السبعون
حين أراد بطليمس الثاني محبّ الإخوة (فيلدلفس) في بداية القرن الثالث ق.م. أن يُغني مكتبته، طلب أن تُترجم التوراة إلى اليونانيّة، لتأخذ محلّها في مكتبة الإسكندريّة. أرسل إلى رئيس الكهنة في أورشليم، فبعث إليه اثنين وسبعين عالمًا، على أن يكون ستّة علماء من كلّ قبيلة من قبائل إسرائيل. في الواقع، كان الرقم سبعين. لهذا، دُعيت هذه الترجمة »السبعينيّة« نسبة إلى الذين عملوا فيها. ويُحكى أنّهم اشتغلوا منفردين، فوُجدوا متوافقين. هذا يعني أنّ الروح عمل فيهم كما عمل في الذين كتبوا النصّ العبريّ. واليوم يرى عدد من العلماء أنّ السبعينيّة ملهمة هي أيضًا، وأنّها طوّرت النصّ الأوّل الذي وصل إليها، فنقلته من عالم ضيّق هي اللغة العبريّة التي كادت تندثر أمام الآراميّة، إلى لغة عالميّة، هي اللغة اليونانيّة. وكان الوضع نفسه بالنسبة إلى الأناجيل التي ما كُتبت في أراميّة فلسطين المنعزلة، بل في اليونانيّة، مع بولس الذي فتح الطريق برسائله فتبعه سائرُ كتّاب العهد الجديد. إذا كان الرقم 12 يربطنا بالعالم الشرقيّ، اليهوديّ والمسيحيّ، فالرقم 7 يربطنا بحضارة اليونان. كانوا يميّزون بين اليهوديّ واليونانيّ. فتَقابل الاثنان من خلال رقمين وفهمت الكنيسة نوعًا من التواصل مع أولويّة تاريخيّة على مستوى الثواب والعقاب: »الويل والعذاب لكلّ إنسان يعمل الشرّ من اليهود أوّلاً، ثمّ اليونانيّين. والمجد والكرامة والسلام لكلّ من يعمل الخير من اليهود أوّلاً ثمّ من اليونانيّين« (روم 2: 9-10). فالانتقال من عالم إلى عالم، يمرّ عبر رمزين، عبر رقمين يفهماننا أنّ الإنجيل يصل إلى جميع الشعوب وحتّى أقاصي الأرض.
1- لائحة الشعوب
»وهؤلاء مواليد نوح: سام وحام ويافث، ومن وُلد لهم من البنين بعد الطوفان« (تك 10: 1). »من هؤلاء تفرّقت أمم البحر ببلدانهم وعشائرهم، كلّ جماعة بحسب لغتها« (آ 5).
هكذا يورد سفر التكوين لائحة الشعوب التي دُوّنت في وقت متأخّر. في القرن الخامس أو الرابع ق.م. جمع التقليد الكهنوتيّ الشعوب لا بحسب تقارباتهم الإتنيّة والعرقيّة، بل بحسب علاقاتهم التاريخيّة وموقعهم الجغرافيّ.
ويبدأ النصّ بنسل يافث. هم 14 أي مرّتين 7. كمال وكمال. أقام هؤلاء في المناطق الشماليّة، في آسية الصغرى والجزر المجاورة. وفي النهاية سيكون يافث مثل أوروبّا. معنى اسمه: الله يوسّع. ويذكّرنا باسم »يافيتوس ابن بروميتاوس« الذي جلب النار من السماء فأدخل الحضارة إلى البشريّة. يافث ليس اسمًا ساميٌّا ولا يونانيٌّا. قد يكون مرتبطًا بشعوب البحر، فيدلّ في معنى قريب على الفلسطيّين الذين جاؤوا من جزر اليونان وحاولوا التوسّع في زمن القضاة بعد أن دمّرهم الفرعون، فأقاموا في مدن خمس على الساحل الفلسطينيّ الجنوبيّ، بمحاذاة مصر.
نسل حام أوسع. 28 أي أربع مرّات 7. أقاموا في الجنوب بالنسبة إلى فلسطين التي تعتبر بعاصمتها وهيكلها، محور العالم. أقاموا في أفريقيا بشكل خاصّ وعرابية التي تصل إلى المحيط الهنديّ. إرتبط الاسم بالحرارة والحماوة واشتداد الحرّ. وبنو سام كانوا أيضًا 28 شعبًا. أقاموا خصوصًا في بلاد الرافدين من حيث جاء إبراهيم ونسله. يرتبط اسم »سام« بالسموّ والارتفاع والعلوّ.
وهكذا نصل إلى سبعين شعبًا، هم شعوب الأرض. هذا العدد يقابل »أبناء الله السبعين« كما في ميتولوجيّة أوغاريت (رأس شمرا، شمالي اللاذقيّة في سورية) كما يقابل الملائكة الذين يحرسون الأمم. نقرأ في سفر دانيال (10: 13): »ورئيس الرؤساء أتى لنصرتي وأنا باقٍ هناك في مملكة فارس«. نشير هنا إلى أنّ كلّ أمّة لها »شفيعٌ« ملائكيّ (أو: أمير) يسهر عليها ويمثّلها لدى الله. وهذا يعكس العالمُ الحاوي العالم الأرضي، وهذا ما يشرح القتال بين الملائكة. والرقم 21 (3×7) رمزيّ، وهو يقابل الصوم الذي قام به دانيال: »صمتُ ثلاثة أسابيع، لا آكل طعامًا شهيٌّا، ولا يدخل في فمي لحمٌ ولا خمر« (آ 3). أمّا الرؤساء الأربعة الكبار (رؤساء الملائكة) فهم، بحسب كتاب أخنوخ المنحول: ميخائيل (من مثل الله)، جبرائيل (جبّار الله) رفائيل (شفاء الله). أورئيل (نور الله).
هذا العدد فرضه التقليد الذي حدّد الأمم بعدد أبناء الله، كما نقرأ في تث 32: 8:
اختار العليّ الأمم،
أفرد بني البشر (ميّز)
وقسم أرضهم ملكًا
على عدد بني إسرائيل.
وهكذا نعود إلى تك 10: 25ب والكلام عن »فالج« الذي »في أيّامه قُسمت الأرض«. أمّا مركز التجمّع فهو جبل صافون الذي يقع شمالي فينيقية (أش 14: 13). والرقم 7 لا يكتفي بأن يكون بشكل عامّ في 21 و28 و28. بل هو داخل هذه الأرقام وبالتالي داخل عائلات الكون الثلاث: بنو يافث هم سبعة (تك 10: 2) بنو بنيه سبعة (آ 3-4). في بني حام، نسل كوش (آ 7) سبعة. وكذلك نسل حصرايم (آ 13-14). ونسل سام، شأنه شأن نسل يافث، سبعة (آ 22): عيلام، أشور، أرفكشاد. أو بالأحرى: أرق أي العربيّ في اللغة الأشوريّة الحديثة. ثمّ »ك س د« أي الكلداي. ثمّ لود، أرام، فيتان (كما في اليونانيّة). ونسل أرام سبعة (آ 23) وكذلك »كاسد« (آ 24). أمّا مجموعة يقطان الذي هو في الأصل ابن »أرق« (أو: عرب) فتعد 14 (7×2) شخصًا: الموداد، شالق، حضرموت...
ونذكر بعض الأسماء. فإن »توجرمة« (آ 3) ابن »جومر«، هو جدّ القيمريّين أو الغيمريّين (غ ي م ر ي ا، في الأكاديّ) الذين أقاموا في فيافي روسيّا وعلى حدود أرمينيا. ولكن لا نقرأ توجرمة، بل توجدمة (أو: توغدمة) بسبب المزج بين الدال والراء. فهذا القائد عرفته النصوص الأكاديّة واليونانيّة (ليغداميس). وذكر »بيته« حز 27: 14 و38: 6. أليشة (آ 4). هو ابن ياوان. هو »عولس« صاحب الأسفار الطويلة، وقد جُمع مع ترشيش. أمّا »جزر ترشيش« (حز 27: 5) التي هي »بنو ياوان« (أيونية أو تركيّا)، فهي الجزر الأيونيّة التي سكنها اليونان.
أمّا ف 1-11 من سفر التكوين التي كانت آخر ما دوّن في التوراة، فكانت المقدّمة للكتاب المقدّس، فأرادت أن تجمع الشعوب. في آدم أوّلاً. وبعد الطوفان، في نوح وفي أبنائه. وبعد برج بابل في إبراهيم. فبأبي الآباء، تتبارك كلُّ أمم الأرض بقبائلها وعشائرها (تك 12: 3).
2- نسل يعقوب في مصر
في تقليد أوّل يرتكز على الرقم 12، نعرف أنّ بني يعقوب كانوا اثني عشر، وذلك في نسب يرتبط بأرض فلسطين. فالقبائل تجتمع حول المعبد الواحد وتؤمّن الخدمة، كلُّ قبيلة، شهرًا في السنة. وفي تقليد ثانٍ ينقلنا إلى خارج فلسطين، إلى أرض مصر، يُقال لنا عدد نسل يعقوب. نقرأ في تك 46: 26-27 ما يلي: »فجمعوا الذين جاؤوا إلى مصر مع يعقوب، وهم من صلبه، ستٌ وستّون نفسًا ما عدا امرأتي أبيه. وابنا يوسف اللذان وُلدا له في مصر نفسان. فيكون جميع الذين وصلوا مصر من بيت يعقوب، سبعين نفسًا«.
الرقم سبعون رقم هامّ جدٌّا. فهو ضرب 7 (رقم الكمال في الشرق) و10 رقم الكمال في العالم اليونانيّ (لأنّه يجمع الأرقام الأربعة الأولى، 1، 2، 3، 4). في الواقع، إذا قرأنا النصّ حرفيٌّا، لن يكون لنا سبعون بل ستّة وستّون، مثلاً، إذا حسبنا الأشخاص المذكورين في تك 46: 8-25. ولكن لا بدّ من الوصول إلى الرقم 70. فكانت أكثر من محاولة. حُسب ابنا يوسف اللذان وُلدا له في مصر (تك 46: 27). أمّا آ 26، فتركت جانبًا ابني يهوذا، عيرًا وأدنان. أمّا التقليد اليونانيّ الذي تبعه سفر الأعمال، فعدّ خمسة وسبعين شخصًا. نقرأ بلسان اسطفانُس: »وفي المرّة الثانية، تعرّف يوسف إلى إخوته، وتبيّن أصلُه لفرعون. فاستدعى يوسفُ أباه يعقوب وجميع عشيرته. وكانوا خمسة وسبعين شخصًا« (أع 7: 13-14).
الرقم سبعون يدلّ على إحصاء الأسرى، الذي قام به الكتبة الأشوريّون والبابليّون خلال المنفى، الذي يجد صورته البعيدة خلال الإقامة في مصر. فنقطة الانطلاق هي المنفى الذي دام سبعين سنة من سنة 597 إلى سنة 537 ق.م. كلّ هذا يجعلنا في رمزيّة الخروج من فلسطين، نحو مصر أو بلاد الرافدين. فالأمم الوثنيّة سبعون. وأبناء يعقوب الذاهبون إليها يكونون سبعين. هذا المعنى الروحيّ والرسوليّ، يقودنا إلى العهد الجديد، حيث نجد الرقم سبعة والرقم سبعين أو اثنين وسبعين.
3- واختار يسوع
بعد أن تحدّث القدّيس لوقا عن اختيار الاثني عشر على الجبل (لو 6: 12)، وعن النساء اللواتي يؤدّين الخدمة المادّيّة والرسوليّة (8: 1-3). قال: »وبعد ذلك، اختار يسوع اثنين وسبعين آخرين، وأرسلهم اثنين اثنين يتقدّمونه إلى كلّ مدينة أو موضع عزم أن يذهب إليه« (لو 10: 1). هذا في النسخات المرتبطة بالنصّ اليونانيّ لسفر التكوين الفصل العاشر. وفي نسخات أخرى، نقرأ »سبعين تلميذًا« بالاتّفاق مع النصّ العبريّ. وفي أيّ حال، هي الرسالة إلى الأمم الوثنيّة. غير أنّها لا تبدأ الآن، بل بعد صعود المسيح إلى السماء وإرسال الروح القدس (لو 24: 47؛ أع 1: 8). ولكن نجد هنا صورة سابقة رامزة إلى ما بدأ به يسوع، ليكون معلّم تلاميذه لا بالكلام وحسب، بل بالعمل أيضًا.
نلاحظ أنّ الكلام الذي ورد هنا في لوقا، يقابل الكلام في متّى حيث يرسل يسوعُ الاثني عشر ويوصيهم (مت 10: 5). وقال مرقس في هذا المجال: »ودعا يسوع إليه الاثني عشر وأخذ يرسلهم اثنين اثنين ليبشّروا« (مر 6: 7). هذا يعني أنّه إن كان الاثنا عشر مضوا إلى العالم اليهوديّ، في الدرجة الأولى فقيل لهم: »لا تقصدوا أرضًا وثنيّة، ولا تدخلوا مدينة سامريّة. بل اذهبوا إلى الخراف الضالّة من بني إسرائيل« (مت 10: 5-6)، فالسبعون مضوا إلى صور وصيدا.
هنا نقارب بين 70 تلميذًا و120 مؤمنًا، فنقرأ في أع 1: 15: »وفي تلك الأيّام، خطب بطرس في الإخوة، وكان عدد الحاضرين مئة وعشرين تقريبًا«. إذا عرفنا أنّ الرقم 10 ضروريّ لتكون الجماعة اليهوديّة كاملة في موضع من المواضع، بحيث تقدر أن تبني مجمعًا، نفهم أنّ الرقم 120 يعني أنّنا أمام 12 جماعة، وكلّ جماعة تتألّف من عشرة أشخاص. ونستطيع القول نفسه بالنسبة إلى الرقم 70: نحن أمام سبع كنائس، وفي كلّ كنيسة عشرة أشخاص يرمزون إلى الجماعة الكاملة.
في هذا الإطار، نفهم الارتباط بين السبعين تلميذًا الذين اختارهم يسوع، وبين السبعة الذين اختارهم الرسل (أع 7: 5): اسطفانس، فيلبّس، بروخورس... دعاهم البعض شمامسة في المعنى الكنسيّ حيث الشمّاس يعيش في درجة تهيّئه للكهنوت. هذا خطأ. هم الخدّام. خدّام الكلمة كما فعل اسطفانس فمات. ومثله فعل فيلبّس الذي مضى إلى السامرة، كما سوف نراه مع بناته في صور (أع 21: 8). هم الخدّام في العالم الوثنيّ، كما الاثنا عشر هم الخدّام في العالم اليهوديّ. وسوف نرى الجمع في الرسالة مع إنجيل يوحنّا.
في فصل من هذا الإنجيل، يعتبره النقّاد ملحقًا للفصول العشرين السابقة، نجد سبعة رسل لا اثني عشر: »اجتمع سمعان بطرس، وتوما الملقّب بالتوأم، ونتنائيل الذي من قانا الجليل، وابنا زبدى، واثنان آخران من تلاميذ يسوع« (يو 21: 2). هم سبعة لا اثنا عشر. ونقرأ هنا اسم نتنائيل الذي اقتاده فيلبّس إلى يسوع حين قال له: »وجدنا الذي ذكره موسى في الشريعة، والأنبياء في الكتب، وهو يسوع ابن يوسف من الناصرة« (يو 1: 45). هو اسم لا نجده في لوائح الأناجيل الإزائيّة، ولا في سفر الأعمال. وجمع يوحنّا خمسة أشخاص هم رسل: سمعان بطرس، توما، نتنائيل، يعقوب ويوحنّا. الرقم 5 هو رقم القداسة في الكتاب المقدّس، لأنّه يجمع الإله الواحد مع أربعة أقطار الأرض. ونكاد نقول إنّ هذا الرقم الذي ارتبط بالعهد القديم، وجد كماله في العهد الجديد، حين ذكر الإنجيل »اثنين آخرين«. فبعد موت الرسل، صار الجميع »تلاميذ«، وكثر عددُهم، وسوفَ يذكر سفرُ الأعمال منشأهم: بلاد الفرات، ماداي، عيلام، ما بين النهرين وصولاً إلى مصر ونواحي ليبية (أع 2: 9-11). هم اثنا عشر شعبًا. وهكذا انعكست الصورة: السبعون أمّة صارت اثنتي عشرة أمّة، والتلاميذ أو الرسل الاثنا عشر، صاروا سبعين تلميذًا، فامتزج العالم العبريّ بالعالم اليونانيّ والشعب اليهوديّ العابد الإله الواحد، بالشعوب الوثنيّة. ولم يعد هناك سفينتان كما قال لوقا في الصيد العجيب، حيث السفينة تدلّ على الكنيسة (لو 5: 2). بل السفينة واحدة، كما نقرأ في يو 21: فالخمسة الذين يمثّلون الرسل المرسلين إلى بني إسرائيل، والاثنان اللذان يرمزان إلى السبعين، كانوا كلّهم في سفينة سمعان بطرس الذي صار التلميذ الحبيب بعد أن أعلن حبَّه ثلاث مرّات ليسوع، فتسلّم رعاية الخراف والنعاج.
الخاتمة
تلك كانت مسيرتنا في الكتاب المقدس كلّه، من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا. المسيرة واحدة لأنّ الروح القدس يفتح الطريق لنا. فتجاه اليهود العائدين من المنفى المنعزلين على ذواتهم في أمّة »مختارة« تبتعد عن الشعوب »الخاطئة« النجسة، قدّم الكاتب الملهم لوحة جعل فيها كلّ شعوب الأرض. فالخلاص هو لجميع البشر لا لفئة من الفئات. سبعون أمّة استعدّت لكي تدخل في إيمان إبراهيم وصولاً إلى يسوع المسيح الذي أرسل إليها سبعين تلميذًا. لا شكّ في أنّهم ينطلقون من أورشليم ومن اليهوديّة، ويتوقّفون عند السامريّين الذين يُعتبرون »منشقّين«، ولكن عليهم أن يصلوا إلى أقاصي الأرض. هي مغامرة حملت الإنجيل إلى رومة، عاصمة الوثنيّة، وامتدّت إلى الشرق فوصلت إلى بلاد فارس، بل إلى الهند والصين. وهي لا تزال حاضرة إلى أن »تُعلن بشارة الملكوت في العالم كلّه، شهادة عند الأمم كلّها« (مت 24: 14).