إرميا كاهن الهيكل الجديد
الخوري بولس الفغالي
الأنبياء أقرب صورة إلى الكهنوت في العهد الجديد. هم موضوع تيار خاصٍّ، لا مولودون في سلالة كهنوتيَّة. أبي كاهن، إذًا أنا كاهن وهكذا ينتقل الكهنوت بالوراثة، كما المحامي يورث ابنه مهنة المحاماة، والطبيب يورث ابنه الطبَّ، وكذلك المهندس والحلاّق وصاحب هذه الصنعة أو تلك. كان لعاموس مهنة فأُعطيَ مهنة أخرى: ترك الجمَّيزات التي يهتمُّ بها وقطعان الغنم والبقر، بل ترك أرضه وراح إلى مدينة غنيَّة لا يعرف شيئًا عنها حيث الغنى والترف. دعاه الربُّ بصوت يزأر كالأسد، فمن لا يطيعه. وماذا كانت مهنة هوشع؟ لا نعرف شيئًا عنها سوى أنَّ الربَّ ناداه ليقوم بتلك الفعلة النبويَّة ليدلَّ على حبِّ الله لشعبه كما العريس يحبُّ عروسه. وإيليّا الذي يظهر فجأة مَن هو أبوه؟ لا أحد يعرف. اسمه إلهي هو الله. ويسوع نفسه خرج من قبيلة لم يمارس رجالها الكهنوت، خرج من يهوذا (عب 7: 14). ومتَّى العشّار؟ هل كان أبوه كاهنًا؟ بل هو موظَّف في "وزارة الماليَّة" يجمع الضرائب. يدعوه الربُّ فيترك مائدة الجباية وينطلق وراء يسوع. ذاك هو الكاهن الذي يكون بحسب قلب الربّ. الربُّ يختاره وهو لا يختار نفسه من أجل مهنة مريحة، فيها المال الكافي من أجل عيش رفيه. وإرميا اختاره الربَّ كدتُ أقول "غصبًا عنه" وأرسله في مهمَّة صعبة، مؤلمة. إنَّه صورة عن عدد من الكهنة قبلوا أن يسيروا مع الربّ، ولكنَّهم في النهاية "مُجِّدوا" كما لم يمجَّد إنسان على الأرض. فصورة إرميا لبثت حيَّة في تاريخ المؤمنين بحيث رآه بعض الناس حاضرًا في شخص يسوع المسيح. سأل تلاميذه: "من يقول الناس إنّي هو؟ قالوا له فيما قالوا: "إرميا أو أحد الأنبياء" (مت 16: 14). هذا مع العلم أنَّ يسوع ليس بنبيٍّ لأنَّ النبيَّ يحمل الكلمة، أمّا يسوع فهو الكلمة الذي تصبُّ فيه أقوال الأنبياء الذين سبقوه، وتنطلق منه أقوال الذين أتوا بعده، والذين يذكرهم العهد الجديد: "النبيُّ يكلِّم الناس بكلام يبني ويشجِّع ويعزِّي" (1 كو 14: 3).
ونتأمَّل في شخص إرميا: دعاه الله من بطن أمِّه. اجتذبه بالحيلة إليه فظنَّ أنَّه خُدع مثل عدد من الكهنة اليوم الذين ينتظرون من كهنوتهم شيئًا فيأخذهم الربُّ في طريق ربَّما لا يريدونها. على مثال بطرس الذي كان يمضي في شبابه إلى حيث يشاء. ولكن لمّا شاخ وضعف واستسلم لقدرة الربِّ "أخذوه إلى حيث لا يشاء" (يو 21: 18). وأضاف الإنجيل: "بهذا الكلام أشار إلى الميتة التي يمجِّد بها الله" (آ19). حياة الكهنوت موت على مثال حبَّة الحنطة التي تصبو أن تعطي ثمرًا (يو 12: 24). هل يقبل الكاهن بها؟ والربُّ قال لنا: تحبُّ نفسك تخسرها، وإذا خسرتها تحفظها للحياة الأبديَّة (آ25). خسر إرميا حياته فكان له الربح الكبير. وأخيرًا، دعا إرميا شعبه إلى الهيكل الجديد الذي صار أكثر من حرز يقي الناس من الخطر، دعاه دون أن يدري إلى يسوع المسيح الذي قال لليهود: "انقضوا هذا الهيكل وأنا أبنيه في ثلاثة أيّام" (يو 2: 9). وأضاف الإنجيليّ: "كان يعني جسده". أجل، الهيكل الجديد هو يسوع المسيح، وإليه يمضي المؤمنون من كلِّ أقطار الأرض. لهذا لم يكن إرميا نبيَّ شعب خاصٍّ، بل "نبيًّا للأمم" (إر 1: 5) كما قال له الربُّ حين دعاه.
1. من البطن اخترتك
ذاك ما قاله الربُّ لنبيِّه في أعماق قلبه: "قبل أن أصوِّرك في البطن اخترتك" (1: 5) فتذكَّر أنَّ الربَّ جبل الإنسان ترابًا من الأرض (تك 2: 7). جعله على صورته كمثاله (تك 1: 26). وصوَّر إرميا لا خليقة على الأرض مثل سائر الخلائق. فالإنسان منذ يُولَد يُعدُّه الربُّ لمهمَّة خاصَّة به. وبالأحرى النبيّ، وبالأحرى الكاهن، وبالأحرى كلُّ إنسان يريده الله لمهمَّة خاصَّة من أجل شعب من الشعوب، من أجل البشريَّة. ولكن يبقى على الإنسان أن يتجاوب مع ما يريده الله له. أراد يسوع للشابِّ الغنيِّ أن يبيع ما يملكه ويوزِّع ثمنه على الفقراء ثمَّ يتبعه (مر 10: 21). أمّا الشابُّ فما أراد، فكان الخاسر الأكبر. قال الإنجيل: "نظر إليه يسوع وأحبَّه" (آ20). محبَّة الله ترافق الإنسان منذ لحظة وجوده في حشا أمِّه. هذا يعني أنَّ يسوع اختار هذا الشابّ. كما اختار يهوذا وكلَّفه مهمَّة "تدبير" الجماعة الرسوليَّة على المستوى المادِّيّ. ولكنَّ يهوذا أخذ طريقًا أخرى. دعاه الله فاختار طريقًا أخرى.
اختاره. حرفيًّا: عرفه. أراد أن يتَّحد به كما العريس مع عروسه. أحبَّه حبًّا خاصًّا. والفعل الثاني: كرَّستُك. قدَّستك. وضعتك جانبًا كما كان يُوضَع حمل الفصح في اليوم العاشر من الشهر قبل أن يكون ذبيحة للربّ. لم يَعُد إرميا لنفسه، صار مُلك الله. لا يحقُّ له بعد اليوم أن يتصرَّف بنفسه كما يشاء. وإن امتلك الله إرميا أو كاهنًا من الكهنة، فهنيئًا له. سوف يعمل به العجائب. امتلك الربُّ شاول الذي صار بولس. امتلك الربُّ فرنسيس الإسِّيزيّ فترك تجارة أبيه. امتلك شربل مخلوف فترك أرض بقاعكفرا ومضى إلى أرض أخرى فلحها خلال حياته ولا يزال بعد موته أو بالأحرى حياته في السماء.
ما هي المهمَّة الجديدة التي تُعطى لإرميا؟ أن يكون "نبيًّا". يا ما أجمل ما دُعيَ إليه هذا الإنسان الذي كان من قرية صغيرة، قريبة من أورشليم، اسمها عناتوت. كان فيها معبد. ألغاه الملك يوشيّا حين قام بإصلاح دينيّ، فألغى جميع المعابد في مملكته وحصر العبادة في هيكل أورشليم. وراح "كهنة" هذا المعبد كلُّ واحد في طريقه. منهم من مضى إلى أرضه وترك الخدمة الكهنوتيَّة، ومنهم من التحق بهيكل أورشليم مساعدًا للكهنة الذين كانوا في العاصمة. وفي أيِّ حال، غابوا في غياهب النسيان. أمّا إرميا النبيّ فنذكره ونتعرَّف إلى حياته ونقرأ نبوءته كما دوَّنها تلميذه باروخ. هو نبيّ. والنبيُّ هو من يدخل في سرِّ الله، في حياته الحميمة، فيقرأ حياته وحياة شعبه على ضوء هذا النور الإلهيِّ، لا على "فتيل" البشر المدخِّن الذي يُغرق الناس في الظلمة ويبعدهم عن النور. أما هذا الذي أراد أن يفعله العظماء بكلام إرميا: احرقوا الدرج الذي فيه جُمعت كلمات الله (إر 26: 23).
والنبيُّ الذي يعرف إرادة الله ويسمع أقواله في قلبه، لا يستطيع إلاَّ أن يقولها. نتذكَّر عاموس الذي شبَّه نفسه بالأسد الذي يزأر. فمن لا يخاف. وإذا الربُّ تكلَّم فمن يجسر أن يترك كلامه جانبًا. والرسل أنفسهم. أرادوا أن يسكتوهم. أجابوا: لا نستطيع أن نسكت عمّا رأينا وسمعنا. وإرميا "رأى" الربَّ وسمع صوته. لهذا أطلق أقوال الربِّ أمام الكهنة والأنبياء والشعب. ماذا كانت النتيجة؟ لا التوبة، بل "قبضوا عليه وقالوا له: موتًا تموت" (26: 8). وفي النهاية، "جعلوه في جبٍّ فارغ من الماء ومملوء بالوحل، فغاص فيه إرميا" (38: 6).
إذا كانت مهمَّة النبيِّ بهذه الصعوبة، فالتهرُّب أمرٌ بشريّ. ذاك ما حاوله موسى أكثر من مرَّة. يضع العذر بعد العذر والربُّ يزيله. وإرميا بدأ فقال: "آه". تأوَّه. ما هذه المهمَّة الصعبة، بل المستحيلة على البشر. ولكنَّ الله قال: "لا تخف، أنا معك". ومن هو هذا الذي قال له: أنا معك؟ هو الربُّ القدير، الذي يعرف كلَّ إنسان في أعماقه، هو سيِّد التاريخ "المسلَّط على الأمم وعلى الممالك" (1: 10).
ومع ذلك قال إرميا: "أنا لا أعرف أن أتكلَّم، لأنِّي صغير" (1: 6). هو عذر نعرفه منذ زمن موسى الذي قال له الربُّ: "من خلق للإنسان فمًا؟ أما هو أنا الربّ؟" (خر 4: 11). وفي أيِّ حال، نحن نعرف أنَّ الربَّ حين يدعو إنسانًا من الناس فهو يخلقه من جديد. وحين يريده أن يتكلَّم يضع على لسانه الكلام اللازم، كما يعلِّمه كيف يقول ما يجب أن يقوله. كان سمعان بطرس صيّاد سمك، فعلَّمه يسوع كيف يصطاد الناس للخلاص. ففي يوم العنصرة اصطاد في شبكة واحدة "ثلاثة آلاف نفس" (أع 2: 41). خلق إرميا من جديد فصار يعرف أن يتكلَّم. والكاهن مثله اليوم وفي كلِّ يوم، يسمع صوت الربّ. يتأمَّل في كلامه، في الكتاب المقدَّس، في الإنجيل فيُخرج كلَّ جديد وقديم (مت 13: 52). وقدَّم إرميا عذرًا آخر: أنا صغير، أنا صبيّ. لم أصل إلى عمر الثلاثين حيث يحقُّ لي أن أتكلَّم. فمَن يُعطي الحقَّ بالكلام؟ الناس أم الله؟ مَن أَرسل صموئيلَ لكي يقول لعالي الشيخ كلام الله (1صم 3: 18)؟
ومدَّ الربُّ يده؟ كمن يمسك طفلاً ويقيمه. ثمَّ لمس فم النبيّ. لم يعد فمًا عاديًّا. صار فم الربِّ وبه الربُّ يتكلَّم. لا كلام العلوم والفلسفة، بل كلام الله. قال له الربّ: "جعلتُ كلامي في فمك" (1: 9). ما هذه المسؤوليَّة الكبيرة؟ على إرميا مثل صموئيل أن لا يترك كلمة "تسقط على الأرض". عليه أن يسمع مثل عبد يهوه الذي يتحدَّث عنه النبيُّ إشعيا. فمه مقدَّس فلا تخرج منه كلمة تنجِّس هذا الفم الذي جعله الله له. هل نعرف نحن الكهنة أن ننتبه إلى ما يخرج من فمنا؟ فقط الكلمة التي تبني. فالكاهن هو في وجه من الوجوه رجل الكلمة. يقولها في وقتها وفي غير وقتها. يعظ، يرشد، ولا تخرج منه كلمة سوء.
2. خدعتني يا ربُّ فانخدعت
حمل إرميا كلام الربِّ، فلاحقه الألم والاضطهاد. عاداه الجميع وخاصموه. وجاء من ضربه وحبس رجليه بالقيود (20: 2). فاشتكى إلى الربِّ: "خدعتني يا ربُّ فانخدعت" (آ7). سلَّمت نفسي إليك وها أنا سجين بين يديك. صرتُ أضحوكة وكأنَّهم يقولون: لماذا سار في هذه الطريق؟ بل هزئ الجميع من هذا النبيّ. كلَّ مرَّة يتكلَّم يجب أن يأتي واحد ويخلِّصه من الذين يريدون به شرًّا. يا ليته لا يتكلَّم، فذلك يكون أفضل له.
ويودُّ النبيُّ أن يتخلَّص من قبضة الله. ولكنَّ هذا مستحيل. قال: "فإن قلت: لن أذكر الربَّ ولا أتكلَّم باسمه من جديد"، أحسُّ بنار محرقة، محبوسة داخل عظامي. أحاول كبتها فلا أقدر" (آ9). فالربُّ أقوى منّا لا ليحطِّمنا، بل ليرفعنا، لا ليغلق علينا الطريق، بل ليُصعدنا في الطريق الصاعدة. لا ليقفل الباب، بل ليفتح أمامنا الباب الضيِّق الذي يخافه الكثيرون. فإذا أردنا نأخذ الباب الواسع حيث يدخل الكثيرون، لا لكي يصلوا إلى الحياة، بل إلى الهلاك (مت 7: 13-14). كهنة كثيرون أصابهم ما أصاب إرميا. فالقدِّيس يوحنّا ماري فيانّاي، حاول أن يهرب من الرعيَّة أكثر من مرَّة. أراد أن يطلب الهدوء في محبسة ينعزل فيها عن الناس. وكانت قوَّة تعيده إلى الرعيَّة، مرَّة بعد مرَّة. يا ربّ، أعطني رعيَّة غير هذه الرعيَّة. تكون أسهل. يكون فيها المال ووسائل الراحة. ثمَّ، لا أحد بقربي يهتمُّ بي. أنا أغسل ثيابي. أنا أطبخ طبخة واحدة، آكل منها طوال الأسبوع: طنجرة من البطاطا المسلوقة. ألا يمكن أن تتبدَّل الأمور؟ دعني أعود إلى بيتي مع أمِّي وإخوتي وأخواتي. فأنا هنا وحدي، وما من أحد يساندني. أعود إلى غرفتي. هي فارغة، باردة، لا يستقبلني أحد. هل دعوتني لكي أكون تعيسًا؟ لكي أكون ضعيفًا؟
أنا ضعيف في العالم. ولكنَّني قويٌّ بالله. قال الربُّ لإرميا: "جعلتك مدينة حصينة، وعمودًا من حديد وسورًا من نحاس" (1: 18). عادة تبني المدينة بالحجارة في بضعة مداميك وبعد ذلك يكون الطين الذي يصيبه المنجنيق فتنفتح فيه الثغرات. وهناك البرج الذي ربَّما يكون كلُّه من حجر. أمّا إرميا فهو أقوى من أحصن المدن. السور من نحاس. نتخيَّل سماكة الجدار: نصف متر. من يستطيع أن يفتح فيه ثغرة. والعمود، والحصن هو من حديد. من يقدر أن يطال الجالس هناك؟ لا أحد. ومن هم المدافعون؟ بشر. أمّا إرميا فالمدافع عنه هو الله نفسه: "أنا معك لأنقذك" (1: 19). لهذا لا يقوى أحد عليك.
أمّا الكاهن فيحتاج إلى قوَّة بشريَّة، وينسى كلام المرتِّل: معونتي باسم الربِّ صانع السماوات والأرض. هذا ما يذكِّرنا بعاموس الآتي من البعيد، القريب من بيت إيل والسامرة. كيف يجرؤ أن يقف في وجه رئيس الكهنة هناك، كيف لا يخاف تهديد الملك؟ لا. هو ما خاف. استند إلى الربِّ "الذي أخذه من وراء الغنم وأرسله" (عا 7: 15). ومن هو هذا الذي أرسله؟ "الذي يصوِّر الجبال، ويخلق الريح... ويجعل الظلمة فجرًا، ويطأ مشارف الأرض" (عا 4: 13). هل عرفتم من هو؟ "اسمه الربُّ الإله القدير".
ولكنَّ هذه القدرة لا تظهر ساعة نريد نحن، بل ساعة يريد هو. يسوع على الصليب. تحدَّاه رؤساء الكهنة: انزل عن الصليب. ما أنزل الآب ابنه عن الصليب، بل ترك الناس يهزأون به: خلَّص كثيرين ولا يقدر أن يخلِّص نفسه. يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيّام! أين هي الدفاعات؟ أين هم أتباع "ملك اليهود" ليدافعوا عن مَلكهم لئلاَّ يُسلَم إلى اليهود (يو 18: 36). في بستان الزيتون، كان بإمكانه أن يطلب من أبيه أن يرسل اثني عشر جيشًا من الملائكة (مت 26: 53). ولا يكتفي بسيف سمعان بطرس (آ51-52). ولكن لا. فالقوَّة لا تغلب القوَّة. والعنف يجرُّ العنف. مات المسيح على الصليب فكان في ذروة الضعف. وأين برزت قوَّته؟ يوم القيامة. دُحرج الحجر وكان كبيرًا جدًّا. أجل قدرة الربِّ لا تريد أن تحطِّم الإنسان بل أن تدعوه إلى التوبة، ولهذا تطيل روحها ولا تعاقب سريعًا.
غير أنَّ عاطفة الانتقام تبقى في قلب الإنسان. لماذا هذا الضعف عند الله حين يكون كاهنه ضعيفًا. لماذا لا يفعل فيُسكت الذين يعيِّرون الكاهن؟ هنا صرخ إرميا: "دعني أرى انتقامك منهم" (إر 11: 20). لو استطعنا نحن لانتقمنا، ولكنَّنا ضعفاء مثل إرميا. لهذا نقول: "إليك رفعتُ دعواي". وعلى من؟ على أهله وأقاربه وأبناء عناتوت. فإن مات هؤلاء هل يحيا النبيّ؟ كلاّ. بل سيموت من الحزن عليهم. ويذكر الله: أنت العادل فأين عدالتك؟ أنت تعرف المشاعر والأفكار، أما تعرف نواياهم؟ فكم هي سيِّئة. فلماذا تطيل أعمارهم؟ ألكي يواصلوا الشرَّ في الأرض؟
ويومًا من الأيّام سوف يحاجج إرميا الربّ، وذلك بعد أن يطلب الأمان: "لماذا تنجح طرقُ الأشرار، ويسعد الغادرون جميعًا" (12: 1). وبما أنَّ الربَّ هو أساس كلِّ خير، فهو الذي "غرسهم فتأصَّلوا ونموا وأثمروا" (آ2). أنا حزين يا ربّ من تصرُّفك. وكذلك الأبرار في شعبك. بل الطبيعة نفسها لأنَّ "الله لا يرى" (آ4). قال النبيّ: "إلى متى تفرح الأرض" مع العشب والبهائم والطيور؟ هل خفَّف الربُّ من حمل النبيّ؟ كلاّ. هل أزال عنه شرَّ الأشرار؟ كلاّ. تلك هي حكمة الله الذي نريد أن نجعله خادمنا بحيث يعمل مشيئتنا ساعة نريد نحن. إن كان الله هكذا، فلا نكون أمام الربِّ الإله، بل أمام صنم من الأصنام نتصرَّف به بحسب إرادتنا.
أجاب الربُّ نبيَّه: "تجري مع المشاة، فتتعب، فكيف تسابق الفرسان؟" (آ5). ما هدَّأ الربُّ روع نبيِّه ولا هو سمع منه حين يقول له: "افرزهم كغنم للذبح، وخصِّصهم ليوم القتل" (آ3). بل نبَّهه إلى أنَّ الصعوبات الآتية سوف تكون أقسى من الحاضرة. تعبتَ لأنَّك تمشي مع من يمشي. سيأتي يومٌ تُجبَر أن تركض مع الخيل فتنهش وتكاد تختنق. ذاك ما يمكن أن يحسَّ به الكاهن في أوقات السأم أو عندما يحسُّ أنَّ الجميع هم ضدُّه. كلُّ هذا ينقِّي القلوب ويمنعنا أن نستند إلى البشر ونشابه يسوع في بستان الزيتون الذي يطلب مشيئة الآب التي جعلته يعرف، بل "كان عرقه مثل قطرات دم تتساقط على الأرض" (لو 22: 44).
هي طريق الربِّ التي سار فيها إرميا. كان بإمكانه أن لا يسمع مثل يونان. كان بالإمكان أن يهرب ولو بطريقة موقَّتة مثل إيليّا. كان بالإمكان أن يكون نبيَّ الملك لا نبيَّ الله فيستفيد من مائدة الملك ومن الخيرات التي يقدِّمها الملك على الخاضعين له، على مثال "صدقيّا بن كنعنة" (1 مل 22: 24)، أو أمصيا المقيم في "معبد الملك" (عا 7: 13). فلو فعل ذلك، ماذا كانت حياته؟ لا شيء. أراد أن يحفظ حياته فخسرها. وإن لم يكن أمامنا ملوك في أيّامنا، فالعظماء عديدون وكذلك الأغنياء وحيث تكون الجثَّة هناك تجتمع النسور (مت 24: 28).
3. هيكل الربِّ، هيكل الربّ
الخطر يحيط بالمدينة. أمّا الناس فلا يخافون، والأنبياء الكذبة عديدون. ما الذي يشجِّعهم؟ هيكل الربّ (7: 4). يكفي أن يقولوا هيكل الربِّ لكي لا يكون خطر عليهم. هم يُشبعون الكتبة الذين يقولون ولا يفعلون. يأتون إلى الهيكل. يسجدون للربّ. يلمسون جدرانه ويبكون بقربها. ثمَّ يقدِّمون الذبائح والذبائح. ولكن هل يريد الربُّ الذبائح أم القلوب. قال مرَّة للمؤمنين الذين يريدون أن يفرضوا على الله جميلهم بالعجول والتيوس التي يقدِّمون (مز 50: 9): "إن جعتُ فلا أخبركم، لي العالم وكلُّ ما فيه" (آ12). وقال الواعظ للمؤمن الذي لا ذبيحة في يده: "القلب المتخشِّع المتواضع لا يرذله الله" (مز 51: 19). ويقول المزمور: تصاحب السارق، وتعاشر الزاني "تجلس وتتكلَّم على أخيك، وتفتري على ابن أمِّك" (50: 20). ويتابع المزمور: "فعلتَ هذا وأنا ساكت، فظننتَ أنِّي مثلك" (آ21). أي أسكت عن الشرِّ، أساوم، لا أزعج الأقوياء وأصحاب السلطة. كلاَّ. ولهذا كان النبيّ. ولهذا يكون الكاهن اليوم.
هل يدعو الناس للقيام بالمشاريع الكبيرة، ولبناء الكنائس؟ فرح التلاميذ بالهيكل فكان جواب يسوع لهم: "لن يُترك هنا حجر على حجر، بل يُهدَم كلُّه" (مت 24: 2). فالأموال التي تدور حول المذبح لها رائحة رديئة، وتشتمُّ منها التجارة التي تخلق الكبرياء والانقسامات. وضع الأغنياء في صندوق الهيكل، ما اهتمَّ يسوع لهم. أمّا نحن فنهتمُّ وننظر ما سقط في "الصينيَّة" من دراهم. وأتت أرملة مسكينة. قال عنها يسوع: "ألقَت أكثر ممّا ألقاه الآخرون كلُّهم" (لو 21: 3). ومعاصرو إرميا يقدِّمون الذبائح السمينة ولا يكتفون بالحمام واليمام، بل يجعلون العجول بين يدي الكهنة، ولا ينسون كهنتهم فينالون بسبب التقدمات أفضل استقبال.
وينشدون: هيكل الربّ. ماذا يستفيدون؟ يخدعون أنفسهم (7: 4). حسبوا أنَّهم نالوا رضى الربّ. ما أتعسهم! ماذا يطلب الربُّ منهم بلسان إرميا: "أصلحوا طرقكم وأعمالكم، واقضوا بالعدل بين الواحد والآخر" (آ5). هي أمور عامَّة وكلُّ واحد يستطيع أن يمتدح نفسه دون أن يتعب في عمل يقوم به أو أن يمدَّ يده إلى جيبه. أمّا إرميا فحدَّد لهم: "لا تجوروا على الغريب واليتيم والأرملة، ولا تسفكوا الدم البريء..." (آ6). هذا هو الشرط الأساسيّ ليسكن الربُّ مع شعبه (آ7). كانوا يعتبرون أنَّ المجيء إلى الهيكل يؤمِّن لهم اللقاء بالربّ. ويكفي أن يقيموا في ظلِّ الهيكل فيظلِّلهم الله بقدرته. كم هم مخطئون! بما أنَّهم "يسرقون ويقتلون ويزنون ويحلفون بالزور... ويجيئون ويقفون قرب هذا البيت الذي دُعي باسمي" (آ9-10) يقول الربّ. ويُطرَح السؤال: هل صار هذا البيت مقدَّسًا؟ كلاَّ. بل نجَّسه المؤمنون بأعمالهم السيِّئة. "صار مغارة للصوص" (آ11).
أمثل هذا الكلام يرضي الناس؟ كلاَّ. فهم يريدون من يرضي رغباتهم ولا يغيظ آذانهم. وما هذا النداء إلى التوبة يطلقه النبيّ: "اغسلي من الشرِّ قلبك، يا أورشليم، فتخلصي. إلى متى تبنين في داخلك أفكارك الشرِّيرة؟" (4: 14). وهناك مثل حصل للأغنياء خلال الحصار. دعاهم النبيُّ لكي يحرِّروا العبيد الذين مرَّ عليهم سبع سنين، كما تقول الشريعة. سمعوا منه وحرَّروهم. فالمدينة محاصرة. ولكن لمّا خُفِّف الحصار بمجيء الجيش المصريّ، استعادوا هؤلاء العبيد. أهكذا تكون الحياة بحسب وصايا الله وشرائعه؟
مع هذا "الكاهن" الذي كان في عناتوت، لا سبيل للمساومة ولاسيَّما حين تمَّ الإصلاح العباديّ في أرض الربِّ حيث لا ينال الله من العبادات ما تناله الآلهة الكاذبة. كم مرَّة ينبِّه إرميا: "تتبعون آلهة أخرى تجهلونها" (7: 9). "تتبعون آلهة أخرى لضرركم" (آ6). وحين أتى إرميا إلى أورشليم، فلا شيء يردُّه عن كلام يقوله باسم الربّ. ففي قلب السجن، دعاه الملك أن يليِّن كلامه بعض الشيء. لا مجال. فالكلام ليس كلام إنسان بل كلام الله. فلا يحقُّ لنا أن نتصرَّف به على هوانا بحيث لا يكون ذا حدَّين، بل يصبح ناعمًا لا يجرح أحدًا ولا يوقظ إنسانًا من سباته.
فإرميا لا يعيش بعد في نظم بالية. هو في قلب عهد جديد! صارت شريعة الربِّ مكتوبة في الضمائر ومحفورة في القلوب، لا على الجدران وبقرب الذبائح. في هذا المناخ، يعرف الناسُ الربَّ. لا الكهنة فقط، لا الكتبة والفرِّيسيّون فقط، ولا نحن الذين وُضعت الأيدي على رؤوسنا. "جميعهم من صغيرهم إلى كبيرهم يعرفونني، لأنَّني سأغفر ذنوبهم ولن أذكر خطاياهم من بعد" (31: 34). في الماضي، مع تقديم الذبائح، وجب على الآتي إلى الهيكل أن يعرف الشروط المطلوبة، وكم كانت عديدة! أمّا الآن، فما يطلب الربُّ هو قلب الإنسان. إلى هذه التوبة يدعو إرميا المؤمنين. وفي هذا الخطِّ عينه دعا يسوع السامعين ألاَّ يضعوا الخمرة الجديدة في زقاق بالية، فتشقُّ الخمرة الزقاق، ألا يرقِّعوا ثوبًا عتيقًا برقعة من قماش جديد (مر 2: 21-22). وهيكل الحجر صار بدون فائدة بعد أن صار يسوع الهيكل الجديد الذي فيه تجتمع البشريَّة. إلى هناك يدعو الكهنة المؤمنين ليكونوا في موكب المسيح الذي يهبُ لهم الحياة والحياة الوافرة، هذا إذا قبلوا أن يكونوا من رعيَّته.
الخاتمة
تلك هي مسيرتنا الكهنوتيَّة مع إرميا النبيّ. اختارنا الربُّ كما اختاره، من بطن أمِّه كما سوف يقول بولس الرسول. عاند بعض الوقت أمام المهمَّة الصعبة. والكاهن يعاند مرَّة ويتساهل مع نفسه أكثر من مرَّة. هل من الضروريّ أن نتبع يسوع إلى الجلجلة؟ يمكن أن نتوقَّف عند أحد الشعانين مع الهتاف بالنخل والزيتون. يمكن أن نتوقَّف في منتصف الطريق فلا نصل إلى القمَّة حتّى الصليب. لا شكَّ في أنَّ الربَّ يأخذنا مع ضعفنا، وينتظرنا بعض المرّات ولكنَّه في النهاية يتركنا، ونكون نحن من الخاسرين. تألَّم إرميا وتألَّم، وناله الاضطهاد. واشتكى إلى الربِّ أكثر من مرَّة، ولكنَّه تابع المسيرة إلى حيث أراده الربُّ. إلى مثل هذا النبيّ يوجِّه الله كلامه. وإلى كهنة لا يتوقَّفون عند النظم والتقاليد البشريَّة، بل يحملون كلام الله في كلِّ قوَّته لكي يحرِّكوا القلوب ويدعوها إلى مسيرة التوبة والعيش في "عهد جديد"، يترك القديم وراءه ولا يتعلَّق بمتاع هذه الدنيا عارفًا أنَّ ما يتركه يحلُّ محلَّه مئة ضعف من العطايا والبركات، وسعادة ترافق الكاهن يومًا بعد يوم، وهي سعادة لا يمكن أن تضاهيها سعادة بشريَّة.