أيضًا رسالة كتبت للقسّ مار يوحنّا[1]
الافتتاحيَّة
إلى العفيف والفاضل السيرة والحكيم في الكلّ. القسّ مار يوحنّا.
يعقوب الناقص الساجد لك بربِّنا الذي يغني فهمك (فورشونو) بمحبَّته. سلام.
المقدِّمة
علمت عن سيرة عفَّتك أيُّها السيِّد، المستحقُّ الله، من أناس قدِّيسين وفاضلين، توجَّهوا نحونا بمحبَّة المسيح، وتحدَّثوا لنا عن رجاحة عقل حضرتك، وعن رأيك، يا محبَّ الهدوء والمحبَّة والأمان. يا من يبغض أن يربط بهجمات العالم الضارَّة، وهو بغيض ومليء بكلِّ الشرور. إنَّه ثقل جسيم وبحر مضطرب مليء بالأمواج في كلِّ وقت، لجميع الداخلين إليه.
الهرب من العالم
أنت سيِّدي، يا محبَّ المسيح، يلزم على نفسك العاقلة أن تهرب منه، وتحسبه خارجًا عنك، بينما أنت في داخلك، وتسكن في ذاتك وتربط عشرتك في الله وحده. فهو وحده الميناء والأمان، وفيه يستريح كلُّ المتعبين الذين يأتون إليه. يقول في بشارته: "هلمُّوا إليَّ جميعكم أيُّها المتعبون والمسحوقون، واحملوا نيري عليكم، وتعلَّموا منِّي لأنِّي وديع ومتواضع في قلبي فتجدون راحة لنفوسكم".
نظرت نفسك العاقلة إلى الله وأبغضت المسكن الهادئ والمضطرب الخاضع للمعاشرات الباطلة واللقاءات المضرَّة، والشهوات المختلفة الموجودة فيه على كلِّ أنواعها. أمّا أنا فقد سبَّحت واهب كلِّ الخيرات، لأنَّه يحرِّك في نفسك العاقلة، هذه الأفكار الحسنة، التي تسعى في إثر النتيجة المفيدة.
السير إلى الأمام والتقدُّم في الفضيلة
رأيت بأمِّ عيني فعل عقلك، لأنَّك تهدف إلى الحصول على الفوائد الروحيَّة، ليكمل بواسطتها عملك. إنَّ زخم المحبَّة الذي لا يعرف أن يتوقَّف، يجعلك تسرع ويحرِّكك، لئلاَّ تحسب الحسنات التي تفعلها حسنات، إنَّما تسير يوميًّا إلى الأمام بواسطة الفضائل التي تفعلها، مثلما قيل: "أنسى ما ورائي، وأتقدَّم إلى ما هو أمامي". لا يستطيع من يسعى في إثر الكمال ويتمسَّك بالصعود إلى السماء، ويتطلَّع إلى درب العلوّ، أن يمتنع ويتوقَّف في علوٍّ واحد وهو يظنُّ أنَّه اكتمل في عمله، ولم يعد بحاجة إلى الصعود إلى درجة أخرى، لكنَّه يسرع يوميًّا ليرتفع إلى الأعلى، إلى أن يفتح له الموت الباب ليبلغ إلى ميناء القدِّيسين.
أقول لك يا محبَّ الفضائل، يحسب بك أن تفكِّر وتتأمَّل أن تتقدَّم نحو الأمام، ويجدر بك أن تحسب أنَّ هناك سيرة أعظم من سيرتك. لو فكَّرت أنَّك تسلَّقت بواسطة الفضيلة بقدر ما كان ينبغي أن تتسلَّق، لكان سعيك يبطل وكنت تبدأ بالهبوط بسبب الادِّعاء الذي خامر نفسك، فتنحدر من جمال التواضع.
ليخدم كلُّ امرئ الربَّ حسب موهبته
أنصحك كأخ ناقص: إنَّ السيرة العزيزة التي تعيشها تكفيك، إذ بواسطتها تخدم الله الذي يعطي نفسه لكلِّ إنسان ليحيا به، ليخدمه كلُّ إنسان حسب رغبته. إنَّ الله لا يخدم بمظاهر (اسكيمو) علنيَّة، لكنَّه يعرف ويحسُّ به بأفكار خفيَّة. "إنَّ ملكوت الله داخلكم". ومن ابتغى الملكوت يفتِّش عليه داخل نفسه لأنَّه يوجد هناك.
العقل لا يحبس مثل الجسد
تعرف حكمتك (فورشوثو) أنَّه متى ما يدرك الإنسان الباطنيّ (كاويو) المحبَّة لا يمكن أن يحبس العقل (هونو) داخل الأسس والأبواب والأقفال ولا يمكن أن يزجَّ مع الجسم في السجن. إنَّه لمخوف: لو يحبس الجسد في دار صغيرة ثمَّ يخرج العقل ويتيه في بلدان قاصية، فتريد أن تجمعه ولا تقدر.
الآن، أنا فرح لأنَّ الجسد خارج السجن، وهوَّذا عقلك يتدافع ليدخل إلى السجن داخل الحدود الآن. إنَّك حبيس منذ أمد، لأنَّ عقلك يحبُّ الموضع المنزوي والبعيد عن اللقاءات الضارَّة، وعن معاشرة العالم الحافلة بكلِّ الحوادث والمليئة بكلِّ المضرَّات.
الشياطين تحاول خدم الجميلين
الأبالسة (ديوو) أعداء النفس هؤلاء الذين فخاخهم عظيمة، ودقيقة شباكهم (نشبو)، وسامية مصائدهم ولا يهدأون من محاربة الجميلين، يجرُّون ويجذبون العقل بشدَّة ليخرج ويتيه في بلدان قاصية، عندما يوضع الجسم داخل الحدود وخاصَّة متى ما يخيَّل إلى النفس، أنَّ لا سيرة (دوبورو) أسمى من السيرة التي تسلكها.
الآخرون أكثر فضيلة منّا
إذًا يجدر بك يا محبَّ الفضائل (يوثرونو) أن تنظر إلى نفسك، لأنَّه توجد ارتفاعات شتّى فوقها، وتوجد سِيَر الكمال التي هي بعيدة عنها جدًّا بسبب ضعفها. في درب الله ارتفاعات عديدة وأصعدة عظيمة. لا تستطيع النفس العاقلة أن تحلَّ في السيرة التي تجد ذاتها فيها ناقصة. إنَّها تفكِّر أنَّ الآخرين هم أسمى منها.
التواضع
بدون التواضع العميم الذي يصل إلى درجة الهبوط والتمرُّغ في التراب والرماد، لا شيء يفيد النفس مثل التواضع. إنَّه مكتوب: "إنَّ ذبائح الله روح متواضعة". التواضع صنو للصليب. أمّا الكبرياء فهو عزيز على الشياطين الأعداء. في التواضع لا مجال للسقوط أدنى منه. إن أراد الشياطين أن يسقطوه من علوِّه، لا توجد مسافة تحته لتسعه لو سقط!
عندما تسلك النفس هذه السيرة تحسبها ناقصة، وتنظر إلى الآخر أعلى منها وتلوم ذاتها لأنَّها لم تستطع أن تتسلَّق درجة أسمى، تثبت في تواضع جمٍّ وإن قُلبت فهي لا تسقط لأنَّها نزلت إلى التواضع بطوعها.
خدمة الربّ
الآن يا سيِّدي يجب توجيه الكلام إليك. ليثبت كلُّ واحد وليخدم الله حسب الدعوة (قريونو) التي دعى إليها. ويليق بك أن تثبت في مظهرك (اسكيمو) الخارجيّ مثلما أنت، وأمّا في فكرك الباطنيّ فلا تهدأ من السعي إلى أن تدرك ذلك الذي لأجله أدركك المسيح.
الخاتمة
له التسابيح والبركات والتشكُّرات مع أبيه وروحه من كلِّ من يحبُّه مثلكم، الآن أيضًا وكلّ أوان وإلى أبد الآبدين. آمين. كملت.
[1] الدكتور الأب بهنام سوني، رسائل مار يعقوب السروجيّ الملفان، موسوعة "عظماء المسيحيَّة في التاريخ"، ترجمات، 3، 1995، ص 149-155.