الفصل التاسع
من حكمة البشر
إلى إنجيل المسيح
عجيب عالم اليونان، يرتبط بجدٍّ عاش في غابر الزمن اسمه .Hellen من هنا العالم الهلّينيّ. دمٌ واحدٌ يسري في عروق هؤلاء الذين جابوا البحار في خطِّ المغامرات الفينيقيَّة. فكرٌ واحد يوحِّد أبناء «هلّين» وأحفاده فتركوا وراءهم إرثًا كبيرًا من الفلسفة مع مفكِّرين كبار مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو، هذا عدا التيّارات المتنوِّعة من الرواقيَّة إلى الإبيقوريَّة إلى سائر المدارس. نظرة واحدة إلى العالم الذي صار صغيرًا، واحدًا، بسبب هذه اللغة التي سادت عالم البحر المتوسِّط، بل وصلت إلى بلاد الرافدين، إلى العراق وإيران، وأبعد من ذلك. ورومة نفسها التي غلبت بلاد الإغريق Grèce على المستوى السياسيّ والعسكريّ، غلبها الإغريق في مجال اللغة والآداب، بحيث تكلَّم الأباطرة اللغة الهلِّينيَّة وكتبوا فيها أمثال مرقس أوريليوس الذي دَوَّن في اليونانيَّة «أفكاره» وطعَّمها بالفكر الرواقيّ. إلى هذا العالم دخل بولس الرسول بجرأته المعهودة لكي يحمل إليه الإنجيل. وأعدَّه الربُّ منذ تعلَّم في طرسوس، تلك المدينة الجامعيَّة، أن يكون مرتاحًا في العالم الإغريقيّ. فهو ليس بغريب عنه مثل أشخاص عاشوا في فلسطين مثلاً، وما خرجوا منها لو لم يكن الربُّ أرسلهم ليمضوا إلى أقاصي الأرض.
محطّات ثلاث في هذه المرحلة من حياة بولس وتبشيره: الطريق إلى أثينة. في أثينة. في كورنتوس.
1- الطريق إلى أثينة
دخل بولس إلى أوروبّا عبر مكدونية مع مدينة فيلبّي، وها هو يجوب هذه المنطقة وكأنَّه يستعدُّ للدخول إلى أثينة، أرض الفكر والفلسفة، وإلى كورنتوس، أكبر مدن اليونان في القرن الأوَّل المسيحيّ. ومرَّ الرسول في مدينتين: تسالونيكي وبيريه .Bérée
أ- تسالونيكي
أسَّس مدينة تسالونيكي كاساندر ودعاها باسم امرأته (نسبة إلى تسالوس)، كما روى تقليد أورده المؤرِّخ سترابون (58ق.م.- 25ب.م.). ويعود هذا التأسيس إلى سنة 316 ق.م. تقريبًا. كانت عاصمته «تساليا»، حيث سكن البشر منذ العصر الحجريّ الأوَّل، وجاءها العنصر اليونانيّ في نهاية الألف الثاني.
مدينة صغيرة بالنسبة إلى كورنتوس. ولكنَّ عاصمة مكدونية هذه، أقام فيها الأباطرة بعض المرّات بسبب موقعها بين الشرق والغرب، وآخر إمبراطور أقام فيها هو تيودوز الأوَّل (317-395).
في هذه المدينة، بدأ الرسول يبشِّر اليهود أوَّلاً، برفقة سيلا أو سلوانس. هو يمضي حيثُ الناس يجتمعون. لا ينتظر أن يأتوا إليه. تلك هي طريقة يسوع الذي وعظ في كلِّ مكان: في المجمع، في «البيت»، على شاطئ البحر. في فيلبّي، لا مجمع. بل هم يصلُّون عند شاطئ النهر. إلى هناك راح بولس وكان أوَّل صيده ليدية، بائعة الأرجوان. وفي تسالونيكي، راح إلى المجمع اليهوديّ، وحدَّث اليهود بلغتهم. قال عن نفسه: «صرتُ يهوديٌّا مع اليهوديّ لأربح اليهود، وصرتُ لأهل الشريعة مِن أهل الشريعة وإن كنتُ لا أخضع للشريعة لأربح أهل الشريعة» (1 كو 9: 20).
نقطة الانطلاق: الكتب المقدَّسة. والهدف قراءتها والوصول بها إلى يسوع المسيح. على ما قال بولس في الرسالة إلى رومة: «غاية الشريعة (والكتاب المقدَّس كلِّه) هي المسيح الذي به يتبرَّر كلُّ مؤمن» (رو 10: 4). يسوع أوَّلاً. ذاك الإنسان الذي وُلد في زمن أوغسطس قيصر، في قرية بيت لحم، وحمل البشارة على طرقات الجليل واليهوديَّة قبل أن يموت على الصليب. يسوع هو المسيح أي الملك الذي اختاره الله ومسحه بالزيت المقدَّس. وذلك منذ العماد في الأردنّ: «أنت هو ابني الحبيب عنك رضيت» (مر 1: 11). أما هكذا يقول المزمور الذي فيه يَجلس الملكُ على عرشه فيقول له الربُّ بلسان الكاهن أو أحد الأنبياء: «يقول (الربُّ): أنا مسحتُ ملكي على صهيون جبلي المقدَّس»؟ ويُخبر الملك: «قال لي: أنتَ ابني وأنا اليوم ولدتك» (مز 2: 6-7). قال يوم الذي فيه يجلس الملك على عرشه هو يوم ولادته من أجل مهمَّة جعلها الرب في يده.
يسوع هو المسيح. إذًا هو الملك. استفاد اليهود في تسالونيكي من هذه المعادلة واشتكوا على بولس ورفاقه: «أشعلوا نار الفتنة في كلِّ مكان... وكلُّهم يخالفون أوامر القيصر ويقولون: هناك ملك آخر اسمه يسوع» (أع 17: 6-7). مثل هذا الكلام يكفي لكي يضع الاضطراب في المدينة. من يتجرَّأ أن يدعو نفسه القيصر؟ وويل لحاكم المدينة إن غضَّ النظر عن مثل هذا الكلام. أما كانت الضربة القاضية لبيلاطس في محاكمة يسوع حين قالوا له: «إذا أخليتَ سبيله، لا تكونُ من أصدقاء قيصر، لأنَّ من يدَّعي المُلك يكون عدوٌّا للقيصر» (يو 19: 12). غريب الإنسان حين يضع هدفًا أمامه: هو يستعمل كلَّ الوسائل ويبدأ بالهدم. ذاك ما فعله اليهود حين رأوا نتيجة بشارة بولس بعد وقت قصير من الزمن (أع 17: 2: ثلاثة سبوت). قال سفر الأعمال: «فاقتنع بعضهم (= بعض اليهود) وانضمُّوا إلى بولس وسيلا، ومعهم كثير من اليونانيّين (الآتين من العالم الوثنيّ) الذين يعبدون الله، وعدد كبير من السيِّدات الفاضلات« (آ4).
السامعون ثلاث فئات. اليهود الموجودون في مدن الإمبراطوريَّة كلِّها، بعد أن كثر عددهم جدٌّا، كما يقول سفر المكابيّين الأوَّل، ويورد بعض أسماء المناطق التي يقيمون فيها: اسبرطة، ديلس، مندس، سيكيون، كارية... (1 مك 15: 23ي). هؤلاء اليهود كانوا الجسرَ الذي اتَّخذه بولس لكي يصل إلى العالم اليونانيّ. فهُمْ مثله يحملون حضارتين: حضارة الكتاب المقدَّس وحضارة العالم الهلِّينيّ ــ الرومانيّ.
والفئة الثانية هم «اليونانيّون الذين يعبدون الله». اعتادوا أن يؤمُّوا المجامع ويشاركوا في الصلاة. آمنوا بالله الواحد، كما يقول الكتاب، وأخذوا بخلقيَّته، ولكنَّهم رفضوا أن يُختَنوا فحُسبوا غرباء وما استطاعوا أن يشاركوا في عيد الفصح. كان منهم كورنيليوس، ذاك الإنسان التقيّ والخائف الله (أع 10: 2). هم يعيشون في «مخافة الله» (أع 13: 16). إذًا، هم مستعدُّون للاستماع إلى كلمة الله. وسوف يكونون الأساس في الجماعات المسيحيَّة التي نظَّمها بولس ورفاقه وسائر الرسل.
وذكر لوقا الفئة الثالثة: «السيِّدات الفاضلات». اهتمَّ لوقا أوَّلاً بالكلام عن اهتداء النساء إلى الإيمان الجديد. وسيكون دورهنَّ كبيرًا، على ما قال الرسول: «الرجل غير المؤمن يتقدَّس بالمرأة المؤمنة» (1 كو 7: 14). ثمَّ تكلَّم عن «النساء الفاضلات» الشريفات، ذوات النسب الرفيع». لماذا؟ لأنَّ الخصوم كانوا يقولون: ما هذه الديانة التي لا تضمُّ سوى حثالة القوم، من العبيد والعمّال الصغار وأصحاب الصنع التي كانت محتقرة في العالم اليونانيّ؟ هذا ليس بصحيح، كما قال القدّيس لوقا. ففي أنطاكية بسيدية نجد النساء الشريفات المتعبِّدات لله (أع 13: 50). ومعهنَّ «وجهاء المدينة». في فيلبّي، ليدية هي تاجرة كبيرة بالأرجوان (أع 16: 11). بيتها واسع، تجارتها أبعد من المدينة. وإن ذكر سفر الأعمال «داماريس»، بالقرب من «ديونيسيوس الأريوباغيّ، أحد أعضاء مجلس المدينة» (أع 17: 34)، فلكي يبيِّن أنَّ الإنجيل توجَّه إلى الجميع ولامس قلوب الرجال والنساء، العبيد والأسياد، اليهود واليونانيّين.
اضطُهد الرسل كما وعدهم يسوع. وأُجبروا على ترك تسالونيكي. أما هذا الذي حصل ليسوع حين شفى مجنون الجراسيّين؟ هو رجل خطير في نظر أهل المنطقة الغارقين في الوثنيَّة: «طلبوا إلى يسوع أن يرحل عن ديارهم» (مر 5: 17). لا شكَّ في أنَّ يسوع رحل، ولكنَّه ترك وراءه تلميذًا «ينادي في المدن العشر بما عمل له يسوع، وكان جمع الناس يتعجَّبون» (آ20). مع هذا الرجل تكوَّنت جماعة «جرش» المسيحيَّة، ومع الفريق الرسوليّ، كثر عدد «الإخوة» (أع 17: 10) في تسالونيكي. فكتب إليهم الرسول ذاكرًا «ما أنتم عليه بربِّنا يسوع المسيح من نشاط في الإيمان، وجهاد في المحبَّة، وثبات في الرجاء» (1 تس 1: 3). خاف بولس على هذه الجماعة الجديدة، فأرسل تيموتاوس الذي عاد بالخبر السارّ، فقال الرسول: «أيُّ شكر نقدر أن نؤدِّيه إلى الله من أجلكم على كلِّ هذا الفرح الذي نشعر به أمام الله بفضلكم. »
ب- بيريه
في اليونانية .Beroia هو اسم امرأة ارتبطت بزوجة قدموس في الروايات اليونانيَّة القديمة. وعلى اسمها كانت هذه المدينة. ونشير هنا بشكل عابر أنَّ سلوقس الأوَّل دعا حلب، المدينة السوريَّة، باسم بيرويه، تيمُّنًا بمدينة بيرية حيث مرَّ بولس وسلوانس.
كان في هذه المدينة جماعة يهوديَّة كبيرة. فتقبَّلت الإنجيل بقلب منفتح، في ثلاث صفات. أوَّلاً: التسامح. أو قُل التهذيب أمام هؤلاء الآتين من البعيد يحملون بعض التعليم. فقد اعتادت المدن اليونانيَّة أن تستقبل مثل هؤلاء «الفلاسفة الجوّالين». والفضول عندهم جعلهم يقولون: «نريد أن نعرف هذا المذهب» (أع 17: 19). هي الخطوة الأولى. والصفة الثانية، الإصغاء. لم نعد هنا على مستوى الفضول ولا على مستوى الإعجاب. بل انفتح القلب فصار أرضًا طيِّبة تستعدُّ أن تثمر ثلاثين وستِّين ومئة (مر 4: 8). وهو إصغاء إلى «كلام الله»، لا إلى كلام بشريّ اعتادوا أن يسمعوه من هذا الخطيب أو ذاك. وهو كلام لا يتوجَّه فقط إلى عقلنا، بل يصل إلى قلبنا ويدعونا إلى اتِّخاذ الموقف. وإلاَّ يكون بناؤنا على الرمل إن نحن سمعنا وما عملنا (مت 7: 26). أمّا أهل بيرية فبنوا بيتهم على الصخر، لأنَّهم رأوا في كلام الرسل كلامَ الله.
وهذا الإصغاء لم يكن عابرًا على مثال ما عرفنا من أهل أثينة: «استهزأ به (بالرسول) بعضهم، وقال آخرون: سنسمع كلامك في هذا الشأن مرَّة أخرى» (أع 17: 32). جاء الإصغاء برغبة شديدة. كما نقول اليوم: هم أصحاب النوايا الحسنة والإرادة الطيِّبة المستعدَّة أن تعمل.
والصفة الثالثة، تفحُّص الكتب. هل يسوع هو حقٌّا المسيح؟ فاليهوديّ الذي يصير مسيحيٌّا، يبدأ فيقبل بشخص يسوع ذاك الذي وُلد في زمن هيرودس. ثمَّ يربط بين شخص يسوع ومهمَّة المسيح. وهذا لا يمكن أن يكون إلاَّ إذا آمن أنَّ هذا الإنسان هو أيضًا ابن الله. تجسَّد ومات وقُبر ولكنَّه قام. وطريقة الرسولين تشبه طريقة يسوع مع تلميذي عمّاوس: « شرح لهما ما جاء عنه في جميع الكتب المقدَّسة، من موسى إلى سائر الأنبياء» (لو 24: 27).
سمعت بيرية بفرح كلمة الله. ولكن جاء من يعكِّر هذا السماع. يهود من تسالونيكي «جاؤوا... وأخذوا يحرِّضون الجموع ويهيِّجونهم» (أع 17: 23). إذا اضطهدوكم في هذه المدينة، فاهربوا إلى غيرها، ذاك ما قال الربُّ للتلاميذ حين أرسلهم (مت 10: 23). اضطُهد بولس ورفاقه في تسالونيكي فمضوا إلى بيرية، اضطُهدوا في بيرية، فمضوا إلى أثينة. أو بالأحرى، مضى بولس وحده، لأنَّ «رأسه» وحده هو المطلوب. هو الذي اعتُبر خائنًا للقضيَّة اليهوديَّة حين اهتدى على طريق دمشق. أمّا سيلا وتيموتاوس فسوف «يلحقان به في أسرع ما يمكن» (أع 17: 15).
بعد هذا، هل نعجب حين نقرأ الرسول وهو يكتب إلى أهل تسالونيكي، عن خبرته المؤلمة في هذه المدن. قال للمؤمنين هناك: «فصرتم، أيُّها الإخوة، على مثال كنائس الله في المسيح يسوع، تلك الكنائس التي باليهوديَّة، لأنَّه أصابكم من أبناء أمَّتكم ما أصابهم من آلام على أيدي اليهود، الذين قتلوا الربَّ يسوع والأنبياء واضطهدونا، والذين لا يُرضون الله ويعادون جميع الناس، فيمنعونا من تبشير سائر الأمم بما فيه خلاصهم» (1 تس 2: 14-15). لا عجب في ذلك، فالتلميذ لا يمكن أن يكون أفضل من معلِّمه.
2- في أثينة
أثينة مدينة الفلسفة. فيه التقى بولس بالإبيقوريّين الذين أسَّسهم إبيقور (341-270 ق.م.) الذي وُلد ومات في أثينة واسم مدرسته الجنّة أو الحديقة. طلب الهدوء للنفس والطمأنينة، فأطلق أحد التيّارات الهامَّة في الفكر القديم، الذي يبحث عن اللذة الطبيعيَّة والضروريَّة، ويعرف أن يتوقَّف ساعة يجب التوقف.
والتقى بولس بالرواقيّين الذين سُمُّوا كذلك لأنَّهم اعتادوا أن يجتمعوا عند رواق Stoa مبرقش poikilé، مزيَّن برسوم من صنع Polygrote، ذاك الرسّام العائش في القرن الخامس ق.م. كان هذا الرواق في شمالي الأغورا، أو تلك الفسحة العامَّة المكرَّسة لنشاطات الشعب السياسيَّة والدينيَّة والتجاريّة والثقافيَّة. تيّار فلسفيّ أسَّسه في أثينة زينون الفينيقيّ، الآتي من كيتيون في قبرص، وذلك في القرن الثالث ق.م. انكسرت به السفينة فاعتبر أنَّ القدر أرسله إلى أثينة فتتلمذ على عدد من الفلاسفة قبل أن يُطلق فلسفته التي تتلخَّص في أمرين رئيسيّين، الحكيم لا يتأثَّر بالظروف مهما كانت. هو يحافظ على هدوئه في كلِّ الأحوال. والحكيم يخضع للقدر، تلك القدرة الخفيَّة التي يخضع لها الآلهة والبشر، والتي لا نقدر أن نجابهها. من أجل هذا، نتقبَّلها ونتعامل معها.
نكتشف هذه الفلسفة في خطبة أثينة. قال بولس: »خلق البشر كلَّهم من أصل واحد، وأسكنهم على وجه الأرض كلِّها« (أع 17: 26). من أصل واحد، أو من دم واحد، أو من مبدأ واحد. نحن هنا في الإطار الرواقيّ الذي يشير إلى وحدة الجنس البشريّ. وحين يقول الرسول: »ونحن أبناؤه« أو: نحن من نسله، فهو يعود إلى خليفة زينون الأوَّل، كليانتي (331-230 ق.م.). هنا نلاحظ العلاقة الحميمة بين الإنسان والطبيعة. فهو يتكيَّف معها.
والتقى بولس بالأفلاطونيّين. هم ينتمون إلى أفلاطون ابن أثينة (427-348/347 ق.م.). فيلسوف يونانيّ من عائلة أرستوقراطيَّة. تتلمذ على يد سقراط. وأسَّس مدرسة هي الأكادميَّة التي واصلت التعليم الأفلاطونيّ عشرة قرون من الزمن. أخذ الرسول كلامَهم وأورده في خطبته: »لنا فيه الحياة والحركة والوجود« (آ28).
وأثينة مدينة الشعراء، ولا سيَّما أولئك الذين كَتبوا المسرحيّات. من سوفوكل (495-406 ق.م.)، الذي ترك لنا سبع تراجيدات مثل أجاكس، أوديب، أنطيغون.... إلى إشيل (525-456ق.م.) الذي استلهم التاريخ من أجل مسرحياته، إلى أوريبيد (480-406 ق.م.) الذي تأثَّرت مآسيه بالاضطرابات في البلاد، فترك لنا العديد من الآثار مثل أندروماك، هيلانة، الفينيقيّات...
أمّا بولس في خطبته، فلمَّح فقط إلى شاعرين اثنين. الأوَّل هو أراتس (315-245 ق.م.). ترك لنا كتابًا اسمه »الظواهر«. قال هذا الشاعر: »نحن نأخذ منه أصلنا«. ولكنَّ الخطيب حوَّل النصَّ بعض الشيء لكي يكون قريبًا من فكرة صورة الله كما نقرأها في سفر التكوين (1: 26: على صورة الله ومثاله). فكانت العبارة: »نحن أبناؤه« (أع 17: 28). أو: نحن نسله.
والشاعر الثاني هو أبيمينيدس، الذي عاش في القرن السادس، وترك العديد من القصائد الدينيَّة والملحميَّة. وما قاله بولس نقلاً عنه (نحيا، نتحرَّك، نوجَد، آ28) دخل في فكر أفلاطون ليدلَّ على ارتباط البشر بالألوهة.
إلى هذه المدينة الشهيرة دخل بولس، ولفت نظرَه كثرةُ المعابد. أوَّلاً معبد الإلاهة أثينة، بنت زوش رئيس الآلهة وميتيس. هي تحمي المدينة. ثمَّ معبد ديونيسيوس الذي يوحِّد الشعب في الاحتفالات، وأبولّون وهيفايستوس وديميتر... بل راحت الحميَّة بالأثينيّين فبنوا معبدًا كرَّسوه «للإله المجهول». كان الأقدمون يخافون من غضب الآلهة وبطشهم. لهذا بنت أثينة معبدًا لإله ربَّما يأتي وهم لا يعرفونه. فيقدِّمون له هذا «المعبد الفارغ».
معابد عديدة، فخمة، ولكنَّها للأوثان، لآلهة الحجر والخشب. «زعموا أنَّهم حكماء فصاروا حمقى، واستبدلوا بمجد الله الخالق صورًا على شاكلة الإنسان الفاني والطيور والدواب والزحّافات» (رو 1: 23). قال بولس هذا الكلام عن مدينة رومة، ويمكن أن يقال عن كلِّ مدينة قديمة. فالناس تركوا الخالق وتوقَّفوا عند المخلوق. «ظنُّوا أنَّ النار أو الهواء أو الريح العاصفة أو مدار النجوم أو السيول المتدفِّقة أو الكواكب النيِّرة، ظنُّوا هذه آلهة تسيطر على العالم. وهم عندما ظنُّوا أنَّ هذه آلهة، فُتنوا بجمالها غير عالمين أنَّ لها سيِّدًا أعظم منها لأنَّه هو الذي خلقها وهو مصدر كلِّ ما فيها من جمال» (حك 13: 2-3).
أمام هذا المشهد اشمأزَّت نفس بولس. جعلوا معبدًا لأفروديت لكي يؤلِّهوا الجمال وما يتبعه من رغبات. وهرقل هو إله القوَّة. وهرمس هو إله المسافرين... ولكن أين هو الإله الحقيقيّ ذاك الذي به «نحيا ونتحرَّك ونوجد»، أين هو ذاك الإله الذي نحن نسله؟ بل هناك آلهة وليسوا بآلهة. وفي أيِّ حال، لسنا أفضل منهم. فهناك أناس نؤلِّههم: أبطال السينما والرياضة والغناء. نعلِّق صورهم في غرفنا. وهناك المال الذي صار إلهنا تجاه الإله فعبدناه (مت 6: 24). والجنس وما يتبعه من فجور وزنى. ونمجِّد القوَّة والنجاح البشريَّ ولو على رؤوس الناس. والتاريخ يذكر هتلر الذي ألَّهته الشبيبة، وستالين وموسوليني. وهكذا لا تكون مدننا أفضل من أثينة. ونحن نرضى بذلك ونصفِّق مع المصفِّقين بحسب المثل المأثور: إن رأيتَ الناس يعبدون العجل، فخذ الحشيش وأطعمه.
هياكل وهياكل. وأيّ نوع من العبادات: في الماضي واليوم: تكريم بالشفتين، والقلبُ بعيد. ويواصل النبيّ: «تركوا الربَّ واستهانوا بالله، وإليه أداروا ظهورههم» (إش 1: 4).
إلى هؤلاء حمل بولس كلام الحكمة، فحدَّثهم عن الله «خالق الكون» وكلَّ ما فيه، عن »ربِّ السماء والأرض الذي لا يسكن في معابدَ بنَتْها أيدي البشر» (أع 17: 24). ولمّا أراد أن يكلِّمهم عن يسوع المسيح، عن موته وقيامته، توقَّف الكلام. أخذوا ينسحبون، أو يهزأون، أو يَعدون بأنَّهم يرجعون. إلى هنا وصلت الحكمة البشريَّة وتوقَّفت. فهي تتكلَّم وتتكلَّم وتبقى على مستوى الكلام. وتطرح السؤال بعد السؤال ولا تعطي الجواب، بحيث يعيش الإنسان في التساؤل ويحار أيَّ طريق يأخذ فيشبه ما يقوله يعقوب في رسالته: «الناظر في المرآة صورة وجهه... يمضي وينسى في الحال كيف كان« (يع 1: 23-24). وهكذا يخدع الإنسانُ نفسه فيظنُّ أنَّه أمسك بشيء فإذا في يديه الفراغ والضياع. لهذا يقول الرسول مردِّدًا كلام النبيّ إشعيا: «سأمحو حكمة الحكماء، وأزيل ذكاء الأذكياء» (1 كو 1: 19؛ إش 29: 24). حسبوا حكمتَهم حكمةً فإذا هي حماقة. فواصل الرسول كلامه: «جعل الله حكمة العالم حماقة» (1 كو 1: 20؛ إش 44: 25). فما دامت حكمة الناس لم تصل إلى الصليب، فهي تبقى باطلة» ولا نفع منها، بل تضلُّ الناس كما فعلت بالقدّيس أوغسطين الذي مرَّ من فلسفة إلى فلسفة، قبل أن يصل إلى الله. خذ واقرأ. فأخذ وقرأ وملأ النورُ قلبه، على مثال القدّيس بولس الذي انطلقت مسيرته من الشريعة فوصلت به إلى ذاك الذي جاء يُتمُّ الشريعة والأنبياء. إلى ذلك الذي يفهمنا أنَّ حبَّه قاده إلى بذل الذات وإلى الصليب.
3- في كورنتوس
أثينة هي مدينة الفكر والفلسفة والشعر والفنّ. وكورنتوس هي مدينة التجارة بمرفأيها كنخرية من الجهة الشرقيَّة ولاخايون من الجهة الغربيَّة. من أقوى المدن اليونانيَّة وأقواها. بدأت تستقبل الناس منذ نهاية الألف الرابع. اشتهرت بصناعة الخزفيّات والأرجوان والسجّاد والبرونز. وفي أيّام بولس كانت مدينة مزدهرة بعد أن أعاد بناءها يوليوس قيصر سنة 44 ق.م.، وبنى فيها قلعة (أكروبوليس) على الرابية التي تعلوها. اشتهرت بأنَّها مدينة الملذّات والفساد، لا سيَّما وأنَّ معبد أفروديت يقوم على إحدى تلالها مع ألف من المكرَّسين والمكرَّسات يستسلمون إلى العهر والفجور بكلِّ أشكاله، كما يقول المؤرِّخ سترابون.
إلى كورنتوس وصل بولس. مدينة مخيفة، مرعبة. نصف مليون بل ستِّمئة ألف. ونتخيَّل: الثلثان هم من العبيد، أي ما يوازي أربعمئة ألف تقريبًا. وإذا جعلنا معهم أصحاب الصناعات والعمّال، نفهم مستوى الجماعة المسيحيَّة في كورنتوس، ونعرف من هم الناس الذين بشَّرهم الرسول: الحكماء؟ ليسوا كثيرين في هذه الكنيسة. الوجهاء؟ لا يكونون كثرًا، وإن وُجد البعض منهم الذين يصلون إلى عشاء الربِّ (1 كو 11: 20-21) قبل الآخرين، ويأخذون أفضل المقاعد ويأكلون أطيب المأكولات ويتركون الفضلة للآخرين الذين يأتون متأخِّرين. كانت الدعوة توجَّه من أجل عشاء يكون في الساعة الرابعة بعد الظهر. مثل هذا الوقت يوافق الأغنياء الذين لا يعملون عملاً بل يتركونه للعبيد. والعمّال؟ يأتون ساعة ينتهي العمل.
ولماذا مضى بولس إلى هؤلاء؟ ليكون في مخطَّط الله منذ القديم. أما هكذا قال النبيّ الإشعيائيّ: «روح السيِّد الربِّ عليَّ، لأنَّ الربَّ مسحني له، أرسلني لأبشِّر المساكين وأجبر المنكسري القلوب» (إش 61: 1). هؤلاء هم الذين يسمعون. واستعاد يسوع كلام النبيِّ وطبَّقه على نفسه: «اليوم تمَّت هذه الكلمات التي تلوتها على مسامعكم» (لو 4: 21). ونحن لا ننسى أنَّ أوَّل الذين توجَّه إليهم يسوع وأعلن سعادتهم، هم المساكين، سواء المساكين تجاه الأغنياء (لو 6: 20، 24)، أو المساكين بالروح (مت 5: 3) الذين لم يتعلَّق قلبهم بشيء في هذه الدنيا فكان لهم ملكوت السماوات.
إلى مدينة يسيطر فيها الزنى، بحيث اخترع الأقدمون فعلاً يشتقُّ من اسم المدينة، كرنتس، للدلالة على ما يحصل في معبد أفروديت بشكل خاصّ، وفي أماكن أخرى ولا سيَّما قرب المرفأين حيث يقيم العمّال وأصحاب المهن الصغيرة: رجل ينام مع امرأة أبيه (1 كو 5: 1). ما قال له أحدٌ شيئًا. بل هنَّأوه، صفَّقوا له. هكذا يكون الرجال. أفي مثل هذه المدينة يُكرَز عن العفَّة والتعامل في الزواج؟ مستحيل. ولكنَّ بولس لا يساوم. الزنى يصيب الإنسان في الصميم. في الزنى يصبح الإنسان لا عضو المسيح، بل عضو امرأة زانية (1 كو 6: 15). وأجسادنا «هي هيكل الروح القدس» (آ18). أبالزنى نمجِّد الله بأجسادنا؟
ويأتي أناس بعد الرسول، فيخفِّفون الشريعة ويُحدروها إلى مستوى الإنسان لكي تصبح مقبولة. لا. فالربُّ قال: «من يقدر أن يفهم يفهم« (مت 19: 12). أو: «من يقدر أن يقبل، يقبل». ونستطيع أن نسمع كلام الربِّ أمام الصعوبات التي تعترض المؤمن. وذلك بعد خطبة الخبز السماويّ. ترك بعض التلاميذ يسوع، فما خفَّف من كلامه. فقال لهم: «أتريدون أن تتركوني؟» (يو 6: 68).
مشروع طويل في كورنتوس. امتدَّ «سنة وستَّة أشهر» (أع 18: 11). في تعليم كلام الله بدأ مع اليهود، فعارضه اليهود وشتموه (آ6). عندئذٍ »نفض ثوبه». فالربُّ قال لتلاميذه: «وإذا امتنع بيت أو مدينة عن قبولكم أو سماع كلامكم، فاتركوا المكان وانفضوا الغبار عن أقدامكم» (مت 10: 14). أمّا بولس فاكتفى بأن ينفض ثوبه ليقول إنَّه رفع عنه كلَّ مسؤوليَّة. فبعض اليهود تذرَّعوا بأنَّ البشارة لم تصل إليهم. أجاب بولس في الرسالة إلى رومة: بلى هم سمعوا. لأنَّ صوت الرسل وصل إلى الأرض كلِّها، وأقوالهم بلغت إلى أقاصي المسكونة (رو 10: 18).
وردَّد الرسول هنا ما أورده القدّيس في إنجيله عن ردَّة فعل اليهود على كلام بيلاطس. قال لهم: «أنا بريء من دم هذا الرجل! دبِّروا أنتم أمره» (مت 27: 24). فأجاب الشعب: «دمه علينا وعلى أولادنا« (آ25). وها هو بولس يقول «دمُكم على رؤوسكم. أنا بريء منكم» (أع 18: 6). وهكذا أدار الرسول ظهره لليهود وذهب إلى الشعوب الأخرى، إلى الأمم الوثنيَّة. وما قاله هنا، سبق وقاله لجماعة أنطاكية بسيدية. «كلّمناكم فما استأهلتم الحياة الأبديَّة. لهذا نحن نتوجَّه إلى الوثنيّين» (أع 13: 46).
صعوبات في الرسالة من البداية. هذا أمرٌ معروف. لدى اليهود أوَّلاً ثمَّ لدى الأمم على ما قال الرسول في كلامه إلى رومة: «الويلُ والعذاب لكلِّ إنسان يعمل الشرّ، من اليهود أوَّلاً ثمَّ من اليونانيّين. والمجد والكرامة والسلام لكلِّ من يعمل الخير، من اليهود أوَّلاً ثمَّ اليونانيّين» (رو 2: 8-9). أمّا اليهود فتمرَّدوا ورفضوا الحقَّ وانقادوا للباطل. فكان عليهم الغضب والسخط (آ8). حدَّثنا الرسول عن صعوبات في الداخل وصعوبات في الخارج. وقال: «ولكنَّ الله الذي يعزّي المتَّضعين عزّانا بمجيء تيطس» (2 كو 7: 6).
أمّا هنا فلم يكن العزاء من البشر، بل من الله ذاته. أوَّلاً، عزّى بولس حين «آمن كريسبوس رئيس المجمع بالربّ، هو وجميع أهل بيته» (أع 18: 8أ). ثانيًا، شجَّعه لأنَّ كثيرين من أهل كورنتوس كانوا يسمعون كلام بولس ويؤمنون ويتعمَّدون» (آ8ب). وما اكتفى الربُّ بعزاء خارجيّ، بل منحه العزاء الداخليّ: «لا تخف! بل تكلَّمْ ولا تسكت، فأنا معك ولن يؤذيك أحد. فلي شعبٌ كبير في هذه المدينة» (آ9-10). تأكَّدَ بولس في هذه الرؤيا، أنَّ الربَّ حاضر معه ومبارِكٌ العملَ الذي يقوم به، فأسَّس الرسالة ووسَّعها فكانت كورنتوس نقطة الانطلاق، لا في المدينة، حيث كانت الجماعات العديدة، بل في منطقة آخائية كلِّها التي عاصمتها كورنتوس (2 كو 9: 2).
الخاتمة
تلك كانت مسيرتنا بين منطقتين كبيرتين، مكدونية بعاصمتها تسالونيكي، وآخائية بعاصمتها كورنتوس. أمّا أثينة فعاصمة العالم اليونانيّ كلِّه، سواء في بلاد الإغريق (اليونان في حصر المعنى)، أو في إيونية التي هي الشاطئ الغربيّ الجنوبيّ لتركيّا الحاليَّة. لا على المستوى السياسيّ والإدرايّ، بل على مستوى الفكريّ والحضاريّ. إلى هنا أتى بولس. تسلَّح بطرق البشارة اليهوديَّة في الكلام إلى الأمم العابدة الأوثان. ومن طرسوس أخذ الشعر والفلسفة فاستطاع أن يقف في «الأغورا» حيث وقف سقراط في القرن الخامس ق.م. وأخيرًا، سلاحهُ الأساسيّ هو الإنجيل الذي يحمل الخلاص إلى كلِّ مؤمن. فقدَّمه بولس بدون أن يزيِّنه بالزينة البشريَّة التي تخفِّف من وقعه. وما لجأ إلى الخطابة والكلام المنمَّق فقال: «كان كلامي وتبشيري لا يعتمدان على أساليب الحكمة البشريَّة في الإقناع، بل ما يظهره روح الله وقدرته حتى يستند إيمانُكم إلى قدرة الله، لا إلى حكمة البشر» (1 كو 2: 4-5). طريق بولس طريق التجرُّد التامِّ عن كلِّ الوسائل البشريَّة بحيث لا يبقى أمامه سوى المسيح وإيّاه مصلوبًا.