إلى أونجيلُس الكاهن[1]
أرسل أونجيلُس إلى هيرونيمُس بحثًا مغفلاً يماهي فيه ملكيصادق بالروح القدس، وسأله رأيه في تلك النظريَّة. وفي جوابه، يدحض هيرونيمُس الفكرة من أساسها ويصفها بالحمقاء، ويؤكِّد أنَّ ملكيصادق شخصيَّة حقيقيَّة يُحتمل أن تكون، بحسب قول اليهود، سام بكرَ نوح. الرسالة مؤرَّخة في العام 398.
أرسلتَ لي كتابًا لا يحمل عنوانًا ولا اسم مؤلِّف. ولا أعلمُ إن كنتَ أنت قد محوتهما، أو أنَّ المؤلِّف آثر أن يظلَّ مكتومًا، لئلاَّ يورِّط نفسه في جدالٍ يأتي بالسوء. قرأتُ الكتابَ ولاحظتُ أنَّ المؤلِّف يعالج فيه مسألة تتَّصل بملكيصادق الكاهن، ويوردُ فيه أسبابًا عديدة يبيِّن فيها أنَّ الذي بارك إبراهيم كان أكثر من رجل، وإنَّ له طبيعة الله نفسها. وتبلغ به الجرأةُ والقحة إلى الادِّعاء بأنَّه الروح القدس، حلَّ بشكل إنسان قدَّام ذلك البطريرك العظيم. أمّا الخبز والخمر اللذان قدَّمهما هذا الروح القدس المزعوم إلى إبراهيم، والعُشر الذي قدَّمها له إبراهيم عن كلِّ ما سباه من أعدائه (تك 14: 17-20)، فلا يذكر الكتاب عنها شيئًا.
تسألني رأيي في الكاتب وفي الكتاب وفي المسألة التي يعالجها. بكلِّ ثقة أعترفُ لك بأنِّي تمنَّيتُ لو أعفي نفسي من أن أبدي رأيي وأخوض في هذه المسألة الشائكة. فمهما كان موقفي، سأثيرُ عليَّ جحافل النقّاد والأعداء. ولكنِّي لم أقوَ عن التغاضي عن إلحاحك في ختام رسالتك، حيثُ تستحلفني وتحثُّني بشدَّة ألاَّ أزدريَ خاطئًا. ورحتُ أستطلعُ مؤلِّفات الأقدمين لأتبيَّن رأيهم في الأمر، فيكون جوابًا مختصرًا لشروحهم.
وجدتُ أنَّ أوريجنِّس يتكلَّمُ مطوَّلاً عن ملكيصادق في عظته الأولى في التكوين. ويخلُصُ إلى القول بأنَّ ذلك الكاهن العظيم كان ملاكًا، مبرهنًا ذلك، تقريبًا، بالحجج نفسها التي ساقها كاتبك ليبرهنَ أنَّه الروح القدس. ثمَّ رجعتُ إلى ديديمُس، من أنصار أوريجنِّس، فكان من رأي معلِّمه. واستطلعتُ، أخيرًا، هيبوليتُس، والقدِّيس إيريناوس، ويوسيبيوس القيصريّ، ويوسيبيوس الأميزيّ، وأبوليناريوس ويوستانُس، الذي كان، في الأساقفة، أوَّل من رفع راية مقاومة آريوس، فلاحظتُ أنَّهم، بعد أن قلَّبوا الموضوع وأشبعوه تحليلاً يتَّفقون جميعُهم على القول بأنَّ ملكيصادق، كان كنعانيًّا، وملكًا على أورشليم التي كانت تُدعى شليم، ثمَّ يبُّوس ثمَّ أورشليم.
يقولون إنَّه ينبغي أن نقف مندهشين من أنَّ الكتاب يصوِّر لنا ملكيصادق ككاهنٍ لله العليّ، ولو أنَّه لم يخرج من آل هارون، ولم يُختَن ولم يُمارِس طقوس الشريعة الأخرى. ما دُمنا نرى هابيل وأنوش ونوح يحظون برضى الربّ وقد قدَّموا له الذبائح، وما دمنا نقرأ في سفر أيّوب أنَّ ذلك الرجل البارَّ كان يقوم بالخدمة الكهنوتيَّة، فيقدِّم القرابين لله، كلَّ يوم، ذبائحَ ومحرقات، لكي يحفظ له بنيه. ويزعمون أيضًا أنَّ أيوبَ لم يكن من سلالة لاوي، بل من نسلِ عيسو، ولو أنَّ اليهودَ ليسوا من هذا الرأي.
ويُضيفون أنَّه لمّا كنّا نرى صورةَ المخلِّص في نوح الذي، بسبب نشوةِ الخمر الذي استحوذت عليه، استجرَّ هزء حام ثاني أبنائه، صورة اليهود، وفي شمشون الذي أُغرِم بداليدة، على فقرِها وتهتُّكِها، وصوَّر لنا آلام الربِّ يسوع الذي أهلَكَ من الأعداء في موتِه فوق ما أهلك منهم في حياتِه؛ وفي القدِّيسينَ والآباء والأنبياء الذين رسموا لنا، جميعُهم، في حياتِهم صورةً للمخلِّص؛ كذلك فإنَّنا نرى في ملكيصادق الكنعانيّ، لا اليهوديّ، صورة لكهنوت ابن الله، تكلَّم عليها النبيّ في المزمور المئة والعاشر (110: 4): "أنت كاهنٌ للأبد، على رتبةِ ملكيصادق".
وهم يُفسِّرون بطرقٍ عديدة ما هي تلك الرتبة، ويبنونَها على أنَّ ملكيصادق كان ملكًا وكاهنًا في آنٍ معًا؛ وأنَّه خدم الكهنوت قبل أن يكون ختانٌ، ما يعني أنَّ الكهنوت انتقل من الأمم إلى اليهود، لا من اليهود إلى الأمم؛ وأنَّه لم يمسح بدهن الكهنوت، بحسب شريعة موسى، بل بدهن الفرح وبدهنِ الإيمان النقيّ؛ وأنَّه لو يقدِّم ذبائح دمويَّة ولم يهرق دمَ الثيران، ولكنَّه، لكي يصوِّر مسبقًا سرَّ يسوع المسيح، اكتفى بتقديم الخبز والخمر قربانًا. كما أنَّهم يوردونَ حججًا أخرى لا تسمحُ رسالة موجزة بالتبسُّط فيها.
يقولونَ أيضًا إنَّ الرسالة إلى العبرانيِّين التي وصلت إلى اليونانيِّين وبعضِ اللاتينيِّين، تنصُّ على أنَّ ملكيصادق، ومعناه الملك البارّ، كانَ ملكَ شليم أي ملك السلام، من غيرِ أبٍ وأمٍّ وسلالة. وهذا لا يعني أنَّه لم يولد من أبٍ وأمّ، من حيثُ أنَّ يسوع كان له أبٌ وأمٌّ بطبيعتيه الإلهيَّة والإنسانيَّة، ولكنَّ الكتاب يصوِّره لنا قائمًا قدَّام إبراهيم بعدما هزم أعداءه، من دون أن يذكر عنه شيئًا، لا قبلَ ذلك ولا بعده. والحال، فإنَّ بولسَ الرسول يؤكِّد أنَّ كهنوتَ هارون، أي كهنوت الشعب اليهوديّ، كان له بداية ونهاية، على خلاف ما هو عليه كهنوت ملكيصادق، أي كهنوت المسيح والكنيسة الأبديّ الذي لا ابتداء له ولا انتهاء ولم يُنشئه أحد؛ ولأنَّ الكهنوت قد تحوَّل، فمن الضرورة الحتميَّة أن تتغيَّر الشريعة، وأن تخرج شريعة الله من صهيون، وكلمة الربِّ من أورشليم، ومن سارة المحرَّرة، لا من جبل سيناء، وهاجر الأمة. ويضيف الرسول: لعلَّ لنا كلامًا كثيرًا يصعب تفسيره. وهذا لا يعني أنَّه كان يصعب على الرسول تفسيرُ ذلك السرِّ، بل إنَّ الوقت لم يكن قد حانَ لتفسيره، لأنَّه كان يخاطب اليهود لا المؤمنين الذين كان يفسِّر لهم الأسفار من غير تحفُّظ. فإذا كان القدِّيس بولس ذلك الإناء المختار يقف مذهولاً أمام ذلكَ السرِّ العظيم، ويعترف بأنَّه يفوق فهمَه وتعبيرَه، فكم أحرى بنا نحن حشرات الأرض، أن نعترف بأنَّ أنوارَنا كلَّها ليست سوى ظلمات، ونكتفي بالتلميح إلى أمور بهذه العظمة وهذا السموّ، بقولنا إنَّ بولس الرسول يقارن فقط بين كهنوت الأمم وكهنوت اليهود، وأنَّ كلَّ هدفِه أن يبيِّن أنَّ ملكيصادق كان كاهنًا قبل ولادةِ لاوي وهارون، ولكنَّه كاهنٌ ذو فضلٍ كبير، بارك مسبقًا كهنة اليهود الذين سيولَدون من إبراهيم. وكلُّ ما يقوله الرسول لاحقًا في امتداح ملكيصادق، ينبغي إسقاطه على يسوع المسيح الذي أصبح رموزه، بقدر ما تطوَّرت، أسرارًا للكنيسة.
هذا ما قرأتُه من الكتّاب اليونانيِّين. وقد اكتفيتُ بأن أعطيك فكرةً بسيطة عنه، وبأن أضمِّن رسالةً محدودةً عددًا من التفاسير المختلفة، مثلما جرت العادةُ بتضمين خريطةٍ جغرافيَّة صغيرة إشارة إلى بلدان بالغة الاتِّساع. ولكن، بما أنَّك استشرتَني حول هذه المسألة بثقةِ الصديق، فإنِّي، كصدييق أيضًا، أريد أن أقولَ لك كلَّ ما أعرف، وأن أشرحَ رأي اليهود أيضًا. وسأنقلُ إليك النصَّ الأصليَّ، فلا يفوتَك شيءٌ. إليك إذًا ما يقوله النصُّ العبريُّ: "وككاهنِ لله العليِّ الذي خلقَ السماء والأرض، وليتبارَك الله العليّ الذي جعلَ أعداءَك بين يديك. وأدَّى له إبراهيم العُشرَ من كلِّ ما استولى عليه."
يزعم العبرانيُّون أنَّ ملكيصادق كان سام بكر نوح، وكان عمره عند ولادةِ إبراهيم ثلاثمئة وتسعون سنة، وهذا احتسابُها. بعد سنتين من الطوفان كان سام ابن مئة سنة، فولدَ أرفكشاد، وبعدها عاشَ خمسمئة سنة، فتكون سنوُّ حياته ستِّمئة سنة. وأرفكشاد ولدَ شالح وهو في الخامسة والثلاثين، وشالح ولد عابر وهو في الثلاثين، وعابر ولد فالج وهو في الرابعة والثلاثين، وفالج ولد رعو وهو في الثلاثين، ورعو ولد سروج وهو في الثانية والثلاثين، وسروج ولد ناحور وهو في الثلاثين، وناحور ولد تارح وهو في التاسعة والعشرين، وفي سنته السبعين ولد تارح إبراهيم وناحور وهاران (تك 11: 10-26). فإذا احتسبنا سنوات جميع هؤلاء الآباء نصل إلى ثلاثمئة وتسعين سنة من ولادة سام إلى ولادة إبراهيم. وبما أنَّ إبراهيم توفِّي في سنته المئة والخامسة والسبعين، يسهلُ علينا أن نستخلِص أنَّ سام قد عاش خمسًا وثلاثين سنة بعدَ إبراهيم حفيدِه من الدرجة العاشرة.
ويؤكِّد العبرانيّون أنَّه قبل إنشاء كهنوتِ هارون، فإنَّ أبكار نسلِ نوح جميعًا، الذين يذكرونهم في السلسلة، قدَّموا لله ذبائح بوصفِهم كهنة، وعلى تلك الميزة ثُبِّتَ حقُّ البكوريَّة الذي باعه عيسو إلى أخيه يعقوب. ويُضيفون أنَّه يجبُ ألاَّ نعجَب لكونِ ملكيصادق قد قام قدَّام إبراهيم العائد منتصرًا، فقدَّم له الخبز والخمر ليُنعِشه مع جنودِه، ويباركه كما ينبغي أن يفعلَ مع إبراهيم حفيده؛ وفي النهاية يجبُ ألاَّ نعجَبَ لأن يكونَ استلم منه العشور ممّا سباه من ثمرِ انتصاره، وأن يكونَ هو أيضًا قد أعطاه عُشرَ جميع ما يملك بسخاء جدير بأبٍ تجاه ابنه. لأنَّه بوسعنا أن ندَّعي، طبقًا للنصِّ العبريّ وللسبعينيَّة، أنَّه تلقّى من إبراهيم العُشر من سبيه، أو أنَّه أعطى ملكيصادق نصيبًا ممّا سباهُ من أعدائِه.
إلى ذلك، فإنَّ اسم أورشليم مركَّبٌ من اليونانيَّة والعبريَّة، فإنَّ هذا المزيجَ بلغةٍ غريبة يُظهِر أنَّ شليم قد لا تكونُ مدينة أورشليم كما يزعم يوسيفُس وجميعُ كتّابنا؛ إنَّما هي مدينةٌ صغيرة قريبة من سيتوبوليس، تُدعى إلى اليوم شليم. ونشاهدُ فيها قصرَ ملكيصادق الأخيرة من سفر التكوين (33: 17-18): "ورحل يعقوبُ إلى سُكوت (أي المظالّ)، فبنى له بيتًا وصنع لماشيته أكواخًا. ثمَّ وصل إلى مدينة شكيم التي بأرضِ كنعان.
وينبغي أن نشيرَ أيضًا إلى أنَّ إبراهيم، بعدَ أن طاردَ أعداءَه حتّى دان المعروفة اليوم ببانياس، وعاد ظافرًا، خرج ملكيصادق قدَّامه لا من أورشليم، بل من عاصمةِ شكيم. وعن هذه المدينة قيل في الإنجيل إنَّ يوحنّا كان يُعمِّدُ قرب شليم لأنَّ فيها ماء كثيرًا. ولا يهمُّ ألفظناها شالِم أم شليم لأنَّ العبرانيِّين لا يستعملون أحرفَ العلَّة وسط الكلمة، لذا تلفظُ على هوى البلدان والقرّاء.
هذا ما تعلَّمتُه من علماء اليهود. إنّضهم بعيدون جدًّا عن التفكير في أنَّ ملكيصاق هو الروح القدس أو أحد الملائكة، ويعتبرونه إنسانًا حقيقيًّا معروفًا جيِّدًا. صحيحٌ أنَّ ملكيصادق كان صورةً للمخلِّص، لأنَّ كهنوت المسيح لا نهايةَ له، ولأنَّ الفادي الإلهيَّ كان في آنٍ معًا ملكًا وكاهنًا، وبنعمتِه صرنا من سلالةٍ ملكيَّة وكهنوتيَّة؛ ولأنَّه حجر الزاوية الذي ربط الجدار الفاصل، والراعي الصالح الذي جعل القطيعتينِ قطيعًا واحدًا. أفينبغي إذًا أن نتعلَّقَ إلى هذا الحدِّ بالمعنى الروحيِّ والروحانيِّ فنُهملَ الحقيقة التاريخيَّة كما يفعل أولئك الذين يقولون بأنَّ ملكيصادق لم يكن ملكًا بل ملاكٌ بصورة إنسان؟
على أنَّ العبرانيِّين، لكي يُبرهنوا أنَّ ملكيصادق، ملك شليم هو سام بكرُ نوح، يوردون هذا النصّ الذي يسبقُ مباشرةً ذاك الذي يتكلَّمُ على الكاهن الأعظم: "فخرج ملكُ سدوم لملاقاته إلى وادي شوى، وهو وادي الملك. وأخرجَ ملكيصادق، ملكُ شليم، خبزًا وخمرًا..." (تك 14: 17-18). أمّا وأنَّ شليم هي مدينة الملك، وأنَّ الكتاب يتكلَّمُ على الغور حيثُ سكنى الملك، فمن الواضح أنَّ من كان يحكم في تلك المدينة إنَّما كان إنسانًا حقيقيًّا.
هذا ما تعلَّمتُه ممّا قرأتُه بشأن ملكيصادق. لقد ذكرتُ لك الكتّاب، ويعودُ إليك أمر تقدير ما كتبوا. فإن اطَّرحتَه فعليك أيضًا أن تطَّرِح مفسِّرك الروحانيّ الذي على الرغم من جهلِه، جزم كعلاّمة أنَّ ملكيصادق هو الروح القدس، وطبَّقَ على نفسِه الحكمة اليونانيَّة. "العالِمُ الخجولُ والجاهلُ دعي". كتبتُ لك هذه الرسالة في زمن الصوم بعد مرضٍ طويل ألمَّ بي. ولمّا كنتُ أتأهَّبُ في أن أخصِّص، قبلاً، بعض الوقت لأكتبَ في القدِّيس متّى؛ ثمَّ عدتُ إلى العمل بحماسٍ نلتُ منه ربحًا في الدرس وخسارةً في العافية.
[1] رسائل هيرونيمُس، الجزء الثاني (68-150)، أعدَّها وقدَّم لها ووضع حواشيها سعد الله سميح جحا، التراث الروحيّ، دار المشرق، بيروت، 2008، ص 475-482.