الفصل السادس
صعود بولس إلى أورشليم
حين قدَّم القدّيس لوقا شهادة عن بولس الرسول في سفر الأعمال، تطلَّع إلى حياة يسوع المسيح. وما تميَّز به إنجيله هو التشديد على صعود يسوع إلى أورشليم في شكل يميِّزه عن سائر الأناجيل. فالصعود يتمُّ على ثلاث مراحل، خلالها يتمُّ أجمل تعليم يورده لوقا في إنجيله: السامريّ الصالح، الابن الضالّ، الوكيل الخائن، الغني ولعازر. في 9: 51، قال لوقا: »ولمّا حان الوقت... عزم على أن يتوجَّه إلى أورشليم». وكان تعليم خاصّ عن الصلاة والثقة بالله. وذكَّرنا الإنجيل الثالث في 13: 22 وجهة يسوع: »وسار في المدن والقرى يعلِّم، وهو في الطريق إلى أورشليم« مع كلام عن «آداب المائدة» في المسيحيَّة، حيث ندعو الفقراء والعرج والعميان، وحيث نلبّي دعوة الربّ. وفي 17: 11 نقرأ عبارة مدهشة: «وبينما هو في طريقه إلى أورشليم، مرَّ بالسامرة والجليل». كأنّي بيسوع عاد إلى الوراء لكي يحمل معه سامعيه من الجليل والسامرة ليكونوا شاهدين على صلبه وموته وقيامته. وفي النهاية دخل إلى أورشليم (19: 28).
كما يسوع كذلك بولس، لا في الصعود إلى أورشليم فحسب، بل في المحاكمة والموت. ولكنَّ بولس ما مات في أورشليم مثل معلِّمه، بل في رومة حيث قيل له: «تشجَّع! فمثلما شهدتَ لي في أورشليم، هكذا يجب أن تشهد لي في رومة» (أع 23: 11). وهكذا يكون مقالُنا في ثلاث محطّات: المسيرة، المحاكمة، العبور في البحر وصولاً إلى رومة.
1. المسيرة
منذ كان بولس في ميليتس، المرفأ القريب من أفسس، حيث استدعى شيوخ الكنيسة (أع 20: 17)، أطلَّت أورشليم وما فيها من تهديد. قال: «أنا اليوم ذاهبٌ إلى أورشليم بدافع من الروح القدس، لا أعرف ما يصادفني هناك» (آ22).
هذا الروح الذي اقتاد يسوع إلى البرِّيَّة (لو 4: 1) يقتاد بولس إلى الجهاد. هذا الروح الذي وجَّه حياة بولس ورسالته، يواصل هذا التوجيه. فسفر الأعمال هو كتاب الروح. ويكفي أن نعرف أنَّ الفريق الرسوليّ أراد أن يمرَّ في فريجية وغلاطية «فمنعهم الروح القدس» (أع 16: 6). وأرادوا أن يمضوا إلى بثينية «فما سمح لهم روحُ يسوع» (آ7). فدفعهم إلى أوروبّا، بدءًا بمكدونية، وكانوا «متيقِّنين أنَّ الله دعاهم إلى التبشير فيها» (آ10).
وواصل بولس كلامه وهو في ميليتس: «غير أنَّ الروح القدس كان يحذِّرني في كلِّ مدينة أنَّ القيود والمشقّات تنتظرني» (أع 20: 23). فبولس ليس بالساذج، وما قام به من رسالة لا يمكن إلاَّ أن يحمل إليه الخطر من اليهود. صدَّ رسالتهم في أكثر من موضع، ولا سيَّما في غلاطية. انتقل من مدينة إلى مدينة وهو يحمل البشارة، بل قال لهم يومًا: «حكمتم أنَّكم لا تستأهلون الحياة الأبديَّة، ولذلك نتوجَّه الآن إلى غير اليهود»« (أع 13: 46). ما هذا الكلام القاسي لأناس افتخروا أنَّهم فوق الأمم »ولهم المجد والعهود والشريعة والعبادة والوعود، ومنهم كان الآباء»؟ (رو 9: 4-5).
بولس لا «يعرف». ولكنَّ الروح يُفهمه المرَّة بعد المرَّة، كيف تنتهي به الطريق في أورشليم. هنا «القيود والمشقّات». وهذا ما سوف يحصل له حين يمضي سجينًا إلى رومة. ولو لم يقل إنَّه »«رومانيّ» لكانوا بعد أن ربطوه، جلدوه (أع 22: 25). خاف قائد الألف «وحلَّ قيود بولس».
تنبيه أوَّل من الروح. وتنبيه ثانٍ في صور: «وكانوا (الجماعة المسيحيَّة) يقولون لبولس، بوحي من الروح، أن لا يصعد إلى أورشليم» (أع 21: 4). هو الروح يتكلَّم بفم الجماعة، مرَّة ثانية. ومرَّة ثالثة تكلَّم الروح بفم واحد في الأنبياء. وكان ذلك في قيصريَّة. «جاء نبيٌّ من اليهوديَّة اسمه أغابوس» سبق له أن «تنبَّأ بوحي من الروح أنَّ مجاعة عظيمة ستعمُّ الأرض كلّها» (أع 11: 28). وفي الواقع صدق ما قال هذا النبيّ. ففي أيّام كلوديوس، قيصر رومة (41-54ب.م.)، حصلت أكثر من مجاعة في أيّامه، وخصوصًا بين سنة 46 وسنة 48. فاهتمَّ الإخوة في أنطاكية بأن يرسلوا المعونة «إلى الإخوة المقيمين في اليهوديَّة» (آ30).
ولكنَّ بولس لم يفزع من نبوءة أغابوس في قيصريَّة. فهذا «أخذ حزام بولس وقيَّد به رجليه ويديه وقال: «يقول الروح القدس: صاحب هذا الحزام سيقيِّده اليهود هكذا في أورشليم ويسلِّمونه إلى أيدي الوثنيّين» (أع 21: 11).
لا. لم تكن «آلام بولس» نتيجة الصدف. فالروح ينبِّهه كما يسوع نبَّه تلاميذه أكثر من مرَّة حول آلامه وموته وقيامته: «يجب على ابن الإنسان أن يتألَّم كثيرًا، وأن يرفضه الشيوخ ورؤساء الكهنة ومعلِّمو الشريعة، وأن يُقتَل، وفي اليوم الثالث يقوم من بين الأموات» (لو 9: 22). وقال مرَّة ثانية: «سيُسلَم ابن الإنسان إلى أيدي الناس» (لو 9: 44). وفي المرَّة الثالثة نعرف أنَّ يسوع «أخذ التلاميذ الاثني عشر على انفراد وقال لهم: «ها نحن صاعدون إلى أورشليم، فيتمُّ كلُّ ما كتبه الأنبياء في ابن الإنسان، فيسلَّم إلى الوثنيّين، فيستهزئون به ويشتمونه ويصبقون عليه، ثمَّ يجلدونه ويقتلونه، وفي اليوم الثالث يقوم» (لو 18: 31-33). وماذا كانت ردَّة فعل يسوع؟: «يا أبي، إن شئتَ فأبعدْ عنّي هذه الكأس! ولكن لتكن إرادتك لا إرادتي» (لو 22: 42).
وسمع بولس كلام الربّ: «من أراد أن يتبعني، فليُنكر نفسه ويحمل صليبه كلَّ يوم ويتبعني» (لو 9: 23). وعمل به. وهو الذي قال: «اقتدوا بي كما أقتدي أنا بالمسيح» (1 كو 11: 1). ففي ميليتس قال: «ولكنّي لا أحسب أنَّ حياتي لها أيَّة قيمة عندي، ما دمتُ أقومُ بمهمَّتي وأتمِّم العمل الذي تسلَّمتُه من الربِّ يسوع» (أع 20: 24). في أيِّ حال، قال لأهل فيلبّي: «الحياة عندي هي المسيح، والموت ربحٌ» (فل 1: 21). وعرف بولس وهو يكلِّم شيوخ الكنيسة أنَّهم «لن يروا وجهه بعد اليوم» (أع 20: 24). لهذا «بكوا كثيرًا وعانقوا بولس وقبَّلوه» (آ37). وشيَّعوه والحزن يملأ قلوبهم (آ38).
وما قاله في ميليتس سوف يقوله في قيصريَّة، بعد كلام أغابوس النبيّ. روى لوقا ردَّة الفعل عند الجماعة: «فلمّا سمعنا هذا الكلام، أخذنا نحن والحاضرون نرجو من بولس أن لا يصعد إلى أورشليم» (أع 21: 12). أما هكذا قال التلاميذ ليسوع وهو ماضٍ لإقامة لعازر؟ «يا معلِّم، أترجعُ إلى هناك، ومن وقت قريب أراد اليهود أن يرجموك»؟ (يو 11: 8). ما تراجع يسوع. ومار بولس في خطاه. فقال للحاضرين: «ما لكم تبكون وتكسرون قلبي؟ أنا مستعدٌّ لا للقيود وحدها، بل للموت في أورشليم من أجل الربِّ يسوع» (أع 21: 13). وحاولت الجماعة أن تُقنعه بأن يتراجع، فعجزوا. حينئذٍ قالوا ما قاله الرسول في قلبه: «لتكن مشيئة الربّ» (آ14).
وقال الإنجيل الثالث: «قال (يسوع) هذا الكلام وتقدَّم صاعدًا إلى أورشليم. ولمّا اقترب من بيت فاجي وبيت عنيا... أرسل اثنين من تلاميذه» (لو 19: 28-29). وكان له استقبال من قِبَل «جماعة التلاميذ (الذين أخذوا) يهلِّلون ويسبِّحون الله بأعلى أصواتهم» (آ37). «ثمَّ دخل (يسوع) الهيكل» (آ45). « وكان رؤساء الكهنة ومعلِّمو الشريعة وزعماء الشعب يريدون أن يقتلوه» (آ47).
هكذا هو يسوع. وهكذا هو بولس. منذ البداية «أرسل إلى مكدونية اثنين من معاونيه» (أع 19: 22). وكما رافق التلاميذ يسوع، كذلك رافق المؤمنون بولس حين كان في صور، لا للاستقبال بل للوداع. قال لوقا: «خرجنا للسفر، فشيَّعونا كلُّهم، مع نسائهم وأولادهم، إلى خارج المدينة، فسجدنا على الشاطئ وصلَّينا» (أع 21: 5).
وما زالت خطى بولس في خطى يسوع. »وبعد ذلك بأيّام، تأهَّبنا للسفر وصعدنا إلى أورشليم. ورافقَنا بعضُ التلاميذ من قيصريَّة، فأنزلونا في بيت مناسون القبرصيّ، وهو تلميذ قديم. ولمّا وصلنا إلى أورشليم، رحَّب بنا الإخوة فرحين« (أع 21: 15-17). ودخل بولس الهيكل وهناك بدأت المحاكمة.
2. محاكمة يسوع ومحاكمة بولس
جاءت محاكمة يسوع أوَّلاً لدى اليهود. »ولمّا طلع الصباح، اجتمع مجلس شيوخ الشعب وهم رؤساء الكهنة ومعلِّمو الشريعة، فاستدعوا يسوع إلى مجلسهم« (لو 22: 66). وسألوه عن هويَّته: »إن كنتَ المسيح فقل لنا« (آ67). خاف رؤساء الكهنة من الشعب، وما تجرَّأوا أن يمسكوا يسوع علنًا. فمضوا في الليل.
أمّا بالنسبة إلى بولس، فالبداية كانت مع الشعب. »رأى بعض اليهود الأسيويّين بولس في الهيكل، فحرَّضوا جمهور الشعب، وقبضوا عليه، وصاحوا: »النجدة، يا بني إسرائيل! هذا هو الرجل الذي يعلِّم الناس في كلِّ مكان تعليمًا يسيء إلى شعبنا وشريعتنا وهذا الهيكل، حتّى إنَّه جاء ببعض اليونانيّين إلى الهيكل ودنَّس هذا المكان المقدَّس« (أع 21: 27-28).
ما قيل عن يسوع قيل عن بولس. فيسوع لا يراعي السبت. وهو يعاشر الخطأة ويأكل مع العشّارين. بل قال مرَّة بعد شفاء خادم قائد المئة الرومانيّ: »الحقَّ أقول لكم: ما وجدتُ مثل هذا الإيمان عند أحدٍ في إسرائيل« (لو 7: 9). أمّا الكلام عن الهيكل فورد في فم إسطفانس بحسب شهادة شهود الزور: »هذا الرجل لن يكفَّ عن شتم الهيكل المقدَّس والشريعة. ونحن سمعناه يقول: »سيهدم يسوع الناصريّ هذا المكان ويغيِّر التقاليد التي ورثناها عن موسى« (أع 6: 13-14).
في الواقع، ظنَّ الناس أنَّ بولس دخل إلى الهيكل مع شخص اسمه تروفيمس، الذي كان في رفقة بولس (أع 20: 4). ولكنَّ تروفيمس هذا كان مع بولس في المدينة، لا في الهيكل. »وهاجت المدينة كلُّها« (أع 21: 30). وطلبوا أن يقتلوه (آ36) على ما قالوا في يسوع: »اصلبه، اصلبه« (لو 23: 21).
هنا عرَّف بولس عن نفسه: هو »يهوديّ ومواطن رومانيّ من طرسوس« (آ39). ثمَّ كلَّمهم »بالعبريَّة«، »فساد السكوت« (آ40). فانطلق الرسول يسرد لهم سيرته وكلِّمهم عن معلِّمهم العظيم »غملائيل الكبير«. قال: »عند قدميه تعلَّمتُ شريعة آبائنا تعليمًا صحيحًا، وكنتُ غيورًا على خدمة الله مثلكم أنتم جميعًا في أيّامنا هذه« (أع 22: 3).
كان بولس ذلك المضطهد (آ4)، إلى أن شعَّ عليه نور الربّ (آ6)، فتبدَّلت حياتُه. وتابع شهادته أمام الشعب اليهوديّ بعد أن نال العماد على يد »رجل تقيّ متمسِّك بالشريعة اسمه حنانيا، يشهد له جميع اليهود في دمشق» (آ12). نلاحظ هنا أنَّ بولس يُفهم الجموعَ ارتباطه بديانة شعبه وبالأنقياء من اليهود. لهذا أراد العودة إلى أورشليم ليكون مثالاً لإخوته، على ما قال له حنانيا: «فأنت ستكون شاهدًا له عند جميع الناس بما رأيتَ وسمعتَ» (آ15).
قال بولس: «ثمَّ رجعتُ إلى أورشليم. وبينما أنا أصلّي، وقعتُ في غيبوبة، فرأيتُ الربَّ يقول لي: «أسرعْ في الخروج من أورشليم، لأنَّ الشعب هنا لا يقبلون شهادتك» (آ17-18). ذاك ما حصل في حياة بولس. ولكنَّ الذروة كانت حين أورد كلام الربّ: «سأرسلك إلى البعيد، إلى الأمم الوثنيَّة» (آ21).
هنا، أخذ اليهود «يصيحون بأعلى صوتهم» (آ22). وأمام مجلس اليهود، كاد يحصل لبولس ما حصل ليسوع. فهذا «لطمه واحد من الحرس كان بجانبه وقال له: أهكذا تجيب رئيسَ الكهنة؟» (يو 18: 22). أمّا بولس، «فحين أمر حنانيا، رئيس الكهنة، أعوانه، بأن يضربوا بولس على فمه» (لو 23: 2)، جاء جواب بولس: «ضربك الله، أيُّها الحائط المبيَّض! أتجلس لتحاكمني بحسب الشريعة، وتأمرُ بضربي فتخالف الشريعة؟» (آ3).
شهد بولس الشهادة الحسنة في أورشليم، أمام العالم اليهوديّ. وسيشهد أيضًا في رومة أمام العالم الوثنيّ (آ10). فهو الذي قال لتلميذه تيموتاوس: «وأوصيك أمام الله الذي يُحيي الجميع، وأمام المسيح يسوع الذي شهد أحسن شهادة لدى بيلاطس البنطيّ» (1 تم 6: 13). وبماذا يوصيه؟ أن يجاهد «بعد أن شهد شهادة حسنة بحضور شهود كثيرين» (آ12). إذا كان قال لتيموتاوس ما قاله، فلأنَّه مستعدٌّ هو أيضًا لكي يكون الشاهد والشهيد. وفي هذا كتب أيضًا إلى تيموتاوس: «فلا تخجل بالشهادة لربِّنا وبي أنا سجينه» (2تم 1: 8). فبولس هو في السجن من أجل المسيح. إلى هناك وصل بعد أن مرَّ أمام المحكمة الرومانيَّة. ما حاكمه اليهود فقط وتآمروا على قتله (أع 23: 15)، بل الرومان أيضًا. فتجاه حنّان وقيافا في محكمة يسوع، نجد حنانيا في محاكمة بولس. أمّا قيافا (واسمه الحقيقيّ يوسف، أمّا اللقب فيونانيّ) فكان عظيم الكهنة منذ سنة 26 ب.م. حتّى سنة 37 ب.م.، على ما يقول المؤرِّخ فلافيوس يوسيفس، في العاديّات اليهوديَّة (18/35: 95). وحنانيا صار رئيس كهنة سنة 47ب.م. وعُزل سنة 59. وأنهى حياته مقتولاً سنة 66، في بداية الحرب اليهوديَّة على رومة. وتجاه بيلاطس نجد فيلكس. أمّا بيلاطس فلقب بونسيوس، الوالي الرومانيّ على اليهوديَّة من سنة 26 إلى سنة 36، في أيّام الإمبراطور طيباريوس (لو 3: 1). عزله فتياليوس، حاكم سورية، وأرسله إلى رومة ليحاكم سنة 37. ولكنَّنا لا نعرف كيف انتهت أيّامه. أمّا فيلكس فلقبُ يعني »السعيد« واسمه الحقيقيّ: مرقس أنطونيوس. هو شقيق بالاس الذي حرَّره الإمبراطور كلاوديوس. تزوَّج ثلاث ملكات وأرسل اللصوص فقتلوا عظيم الكهنة يوناثان. عُرف بجشعه وحبِّه للمال. استُدعيَ إلى رومة سنة 60 ب.م. فحلَّ محلَّه بورقيوس فستوس (البهج) سنة 60-62، الذي توفِّي خلال خدمته، كما روى فلافيوس يوسيفس أيضًا في كتابه العاديّات اليهوديَّة (20: 182، 185، 193).
قدَّم اليهود يسوع إلى بيلاطس وأخذوا يتَّهمونه فيقولون: «وجدنا هذا الرجل يثير الفتنة في شعبنا، ويمنعه أن يدفع الجزية إلى القيصر، ويدَّعي أنَّه المسيح الملك». (لو 23: 1-2). ثلاثة اتِّهامات. فاكتفى بيلاطس بأن يسأله هل هو ملك. وحين عرف أنَّه من الجليل، أرسله إلى هيرودس. وهذا أعاده إلى بيلاطس الذي ضعف أمام اليهود وخاف الاتِّهام: «إذا أخليتَ سبيله، فما أنت من أصدقاء قيصر» (يو 19: 12).
وما كان فيلكس أفضل من بيلاطس: «
أراد أن يُرضي اليهود، فترك بولس في السجن« (أع 24: 27). أمّا السبب المبطَّن، فهو أنَّ «
فيلكس كان يرجو أن يعطيه بولس شيئًا من المال» (آ26).
في محاكمة يسوع شدَّد لوقا ثلاث مرّات على براءة يسوع. مرَّة أولى «قال بيلاطس لرؤساء الكهنة والجموع: «لا أجد جرمًا على هذا الرجل» (لو 23: 4). أمّا هم فأصرُّوا على قولهم: «إنَّه يثير الشعب« (آ5). وبعد أن أعيد يسوع من عند هيرودس، قال بيلاطس: «جئتُم إليَّ بهذا الرجل وقلتُم إنَّه يضلِّل الشعب. ففحصتُه أمامكم، فما وجدتُ أنَّه ارتكب شيئًا ممّا تتَّهمونه به« (آ14). ولما طلب منه الشعب أن يصلبه، قال لهم ثالثة: «أيَّ شرٍّ فعل هذا الرجل؟ لا أجد عليه ما يستوجبُ به الموت، فسأجلده وأخلي سبيله» (آ22). ولكن اشتدَّ صياحهم (آ23).
وبولس شابه معلِّمه. دعاه فيلكس مرَّة أولى واستمع إلى كلامه (أع 24: 24). ولمّا وقف بولس للدفاع عن نفسه، أعلن: «ما أذنبتُ بشيء لا إلى شريعة اليهود، ولا إلى الهيكل، ولا إلى القيصر» (أع 25: 8). وكرَّر سفر الأعمال أنَّ «فستوس» شأنه شأن فيلكس، «أراد أن يرضي اليهود» (آ9). عندئذٍ طلب بولس أن يقف «لدى محكمة القيصر» (آ10). وفي النهاية، حين قدَّم بولس دفاعه أمام الملك أغريبّا وفستوس، »قال بعضهم لبعض: «ما عمل هذا الرجل شيئًا يستوجب به الموت أو السجن» (آ31). وقال أغريبّاس: »كان يمكن إخلاء سبيل هذا الرجل لو لم يرفع دعواه إلى قيصر«» (آ32). وكان فستس سبق وقال للملك: «هذا الرجل الذي ترونه شكاه إليَّ الشعبُ اليهوديُّ كلُّه في أورشليم وهنا... وأمّا أنا فما وجدتُ أنَّه فعل شيئًا يستوجب الموت» (أع 25: 24-25).
ذاك هو منطق البشر. أمّا الربُّ فله منطق آخر. حين كان بولس ماضيًا إلى رومة، والعاصفة تهدِّد السفينة، سمع صوتًا يقول له: «لا تخف، يا بولس! فلا بدَّ لك أن تحضر لدى القيصر» (أع 27: 24). هكذا تصل الشهادة إلى أقاصي الأرض (أع 1: 8) كما قال الربُّ لرسله. وأقاصي الأرض في مفهوم لوقا هي رومة.
3. العبور في البحر
الشخصان الأوَّلان اللذان شدَّد لوقا على حضورهما، هما بطرس وبولس. ما قال بصريح العبارة إنَّ بطرس مات شهيدًا. بل ترك التقليد يروي لنا صلب بطرس في رومة. وما أخبرنا عن موت بولس، بل اكتفى بأن يعلن أنَّ كلمة الله «تعلَن بكلِّ جرأة وحرِّيَّة» (أع 28: 31). غير أنَّ سفر الأعمال أعطانا في الرموز إشارة إلى موت بطرس وإلى موت بولس.
نقرأ أوَّلاً أع 12 حول سَجْن بطرس ونجاته، فنكتشف العناصر الرئيسيَّة لآلام المسيح وقيامته. بطرس أُوقف مثل يسوع في زمن هيرودس. وكان حوله جنود خلال المحاكمة، كما كان الجنود حول يسوع عند إقامته في القبر (مت 27: 66): «أقاموا الجنودَ حرسًا على القبر». عرف بطرس رقاد السجن، كما عرف يسوع رقاد القبر. ظهر الملاكُ في قيامة يسوع (مت 28: 2ي)، وسيظهر حين يتحرَّر بطرس من القوى التي تمنعه من الحركة: الجنود، الجدران، أبواب السجن. حين نجا بطرس، عرفَتْهُ امرأة، ولكنَّها ستسرع فتعلن على أعضاء الجماعة قبل أن تراه أنَّه حرّ. هكذا كانت الحال بالنسبة إلى النساء اللواتي ذهبن يبشِّرن الرسل بالقيامة دون أن يروا المسيح (مت 28: 7-8). شكَّ الإخوة بكلام الخادمة رودة (أع 12: 15: أنت تهذين)، كما شكَّ الرسل بكلام النساء (لو 24: 11؛ مر 16: 10-11). ولمّا وقف بطرس (كما وقف يسوع) بينهم، لم يصدِّقوا (لو 24: 37)؛ مت 28: 17). وفي النهاية، سيفعل بطرس مثل يسوع: لن يتأخَّر وسط أصحابه، بل يسألهم أن يذهبوا ليعلنوا الحدث قبل أن «يذهب إلى مكان آخر» (أع 12: 17). هي إشارة إلى القيامة. فالرسول لا يمكن أن يبقى في قبضة الموت على مثال معلِّمه (أع 2: 24). وما قلناه عن بطرس نقوله عن بولس وإن اخترع بعضهم أنَّ لوقا كان على خلاف مع بولس فما تحدَّث عن استشهاده. وهنا أيضًا ندخل في الرموز: السفر في البحر المضطرب. الظلمة. تحطُّم السفينة. وإن «مات» بولس في البحر (حسب الرمز)، فهو حيٌّ في رومة، كما كان في أفسس وكورنتوس وأثينة.
الإبحار أوَّلا. وقال لوقا: «كانت الريح مخالفة لنا» (أع 27: 4). ما نقرأه هنا نقرأه في إنجيل متّى حين جاء إليهم يسوع ماشيًا على المياه. قال: «وأمّا القارب فابتعد كثيرًا عن الشاطئ وطغت الأمواج عليه، لأنَّ الريح كانت مخالفة له» (مت 14: 24). مشى يسوع على الماء. أي ساد عليه. سيطر. وهو يسيطر على قوى الشرّ التي يمكن أن تهدِّد القارب، السفينة، تهدِّد الكنيسة. لا مجال للخوف، وبولس يحمل إنجيل المسيح، وقد كان له مرَّة أولى أن يعبر البحر من ترواس إلى ساموتراكية، ثمَّ إلى نيابوليس وفيلبّي (أع 16: 11).
وانتقل المسافرون من سفينة إلى سفينة، وكانت المسيرة صعبة، طويلة، «وصار السفَرُ في البحر خطيرًا» (أع 27: 9). فلمن يسمع الضابط؟ لكلام القبطان أم لكلام بولس؟
هنا نتذكَّر المزمور 107 الذي يخبرنا كيف يخلِّصنا الربُّ من الضيق. ويصف المرتِّل الصعوبات التي خرج منها المؤمنون. ويعطينا صورة عن هيجان البحر: «أمر (الربُّ) فثارت ريحٌ عاصفة، وهيَّجت أمواج البحر، فكانت تعلو إلى السماء وتهبط بهم إلى الأعماق. فترجَّحت حياتُهم في الخطر. ترنَّحوا ومالوا كالسكارى، وكلُّ حكمتهم ذهبت عبثًا» (مز 107: 25-27). هي حكمة القبطان تجاه حكمة بولس. أجل، ضاعت حكمة الحكماء. وزال ذكاء الأذكياء (1 كو 1: 19).
ومع البحر الهائج تحدَّث المزمور عن الظلمة. قال المرتِّل: «بعضهم في الظلام وظلِّ الموت جلسوا أسرى يعانون القيود... صرخوا إلى الربِّ في ضيقهم فخلَّصهم من سوء حالهم. أخرجهم من الظلام وظلِّ الموت وقطع لها قيودهم. فليحمدوا الربَّ على رحمته وعلى عجائبه لبني البشر» (مز 107: 10، 13-15).
هكذا قرأ سفرُ الأعمال هذا المزمور وطبَّقه على وضع بولس الماضي إلى رومة. هو عبور مضاعف في الموت: سواء في المياه أو في الظلمة. فالسواد يذكِّر بالأعماق بل بالعدم والفوضى التي تسبق الخلق وتأتي بعده. أما هكذا كانت الأرض قبل أن يقول الله «ليكن نور»؟ والليل يعني زوال كلِّ معرفة. والنوم صورة مسبقة عن الموت. هكذا كان الإنسان يعتبر نفسه قد مات لكي يقوم في الصباح. هنا ينشد المؤمن طالبًا أن «لا ينام نومة الموت» (مز 13: 4). من أجل هذا، فهو يطلب من الربّ: «أنرْ عينيّ». وأيّوب يعلن في قلب ألمه أنَّه يتمنّى الرقاد، «مع ملوك الأرض ووزرائها» (أي 3: 14).
«مات» بولس في الرمز، كما مات المسيح، ولكنَّه سيقوم كما قام المسيح. في هذا المجال يضيء علينا سفر الرؤيا الذي يتحدَّث عن الشاهدين «بطرس وبولس». طلع الوحش (السلطة الوثنيَّة وعالم الشرّ) من الهاوية »وصرعهما وقتلهما« (رؤ 11: 7). ولكن بعد مرور »ثلاثة أيّام ونصف اليوم، دخلت فيهما روح حياة من الله فوقفا على أقدامهما» (آ11). وطلب منهما: «اصعدا إلى هنا». فصعدا إلى السماء في سحابة (آ12)، على مثال ابن الإنسان الذي جاء «مع سحاب السماء» (مر 14: 62).
وصل بولس السجين إلى مالطة مع سائر السجناء، بعد أن وهبه الله حياة لجميع المسافرين (أع 27: 24). فقال لهم باسم الربِّ يسوع: «لا تسقط شعرةٌ واحدة من رؤوسكم» (آ34). وفعل بولس ما فعله يسوع مع تلميذي عمّاوس وسائر التلاميذ: «أخذ خبزًا وشكر الله أمام أنظارهم جميعًا، ثمَّ كسره وبدأ يأكل» (آ35-36). ماتوا كلُّهم معه وقاموا. بل ماتوا مع المسيح وقاموا. وهذا هو العماد الذي يسبق الإفخارستيّا.
ولكنَّه لم يعد «سجينًا» وهو قد صار مع الربِّ، والعلامة على ذلك هو أنَّ حيَّة لدغته، »تعلَّقت بيده» (أع 28: 3). «ولكنَّ بولس نفض الحيَّة في النار من غير أن يمسَّه أذى» (آ5). أما وعدَ الربُّ تلاميذه بعد قيامته: «يمسكون بيدهم الحيّات، وإن شربوا السمَّ لا يصيبهم أذى» (مر 16: 18)؟
هل توقَّف بولس؟ هل توقَّفت كلمة الله؟ كلاّ. بل مرَّت في بوطيولي الواقعة في خليج نابولي، في إيطاليا. ووصلت «منتصرة» إلى رومة. خرج المؤمنون للقائه، كما كان أهل رومة يخرجون للقاء القائد الحربيّ بعد نصر أحرزه. وسار بولس في المقدِّمة. هو الحيُّ في رومة، شأنه شأن بطرس. هما عبرا في الموت ووصلا إلى ملء الحياة.
الخاتمة
في هذه الصورة الرائعة برزت لنا مسيرةُ بولس الأخيرة، بعد أن قام «بثلاث رحلات رسوليَّة» قادته إلى آسية الصغرى وبلاد اليونان، بل أبعد من ذلك. من يدري؟ فقد يكون وصل إلى إسبانية، وإلى جبل طارق الذي اعتبره الأقدمون «عمودًا» بين أربعة عواميد، مغروزةً في المياه، وساندةً الأرض في جهاتها الأربع. مسيرة لخَّصت حياة بولس فعرف السفر في البرِّ والبحر، في خطر الموت أكثر من مرَّة. ولا سيَّما حين أراد الجنود أن يقتلوا السجناء. وقال لوقا في هذا المجال وكأنَّه كان رفيق بولس في تلك السفرة الخطرة: «ومرَّت أيّام كثيرة ما رأينا فيها الشمس ولا النجوم، وبقيَت الريحْ تعصف حتّى قطعنا كلَّ أملٍ لنا من النجاة» (أع 27: 20). هذا على مستوى الجسد. على مستوى اللحم والدم، على مستوى الأشياء. انكسرت السفينة ولو أنَّها دلَّت على حضور الكنيسة في قلب البحر، ولكنَّ يوحنّا الرسول سوف يقول لنا: في حضورالربِّ لا يمكن للسفينة أن تغرق (يو 21: 6)، ولا للشبكة أن تتمزَّق (آ11). فالكنيسة ثابتة وقوّات الجحيم لا تقوى عليها (مت 16: 18).