روح التصوّف في الرسالة إلى كولوسّي
منذ قرن من الزمن ونيّف، أعلن أحد الشرّاح[1] أنّ الضلالة الكولوسّيّة هي شكل من يهوديّة غنوصيّة قريبة من شيعة الأسيانيّين كما تحدّث عنها المؤرّخ اليهوديّ، فلافيوس يوسيفس، وقد تأثّرت بالفلسفة الروافيّة كما بالفلسفة الفيتاغوريّة. واستنتج أنّ الضلالة الكولوسيّة مزيج من اليهوديّة الأسيانيّة، ومن الوثنيّة الغنوصيّة قبل الغنوصيّة مع تشديد على الروح الصوفيّة والنسكيّة التي عرفتها عدد من الديانات السرّانيّة الشرقيّة.
وفي الخطّ عينه، وبعد التنقيبات في معبد أبّولو في كلاروس، اكتشف آخرون أهميّة أسرار التنشئة بحيث إنّ الفصل "إمباتواين" (دخل، تدخّل) يجعلنا في هذا الإطار، فظنّوا أنّ الدخول في الأسرار الغنوصيّة، تكون وقاية من هذه العناصر (ستويخايا). وعاد بورنكام، بعد ديباليوس[2] إلى ربط الغنوصيّة بالعالم اليهوديّ، لا بالعالم الوثنيّ. فمثل هذا الفكر نجده في سياق الكنيسة نفسها. والضلالة هي هرطقة مسيحيّة تنظر إلى المسيح على أنّه قوّة بين قوى الكون. وأبرز بورنكام عبارة "عناصر الكون" (2: 8، 20) في إطار كواكبيّ، لاهوتيّ، شيطانيّ كما في الأسرار الفارسيّة الكلدانيّة، والأسرار الشرقيّة الهلنستيّة، والتنظيرات الغنوصيّة. ولكي يُسند كلامه عن الأصل الفارسيّ، قدّم لائحة بخمسة أمور تقرأ في 3: 5، 8، 12 (الزنى، الفسق، الهوى، الشهوة الرديئة، الفجور) وتلتقي مع الرسمة الخماسيّة في الغنوصيّة الفارسيّة.
ولكن جاء من يهاجم هذه النظرة الغنوصيّة المرتكزة على العالم اليهوديّ أو الوثنيّ، أو على الاثنين معًا، فأعلن أنّ الضلالة الكولوسيّة هي في الدرجة الأولى ضلالة يهوديّة تطعّمت بها في قمران حيث عبادة الملائكة تلعب دورًا كبيرًا[3].
وأعلن "فرنسيس"[4] أنّ الضلالة الكولوسيّة قد لا تكون كرستولوجيّة في كلّ الوجوه، بل كانت في الأساس قضيّة ممارسة وعمل. ما فهم الضالّون "ملء" (يلبروما) المسيح (2: 10) لهذا بحثوا عن سيّد سماويّ بحر ورع قاسٍ وصعود النفس صعودًا صوفيًّا. ما وجد فرنسيس حضورًا لعبادة وثنيّة (غنوصيّة وغيرها)، بل اتّجاهًا نحو النسكيّة والصوفيّة في سياق الهلنستيّة الواسع، وفي اليهوديّة والمسيحيّة بشكل خاصّ. غار الضالّون من أجل المسيح، فعاملوا البشريّ فينا (اللحم، البدن) بقساوة، وشاركوا في ليتورجيّات ملائكيّة[5].
وراح باندسترا[6] في خطّ فرنسيس. وبعد أن درس ما درسه سابقه، أضاف توضيحًا عن ضلالة الكولوسّيّين. وجد في الكتابات الجليانيّة (قمران، المدائح 6: 12-13؛ 4 عز، رؤيا باروك، رؤيا إبراهيم) هجومًا على فكرة الوسيط في الفداء كما في الخلق. وإذ عظّم "الضالّون" التواضع (2: 18، 23) اعتبروه إمدادًا لصعود سماويّ من أجل المشاركة في ليتورجيّا ملائكيّة (2: 18)، دون مساعدة وسيط. وهكذا أملوا أن يجدوا لنفوسهم "كنوز الحكمة والمعرفة" (2: 3) المخفيّة تحت عرش الله. لهذا، هاجم الرسول تعليمهم الذي يهدّد دور المسيح كوسيط.
* * *
مضمون الرسالة
إنّ تحليل مضمون الرسالة يساعدنا على عزل المقاطع الهجوميّة فيها. هو نهج فطِن لإعادة بناء الضلالة الكولوسّيّة انطلاقًا من النصوص، لا من بعض كلمات معزولة تجعلنا نضلّ في اكتشافنا لهذه الضلالة.
في 1: 1-2. التحيّة في كولوسّي، لا تشبه تحيّات بولس في الرسائل الأخرى. في كلّ من تلك التحيّات، هناك ملاحظة تدلّ على الموضوع الذي سوف يناقَش في الرسالة. في روم 1: 1-7: الإنجيل. ابن الله. في 1 كور 1: 1-3، القداسة والوحدة. في غل 1: 1-5، النداء الذي وصل إلى الرسول من السماء. في فل 1: 1-2، نداء إلى رؤساء الكنيسة. أمّا هنا، فتوجّه بولس إلى الكولوسّيّين على أنّهم "قدّيسون" (هذا ما يميّز بولس) و"مؤمنون" (هذا ما لا نجده دومًا عند بولس). وهكذا يعود الرسول إلى الإيمان فيعطينا مدلول الرسالة إلى الكولوسّيّين.
في 1: 3-8. صلاة الشكر لدى الرسول، من أجل القدّيسين في كولوسّي، تشبه الصلاة في سائر الرسائل. شكر بولس الله من أجل الإيمان والرجاء والمحبّة. عرّف أبفراس الرسول إلى الوضع في كولوسّي، فأشار إلى إيمانهم وفهمهم للإنجيل ونموّهم وما يحملون من ثمار. مثل هذه الصلاة، مع التحيّة الأولى، تدلّ على أنّ الرسول يرى أنّ إيمان كولوسّي صريح، صحيح.
في 1: 9-14. وواصل الرسول كلامه عن طبيعة صلاته من أجل القدّيسين في كولوسّي. تمنّى لهم أن يمتلئوا من معرفة مشيئة الله "في كلّ حكمة روحيّة، وفي كلامهم"، "ليحيوا حياة تليق بالربّ وترضيه ملء الرضى". وشكر بولس الله، لأنّ القدّيسين في كولوسّي، نُقلوا إلى ملكوت ابنه الحبيب.
في 1: 15-207. مع ذكر الابن في آ 16، أورد الرسول نشيد إيمان إكرامًا للمسيح. شابه النشيد إلى فيلبّي (2: 6-11)، فأعلن لاهوت المسيح ورئاسته على الخليقة وعلى الكنيسة[7].
في 1: 21-23. ذكر الرسول القدّيسين الكولوسّيّين بحياتهم السالفة في الظلمة، كمقابل الحياة الحاضرة في المصالحة. يجب أن يكون القدّيسون "مقدّسين"، بلا عيب، بلا لوم، بحيث يثبتون في الإيمان ويترسّخون.
في 1: 24-29. لمّح بولس إلى خبرته الشخصيّة كرسول المسيح. وقدّم كلامًا حول فهمه للإنجيل، وحول خدمته الرسوليّة التي كلِّف بها.
في 2: 17. وربط الرسول خدمته بإيمان الكولوسّيّين. فأكّد لهم أنّ كلّ كنوز الحكمة والمعرفة تُوجَد في المسيح، بحيث لا يخدعهم أحد بالكلام المعسول وإن كان الرسول غائبًا في الجسد، إلاّ أنّه حاضر في الروح، وهو يحثّهم على الثبات في الإيمان الذي تعلّموه. وهنا نجد أوّل إشارة إلى المضلّين (آ 4) دون الإشارة إلى نوع ضلالهم.
في 2: 8-15. هو أوّل مقطع بين ثلاثة، تُذكر الضلالة الكولوسّيّة بشكل مباشر. هي "فلسفة". هي "غرور باطل وخداع فارغ". هي "بحسب عناصر الكون، وقوى العالم الأوّليّة"، لا "بحسب المسيح". يعود إلى صلاة الشكر وإلى النشيد الكرستولوجيّ لكي يطبّقهما هنا. وهكذا يفهم الكولوسّيّون أنّهم يكونون "كاملين" في المسيح، وفي المسيح وحده.
في 2: 16-19. هو مقطع ثانٍ، هجوميّ، يقدّم وصمًا محدودًا لممارسة الضالّين الكولوسّيّين. سوف نعود فيما بعد إلى آ 18 مع ما فيها كلام عن عبادة الملائكة. وعن التواضع. ونبّه الرسول المؤمنين من أنّ ممارسة الضالّين، "لا تتمسّك بالرأس" الذي هو المسيح. فإلى ماذا تستند إذن؟
في 2: 20-23. هو المقطع الأخير الذي يهاجم الضلالة الكولوسّيّة. أورد الرسول بعض القواعد ورأى فيها فقط ظواهر الحكمة. إنّها فرائض بشريّة ولا قيمة لها، "في ضبط الأهواء البشريّة" (اللحم وضعفه).
في 3: 1-4. هنا ينتقل الرسول من الهجوم إلى الإرشاد. ومع أنّه لا يتكلّم بشكل مباشر عن الضلالة نفسها، إلاّ أنّه يفكّر، بلا شكّ، في المبادئ المسيحيّة في ألفاظ إيجابيّة يجب على الكولوسّيّين أن لا ينسوها.
في 3: 5-11، ثمّ 3: 12-17. مقطعان يتقابلان: أعمال البشريّ (اللحم والدم والضعف البشريّ)، ثمر الروح الذي يجد أساسه في غل 5: 19-23. في المقطع الأوّل (آ 5-11) أورد الرسول لائحة بأمور شرّيرة وحثّ الكولوسّيّين على تجنّبها. وفي المقطع الثاني (آ 12-17)، أورد الرسول عددًا من المزايا يأخذ بها المؤمنون، يلبسونها كنتيجة حياة في الجماعة والشكر لله.
في 3: 18-4: 1. قدّم الرسول قواعد من أجل الحياة البيتيّة: الزوجات، الأزواج، الأولاد، الآباء، العبيد، الأسياد.
في 4: 2-6، ثمّ 4: 7-18. قدّم الرسول إرشادات أخرى، وطلب الصلاة من أجله. وانتهت الرسالة بتوصيات نهائيّة وبالسلامات.
* * *
نظرة تأويليّة
ما نلاحظه أوّلاً هو أنّ المقاطع المركّزة على شخص يسوع المسيح (1: 15-20) ليست هجوميّة. أمّا المقاطع الهجوميّة، والتي تتكلّم بوضوح عن الضلال، ترتبط بالعمل وبالممارسة. والمواضيع الكريستولوجيّة التي تظهر في المقاطع الهجوميّة، ليست هنا من أجل الجدال، بل كأساس مشترك من أجل نداء يتوجّه إلى المؤمنين. هناك استثناء واحد: عبادة الملائكة في 2: 18 الذي يعتبر الشرّاح العديدون أساسًا لإعادة بناء الضلالة الوثنيّة. ومع 2: 18 يبدأ العمل التأويليّ. فالعمل النادر "كاتابرابواين": انتزع الثمن، الصفة، شوّه، استبعد. ممّ حُرِّم الكولوسّيّون القدّيسون؟ هذا ما نكتشفه حين نتوقّف عند السياق. ولهذا، نعود إلى الوراء. فاسم الفاعل "تالون" (المريد) الذي يتبعه حرف الجرّ "إن" في، يحمل أكثر من شرح. هو يعود إلى اليونانيّة السبعينيّة فيعني: سُرَّ. أو: رغب. هو معنى إيجابيّ كما في 3: 12. وإذ يترافق مع الصور (ت ع ن ي ت، عنّى نفسه) يبدو استعدادًا لصعود سماويّ ورؤى وإيحاءات...
وتبقى "عبادة الملائكة" موضوع جدال. فالتقليد الآبائيّ يرى أنّ اليهود عبدوا الملائكة ومارسوا طقوسًا إكرامًا لهم. في خطّ الغنوصيّة، الملائكة هم "قوى الكون الأوّليّة"، و"الرؤساء والسلاطين". هم آلهة يوجّهون مختلف طبقات السماء التي تفصل الإنسان عن الله. عبد الغنوصيّون هؤلاء الآلهة، ورجوا أن ينالوا العرفة (أي المعرفة الباطنيّة) الضروريّة للصعود عبر السماء، إلى مكان النور. ولكن يبدو من الغريب أن يستخفّ الرسول بهذا المعتقد، فيمرّ دون أن يهاجم بقوّة هذه الهرطقة الكرستولوجيّة الخطيرة.
في 1 كور 15، وبّخ بولس الكورنثيّين على تنظيراتهم في خطّ الأفلاطونيّة الحديثة قائلين: إنّ لا قيامة للموتى. في أيّ حال، ما يُرى هنا هو القول بأنّ لا قيامة للأجساد، بل قيامة روحيّة فقط وخلود النفس كما يقول اليونان. واستخلص بولس: إن كانت هذه النظرة صحيحة، يعني أنّ المسيح لم يَقُم. وإن كان المسيح لم يَقُم، لم يَعُد هناك من إنجيل. ونقرأ مثلاً آخر في الفصل الأوّل من الرسالة إلى غلاطية. ندّد الرسول "بإنجيل" المتهوّدين الذين تمنّوا أن يحتفظوا بجوهر الإيمان الموسويّ (الختان، السبت، شرائع الطعام). لا شكّ في أنّ هؤلاء المتهوّدين آمنوا بالمسيح. ولكن بما أنّهم أضافوا شيئًا إلى إنجيل النعمة، قال بولس: "يا ليتهم يُلعَنون، يقطعون (غل 1: 8، 9). من الصعب أن نتخيّل الرسول هادئًا في كولوسّي، لو كانت هذه النظرة خطيرة كما في 1 كور وغل.
إن كان الضالّون غنوصيّين، فهم يدعون المسيح إلهًا بين سائر الذين يعبدون ويخدمون. هذا إذا كان المضاف في "عبادة الملائكة" هو مضافًا موضوعيًّا. أمّا إذا كان مضافًا ذاتيًّا[8]، فالضالّون لا يتحدّثون عن عبادة اليهود الملائكة، عن عبادة لله شبيهة بعبادة الملاكئة له. وهنا تلعب المشاركة الصوفيّة في الليتورجيّا السماويّة، دورًا نجده في الصوفيّة اليهوديّة[9].
فإذا أخذنا "عبادة الملائكة" في المعنى الذاتيّ، لم يعد من وجود للصعوبة. ودخلت العبارة دخول التناسق في الصورة. وعبارة "ما يُرى" تعود إلى "عبادة الملائكة"، لا إلى رؤية صوفيّة لامعروفة. أمّا فعل "إمباتاواين" فلا يجعلنا في إطار تنشئة عباديّة ومشاركة في طقس غنوصيّ، بل المعنى الأساسيّ: دخل. فهناك أمثلة من الأدب الجليانيّ تقول: إنّ التقيّ دخل إلى السماء، وشاهد ليتورجيّة الملائكة. وهكذا يكون موضوع "إمباتاواين" في 2: 18، هو السماء. ونتيجة هذا التشديد على التواضع وما يليه من صعود سماويّ، هو تشامخ في نظر الرسول. وقد أعلن أنّ كلّه هذه التقوى والرؤى تقود "إلى التفكير البشريّ الباطل".
ويحمل 2: 19 الفكرة إلى أبعد، مع جملة اسمفاعليّة متوازية: "ولا متمسّك بالرأس"، أي بالمسيح. إذا ظنّنا أنّ ضلالة الكولوسّيّين ضلالة غنوصيّة، فالمقارنة يجب أن تفهم انفصالاً عن رئاسة المسيح. بمعنى أنّ ما عبد إلهًا آخر، فصل نفسه عن المسيح. ورأى بندسترا أنّ الضالّين قطعوا علاقتهم بالمسيح، لأنّهم ظنّوا خطأ، أنّهم يقدرون البلوغ إلى الملكوت السماويّ بدون عمل المسيح كالوسيط. وهكذا كانت كولوسّي حربًا على رافضي هذا الوسيط على مستوى الخلق والفداء. إن كان صحيحًا أنّ المقطع الأوّل (2: 8-15) يبيّن أنّ الصوفيّ يستطيع البلوغ إلى السماء بدون عون وسيط، وبالتالي يشارك مشاركة مباشرة في العبادة الأحاديّة مع الملائكة. فهذا ليس بيقين أنّ ما قيل يُعتبَر هجومًا على الوساطة. كما لا يعني أنّنا نجد هذا الهجوم في الضلالة الكولوسيّة.
مثل هذا الهجوم يعني رفضًا للمسيح نفسه، وهذا أمر لا يتصوّره عقل في إطار الكنيسة. فلو وُجد لكان حكم عليه بولس حكمًا قاسيًا. ويبقى أنّ ما يرمي إليه الضالّون، هو صعود سماويّ ومشاركة الملائكة في عبادتهم. ولكن ماذا يعني: "غير متمسّكين بالرأس"؟ نحن هنا أمام مضمون إكليزيولوجيّ، يرتبط بالكنيسة. لا يقوم الضالّون بوظيفتهم في الكنيسة، جسد المسيح، التي يشكّل المؤمنون أعضاءها، والمسيح رأسها. واللا تمسّك قد يعني انقطاع العلاقة أو رفض خضوع للسلطة. وإذ أشار إلى أنّ العبادة والخدمة يكونان فقط في السماء، أهمل الضالّون، بل احتقروا دور الجسد على الأرض. وهكذا أعلن الرسول أنّ المضلّون لا يتمسّكون بالرأس الذي يغذّي الجسد ويقوده إلى النضوج.
وهكذا يمكن أن نترجم 2: 18-19أ مع إضافات شروحيّة بين قوسين، كما يلي: "لا يبخس أحد لكم [الأجر الذي هو حقًّا لكم في المسيح]، راغبين في التواضع وعبادة الملائكة والتي رؤيت داخلة [إلى السماء] باطلاً مدفوعة بالفكر البشريّ وغير متمسّكة بالرأس [كما هم يفترضون].
ونستطيع أن نتحدّث عن "كنائز خفيّة، كنوز الحكمة والمعرفة" (2: 13). وقد وجد باندسترا نصّا موازيًا في 2 با 54: 13:
بمشورتك تسوس جميع الخلائق التي خلقتها يمينك
وأقمت كلّ ينبوع نور بجانبك،
وكنوز الحكمة هيّأت تحت عرشك.
وفي 2 با 44 نقرأ:
هؤلاء هم الذين اقتنوا لنفوسهم كنوز الحكمة
ومعهم وُجدت مخازن الفهم.
كلّ هذا يعود بنا إلى الصعود السماويّ، وإلى الدخول. وإذا كان ما قلناه عن 2: 18-19: صحيحًا، فالعبارة الموازية في 2: 3 تقدّم معنى تامًا. تمنّى الضالّون الكولوسّيّون الدخول إلى السماء، ومشاركة الملائكة في عبادتهم، واكتشاف واقتناء كنوز الحكمة والمعرفة المختبأة في خدر عرش الله. وعلى أساس هذه الخبرة، وهذه الحكمة المقتناة حديثًا، أحسّ الضالّون أنّهم في موقع يوهّلهم لأن يحكموا على إخوتهم ويحرموهم من الشعور بملء المسيح. إختبر الضالّون جوهر الروحانيّة، وطرح سؤالاً على الذين لا يمتلكونها. لهذا تشامخوا. واستخفّوا بوظيفة الجسد الذي لم يعد متمسّكًا بالرأس.
وهناك عبارة رآها الشارحون مهمّة لشرح الضلال الكولوسّيّ: عناصر الكون (2: 8، 20). وفي آ 8: "حسب عناصر الكون". تقابل "حسب المسيح". في آ 20، قيل عن الكولوسّيّين إنّهم "ماتوا مع المسيح" عن "عناصر الكون". إستخلص بورنكام أنّ هذه العبارة تعود إلى "أصحاب الرئاسة والسلطة". في 2: 15، وإلى الملائكة في 2: 18. وهكذا تُفهم بالعودة إلى كائنات روحيّة، لهذا، يجب أن يفهم الكولوسّيّون أنّ من الخطأ عبادة كيانات إلهيّة. مثل هذه العبادة تعارض المسيح الربّ. مثل هذا التفسير يأخذ "عبادة الملائكة" في المعنى الموضوعيّ، فيعتبر أنّ الضلالة الكولوسّيّة ترتبط بالغنوصيّة أو العبادة الوثنيّة. لا شكّ في أنّ هذه "العناصر"، إذا قابلناها مع غل 4: 3-9، تؤثِّر بعض التأثير على البشر. فيحاول البشر أن يفهموها ويلجوا أسرارها لكي يهدّئوها. وهذا ما يحاول الضالّون الكولوسّيّون أن يفعلوا. تمنّوا أن يكتشفوا جميع أسرار الأماكن السماويّة ليعروفوا كيف يُتمّون عبادة الله.
إستخفّ بولس بكلّ هذا ودعاه تقليدًا بشريًّا (2: 8)، "بحسب عناصر الكون" لا "بحسب المسيح". ودعاه "فلسفة" أي رأيًا، ونظرة، وتنظيرًا، لا نهجًا موسّعًا في إطار الفلسفة أو الدين. في غل 4: 3-9، وضع اليهوديّ السابق لمجيء ابن الله، بحسب بولس، ودُعيَ ديانة "بحسب عناصر الكون". إذ بحثوا عن الأمكنة السماويّة، وطلبوا الحكمة الإلهيّة، وترجّوا أن يشاركوا في الملء الإلهيّ، شبّه الرسول ممارستهم بحسب عناصر الكون. مثل هذا الوضع يواجه حدث المسيح الخلاصيّ. في الواقع، عاد بولس خطوة إلى الوراء. "بما أنّ فيه يحلّ ملء اللاهوت (1: 19؛ 2: 9)، صار الكولوسّيّون كاملين فيه (2: 10). فلا حاجة بعد إلى ممارسة محرّمات نسكيّة (2: 16، 20-23)، وملاحقة خبرات صوفيّة (2: 18). فمن هو في المسيح يكون كاملاً.
ظنّ الضالّون أنّ الكنيسة المرتبطة بالأرض هي "ظلّ" أو "نسخة" (سكيا، 2: 17) عن جسم (أو: واقع كما تقول الأفلاطونيّة الحديثة) في السماء. لهذا دعوا القدّيسين رفاقهم لأنّ يتعدّوا النموذج والظلّ، للبلوغ إلى الجوهر، إلى الحقيقة. وهذا يتمّ بواسطة تقوى قاسية تصل إلى خبرة سماويّة. بدا بولس حاضرًا، فأجاب أنّ التعليم حول ممارسات نسكيّة، هو "ظلّ لما يأتي" والحقيقة هي، جسد المسيح" (2: 16-17). أجل، الحقيقة (أو الجوهر) هي جسد المسيح والكنيسة التي هي على الأرض، لا في السماء. والخبرات السماويّة نماذج أو صور كما يكون حين يظهر المسيح (3: 4). والنظرة هنا هي كنسيّة لا مسيحاويّة وإذ لاحق الضالّون ما افترضوه واقعًا سماويًّا، كان في الواقع ممارسات تُعيق وظيفة الكنيسة.
وأضاف 3: 1-4 فكرة فيها الرسول الذي سبق له وأبرز الملء الذي للمؤمن بالمسيح، بحيث لا يحتاج أن يطلب خيرات سماويّة، حثّ المؤمنين "ليصلبوا الأمور التي هي فوق". حيث المسيح هو... وأن يهتمّوا بالأمور التي فوق" (3: 1-2). إختفت في المسيح كنوزُ الحكمة والمعرفة (2: 3). والمؤمنون هم مخفيّون مع المسيح في الله (3: 3: مستترة). وهكذا أكّد بولس أنّ كلّ ما يطلبه الضالّون، قد امتلكه المؤمن منذ الآن. وهو إذ وُجد في المسيح، يشارك في ملء الله، ويصل إلى كنوز الحكمة والمعرفة، ويتحرَّر من متطلّبات نسكيّة وخبرات صوفيّة لا تقدّم في الواقع أيّ نفع روحيّ.
خاتمة
ما كانت ضلالة الكولوسّيّين؟ افترض الشرّاح أنّ الرسول عالج هرطقة غنوصيّة. ولكنّنا في الواقع، أمام شكل من التقوى الصوفيّة في تيار الصوفيّة المسيحيّة واليهوديّة، كما عرفها القرنُ الأوّل المسيحيّ. فالأجزاء الهجوميّة في كولوسّي، تعالج التقوى الصوفيّة، لا التعليم عن يسوع المسيح. وقراءة المقاطع الهجوميّة قادتنا إلى هذه الخلاصة: أكّد الكولوسّيّون أن المسيحيّ لا يقدر أن يكتشف ملء المسيح إلاّ عبر هذه الخبرات الصوفيّة. أمّا الرسول فرأى أنّ المؤمن يمتلك منذ الآن ملء المسيح، بحيث لا يحتاج الخضوع لقساوة هذه التقوى بما فيها من متطلّبات[10].
[1] J. B. LIGHT FOOT, St Paul’s Epistles to the Colossians and to Philemon (London, 1879), p. 73-113. Reprinted in F. O. FRANCIS and W. A. MEEKS (eds), Conflict at Colassae (Missoula 1975), p. 13-59, spec. p. 15-23
[2] Bornkamm, Dibellius
[3]S. LYONNET, “L’étude du milieu littéraire et l’exégèse du N.T.: Les adversaries de Paul à Colosses », Biblica 37(1956), p. 27-38 ; Id, « Col 2,18 et les Mystères d’Apollos Clariens », Biblica 43(1962), p. 417-435 ; Id, « Saint Paul et le gnosticisme : la lettre aux Colossiens » in U. BIANCHI (ed), Le Origini dello Gnosticismo (Leiden, 1967), p. 538-561
[4] F. O. FRANCIS, “The Christological Argument of Colossians” in J. JERVELL (ed), God’s Christ and his People (Nils Dahl Festschipt, Oslo, 1977, p. 193
[5] F. O. FRANCIS, “Humility and Angelic worship in Col 2,18” in Studia Theologica, 16(1962), p. 109-134
[6] A. J. BANDSTRA, “Did the Colossian Eonovists need a Mediator?” in R. N. LONGENECKER and M. C. TENNEY (ed), New Dimensions in N.T. Study (Grand Rapis, 1974), p. 329-343
[7] J. M. ROBINSON, “A Formal Analysis of Colossians 1,15-20”, Journal of Biblical Lterature, 76(1957), p. 270-287
[8] Objectif et subjectif
[9] G. SCHOLEM, Major Trends in Jewish Mysticism, Jerusalem, 1941, p. 39-52; Id, Jewish Gnosticism, Merkabah Mysticism, and Talmudic Tradition, New-York, 1960, p. 14-30
[10] C. A. EVANS, “The Colossians Mystius” in Biblica, 63(1982), p. 188-205