هيبة الكهنوت[1]
هو حوار على طريقة أفلاطون بين يوحنّا وصديق له اسمه باسيل. هي ستُّ مقالات في عدد من الفصول. أمّا نحن فأخذنا فصلين. الأوَّل من المقالة الثانية: هيبة الكهنوت. والثاني من المقالة الثالثة: حقيقة الكهنوت والكاهن المسؤول.
وهل نحصل على منفعة أكبر من منفعة القيام بالخدمة التي هي حسب قول السيِّد المسيح، الشهادة على محبَّتنا له؟ : "أتحبُّني يا بطرس؟... نعم يا سيِّد!... إذن ارعَ خرافي" (يو 21: 15). إنَّ السيِّد في سؤاله بطرس، لا يقصد أن يستعلم، وهو العلاَّم بذات الصدور، بل أن يعلِّمنا نحن مبلغ اهتمامه برعيَّته، وأهمِّيَّة وعظمة الرسالة التي يقوم بها راعي قطيع المسيح الروحيّ. والشيء الذي لا يقلُّ أهمِّيَّة عن هذا، إنَّما هو ذلك الأجر الكبير الذي يحفظه السيِّد لخادمه. حين نرى خادمنا يعنى جيِّدًا بقطبعنا، نتَّخذ من عنايته دليلاً قويًّا على محبَّته لنا، والأمر، أمرٌ قطيع اشتري بالمال. فأيَّة مكافأة أعظم من المكافأة التي ينالها من يرعى للمسيح قطيعًا، لم يشتره بمال ولا بما يشبه المال، بل اشتراه بدمه الخاصّ!؟ وحين نسمع بطرس يقول: "أنت تعلم يا سيِّد أنِّي أحبُّك" – كأنَّه يؤكِّد للسيِّد محبَّته له – نظنُّ أنَّ السيِّد قد اقتنع من محبَّته وأخذ الجواب على سؤاله. غير أنَّ السيِّد لم يقصد هذا أبدًا. وإنَّما كان يقصد أن يعرِّف بطرس، كما يعرِّفنا نحن، طريقة إظهار محبَّتنا له، بمحبَّتنا للكنيسة، التي أراد أن يهدي بطرس ويهدينا نحن إلى محبَّتها.
لماذا أعطانا الله تعالى ابنه الحبيب؟ ولماذا لم يوفِّر هذا الابن الوحيد؟ لأنَّه كان يريد أن يجتذب إليه قلوبًا كانت تتباعد عنه، ولأنَّه كان يريد أن يختار لنفسه شعبًا. ولماذا بلغت به محبَّته الإلهيَّة إلى أن أهرق دمه؟ إنَّما أهرق دمه لكي يشتري هذا القطيع الذي وكل برعايته الرسل القدِّيسين. "من هو ذلك الخادم الأمين الحكيم الذي أقامه سيِّده على أهل بيته؟" (مت 24: 45). الظاهر هنا أنَّ السيِّد المسيح، يسأل عن شيء، مع أنَّه يعلم جيِّدًا ما يسأل عنه. وهكذا فقد سأل بطرس لا لكي يعرف محبَّته له، بل ليعلِّمه الطريقة التي بها يظهر هذه المحبَّة. وهنا يسأل أيضًا: "من هو ذلك الخادم الأمين الحكيم؟" تعظيمًا لشأن ذلك الخادم وخدمته، وتعظيمًا لمكافأته أنَّ سيِّده يقيمه على جميع أعماله.
أتلومني أيضًا على أنَّني خدعتك وأنت الآن على رأس القطيع الذي يملكه المسيح، تقوم بنفس الوظيفة التي استحقَّ الرسل الأطهار أن يقوموا بها؟ "أتحبُّني أكثر من هؤلاء يا بطرس؟ - قال له السيِّد المسيح – إذن ارعَ غنمي". فلقد كان من الجائز أن يقول له: إذا كنت تحبُّني فصم الأصوام الطويلة، وافترش الأرض القاسية، واقطع الليالي سهرًا وتهجُّدًا، وكن للمظلومين نصيرًا وللأيتام أبًا، ولأمَّهاتهم سندًا. لم يقل شيئًا من هذا بل قال "ارعَ غنمي". وما عدا هذه من الأعمال المسيحيَّة، فيستطيع أكثر المؤمنين البسطاء أن يقوموا بها بسهولة، سواء في ذلك الرجال والنساء. ولكن عندما تكون القضيَّة، قضيَّة إدارة الكنيسة، وقيادة النفوس، فتلك إذن مهمَّة جلَّى، يُبعد عنها النساء، ولا يُدعى إلى الاضطلاع بها، إلاَّ نفرٌ قليلون من البشر. فلا ينبغي أن يُرفع إلى مقام الكهنوت إلاَّ الذين يمتازون عن غيرهم بالفضائل، بقدر ما كان شاوول بن قيس يمتاز بطول قامته على كافَّة الشعب. وماذا أقول؟ وأين وجه القياس؟ بل يجب أن يكون الفرق بين الراعي وقطيعه، كالفرق بين البشر والمخلوقات غير العاقلة. وإذا شئت فقل أكثر من ذلك، لأنَّ مسؤوليَّة الكاهن هي أعظم بما لا يُقاس من مسؤوليَّة الراعي.
إنَّ الراعي، إذا فقد شيئًا من أغنامه – سواء سطا عليها الذئاب، أم اختطفها السارقون، أم فتك بها المرض، أم لغير ذلك من الأسباب – يستطيع أن يبرِّر نفسه أمام سيِّده. وإن وقعت عليه جريمة فقدها، فإنَّه يستطيع أن يعوِّض عنها من أتعابه. أمّا من وُكِل رعاية النفوس، أي قطيع المسيح الروحيّ، فعليه أن يعوِّض عن فقد الأغنام، لا بمال، بل بنفسه. والجهاد الذي عليه أن يقوم به، يختلف عن جهاد ذاك مشقَّةً وخطرًا. فليس عليه أن يناضل الذئاب واللصوص والمرض. إنَّ القدِّيس بولس يقول في رسالته إلى أهل أفسس: "إنَّ مصارعتنا ليست ضدَّ لحم ودم بل ضدَّ الرئاسات والسلاطين، وولاة هذا العالم، عالم الظلمة والأرواح الشرِّيرة التي في الهواء" (أف 6: 12). نضال الكاهن هو ضدُّ هذه العصائب المخيفة من الأعداء، وضدّ هذه الحملات المرعبة التي لا يحتاج جنودها إلى سيف ونار، لأنَّ لها من طبيعتها أسلحة، أين من فتكها أسلحة البشر جميعًا؟... واستمع أيضًا إلى بولس نفسه، بعد أن أشهدنا من الأعداء جحفلاً غير منظور، يُشهدنا جحفلاً آخر عنيدًا مكشوف الحرب والعداوة في عمل اللحم والدم وهو: "الزنى والنجاسة، والعهر، وعبادة الأوثان، والسحر، والعداوات، والخصام، والغيرة، والمغاضبات والمنازعات، والمشاقَّات، والبدع، والمحاسدات، والقتل، والسكر، والقصوف، وما يشبه ذلك" (غلا 5: 19-21)، وهو لا يسمِّي الكلَّ بل يترك لنا أن نفطن إلى الباقي ممّا يقوله.
ولْنعد إلى مقابلتنا بين الراعي والكاهن. إنَّ الغزاة عندما يغزون قطيعًا لا يرغبون من راعيه في شيء، ولا يطاردونه، بل يكفيهم أن يضعوا أيديهم على القطيع. وليست الحال هكذا مع قطيع المؤمنين، لأنَّ الغزاة لا يكتفون بسلب القطيع، بل يرغبون في سيادة الحظيرة كلِّها. لذلك فهم لا يعفُّون عن الراعي بل تراهم لا يندفعون بجنون شديد إلاَّ عليه فيبلغ مجهودهم أقصى جدّ. ولا يتراجعون أبدًا ما لم يصرعوه، أو ينهزموا فيخسروا المعركة.
وإذا نظرنا من ناحية ثانية إلى أمراض الحيوانات نرى أنَّه يسهل على الإنسان معرفة أسبابها: فقد يكون الجوع هو السبب، وقد يكون الطاعون، وقد يكون بعض الجراح تصاب بها. لذلك فطرق معالجتها وشفائها متوفِّرة. وهناك تسهيلات كثيرة للرعاة في معالجة أغنامهم من أمراضها، إذ أنَّهم يستطيعون أن يجبروها على اتِّخاذ الدواء حتّى في حال نفورها منه، فليس أسهل على الرعاة من ربط أغنامهم إذا أرادوا كيَّها أو قطع شيء من أعضائها. وليس أسهل عليهم من أن يحبسوها في حظائرها عندما تدعو الحاجة إلى أن يعلفوها بغير علفها المعتاد، وإلى أن يبعدوها عن مجاري المياه الخطرة، وبعبارة واحدة إلى أن يوفِّروا لها السلامة والعافية.
أمّا أمراض النفوس فعلى خلاف ذلك تمامًا. فليس من السهل قبل كلِّ شيء اكتشافها: "ما من إنسان يعرف ما في نفس إنسان آخر" (1 كو 2: 11). فكيف يمكن أن نصف علاجًا لمرض نجهله، بل نجهل على الغالب وجوده؟ وهب أنَّك توصَّلت إلى معرفة المرض، ترى عندئذٍ أنَّ الصعوبات تزداد، لأنَّنا لا نستطيع أن نعالج النفوس المريضة بالسهولة التي بها يعالج الراعي أغنامه. إنَّنا نحتاج في هذه المعالجة أيضًا إلى ربط المريض وحرمانه من الطعام وإلى كيِّه، وإنَّما يتوقَّف على إرادة المريض. وهذا ما فهمه حسنًا بولس العجيب حين قال: "لسنا نفرض عليكم إيماننا وإنَّما نلتمس سعادتكم" (2 كو 1: 23) فليس في المسيحيَّة إكراه للمرء على إصلاح نفسه.
إنَّ قانون العدالة المدنيَّة إذا تناول مسيئًا، فإنَّ السلطة المدنيَّة تملك جميع الوسائل لمنعه من الإساءة. أمّا نحن، فلا نستطيع أن نستعمل معه القوَّة. وليس لنا سوى وسيلة الإقناع ليحسن حالته. والقانون المدنيُّ لا يخوِّلنا الحقَّ بإكراه الخاطئ، وإذا خوَّلنا هذا الحقّ، فلا نستطيع أن نعمل به، لأنَّ الله لم يعد بالمكافأة الذين يبتعدون عن الشرِّ مكرهين بل الذين يبتعدون عنه، بمحض إرادتهم.
ولهذا ينبغي أن يستعمل الكاهن كثيرًا من المهارة ليحمل الخاطئ على الخضوع بطيبة خاطر إلى معالجته، وأن يقبل منفعة العلاج والأدوية.
إنَّ المريض الموثق، إذا حاول أن يحلَّ وثاقه، فلا نستطيع أن نمنعه من ذلك، ولكنَّ عمله يزيد في سوء حالته الصحِّيَّة. وإذا طرح النصائح الصحِّيَّة، فلا تفيده مكابرته سوى توسيع جرحه، وبالنتيجة فليس للدواء فعل إلاَّ في استفحال المرض. وأخيرًا فإنَّ شفاء المريض بالقوَّة هو أمر مستحيل.
فما العمل إذن، إذا استعمل التساهل حيث ينبغي التشدُّد؟ في التساهل عدم الشفاء، وفي التشدُّد تنفير المريض وإيقاعه في القنوط واليأس. وأستطيع أن أعدِّد لك كثيرين من الذين وقعوا في هوَّة اليأس لأنَّهم عوملوا بقسوة على خطاياهم.
فلا يلزم أن تقاس العقوبة بالخطيئة، بل يجب أن يوضع في الحساب وضع مرتكب الخطيئة، حتّى لا يزاد الفتق من حيث يراد رتقه، ولكي لا يزاد في عظم سقطته من حيث يراد إنهاضه منها. إنَّ ذوي النفوس الضعيفة المتعلِّقين بالدنيا المأخوذين بنفوذهم وغرورهم، إذا اقتيدوا بلطف وبحسن تصرُّف إلى الطريق المستقيم فإنَّهم يستطيعون أن يتخلَّصوا شيئًا فشيئًا من أغلال خطاياهم. في حين أنَّهم أخذوا بالعنف يحدث ذلك عندهم ردُّ فعل معكوس.
إنَّ الذي ذهب التعنيف الشديد بماء وجهه، فأفقده الحياء، يُصاب بعدم المبالاة، فلا يشعر بقيمة الأقوال الجميلة، ولا يفعل فيه تهديد أو وعيد، ولا يلمس الإحسان قلبه، بل يُصبح أشدَّ رداءة من تلك المدينة التي يعنيها النبيُّ بقوله: "وصارت لك جبهة امرأة زانية وأبيت أن تستحيي" (إر 3: 3).
وإلى كم من التمييز ووضوح الرؤية يحتاج الكاهن لكيما يتفحَّص دخائل النفس من كلِّ الوجوه؟ فإذا كان هناك أناس زهدوا بالمعالجة بعد أن يئسوا من شفائهم لعدم احتمالهم مرارة الدواء، فهناك آخرون يقعون في اللامبالاة لأنَّهم لم يعاملوا بالصرامة التي تستحقُّها خطاياهم، فيصبحون أردأ من ذي قبل، ويجرُّهم الاسترسال في لامبالاتهم إلى ارتكاب قبائح شرٍّ من الأولى. فيجب إذن على الكاهن أن يفحص كلَّ شيء ويقدره، قبل أن يقدم عليه، حتّى لا يذهب عمله سدًى.
هذا، ولا ينحصر سعي الكاهن ونشاطه في معالجة أمراض النفوس فقط، بل إنَّ عليه مهمَّة أخرى، لا تقلُّ شأنًا عن هذه، هي أن يضمَّ إلى جسد الكنيسة الأعضاء التي تنفصل عنها. وهذا يكلِّف الكاهن جهدًا كبيرًا.
إنَّ راعي الغنم له قطيعه الذي يتبعه إلى كلِّ جهة حيث يقوده. فإذا ابتعدت بعض الأغنام عن الطريق السويّ، أو ضلَّت مراعيها الطيِّبة، وذهبت ترعى في أرض مجدبة، أو على أطراف الهاويات العميقة فليس عليه إلاَّ أن يصوِّت لها ليردَّها إلى مراعيها التي انفصلت عنها. أمّا النفوس فإذا ابتعدت عن الإيمان الحقيقيّ، فعلى الراعي، من أحل ردِّها، واجب أكبر من الصبر والثبات. ولا يفكِّر أن يرجعها بالقوَّة، وأن يقتادها بالتخويف، لكن بالمثابرة وحدها يستطيع أن يقتادها إلى الحقيقة. أجل يجب أن يكون عندها الشيء الكثير من القوَّة والثبات حتّى لا ييأس من خلاص التائهين، ولكي يقول في نفسه: "من يدري لعلَّ الله يعطيهم يومًا أن يعودوا إلى نور الحقيقة. لعلَّهم يتخلَّصون يومًا ما من فخاخ الشيطان". وهكذا، مرَّة أخرى نردِّد مع الإنجيل: "من هو ذلك الخادم الأمين الحكيم؟" هذا هو الكاهن.
نعم هو الكاهن، لا الناسك. الناسك لا يعمل إلاَّ لنفسه. أمّا الكاهن فيعمل لأجل الشعب كلِّه. لا شكَّ أنَّ هناك طرائق عديدة لخدمة الآخرين. فهناك من يفرِّق أمواله على الفقراء، أو من يساعد بطريقة ما البؤساء والمساكين. هذا أمر نافع للقريب، ولكن بين هذه الخدمات وبين خدمات الكاهن من الفرق مثل الفرق فيما بين قيمة الجسد وقيمة النفس. فالإحسان إلى النفوس هو في نظر السيِّد أفضل طريقة نقدِّم بها شاهدًا على محبَّتنا له.
[1] يوحنّا الذهبيّ الفم – في الكهنوت، آباء الكنيسة، 4، منشورات النور، 1982، ص 49-54 و61-69.