تقديم

تقديم

سفر الرؤيا كتاب صعب وقليلون هم الذين يعرفونه حقاً. من جهة، هو يصدّنا وينفرنا منه. ومن جهة ثانية، يجتذبنا ويسحرنا.
هو يصدّنا بالفوضى الظاهرة التي فيه. بصور غريبة عن نكبات وكوارث، برموز غير متماسكة من أجل عقليّتنا الحديثة التي تبحث عن البساطة والوضوح. بعضنا لا يهتمّ به. هناك كتب عديدة في الكتاب المقدّس. بعد أن ننتهي منها كلها نعود إليه. وبعضنا الآخر يعتبر أنّ سفر الرؤيا كتاب تجاوزه الزمن. كتب لزمن معيّن. زال هذا الزمن، فلماذا العودة إلى مثل هذا الكتاب المخيف؟ فالأناجيل تكفينا وتقول لنا بوضوح ما يجب أن نعمله، فلماذا البحث في الألغاز والرموز؟ وفوق ذلك، سفر الرؤيا كتاب متشائم سيصل بالعالم إلى الدمار التامّ. أما نتطلّع بالأحرى إلى التقدّم؟ فملكوت الله سيأتي في التاريخ بفضل الإنسان ومجهوده! ولكن أين موقع الله من كل هذا؟
سفر الرؤيا يصدّنا. ولكنه يسحرنا ويجتذبنا إليه لكي نقرأه ونحاول أن نفهم معانيه. فليس من كتاب في العالم عرف تفاسير بقدر ما عرف رؤ. والتفاسير مختلفة جداً بعضها عن بعض. من قارئ حرفّي للنصوص إلى شارح يودّ أن يقرأ المستقبل في كتاب يفتح آفاقنا على نهاية العالم. نحسّ بالحشرية والفضول أمام هذا الكتاب ولا سيّما في ساعات الأزمة. ففيه نفحة من الرجاء. حينئذ نتوغّل فيه ونغوص، ولكننا لا ندرك أعماق سرّه لأنّ المفاتيح للدخول إليه ناقصة. لهذا نبقى على عتبة الكتاب. ننظر إلى صوره من الخارج وكأنها تعبير عن عالم غريب وبعيد كلّ البعد عن الواقع. قد تعجبنا صوره فنتوقّف عندها، ولكن معناه يفلت منا.
أمّا أنا فأردت أن أقدّم تفسيراً لسفر الرؤيا. أولاً: الجميع ينتظرونه لأنهم يحسّون أنّ فيه الجواب الشافي لعالمنا. ثانياً: إنّ شرقنا يعيش مناخ سفر الرؤيا، فهو بالتالي يحتاج أن يفهم الكتاب لكي يعيش إيمانه في القرن العشرين، كما عاشه المسيحيون في القرن الأول المسيحي. هم عرفوا أن يروا يد الله في التاريخ، فساروا بحسب دعوتهم حتى التضحية بحياتهم متيقّنين أنهم ينتصرون بواسطة ذاك الذي قال: أنا غلبت العالم. ثالثاً: إنّ التفاسير الشعبية عديدة والأخطاء فادحة والتبسيطات مضحكة. أما نستطيع أن نقرأ رؤ كما نقرأ الأناجيل أو أي كتاب من العهد القديم والعهد الجديد؟ رابعاً: تستعدّ الرابطة الكتابية لمؤتمر يُعقد سنة 1997 ويكون موضوعه سفر الرؤيا. لهذا قدّمنا هذا التفسير علّه يساعد المؤمنين على الولوج إلى هذا السفر فتكون الفائدة لجميع الناس، لا لفئة معدودة من الناس.
قالوا إنّ سفر الرؤيا هو سفر الخوف بسبب ما يحمل من صور عن نكبات وكوارث تحدث في الكون وتعلن نهاية العالم. لا، ليس رؤ هو كتاب الخوف، بل هو كتاب الأمل والرجاء. هو يرى الصعوبات التي تعيشها الكنيسة في العالم. يعرف أنّ بعضاً يذهب إلى الموت، والبعض الآخر إلى المنفى. وأن هناك فئة تجحد إيمانها فتصبح من "سكان الأرض" وتبّاع الوحش. ومع ذلك، يثبت المؤمن في إيمانه ويعرف أن الحمل، يسوع المسيح، سوف ينتصر في النهاية. بل هو انتصر منذ موته وقيامته وسيقود كنيسته من انتصار إلى انتصار إلى أن يجرّد أعداءه من كل أسلحتهم ويرمي بالوحش والنبيّ الكذّاب والتنين في الهاوية.
هناك في العالم حروب. وسفر الرؤيا يقرأها على أنها عقاب من الله للذين يضطهدون كنيسته. هناك كوارث طبيعية أو غير طبيعية (مثل حريق رومة أو اجتياح الفراتيين لإمبراطورية). إنها تنبيه إلى سلطة رومة لكي تعرف أنها ليست "الله". لا، ليس الإمبراطور هو الرب، بل يسوع المسيح وحده هو الرب. هذا ما أعلنه المسيحيون في بداية الكنيسة، وهذا ما يعلنونه في كل التاريخ. أجل، هناك سلطة إلهية فوق سلطة البشر، والويل لمن يساوم فيترك سمة الحمل ويأخذ سمة الوحش على جبهته ويده اليمنى لكي يستطيع أن يشتري ويبيع ويجد عملاً ويرتاح في حياته اليومية. لا شكّ في أنّ الإمبراطورية قويّة جداً، ويدها تصل إلى كلّ إنسان فتدعوه لأن يسير كالقطيع في عبادته للوحش. ولكن المؤمن يعرف أنّ لا خيار له. مَن ليس مع المسيح فهو ضدّ المسيح. ومَن لا يبني مع المسيح يكون وكأنه يهدم ما يهدمه المسيح. حياتنا في خطر، ولكن لا بأس. لقد مات الشهيدان لأنهما رفضا أن يكونا في القافلة. ماتا ولكنهما قاما كما قام المسيح من بين الأموات. هذان الشاهدان هما صورة عن الكنيسة الحاضرة في عاصمة الإمبراطورية وفي كل مدنها والعارفة بالمصير الذي ينتظرها. ولكنها تعرف أنه لا موت ولا حياة يقدر أن يفصلها عن مسيحها. فلماذا الخوف؟
وقالوا إنّ سفر الرؤيا هو كتاب نهاية العالم. وأخذوا يقومون بالعمليات الحسابية التي تستند إلى المخيلة لا إلى معنى الكتاب. بل قرأوا الأعداد والرموز بطريقة حرفية فجعلوا المخلّصين 144.000 شخصاً لا أكثر ولا أقلّ. أمّا الباقون فيعودون إلى العدم أو يعيشون حياة تبدو حياة البهائم أفضل منها. وحاولوا أن يجعلوا تسلسلاً بين سباعية وسباعية. هناك سبع سباعيات هي الرسائل السبع، الختوم السبع، الأبواق السبعة، الآيات السبع، الكؤوس السبع، الأصوات السبعة، الرؤيوات السبع. إذن، هناك سبعة آلاف سنة. وبما أننا سنكون مع المسيح مدة ألف سنة، فالعالم ينتهي في نهاية الألف السادس. ولكن متى ينتهي الألف السادس؟ بما أنه مرّت أربعة آلاف سنة ق. م، يبقى بعدها ألفا سنة. واكتشفوا أنّ "الكتاب" (أي كتاب؟!) يقول: إن ألّفت (أي إن وصلت إلى الألف) فلا تؤلّفان (أي لا تصل إلى ألفين).
كلنا يعلم أنّ تاريخ البشرية يصل أقلّه إلى مليون سنة. أمّا تاريخ الكون فيصل إلى مليارات السنين. وإن كان المسيح هو في وسط التاريخ، فنستطيع القول إن القسم الثاني من التاريخ، أي منذ موت المسيح وقيامته، هو بعدُ في بدايته. والألف سنة التي يتحدّثون عنها ليست رقماً محدداً، بل رقماً رمزياً. فالعدد "ألف" يدلّ على كمية كبيرة جداً. وهذه الألف سنة التي يذكرها رؤ تدل على المدّة الممتدّة من مجيء المسيح الأول، من موته وقيامته، إلى مجيئه الثاني. هذا المجيء الثاني قد بدأ وسوف يكتمل في ساعة لا يعرفها ملائكة السماء ولا الإبن إلاّ الآب. منذ موت المسيح وقيامته، تمّ الظفر ليسوع على الشيطان وأعوانه. فلا ننتظر انتصاراً آخر. كل ما ننتظر هو أن يدخل كل واحد في مسيرة يسوع فيصير "غالباً" مثل يسوع الغالب ويأكل من شجرة ألحياة.
نهاية العالم كل العالم، أي كمال السماء الجديدة والأرض الجديدة، تبقى بعيدة. ولكن هذه النهاية بدأت منذ موت المسيح وقيامته. الآن بدأت دينونة هذا العالم. وأنا إذا ما ارتفعت جذبت إليّ الناس أجمعين. وبالنسبة إلى كلّ واحد منا، فهو يدخل في النهاية بواسطة المعمودية إلى موت وقيامة مع المسيح، بانتظار ساعة الموت التي فيها ندخل في الأرض الجديدة والسماء الجديدة. لا. نهاية العالم ليست باعثاً على الخوف، إنها عودة إلى بيت الآب على مثال يسوع الذي فرح حين "علم أنّ ساعته جاءت بأن ينتقل من هذا العالم إلى الآب".
وقالوا إنّ سفر الرؤيا هو صورة مسبقة عن تاريخ البشرية. وحاولوا أن يضعوا إسماً على التنين والوحش الأول والوحش الثاني. إنّ الكتاب المقدّس في كل أسفاره لم يكتب يوماً التاريخ من أجل التاريخ. بل هو نظرة إلى التاريخ على ضوء كلمة الله. إذا أخذنا مثلاً في العهد القديم كتاب الملوك، فهو يذكر بشكل عابر ما عمله الملوك على مستوى الحرب والسياسة والعمران، ويتوقّف مطولاً على بناء الهيكل مثلاً في أيام سليمان، على إصلاح ديني قام به الملك حزقيا أو الملك يوشيا. وإذا تأمّلنا في أعمال الرسل وجدنا أن التاريخ هو في خدمة اللاهوت. وأنّ لوقا ينطلق من الواقع الذي تعيشه كنيسة (وقد تكون أنطاكية) فيُسقط عليه ما وصل إليه من تقاليد عن الكنيسة الأولى سواء كانت في أورشليم أم في مدن الإمبراطورية الرومانية. فالنصّ نقرأه على مستويين: مستوى بداية حياة الكنيسة ومستوى الكنيسة حوالي سنة 85، أي يوم دوّن سفر الأعمال.
وكذا نقول عن سفر الرؤيا. إنه أولاً كتاب يتوجّه إلى المسيحيين العائشين حوالي سنة 95 وزمن تدوين رؤ. فالكاتب يتوجّه إلى معاصريه منطلقاً من الواقع الصعب. ويعود إلى الماضي، إلى أسفار العهد القديم، ليكتشف كلمة تشجيع وتعزية. هو لا يفكّر بالأجيال المقبلة، بل بمستقبل الكنيسة: هل سوف تنهار الكنيسة؟ ويأتيه جواب الإيمان: كلا ثم كلا. وما الذي يدفعه إلى هذا القول؟ أمانة الله. لقد حفظ كنيسته في الماضي ويحفظها اليوم ويحفظها إلى الأبد فلا تقوى عليها أبواب الجحيم. أمّا كيف يحفظ الله كنيسته بشكل عملي؟ هذا ما لا يعرفه سفر الرؤيا وما لا يقوله الله له. فبناء الكنيسة أمرٌ يشارك فيه البشر الله. نحن نستنبط الطرق التي بها تشهد الكنيسة ليسوع المسيح في العالم الذي تعيش فيه. هنا نتذكّر ما حدث بعد مجمع أورشليم الذي عُقد حوالي سنة 49. في النهاية أعلن المجتمعون: "لقد رأى الروح القدس ونحن". وهذا ما نقوله عن سفر الرؤيا وعن تاريخ الكنيسة: نحن سنعمل مع الله لكي نتابع عمل يسوع "الشاهد الأمين".
من أجل كلّ هذا، لن نبحث عن أسرار الله في رؤ. لن نبحث عن أسماء أشخاص في التاريخ لأننا ندلّ حينذاك على جهل فادح، بل على تجديف على اسم الله، لأننا ندين الناس ونحكم عليهم حين نجسّدهم في صورة التنين الذي هو الحية الجهنمية أو الشيطان. وحين نجسّدهم في الوحش الأول الذي يمثل السلطة السياسية بما فيها من بشاعة وظلم. وحين نجسّدهم في الوحش الثاني الذي يمثّل النبي الكذاب وكل ما في العالم من إيديولوجيات تستعبد الإنسان وتدوس حقوقه. سلطة الإمبراطورية تجسّدت في نيرون ثم في دوميسيانس اللذين اضطهدا كنيسة الله. ولكنها تتعدّى الأشخاص لكي تصل إلى نظام يسحق الناس وينتزع منهم حريتهم ويجعلهم كقطعان الغنم. وحين تعمل الإيديولوجيات والفلسفات الكاذبة على تأليه البشر على حساب الله، حيث تعمل في خدمة القوّة الغاشمة، فلتعرف أنّ آخرتها الدمار. ففي أكبر الويلات، كان هناك نداء إلى التوبة للأشخاص مهما تمادوا في الشّر. والله لا عدوّ له إلاّ الموت والشرّ والخطيئة من أي موضع أتت. يبقى على الإنسان باسم سفر الرؤيا وما فيه من نداء إلى الشهادة في سبيل الإنسان، أن يرفض كل ما يشوّه الإنسان ليجعله آلة في يد السلطان، أن يقاوم كل ما يتاجر بالقيم ويسخّرها من أجل مصلحة خاصة أو فئوية. أجل، سفر الرؤيا هو سفر الثورة. هكذا رفض الشعب العبراني الحياة في مصر رغم رفاهة العيش فيها. وهكذا رفض يسوع أن يتعامل مع عالم يجعل الشريعة فوق الإنسان، والقيام في خدمة الأقوياء الذين يحتقرون الشعب البسيط. وهكذا قرّرت الكنيسة الأولى أن تذهب إلى الموت لأنّ الله أولى بالطاعة من الإنسان.
لا، لا نجعل سفر الرؤيا في عالم الخيال. إنه كلام واقعيّ. ولا نجعله في ما وراء الزمن في نهاية العالم وحيث لا يكون لنا دورٌ نفعله، فتفعل عنا حتميّة التاريخ أو إله يعيش في السحاب ولا يرضى أن يقاومه أحد. سفر الرؤيا يأتي من الذي كان ويكون ويأتي، ولكنه يتجسّد في عالمنا. ويدعونا نحن العائشين في العالم أن لا نهرب من العالم. قال بولس لأهل تسالونيكي وهو يقول لنا في خطّ رؤيا يوحنا: "لا تتزعزعوا سريعاً في أفكاركم ولا ترتعبوا من نبوءة أو قول أو رسالة كأنها منّا تقول إنّ يوم الرب جاء. فلا يخدعكم أحد بشكل من الأشكال".
سفر الرؤيا هو كتاب النهاية التي بدأت في موت يسوع وقيامته. ونحن ندخل فيها لكي نجعل إنجيل يسوع يعمّ الكون كله. أجل، قد تأتي الحروب والمجاعات والزلازل فيقول لنا يسوع: "ليس هو المنتهى بعد". ولكن حين يبشرّ بإنجيل الملكوت في المسكونة كلها، شهادة للأمم، "عندئذ يأتي المنتهى".
كم نودّ أن تكون هذه الأفكار في قلوبنا خلال قراءتنا لسفر الرؤيا والتأمّل في نصوصه. ولكن قبل ذلك نقدّم في بعض الفصول دراسات عامة تعيننا على تفهّم الإطار الأدبي والفكري الذي فيه دوّن سفر الرؤيا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM