بين فصح وفصح
الخوري بولس الفغالي
اعتاد الرعاة في العالم القديم ان ينتقلوا من الساحل الى الجبل بحثاً عن العشب وعن الماء. وليلة الانطلاق التي تكون ليلة بدر، والقمر في ملء ضوئه، يذبحون حملاً، ويأكلونه مشوياً ويمسحون الخيمة بدمه لحماية القطيع من الأرواح الشريرة.
أخذ الشعب العبرانيّ بهذه العادة واعطاها معنى جديداً. ذبحوا الحمل واكلوه واحذيتهم في ارجلهم، وعصيّهم في ايديهم. كانوا مستعدين للانطلاق، لا حسب فصول السنة بل حسب امر الله الذي انار الطريق بالنار في الليل، وجعل فوقهم خيمة من السحاب في النهار. صار الانطلاق مسيرة روحيّة وتطوافاً. وهم ينشدون الأناشيد للربّ الذي حرّرهم: ''انشدوا للربّ جلّ جلاله... الربّ عزتي وتسبيحي. أمدحه فهو إلهي، الربّ اسمه''.
حملُ الفصح هو رمز خروج العبرانيين من مصر، من ارض العبودية، الى الحرية وعبادة الله الواحد. لم يعُد فقط عيدَ الرعاة، بل عيد المؤمنين الذين يمارسون الطقوس التي طلبها الله منهم. يأكلون الخبز الفطير كي يبتعدوا عن خمير الفساد. ويأكلون مع الحمل الأعشاب المرّة، لكي يتذكّروا مرارة العيش في مصر والمضايقات التي تحمّلوها. وخلال العيد، يسأل اصغر الحاضرين عن معنى هذه العبادة. الجواب: ''هي ذبيحة فصح نقدّمها للربّ الذي عبر عن بيوت بني اسرائيل فخلّصها''.
ذاك هو العيد الذي اقامه يسوع ثلاث مرات خلال حياته العلنية. ولكن العشاء الأخير الذي شارك فيه تلاميذه ليلة آلامه، اتخذ معنى جديداً. لا شك في انه كان هناك حملٌ أعده التلاميذ واكلوا كما تأكل كل التجمعات في تلك الليلة المقدسة. ولكن يسوع صار الحمل في تلك الليلة. تحدّث عنه يوحنا المعمدان فقال: ''هذا هو حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم''. لا شك في ان الانجيل تذكّر اشعيا النبي: ''كشاة سيق الى الذبح، وكحمل امام الذي يجزّه لم يفتح فاه''. في هذا المجال كتب بولس الى اهل كورنتوس (في اليونان): '' تطهروا من الخميرة القديمة لأنكم فطير لا خميرة فيه. فحمل فصحنا ذُبح وهو المسيح''. في الواقع، عند الظهر، كان ربّ البيت يبحث في كل زاوية بحيث يزيل منه كلّ خمير من اجل سنة جديدة تبدأ يوم العيد. والمسيحيون الذين يستعدّون لفصح آخر هو فصح ربنا، يتركون ما يرتبط بالفساد، ويفهمون ان الفطير هو رمز النقاوة والحق. في هذا المجال يبرز يوحنا الانجيليّ فيستخلص من معاملة الجنود للمصلوبين ارتباطاً بحمل الفصح الذي يؤكل دون ان يُكسر له عظم. فحين كان المصلوبان مع يسوع، جاء الجنود وكسروا ساقي الاول والآخر. واما يسوع فلم يكسروا ساقيه لأنه كان قد مات. فقال يوحنا: '' وحدث هذا ليتمّ قول الكتاب: لن يكسر له عظم''. هنا يؤكّد لنا آباء الكنيسة ان النصّ الكتابي تطلّع الى يسوع المسيح من خلال الاحتفال بالفصح. لأن كل ما حدث انما حدث لتعليمنا. فكل ما في العهد القديم يبقى ناقصاً ولا يكمّله سوى المسيح الذي قدّم نفسه مرّة واحدة فنال لنا الخلاص الأبديّ''.
ذاك هو الفصح المسيحيّ. هو عبور من الموت الى الحياة، مع المسيح نموت لنقوم معه من اجل حياة جديدة. ونحن نعيّده كل يوم احد: نأكل الخبز الذي صار جسداً والخبز الذي صار دماً. فنشارك في وليمة الحمل التي تدعونا اليها الكنيسة وتهنئنا لأننا دعينا الى وليمة عرس الحمل. هي وليمة نشارك فيها على الأرض، بانتظار الوليمة السماوية التي يريد ان يشاركنا فيها يسوع. في ملكوت الله.
2