدين كي تصحّ شهادة من الشهادات (تث 19: 15). تحدّث مر عن مجنون واحد في بلاد الجراسيين، لا يستطيع أحد أن يقربه. أمّا مت فذكر مجنونين غير عابىء بالمنطق البشريّ. فعليهما أن يشهدا لقدرة يسوع في العالم الوثنيّ. وذكر مت أيضاً أعميين، (لا أعمى واحد) شفاهما يسوع وقالت لهما: "ليكن لكما كإيمانكما". وتوقّف في 8: 18 ي، حول دعوتين: تقدّم إليه كاتب... قال له واحد من تلاميذه. وخلال محاكمة يسوع نجد شاهدين كاذبين. نقرأ في 26: 60: "أخيراً تقدّم شاهدا زور وقالا...". ولا ننسى في النهاية صيغة الجمع ليدلّ بها على فئة من الفئات. مثلاً في 4: 3: "هذه الحجارة" (قل لهذه الحجارة أن تصير أرغفة). وفي 7: 11: "أشياء صالحة، عطايا صالحة" (دوماتا): "تعرفون أن تعطوا العطايا الصالحة لأولادكم".
ج- التضمينات الأدبيّة
في التضمين يستعيد الكاتب في نهاية خبر أو مقولة، لفظة أو كلمة خاصّة تذكرنا بالبداية، وبالتالي "تتضمّن" (أو تحتوي. من هنا أيضاً يُقال: احتواء) الخبر كله في وحدة متينة. مثلاً، نجد في 6: 19 لفظة "كنز" (تيساوروس)، كما نجدها في 6: 21. وهكذا نكون أمام تضمين واحتواء: "لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض حيث الصدأ... فإنه حيث يكون كنزك، هناك يكون قبلك". ونقول الشيء عينه عن عبارة "من ثمارهم تعرفونهم". هي ترد في 7: 16 و7: 20. "من ثمارهم تعرفونهم. أيُجنى من الشوك عنب... فمن ثمارهم إذن تعرفونهم". وهكذا دخل في هذا التضمين توسّعٌ حول الشجرة الصالحة والشجرة الرديئة.
وقد يستعمل مت التضمين بشكل إطار يحيط بالحدث (هو أسلوب لا يحبّه لو، ويتحاشاه مر. هذا ما يدلّ على الإطار الشرقيّ للإنجيل الأول). في 16: 6 قال يسوع: "إحذروا خمير الفريسيين والصادوقيين". وفي 16: 12 أنهى كلامه: "حينئذ فهموا أنه يحذّرهم لا من خمير الخبز، بل من تعليم الفريسيين والصادوقيين". إذا عدنا إلى ما يقابل هذا النصّ في مر 8: 15- 21، نجد الحذر في البداية. أما في آ 21 فنقرأ: "فقال لهم: أفلا تفهمون بعد"!
وجعل مت 18: 1- 4 موضوع "الصغير في ملكوت السماوات" داخل إطار يحتويه. نقرأ في آ 1: "في تلك الساعة تقدّم التلاميذ إلى يسوع قائلين: فمن هو الأعظم في ملكوت السماوات"؟ وفي 41: "من وضع نفسه مثل هذا الولد فهو العظيم في ملكوت السماوات" (مايزون: الأعظم). في مر 9: 33- 37 الذي يوازي نص مت، نجد الأعظم في البداية. وفي النهاية (آ 36): "فأخذ ولداً وأقامه في وسطهم وقال لهم: من قبل واحداً من مثل هؤلاء" (آ 37). وكذا نقول عن لو 9: 46- 48 الذي وازى مر موازاة شبه تامّة.
ونجد الشيء عينه في 12: 39 (جيل شرير)، 45 (أمر هذا الجيل الشرير). وفي 15: 2 (لا يغسلون أيديهم)، 20 (وأما الأكل بأيدٍ غير مغسولة)؛ وفي 18: 10 (أبي الذي في السماوات)، 14 (أبوكم الذي في السماوات). رج 19: 13، 15، و19: 30 و20: 16. رج أيضاً 9: 14، 15 وز؛ 12: 2، 8 وز؛ 19: 23 وز؛ 21: 23، 27. في هذه النصوص الأخيرة يلتقي مت مع مر في أسلوب التضمين والاحتواء.
د- التوازيات المترادفة أو المتعارضة
نجد مثل هذه التوازيات في 7: 24- 27: "فكل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها، يشبّه برجل حكيم... وكل من يسمع أقوالي هذه ولا يعمل بها، يشبَّه برجل جاهل". أما لو 6: 47- 49 (الموازي لما في مت) فقد ألغى هذا التوازي الذي تمجّه أُذن يونانيّة، وحاول أن ينوّع أسلوبه. "كل من يأتي إليّ ويسمع أقوالي ويعمل بها، أريكم من يشبه. يشبه إنساناً بنى بيته... وأما الذي يسمع ولا يعمل...".
وقد يُبنى التوازي بشكل معاكس: أ ب ب أ. "من أراد أن يخلّص نفسه" (أ) يهلكها (ب). ومن يهلك نفسه من أجلي (ب ب) يجدها (أ أ) (16: 25 وز). وقد نجد ترتيباً أكثر تشعبّاً كما في 13: 53- 58. فالآية الأولى والآية الأخيرة تحيطان بالخبر كما بإطار. وجاءت العناصر في الداخل كما يلي: أ ب ج/ د/ ج ج ب ب أ أ: "ولما جاء إلى وطنه (أ). قالوا: من أين لهذا" (ب)؟ أليس هذا ابن النجار (ج)؟ أليست أمه تدعى مريم (د)؟ أليست أخواته جميعهنّ عندنا (ج ج)؟ فمن أين له هذا كله (ب ب)؟ قال: ليس نبيّ بلا كرامة إلا في وطنه".
* تكرار العبارة الواحدة
نجد في الانجيل الثاني ثلاث حالات فقط، تتكرّر فيها العبارة نفسها. في مر 4: 2: "وجعل يعلّمهم أشياء كثيرة بأمثال وقال لهم في تعليمه". هذا ما نجده أيضاً في 12: 38: "ثمّ قال أيضاً في تعليمه". في 6: 20 نقرأ ما نجده في 12: 37: "وكان يُصغي إليه بارتياح". والمثل الثالث: 9: 6 و14: 40: "ولم يكن يدري ما يقول لما استحوذ عليهم من الرعب". "فلم يدروا بماذا يجيبونه". ونجد الظاهرة عينها بشكل أكيد في موضعين من إنجيل لوقا. الأول في 2: 14 (المجد لله في العلى) و19: 38 (السلام في السماء والمجد في العلى). الثاني في 16: 8 (أبناء هذا الدهر) و20: 34. غزير أننا نجد تكرارات العبارة الواحدة حوالي 15 مرة في مت ولا نجدها في النصوص الموازية من مر ولو.
"إذا أبرص تقدّم وسجد له" (8: 2)، "إذا بأحد الرؤساء يدنو إليه ويسجد له" (9: 18، يائيرس). نقرأ مرتين عبارة "فعلم يسوع أفكارهم". مرة أولى في شفاء مخلّع كفرناحوم (9: 4). ومرة ثانية حين اتّهم الفريسيون يسوع ببعل زبول (12: 25). رج أيضاً 4: 12- 14: 13 (ولما سمع يسوع)؛ 4: 17= 16: 21 (منذئذ شرع يسوع)؛ 7: 28= 22: 33 (بُهت الجمع من تعليمه)؛ 14: 21= 15: 38 (وكان الآكلون أربعة آلاف أو خمسة ألاف ما خلا النساء والأطفال).
وتعود العبارة ذاتها في فم يسوع مرّات عديدة. مثلاً، الظلمة البرانيّة. رج 8: 12: "أبناء الملكوت (أي اليهود) يلقون في الظلمة البرانية". أيّ يكونون خارج الملكوت لا داخله. يكونون في الظلمة لا في النور؛ 22: 13: "إطرحوه في الظلمة البرانيّة". ذاك ما قيل عن الذي لم يكن عليه لباس العرس؛ 25: 30: "أما العبد البطّال (الذي لم يتاجر بالوزنة)، فألقوه في الظلمة البرانيّة".
وعبارة أخرى هي: "هناك يكون البكاء وصريف الأسنان". هي عبارة بيبلية تدلّ على الغيظ والغضب أمام سعادة الأبرار. هكذا سيبكي أبناء الملكوت ويصرفون بأسنانهم غضباً حين يرون الوثنيين يأتون من المشرق والمغرب ويتَّكئون مع ابراهيم واسحق ويعقوب (8: 11- 12). وهذا ما يكون عليه خطّ فاعلي الاثم الذين هم كالزؤان في هذا العالم (13: 42). وحين يفصل الأبرار عن الأشرار، يُلقى هؤلاء في أتون النار حيث البكاء وصريف الأسنان (13: 50؛ رج 22: 13؛ 24: 51: بالنسبة إلى العبد الشرير؛ 25: 30).
نجد بعض العبارات في مقاطع مشتركة بين الازائيين الثلاثة، أو بين مت ولو. مثلاً، عبارة "الناموس والأنبياء" في 5: 17؛ 7: 12؛ 22: 40: رج 7: 21؛ 11: 13. مثلاً العمل بإرادة الآب في 7: 21؛ 12: 50؛ رج 5: 17= 10: 34؛ 10: 6= 15: 24؛ 10: 17= 23: 34...
وقد نقرأ العبارة عينها في أفواه مختلفة. مثلاً، يوحنا المعمدان ويسوع قد أعلنا أن "ملكوت السماوات قريب" (3: 2؛ 4: 17). وكلاهما سمّى اليهود الرافضين لنداء التوبة: "يا نسل الأفاعي" (3: 7؛ 12: 34= 23: 33). ويرتبط بهذا التصرف الأدبي وجود مقطعين يتكرّران. نقرأ في 5: 29- 30: "إذا عثرتك عينك اليمنى فاقلعها...". إنها آية نقرأها أيضاً في 18: 8- 9. ونقرأ في 10: 38- 39 ما نجده في 16: 24- 25 (من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه)؛ وكذلك نقول عن 17: 20 و21: 21 (لو كان لكم إيمان مثل حبّة الخردل).
ونستطيع أن نزيد على كل هذا، الايقاعَ في الجمل والتناغم بين عبارة وأخرى. وهذا واضح بشكل خاص في التطويبات التي تبدو كقطعة شعريّة تتكرّر فيها لفظة "طوبى"، ويتوازن القسم الثاني من العبارة كجواب على سؤال يدعونا إلى أن نتخذ موقفاً ممّا يقوله يسوع. كما نستطيع أن نتتبع هذا التوازن في المقطع الذي فيه يتهم الفريسيون يسوع بأنه يعمل باسم بعل زبول (12: 22- 32). "فإن كان الشيطان... وإن كنت أنا... وأما إن كنت أنا.. من ليس معي فهو ضدي، ومن لا يجمع معي فهو يفرّق... من تكلّم على ابن البشر يغفر له. وأما من يتكلم على الروح القدس...".

3- البنية الموضوعيّة والفن الأدبي
أ- البنية الموضوعية
يميل مت مراراً إلى تجميع الأقوال حسب تشابه المواضيع التي يقدّمها. هو لم يكتفِ بأن يورد المقاطع إيراداً متراخياً، بل ألّف كتابه بطريقة أدبيّة تدلّ على دوره الهامّ ككاتب أعطى مؤلّفه ترتيباً أصيلاً. نتوقف هنا عند الخطب الكبرى، عند الأخبار، عند التجميع والتقميش.
أولاً: الخطب الكبرى
تتوزّع الخطب الكبرى في انجيل متى وتنتهي كلها مع عبارة واحدة. "فلما كمل يسوع هذه الأقوال، بُهتت الجموع من تعليمه" (7: 28). وبعد الخطبة الثانية: "ولما أكمل يسوع وصاياه لتلاميذه الاثني عشر انصرف من هناك". وبعد خطبة الأمثال: "ولما أكمل يسوع هذه الأمثال انتقل من هناك" (13: 53). وفي نهاية الخطبة الكنسيّة: "ولما أكمل يسوع هذا الكلام، انتقل من الجليل" (19: 1). وفي الخطبة الخامسة والأخيرة التي تدلّ على نهاية العالم وواجب السهر، نقرأ في ختامها: "ولما أكمل يسوع هذه الأقوال كلها" (16: 1). مع لفظة كلها نفهم أننا أمام خطب خمس على مثال أسفار الشريعة الخمسة. فيسوع هو موسى الجديد، ولهذا جاءت خطبه خمساً. بهذه العبارة (ولما أكمل) أبرز مت العمُد الخمسة التي يرتكز عليها تعليم المعلّم من عظة الجبل، إلى توصيات من أجل الرسالة، إلى سرّ الملكوت كما يبدو في الأمثال، إلى "دروس" حول حياة الجماعة، إلى الخطبة الاسكاتولوجيّة.
وداخل كل من هذه الخطب، يبدو ترتيب المواضيع واضحاً جداً. مثلاً، في الخطبة الأولى، نجد النقائض التي تميّز البرّ الجديد (سمعتم أنه قيل... أما أنا فأقوله لكم)، والتي تلتصق بها أقوال أخرى تشبه الموضوع المعالج. فالنقيضة حول القتل تنتهي في 5: 24 وربّما في آ 22 أ. والقول على المصالحة مع القريب الذي كان له، على ما يبدو، مدلول اسكاتولوجيّ (احتفظ به لو 12: 58- 59: قبل الدينونة. في مت: واجب المحبّة الأخويّة)، جاء يكمّل التعليم حول موقف المؤمن من القريب. والنقيضة حول الزنى هي كاملة في 5: 28 (كل من نظر إلى امرأة حتى يشتهيها فقد زنى بها في قلبه). ولكن لفظة "نظر" اجتذبت موضوع الشكوك (إن شككتك، عثّرتك عينك اليمنى) الذي أوصلنا إلى عمق التعليم الذي تقدّمه هذه النقيضة. وإن النقيضة التالية (5: 31- 32: ولقد قيل)، وإن اختلفت عن سائر النقائض، فقد زيدت هنا لاقتراب موضوعها من موضوع النقيضة حول الزنى.
ونقول الشيء عينه عن 10: 17- 42 (احذروا من الناس...) الذي قد زيد، على ما يبدو، على طبقة أولى تألّفت من 10: 5- 16 ورافقتها مقدّمة قصيرة (10: 1- 4). والاعتبارات ذاتها يمكن أن تساق في ما يتعلّق بالكلام عن بعل زبول الذي زيد عليه 12: 33- 37 وربّما 12: 38- 45. والفصل حول الأمثال يحمل خاتمتين. الأولى (13: 43): "من له أذنان فليسمع". والثانية في آ 53: "ولما فرغ يسوع من هذه الأمثال".
وأقوال يسوع حول الأعظم في ملكوت السماوات (18: 1- 4) سوف تتوسّع لكي تصبح "دروساً" حقيقيّة حول الحياة في الجماعة (18: 1- 35). والكلام القاسي ضدّ الفريسيين والكتبة يتضمن أقوالاً تعود إلى أصول مختلفة، وهذا واضح حين نقابل ف 23 مع ما يوازيه في سائر الأناجيل. ويُزاد على الخطبة الاسكاتولوجيّة بحصر المعنى (ف 24) أمثال حول السهر نقرأها في ف 25.
هذا التدوين الرائع يجعل من انجيل متّى الانجيل التعليمي في أسمى معاني الكلمة، ويبرّر أقله جزئياً أن تكون الأجيال الأولى قد فضّلته على سائر الأناجيل.
ثانياً: الأخبار
وتعكس الأخبار نهج التأليف عينه. ففي ينبوع 8: 1- 9: 34، كانت هناك نواة أولى (8: 1- 16: شفاءان وإجمالة حول الأشفية) زيدت عليها سلسلتان من المعجزات. الأولى، 8: 23- 9: 8: تسكين العاصفة، مجنونا الجدريين، مخلّع كفرناحوم. والثانية، 9: 18- 34: إحياء ابنة يائيرس، شفاء الأعميين، شفاء مجنون أخرس. وهكذا كان لنا في النهاية عشر معجزات.
والانباءات عن مصير ابن الانسان، هي ثلاثة. "ومنذئذ شرع يسوع يبتن لتلاميذه أنه ينبغي له أن يمضي إلى أورشليم" (16: 21). "وفيما كانوا يطوفون في الجبل، قال لهم يسوع: إن ابن الانسان سيُسلم إلى أيدي الناس" (17: 22- 23). "وفيما كان يسوع صاعداً إلى أورشليم، أخذ الاثني عشر على انفراد وقال لهم في الطريق: ها نحن صاعدون إلى أورشليم" (20: 17- 19).
والملاحظ أن هذه الانباءات الثلاثة يتبعها في كل مرة حدث ثم تعليم للتلاميذ. بعد الانباء الأول، نجد تدخّل بطرس لكي يمنع يسوع من الذهاب إلى الآلام والموت (16: 22- 23). وبعد هذا، تعليم يسوع لتلاميذه: "من أراد أن يتبعني" (آ 24- 28). وبعد الانباء الثاني، يدفع يسوع الضريبة (17: 24- 27) ثم يعلّم تلاميذه عن الأعظم في ملكوت السماوات (18: 1- 4). وبعد الانباء الثالث، نسمع طلب أم ابنَي زبدى (20: 20- 23)، ثم تعليماً عن السيادة التي هي خدمة. "من أراد أن يكون الأول، يكون لكم خادماً" (آ 27).
ويلفت نظرنا ما نقرأ بعد الانباء الثاني. تتضمّن المتتالية توسيعين لا توسيعاً واحداً: الخطبة الكنسيّة (18: 5- 35)، ثم عظة أخرى شبيهة بعظة الجبل، موجّهة إلى التلاميذ ومركّبة من أخبار مختلفة (19: 1- 20: 16): الزواج المسيحي والبتوليّة، يسوع والأطفال، الشاب الغنيّ ومكافأة التجرّد، مثل العملة المرسلين إلى الكرم.
ثالثاً: تقميش وتجميع
لم يكتفِ مت بأن يضع الأقوال والأخبار بعضها قرب البعض الآخر. بل ربطها ربطاً محكماً. ففي خبر شفاء عبد الضابط الرومانيّ (8: 5- 13)، أدرج قولاً حول الوليمة في ملكوت السماوات، وهو قول لم يورده لو في 7: 1- 10 (النص الموازي لمتى)، بل في مكان آخر، في 13: 28- 29. يبدو هذا القول بالنظر إلى ترتيب الانجيل، أنه قد جاء قبل أوانه بسبب تقارب في الموضوع. بفضل هذا القول صار الحدث خبراً نموذجياً يتحدّث عن الوثنيين الذين جاؤوا إلى يسوع.
لا يجب أن نستنتج أن إدراج هذا القول هو من عمل مت. فقد يكون وُجد في مجموعة سابقة تبدأ في 8: 1 (ولما انحدر إلى الجبل، تبعته جموع كثيرة) وتنتهي في 8: 17 (ليتم ما قيل بأشعيا النبي: لقد أخذ عاهاتنا). ونستطيع أن نقول الشيء عينه عن 12: 1- 8 و12: 9- 14. فبعد الاعتراف العلنيّ بابن الانسان، يأتي الكلام على الروح القدس الذي نجدّف عليه حين نرفض أن نعترف بابن الانسان، فننسب ما عمله من أجل الناس إلى بعل زبول، روح الشّر، لا إلى روح الله.
ب- الفنّ الأدبيّ في الأخبار
تتميّز الأخبار في مت بثلاث سمات: هي قصيرة موجزة. أسلوبها أسلوب المهابة حتى النشاف. وفيها بحث عن الوضوح والصفاء.
أولاً: أخبار قصيرة وموجزة
يرى معظم الشرّاح أن الخطب في مت تمثّل في معظمها قطعاً ألّفها متّى منطلقاً من أساس أولاني. أما الأخبار فقد فسّرت تفاسير عديدة. بعضهم اعتبرها ملخصاً لأخبار طويلة أوردها مر. وبعضهم رأى فيها تأليفاً متاوياً جرّدها الانجيليّ من كل "تلوين" ليجعلنا في مهابة ليتورجيّة تمنعنا من التشتّت والتبعثر. ومهما يكن من أمر، فهي قصيرة موجزة.
قد نستطيع أن نعدّ الكلمات في الخبر الواحد كما يرد عند مت ومر ولو. مثلاً، خبر شفاء المقعد يرد في 126 كلمة في مت، 196 في مر، 212 في لو. وخبر مجنون جدرة يقع في 136 كلمة في مت، 325 في مر، 293 في لو. ونستطيع أن نلاحظ عند مت غياب أسماء العلم. تحدَّث لو ومر عن يائيرس. أماهما فقال: "إذا بأحد الرؤساء يدنو إليه" (9: 18). وغابت حواشٍ مثيرة تلفت الانتباه. قال مر 4: 38 عن يسوع: "كان في مؤخر السفينة نائماً على وسادة". وهذا ما لا نجده في مت. كما تحدّث عن النازفة التي "أنفقت كل ما لها على غير جدوى، بل صارت إلى أسوأ" (مر 5: 26). أما مت 9: 20 فقال فقط: "وإذا امرأة بها نزف دم منذ اثنتي عشرة سنة دنت من ورائه ولمست هدب ردائه". أشار مر في 6: 39 إلى العشب الأخضر (رج مز 23) في حادث تكثير الأرغفة. وهذا ما أغفله مت.
وحين قدّم مت المعجزات لم يحتج إلى وسيط. إذا عدنا إلى شفاء حماة بطرس، نقرأ في مر 1: 30: "وللوقت أخبروه عنها". وفي لو 4: 38: "فسألوه من أجلها". أما مت 8: 14- 15 فاكتفى بالقول: "لمس يدها فتركتها الحمّى". ونقول الشيء عينه عن خادم ضابط كفرناحوم. ماذا نقرأ في لو 11: 3- 4؟ "فلما سمع عن يسوع أرسل إليه شيوخ اليهود يسأله حتى يأتي ويشفي عبده. فلما جاؤوا إلى يسوع طلبوا إليه باجتهاد". أما في مت 8: 5 فنقرأ: "لما دخل يسوع إلى كفرناحوم، جاء إليه قائد مئة يطلب إليه ويقول".
أخيراً، لا يهتم مت بتقديم بعض الملاحظات التي تفسّر عملاً من الأعمال. نقرأ في مت 9: 2: "ولما رأى يسوع إيمانهم". من هم هؤلاء الأربعة؟ وماذا فعلوا لكي يظهر إيمانهم؟ أما مر 2: 1 ي، فقد أرانا كيف كشفوا السقف ودلّوا الفراش حيث كان المفلوج مضطجعاً.
ثانياً: أسلوب اهتيابي
هذا الاسلوب هو الذي نراه في الليتورجيا، حيث نجرّد أعمالنا من كل ما يشتّت النظر. نحن في حضرة الملك تأخذنا المهابة والرعدة فلا تبقى إلا عينانا وعيناه. فإذا أردنا أن نفهم أسلوب مت ولا نحسب أخباره متفرّعة من أخبار مرقس، نقرأها في ذاتها لنكتشف عمقها اللاهوتيّ. ولنأخذ مثلاً خبر شفاء حماة بطرس (8: 14- 15= مر 1: 29- 31= لو 4: 38- 39). جرّد مت الحدث من كل ما هو ثانويّ ويثير الفضول، فصار النصّ مهيباً كما في احتفال ليتورجيّ حيث الحركات كلها مدروسة وهادئة. نحن أمام بطرس، رئيس الكنيسة (وليس فقط أمام سمعان). ولا يُذكر رفيقاه اندراوس ويعقوب. كما لا يشير مت إلى طلب التلاميذ من أجل المريضة. يسوع هو وحده وجهاً لوجه مع تلك المنطرحة على الفراش والتي تبدو كالميتة. أخذ بيدها فاختفت الحمّى، فقامت (كما من الموت) وكانت تخدم يسوع وحده.
حين قرأت الكنيسة هذا الحدث، رأت فيه استباقاً رمزياً لقيامة المسيحي الذي يخدم المسيح. ومهما يكن من أصل هذه الطريقة الأدبيّة، يبدو أن هذا النوع من الأخبار يعود إلى "أسلوب شفهيّ"، لا إلى نشاط أدبيّ طويل. فكأني بمتّى اختفى وراء الخبر وما أراد أن يظهر، ليترك القارىء وحده وجهاً لوجه مع يسوع.
ثالثاً: وضوح وشفافيّة
وهناك وجهة أخرى نجدها في تأليف مت هو الوضوح في التأليف وترتيب الأحداث. وحين نقابله مع مر ولو، نفهم أصالته. هي جمل قصيرة لا تصدمنا، كما لا نجد فيها كثيراً من التركيبات الساميّة. هذا ما يدلّ على أن الانجيل الأوّل، وإن دوّن لعالم يهودي، إلا أنه دوّن في اليونانيّة فجاءت لغته مثلاً أفضل من لغة مر الذي دوّن لأهل رومة. إذا قرأنا مثلاً مر 11: 29 نجد أن حرف العطف (كاي) يتكرّر مرتين. أما مت 21: 24 فاستغنى عن أدوات العطف وقال: "إن قلتم لي أقول لكم".
حين قدّم مر السابق، بدأ بجملة معترضة: "كما هو مكتوب في أشعيا النبيّ" (1: 2). أما مت 3: 1 فبدأ خبره بشكل احتفالي: "وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برّية اليهوديّة". في نداء التلاميذ الأولين يُذكر زبدى بشكل طبيعيّ في بداية الخبر (مع زبدى أبيهما، 4: 21). أما في مر 1: 20، فنقرأ: فللوقت دعاهما فتركا أباهما".
ولكن هناك نصوصاً يبدو مر أكثر وضوحاً من مت. مثلاً، في جواب يسوع على الفريسيين المحتجّين على التلاميذ لأنهم أكلوا طعاماً دون أن يغسلوا أيديهم. قال مت 15: 5- 6: "وأما أنتم فتقولون: من قال لأبيه أو لأمه إن ما تنتفع به مني هو قربان... لم يعد بعد ملزماً بأن يكرم أباه وأمه". أما مر 7: 11- 12 فأوضح الكلمة "تقدمة مقدسة". وزاد: "لا تدَعونه يفعل شيئاً لأجل أبيه وأمه". ثم إن مر 6: 30 (واجتمع الرسل إلى يسوع وأطلعوه على جمع ما عملوا) يبزر وحده وجود التلاميذ مع يسوع خلال تكثير الأرغفة.

خاتمة
هذا هو الوجه الأدبي للانجيل الأول، انجيل متّى. توقّفنا عند المفاصل واللحمات، كما عند اسلوب الكتابة والبنية الموضوعيّة والفن الأدبي في الأخبار، فحاولنا أن نكتشف هذا الكتاب من ناحية المبنى وتركيب الصور وضبط التأليف. يبقى علينا بعد أن درسنا التصميم أن نتوقّف عند المعاني اللاهوتيّة في إنجيل وجّهه كاتبه قبل كل شيء من أجل تعليم أبناء الكنيسة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM