الفصل الثاني
كنت أضطهد كنيسة الله
ذاك ما قاله بولس الرسول في الرسالة إلى غلاطية فدُعيَ « المضطهِد»: »سمعتم بسيرتي الماضية في ديانة اليهود، وكيف كنت أضطهد كنيسة الله بلا رحمة وأحاول تدميرَها« (غل 1: 13). وردَّد القول عينه أو ما يشابهه ثلاث مرّات أخرى. في الرسالة عينها: »وإنَّما سمعوا (الكنائس) أنَّ الذي كان يضطهدنا هو الآن يبشِّر بالإيمان الذي كان يريد أن يدمِّره« (آ23). وفي معرض الكلام عن قيامة المسيح والشهود، وصل بولس إلى نفسه فقال: «فما أنا إلاّ أصغر الرسل، ولا أحسب نفسي أهلاً لأن يدعوني أحدٌ رسولاً، لأنّي اضطهدتُ كنيسة الله» (1كو 15: 9). وإذ كان يتكلَّم عن نفسه وحياته السابقة قال: «في الشريعة أنا فرّيسيّ، وفي الغيرة أنا مضطهِد الكنيسة» (فل 3: 5-6). وفي نصٍّ من التقليد البولسيّ، يعترف «الرسول» فيقول: «أحمد المسيح يسوع ربَّنا الذي قوّاني واعتبرني أمينًا، أنا الذي جدَّف عليه واضطهده وشتمه فيما مضى، ولكنَّ الله رحمني» (1تم 1: 12-13). كلامنا اليوم موضوعه: بولس مضطهد المسيحيّين. فهو قبل أن يصير رسول المسيح، عارض التلاميذ بشدَّة وعنف. وها نحن نتوقَّف عند ثلاثة أمور: طبيعة هذه الاضطهادات. ثم الدواعي. ما الذي دفع بولس لكي يقوم بهذه الاضطهادات؟ والأمر الثالث: الأماكن التي تمَّت هذه الاضطهادات فيها. أفي أورشليم أو اليهوديَّة أو دمشق أو أبعد من ذلك؟ ولكنَّ الربَّ يسوع أوقف هذا المضطهد في نصف الطريق، وحوَّله فأخذ الجانب الثاني فصار مضطهَدًا، حيث لاحقه بنو جنسه ولا زالوا يلاحقونه حتّى مات شهيدًا في رومة حوالي سنة 67.
1- طبيعة هذه الاضطهادات
أ- في الرسائل البولسيَّة
حين قرأنا ما قاله الرسول عن نفسه، لاحظنا قوَّة الألفاظ: البغض، الطرد، الشتيمة والافتراء على مثال ما كان يحصل للمضطهَدين الذين قال الربُّ فيهم: « هنيئًا لكم إذا عيَّروكم واضطهدوكم وقالوا عليكم كذبًا كلَّ كلمة سوء من أجلي» (مت 5: 11). أمّا القدّيس لوقا فأعطى عبارات أخرى: «هنيئًا لكم إذا أبغضكم الناس وطردوكم وعيَّروكم ونبذوكم نبذ الأشرار من أجل ابن الإنسان» (لو 6: 22).
ولكن هناك عنف أبعد من عنف الكلام: قد يصيب الجسد أيضًا على ما ذكر بولس بالنسبة إلى ما حصل له (2كو 4: 9-11؛ 11: 24-25): جلدني اليهود، ضربني الرومان، رجمني الناس. وهناك فعل خاصّ يتكرَّر: دمَّر، خرَّب، هذا ما يٌقال عن مدينة تصبح على الأرض بسبب الأعداء. ويعني أيضًا عذَّب الأشخاص بوحشيَّة لدفعهم إلى تبديل موقفهم أو للإقرار بمعلومات يحتاج إليها صاحب القوَّة ليكتشف «المتضلِّعين» في هذه البدعة الجديدة التي تهدِّد «الشريعة الموسويَّة».
عمليٌّا، ماذا أراد «شاول» أن يدمِّر؟ كنيسة الله. هو حاول، كما قال. ولكن حين اضطهد الكنيسة كان وكأنَّه يضطهد يسوع. فأحسَّ بالضعف في أعماقه، ولكنَّه ما أراد أن يستسلم بسهولة، وهو صاحب شخصيَّة فذَّة، أراد أن يدمِّر الإيمان الذي ينتشر بسرعة كبيرة، ولا يتوقَّف في أورشليم واليهوديَّة، بل يصل إلى دمشق و«بلاد العرب» أي ما يقابل اليوم حوران وشرقيّ الأردنّ إن لم يكن أبعد من ذلك.
ما الذي يميِّز هذا المضطهد؟ «الغيرة». الغيرة على التقاليد التي تسلَّمها من الآباء. ويا ليته كان على مستوى الآخرين! بل تعدّاهم فقال: «أفوق أكثر أبناء جيلي من بني قومي في ديانة اليهود وفي الغيرة الشديدة على تقاليد آبائي» (غل 1: 14). لسنا هنا فقط أمام عاطفة بسيطة لا تذهب بعيدًا بالإنسان. نتذكَّر هنا ما حصل للشعب في البرِّيَّة مع غيرة فنحاس واللاويّين: تعلَّق بنو إسرائيل ببعل فغور، ولعب البغاء المكرَّس لعبته. أين؟ في خيمة الاجتماع. رجل مع امرأة مديانيَّة. بكى الشعب لهذا المشهد. أمّا فنحاس «فدخل وراء الرجل الإسرائيليّ إلى مخدعه، فطعنه هو والمرأة في بطنهما» (عد 25: 6-9). وغيرة إيليّا للربِّ الإله تجاه عبّاد البعل الذي جلبته إيزابيل معها من صيدون وهي ابنة كاهنها، أمرٌ معروف: «اقضوا على أنبياء البعل« (1مل 18: 40). ثمَّ قال للربِّ في صلاته: «غيرة غرتُ للربِّ الإله القدير، لأنَّ بني إسرائيل تركوا عهدك» (1مل 19: 10). والمثل الثالث نقرأ في سفر المكابيّين الأوَّل (2: 24-26). أمر الملك السلوقيّ، الوثنيّ، بتقديم ذبيحة على مذبح الإله زوش. اقترب «أحد اليهود... فانتفض متتيا وثارت ثائرته ولم يقدر أن يكبح جماح غضبته، فهجم على اليهوديّ وقتله على المذبح». وقتل أيضًا في ذلك الوقت رسول الملك الذي كان يُجبر الناسَ على تقديم الذبائح، وهدمَ المذبح».
تلك كانت «الغيرة» عند اليهود، فتدفعهم النخوة من أجل الدين لأن يمارسوا العنف حتّى النهاية، كما يروون أخبارًا مضخَّمة ليدلُّوا كرههم لعبادة الأوثان. ففي خبر فنحاس قيل إنَّ اللاويّين قتلوا في ذلك اليوم «أربعة وعشرين ألفًا» (عد 25: 9). كيف يكون ذلك والعبرانيّون الآتون مع موسى لا يتجاوزون الثلاثة آلاف؟ وكذلك نقول في خبر إيليّا. إذا كان كلُّ كهنة بعل قُتلوا (1مل 19: 1) فكيف ظهروا فيما بعد؟ والجواب نحن أمام فنٍّ أدبيّ يريد أن يُبرز الشرَّ الكبير الذي يصيب الشعب. لهذا ضُخِّمت النتيجة ليعرف الشعب ما ينتظره من عقاب. وما نلاحظ هو أنَّ فيلون، الفيلسوف اليهوديّ العائش في الإسكندريَّة، في القرن الأوَل المسيحيّ، امتدح مثل هذا «الغضب الإلهيّ» الذي يدفع المؤمن إلى القيام بأعمال عنيفة على متجاوزي شريعة الله، في الخطِّ الذي رسمه الآباء. ولا شكَّ في أنَّ بولس أخذ بهذه الطريقة.
نحن هنا أمام موقفين. الأوَّل، يعتبر أنَّ بولس استعمل الإقناع فقط، في المجامع، مع بعض التهديد، فأنكر مسيحانيَّة يسوع وحاول أن يجلب المسيحيّين الجدد إلى التخلّي عن إيمانهم، وذلك انطلاقًا من الكتب المقدَّسة. والثاني يعتبر أنَّ بولس كان السبب في قتل بعض المسيحيّين. هو في هذا الموضوع يقرُّ بالعنف، ولكن لا نستطيع أن ننسب إليه القتل. وهو يميِّز الاضطهاد »بالسيف« (رو 8: 35) عن غيره من الاضطهادات. وحين قال للمؤمنين: »باركوا الذين يضطهدونكم« (رو 8: 35)، فهذا يعني أنَّ هؤلاء المضطهَدين ما زالوا على قيد الحياة. فالاضطهاد في نظره لا يعني «القتل».
ب- في سفر أعمال الرسل
تلك كانت اللوحة في رسائل القدّيس بولس. أمّا في سفر الأعمال، فجاءت مختلفة بعض الاختلاف. حين استعمل لوقا، صاحب سفر الأعمال، فعل «دمَّر«الذي ذكرناه سابقًا، فالمفعول لا يكون «الكنيسة« ولا »الإيمان«، بل المؤمنين أنفسهم. فالذين يهاجمهم بولس هم الذين »يدعون« اسم يسوع. فحين أخذ »شاول« يبشِّر في مجامع دمشق، تساءل السامعون: »أما كان هذا الرجل يضطهد كلَّ من يدعو بهذا الاسم؟ وهل جاء إلى هنا إلاّ ليعتقلهم ويعود بهم إلى رؤساء الكهنة؟« (أع 9: 21).
أراد بولس أن «يدمِّر«، أن «ينهي» وجود الكنيسة. فكان يقوم بمداهمات في بيوت المسيحيّين، ويقوم بتوقيف الرجال والنساء ويرميهم في السجن. هذا ما قال لنا سفر الأعمال بعد موت إسطفانس (أع 8: 3): « يذهب من بيت إلى بيت». تلك هي الذورة في المعلومات. وسبقتها معلومتان. الأولى أُدرجت في خبر استشهاد إسطفانس: وضعَ « الشهودُ» ثيابهم عند قدمي شاب اسمه شاول (7: 58). قد يكون هؤلاء «الشهود» وضعوا ثيابهم لدى شاول لئلاّ يصل الدم عليهم، ربَّما. وبالأحرى وضعوا ثياب إسطفانس. والمعلومة الثانية: «كان شاول موافقًا على قتل إسطفانس» (أع 8: 1). هذا يعني أنَّ «شاول» لم يكتفِ بأن يكون حاضرًا، شأنه شأن الآخرين، بل اتَّخذ موقفًا وموقفًا مقتنعًا بما حصل. وإذ ضمَّ لوقا بولس إلى مقتل إسطِفانس والاضطهاد الذي تلا هذا المقتل، أراد لنا تدرُّجًا دراماتيكيٌّا به يُبرز الانقلاب الرائع لدى »البطل« الذي يتحدَّث عنه.
لهذا استعاد كاتب سفر الأعمال المناخ عينه لكي يصل بنا إلى خبر الاهتداء: «أمّا شاول فكان ينفثُ صدرَه تهديدًا وتقتيلاً لتلاميذ الربّ، فذهب إلى رئيس الكهنة، وطلب منه رسائل« (أع 9: 1-2). هو عمل مناوئ للمسيحيَّة وصولاً إلى رؤية دمشق. ذاك ما يستعيده لوقا في تدرُّج متصاعد. أوَّلاً، حول ضحايا الاضطهاد. في أع 8: 3 كلام عن الرجال والنساء (أع 22: 4). في 22: 19: « كنتُ أدخل المجامع وأعتقل المؤمنين بك وأجلدهم«. ذاك ما قال بولس. أمّا في 26: 10 فقال: »هذا ما فعلتُ في أورشليم، فسجنت بتفويض من رؤساء الكهنة عددًا كبيرًا من القدّيسين».
وبالنسبة إلى العنف في المعاملة، هناك تدرُّج. حسب أع 22: 19، كان بولس »يدخل إلى المجامع«، وكان ذلك يحصل »مرارًا»، وذلك بتفويض من رؤساء الكهنة. أمّا هدف المعاملة السيِّئة، فإجبار المسيحيّين على ««التجديف» على اسم الربّ. ذاك الذي كان صدره »ينفث غضبًا، وسَّع الاضطهاد«، فوصل إلى المدن الغريبة، في البداية «توقيف» (9: 1). بعد ذلك، »تهديد وقتل«. وفي النهاية قال الرسول عن نفسه: «أعتقل المؤمنين وأجلدهم». وفي القتل، كان موافقًا (26: 10).
تلك كانت الاضطهادات التي قادها »شاول« ضدَّ المسيحيّين. دوَّنها لوقا في سفر الأعمال بأسلوب أدبيّ، دراماتيكيّ. لا شكَّ في أنَّ بولس كان يشي بهؤلاء المسيحيّين، يداهم البيوت والمجامع، ويعاقب من يجب معاقبته. أمّا القتل، فلا نعرف أنَّه وافق إلاّ على موت إسطفانس.
2- دوافع هذه الاضطهادات
لماذا اضطهد بولس المسيحيّين؟ ننطلق في البداية من النظرة اللاهوتيَّة التي كوَّنت في قلب هذا الشابّ هذه »الغيرةَ« التي لا يقف في وجهها حاجز. أهو كان في أورشليم، أم جاء يقيم فيها؟ لا فرق. المهمّ أنَّه سمع الرسل يقولون إنَّ يسوع الذي صلبه اليهود، قام من بين الأموات. ولماذا صلبوه؟ لأنَّه تعدّى على الشريعة. قال: إنَّه ينقض الهيكل ويبنيه في ثلاثة أيّام. لأنَّه لم يراعِ السبت فمارس فيه أعمالاً لا يُسمَح بالقيام بها في ذلك اليوم الذي قدَّسه الربّ وجعله له. وفي أيِّ حال، حين سألهم بيلاطس عن ذنب يسوع، كان الجواب واضحًا، وبدون تفصيل: »لنا شريعة، وهذه الشريعة تقضي عليه بالموت، لأنَّه زعم أنَّه ابن الله« (يو 19: 7). هنا نتذكَّر سفر التثنية الذي لا يسمح بالرحمة في مجال «التجديف«» على اسم الله. ذاك ما اختبره الكتبة ومعلِّمو الشريعة حين سمعوا يسوع يقول للمخلَّع: «يا ابني، مغفورة لك خطاياك» (مر 2: 5). ردَّة الفعل جاءت في الحال: «كيف يتكلَّم هذا الرجل كلامًا كهذا؟ فهو يجدِّف» (آ6). وفي مشهد المحاكمة أمام رئيس الكهنة، سُئل يسوع: «هل أنت المسيح ابن الله المبارك؟» (مر 14: 61). وكان الجواب بالإيجاب: »أنا هو. وسترون ابن الإنسان جالسًا عن يمين الله القدير، وآتيًا مع سحاب السماء» (آ62). «أنا هو» لا يعني فقط تأكيدًا على اسم ينادينا به شخص آخر. بل يقابل «يهوه». أي اسم الله في العهد القديم. هو تجديف ما بعده تجديف! إنسان ويقول إنَّه «عن يمين الله». عند ذاك، شقَّ رئيس الكهنة ثيابه وقال: «... سمعتم تجديفه» (آ63). إذًا، «يستوجب الموت».
ذاك هو المناخ الذي دخل فيه بولس حين وصل إلى أورشليم. وسمع الناس يتكلَّمون عن يسوع. منهم معه، ومنهم ضدَّه. ولكن يبقى الأساس بالنسبة إلى هذا الذي يغار على الشريعة: إذا كان يسوع مات باسم الشريعة، فهذا يعني أنَّ الشريعة كانت على حقّ ويسوع «كاذب». بما أنَّه «مات» فهذا يعني أنَّ الشريعة «حيَّة» وتستحقُّ التضحية من أجلها كما حصل لكثير من اليهود في أوقات الاضطهاد، ولا سيَّما الحقبة المكابيَّة. ذاك ما يعلنه خصوم يسوع. والذين معه يقولون إنَّ الشريعة ماتت ويسوع حيٌّ إلى الأبد. وبما أنَّ بولس سليم النيَّة ومستقيم الضمير، انتقل بقلبه إلى جانب الذين هم مع يسوع. وكان صراع في داخله: هل يسوع مات حقٌّا؟ ولكنَّه يحسُّ به يحرِّكه في أعماقه. الشريعة ملموسة. يسمعها. يطبِّقها. وهناك جماعات تكاد »تعبدها«. أمّا يسوع؟ فهو لا يراه. ولكن يسمعه في قلبه. هي نار في داخله يريد أن يحاربها وكأنَّه لا يريد أن يتخلّى عن ماضيه «الفرّيسيّ» الذي فيه ربَّما قال: «حياتي هي الشريعة». إذًا، لا بدَّ من مخاصمة يسوع.
ولكن أين هو هذا الخصم؟ إن كان غائبًا عن الأنظار، فالذين يتكلَّمون باسمه وينادون، حاضرون في كلِّ مكان ولا يخافون أحدًا. فما العمل؟ نُسكتهم. إن اقتنعوا كان حسنًا، وإلاّ نستعمل القوَّة من أجل الشريعة. فقال هو عن نفسه: «في الغيرة أنا مضطهد الكنيسة، وفي التقوى حسب الشريعة، فأنا بلا لوم» (فل 3: 6). وإذ يضطهد بولس المسيحيّين، يطلب الدفاع عن الشريعة. فكيف يأكل اليهوديّ مع الوثنيّ؟ ألا يخاف أن يتنجَّس؟ وكيف يعود من السوق ولا يحسُّ بأنَّه تدنَّس بما وضع يده عليه؟ وكيف يتجاسر أن يأكل ولا يغسل يديه قبل الطعام؟ إنَّ هذه البدعة الجديدة تهدِّد المجتمع.
وباسم الشريعة عُلِّق يسوع فاعتُبر ملعونًا. ذاك ما قاله سفر التثنية: «وإذا وجدتُم على أحد جريمة تستوجب القتل، فقُتل وعُلِّق على خشبة. في ذلك اليوم تدفعونه، لأنَّ المعلَّق ملعون من الله» (تث 21: 23). أهذا «الملعون» يجرؤ أن يقول: «قيل لكم أمّا أنا فأقول لكم؟« قال موسى: «لا تقتل» (خر 20: 13). ويتجرَّأ يسوع ويضيف شيئًا، بل يكاد يلغي الوصيَّة، ويعتبر نفسه أعظم من السبت!
أورد بولس سفر التثنية بحسب النصِّ اليونانيّ، وألغى لفظ «من الله» فصارت العبارة فقط: «ملعون كلُّ من مات معلَّقًا على خشبة» (غل 3: 13). ولكنَّ الرسول سوف يكتشف المعنى العميق لما عاشه يسوع. كانت لعنة الشريعة ثقيلة على المؤمن، فقال بولس: «والمسيح حرَّرنا من لعنة الشريعة، بأن صار لعنة من أجلنا». فكما حمل خطايانا، كذلك حمل اللعنة التي أصابت البشريَّة منذ بداياتها.
الدوافع عند بولس؟ هل هي خارجيَّة؟ ربَّما. هل ترتبط برسائل تلقّاها من رئيس الكهنة؟ في أيِّ حال، لم يكن بحاجة إليها وهو الفرّيسيّ الذي لا تحرِّكه سوى الغيرة على ديانة الآباء. فهل رُجم إسطفانس بأمر من السلطة الدينيَّة؟ بل بعض اليهود هيَّجوا الشعب... الدافع الأساسيّ هو شخصيّ. فهذا المتعلِّق بالشريعة أحسَّ بنفسه مهدَّدًا. فهؤلاء «المسيحيّون» الذين اعتُبروا على هامش العالم اليهوديّ، سيكونون هم في القلب. واليهود يكونون مهمَّشين، بحيث يعتبرون أنَّ الله ظلمهم (رو 9: 14). بل هو خان عهده! هذه الحال في قلب شاول هي لاواعية. وسوف يفهمها فيما بعد على ضوء الإيمان المسيحيّ. ظنَّ أنَّ الشريعة متينة، ثابتة، تتحدَّى كلَّ الصعاب، فإذا هي في الواقع تحمل الصراع إلى داخل الإنسان. ذاك ما قاله الرسول في رو 7: 7-11:
7 فماذا نقول؟ أتكون الشريعة خطيئة؟ كلاّ.
ولكنّي ما عرفت الخطيئة إلاّ بالشريعة
فلولا قولها لي: «لا تشتهِ! » لما عرفتُ الشهوة.
8 ولكنَّ الخطيئة وجدت في هذه الوصيَّة فرصة لتثير فيَّ كلَّ شهوة،
لأنَّ الخطيئة بلا شريعة ميتة.
10 فإذا بالوصيَّة التي هي للحياة، قادتني أنا إلى الموت.
11 لأنَّ الخطيئة اتَّخذت من الخطيئة سبيلاً، فخدعتني بها وقتلتني.
هذه الشريعة يريدها بولس ولا يريدها. ما يرغب فيه لا يفعله. بل يفعل ما يكرهه. لهذا يهتف من عمق شقائه: «من ينجِّيني من جسد الموت هذا؟» (آ24). وسبق وقال: «ما أتعسني أنا الإنسان! ».
ذاك ما اكتشفناه في الرسائل. وماذا يقول سفر الأعمال؟ هنا نعود إلى الفصل السادس من أعمال الرسل: فئتان في الكنيسة الأولى: اليهود العبرانيّون واليهود اليونانيّون. أمّا إسطفانس فكان من الفئة الثانية التي كان لها مجمعها في أورشليم. ولا شكَّ في أنَّ بولس، ذاك اليهوديّ العائش في الشتات، أي خارج فلسطين، والمتكلِّم اليونانيَّة، انتمى إلى العنصر الهلّينيّ مع قراءة التوراة السبعينيَّة. هذا يعني أنَّه شهد عمل إسطفانس وسائر الهلِّينيّين وكيف تعلَّقوا بيسوع. مات «قائد» هذه الجماعة، ولكنَّ التيّار لم يتوقَّف بل لبث في اندفاعته. فأحسَّ «شاول» أنَّ مهمَّته دفاعيَّة بوجه هذه الهجمة الجديدة. ثمَّ أورد سفر الأعمال أنَّ إسطفانس اتُّهم بأنَّه قال كلامًا على الهيكل وعلى الشريعة (أع 6: 13). بهذا اتُّهم يسوع أيضًا (مر 14: 58): «نحن سمعناه يقول: سأهدم هذا الهيكل المصنوع بالأيدي، وأبني في ثلاثة أيّام هيكلاً آخر غير مصنوع بالأيدي». وإن كان يسوع لم يقل شيئًا مباشرًا ضدَّ الشريعة التي أراد مراعاتها على أنَّها كلمة الله، إلاّ أنَّ تصرُّفاته وأقواله بيَّنت أنَّه يجب أن يتجاوزها. فمن هو يسوع لكي يتجاوزها؟ ومن هو إسطفانس ليشتم «الهيكل المقدَّس والشريعة»؟
ردَّة الفعل الأولى عند هذا المضطهد كانت سلبيَّة. ولكن الحمد لله أنَّه كانت هناك ردَّة فعل. أمّا الذين لم يهتمُّوا بما يقال عن يسوع، فواصلوا طريقهم ومرُّوا بالقرب من يسوع دون أن يعرفوه. ولمّا قُتل إسطفانس، أصيب «شاول» في الصميم. بدا وكأنَّه «مات». ولكن متى يقوم؟ سوف ينتظر خبرة الطريق إلى دمشق. وشجاعة هؤلاء الناس الذين رفضوا أن يُنكروا إيمانهم، طرحت على بولس أكثر من سؤال: من الذي يعطيهم هذه القوَّة؟ وما الفائدة من إنسان مائت؟ ولكنَّ بولس سوف يقال عنه في قيصريَّة: »رجل مات اسمه يسوع، وبولس يزعم أنَّه حيّ« (أع 25: 19). منذ الآن بدأ يعيش يسوع في قلب بولس. والعنف الذي في قلبه تجاه ذاك الذي يهاجمه ولا يترك له مكانًا للراحة، بيَنه في عنف الاضطهاد. هو لا يقدر على يسوع. لهذا يرتدُّ على تلاميذ يسوع. ذاك هو في العمق الدافع الأساسيّ الذي جعل شاول يلاحق المسيحيّين في أكثر من مكان، وكأنَّه يريد منهم الجواب. أمّا الجواب فسوف يأتيه من يسوع الذي يرسله إلى جماعة حنانيّا في دمشق.
3- بين اليهوديَّة ودمشق
ونطرح السؤال الأخير: أين قام شاول بأعماله القاسية ضدَّ المسيحيّين؟ بدأ في أورشليم مع الذورة في مقتل إسطفانس. ولكنَّ موتَ إسطفانس كان نقطة انطلاق جديدة، كأنَّ ما فعله بولس هنا جعل غيرته تزداد غيرة، بل سخطه يزداد سخطًا: من هم هؤلاء المؤمنون الذين لا شيء يلويهم؟ إسطفانس يموت وكأنَّه ماضٍ إلى لقاء الربِّ يسوع. وفي النهاية يغفر: «يا ربّ، لا تحسب عليهم هذه الخطيئة! » (أع 7: 60). سوف يعرف فيما بعد أنَّ ما قاله إسطفانس كان امتدادًا لما قاله يسوع على صليبه: «اغفر لهم يا أبتِ لأنَّهم لا يدرون ماذا يفعلون» (لو 23: 43).
في أورشليم، لم يميِّز: يأخذ «الرجال والنساء» لا فرق. ولماذا لا يأخذ الأطفال؟ وامتدَّ عمله إلى اليهوديَّة وإلى السامرة أي في فلسطين كلِّها. إلى هناك تشتَّت التلاميذ، بعد أن أخذت »كنيسة أورشليم تعاني اضطهادًا شديدًا« (أع 8: 1). وما كان يتوقَّف عند كنيسة واحدة، بل يسعى إلى خراب الكنائس التي يمكنه الوصول إليها، والكنائس هنا هي تلك الجماعات التي تكوَّنت في كلِّ مدينة، وكانت تلتئم في بيت من البيوت: في بيت كورنيليوس (10: 1ي)، في بيت ليدية (أع 16: 40)، في بيت فيلمون. وفي ترواس (أع 16: 7ي) اجتمع المؤمنون في «الغرفة العليا مع المصابيح الكثيرة». مثل هذه البيوت كان شاول يداهم.
غير أنَّ هذا «المضطهد» لم يكتفِ «بأرض اليهود»، بل نظَّم حملة «عسكريَّة» إلى خارج الحدود. هناك جماعات يهوديَّة تبعوا «الطريق» (أع 9: 2). وأيُّ طريق؟ هم يَضلُّون ويُضلّون الشعب، على ما كانوا يقولون عن يسوع. فيجب أن نضع حدٌّا لغيِّهم. ونحن لا ننسى أنَّ دمشق كانت إحدى المدن العشر (ديكابوليس) التي سيطرت فيها الحضارة اليونانيَّة. إلى هناك مضى بعض المسيحيّين الهلِّينيين من جماعة اسطفانس. ونحن لا نتركهم في سلام. لهذا نفهم ما قاله لوقا في بداية ف 9 عن «تلاميذ الربّ». وهناك آخرون من هؤلاء التلاميذ وصلوا إلى أنطاكية، بعد أن «شتَّتهم الاضطهاد« (أع 11: 19). فالاضطهاد لا يمكن أن يُوقف انتشار الكنيسة، والصعوبات تقوّي المؤمنين. أمّا الحياة السهلة فتجعلهم يضعفون، يتراخون. هم «مقيمون» في الإيمان، وحياتهم هادئة، فلماذا الاهتمام؟ ولماذا القيام بأعمال الرسالة؟ ذاك هو الوضع الحالي في كنائسنا الشرقيَّة: نحافظ على قطيعنا، ونبكي إن تركَنا خروفٌ منه. نبقيه كما كان منذ ألف سنة ونيِّف بحيث يبقى سامعًا، طائعًا. أمّا الانطلاق إلى الخارج فهذا أمر آخر. والخروج من الإطار الذي نعرف، واستقبال الجدد! صرنا قريبين من الدعاوة اليهوديَّة، التي تفرض على المؤمن أن يصير مثل اليهوديّ قبل ن يؤمن بالإله الواحد ويحفظ وصاياه. الآتي إلينا يكون مثلنا. لا يحقُّ له أن يحافظ على شخصيَّته! أهذا هو الإيمان المنفتح؟ أما دخلْنا في تعصُّب مؤمنين يخافون من الاندثار إن لم نقل من الذوبان؟
المياه الراكدة تصبح نتنة. والمياة الجارية وحدها تبقى حيَّة. لو لبثت الكنيسة محصورة في أورشليم، لكانت جماعة مثل الجماعات العديدة في العالم اليهوديّ. وفي أيِّ حال، حسبوها كذلك في البداية ولا سيَّما أنَّ الرسل لبثوا يؤمُّون المجمع. وأرادوا أن يقاضوا «تلاميذ الربّ» كما يقاضون كلَّ محافظ على شريعة موسى. ولكن خرج من جماعة أورشليم المسيحيّون الهلِّينيّون، أي الذين يتكلَّمون اليونانيَّة. وفي خطِّهم سوف يسير بولس حين يدعوه برنابا إلى الرسالة (أع 11: 25-26).
طال الاضطهاد جماعة إسطفانس، ويبدو أنَّ العنصر «العبرانيّ» لبث في سلام. وهنا نفهم ما حصل في أنطاكية حين جاء أناس من عند يعقوب (غل 2: 12). فالذين لبثوا في أورشليم، كدتُ أقول أوقفوا الرسالة. لا حاجة إلى مشاكل. نصلّي مع اليهود في المجمع، ونكسر «الخبز في البيوت»« (أع 2: 46). أمّا العنصر الهلِّينيّ فهربوا من مدينة إلى أخرى (مت 10: 23)، وما أوقفوا الرسالة والبشارة بالإنجيل. وهم أوَّل من اتَّخذوا اسم «مسيحيّين» (أع 11: 26). هم بشَّروا في «فينيقية وقبرص وأنطاكية» (آ19) وأرسلوا من مدَّ الرسالة لتصل إلى أقاصي الأرض (أع 13: 1ي).
«دم الشهداء بذار المسيحيّين». هكذا كانوا يقولون في بداية الكنيسة. وهذا ما يقولونه أيضًا في عدد من البلدان، حيث لا يكون الاضطهاد «تهديدًا وتقتيلا»بل ضغط نفسانيّ واقتصاديّ واجتماعيّ بحيث يترك المؤمن دينه ويهجر بلاده. هل تخون الكنيسة الأمانة؟ هي لا تخون ككنيسة وموقعها حاضر في المجتمع، بل المؤمنون، كما حصل في هذا الشرق. وفي أيِّ حال، أفضل خطَّة للدفاع هي الهجوم. لا بالسلاح البشريّ، بل بالإنجيل «القادر على هدم الحصون... وكلُّ عقبة ترتفع لتحجب معرفة الله» (2كو 10: 4-5). ذاك ما فعله «تلاميذ» الشهيد إسطفانس. وما اكتفوا بمخاطبة اليهود، بل »أخذوا يخاطبون الناطقين باللغة اليونانيَّة (أي: الوثنيّين) أيضًا ويبشِّرونهم بالربِّ يسوع« (أع 11: 20). والنتيجة: «كانت يد الربِّ معهم. فآمن منهم كثيرون واهتدوا إلى الربّ» (آ21). فماذا ستفعل كنيسة أورشليم تجاه هذا الانقلاب؟ هل تضع حدٌّا للرسالة وتخاصم كما سبق لها وخاصمت بطرس؟ (أع 11: 1). ولكنَّ برنابا «رأى نعمة الله، وفرح وشجَّعهم كلَّهم (يهود ووثنيِّين اهتدوا إلى الإيمان) على الثبات في الربِّ بكلِّ قلوبهم» (أع 11: 23).
الخاتمة
ذاك هو وجه بولس في صراعه مع الكنيسة، مع المؤمنين الأوَّلين. فهم مثله تحضَّروا بالحضارة اليونانيَّة. وكان يفهم عليهم ويكتشف ما في كلامهم من «تجديف» على الشريعة التي وحدها «تعطي الحياة».، كما يقول الكتاب. ولكنَّ وجودهم طرح عليه سؤالاً: من هم هؤلاء؟ هو الآن لا يقدر أن يكون منهم، ولهذا فهو يحاربهم، يلاحقهم من بيت إلى بيت، ومن مدينة إلى مدينة. شتَّتهم فاعتبر سفرُ الأعمال أنَّ هذا كان «عمل الروح» لكي تنتشر البشارة: نحو دمشق وبلاد العرب، حيث المدن العشر بحضارتها الهلّينيَّة مثل جرش وفيلدلفية أو عمّان، ونحو أنطاكية وقبرص مرورًا بفينيقية. وفي النهاية، ذلك المضطهد صار من تلاميذ الربّ. بدأ يكون «ذئبًا ينقضُّ على القطيع»، فإذا هو خروف بين خراف ذاك الذي اسمه الراعي الصالح. الذي يعرف أن يبحث عن الخروف الضالّ، يلاحقه، يدركه. ذاك ما فعل ببولس على طريق دمشق حين ناداه باسمه: «شاول، شاول! ».