وضع الكنيسة في الرسالة إلى أفسس
حين نقرأ الرسائل البولسيّة الكبرى لا نجد مدلول شعب الله. كما لا نجد نظرة إلى الكنيسة في المفهوم الإكليزيولوجيّ. ولكن مع الرسالة التي ارتبطت بالمدرسة البولسيّة، نقرأ استعارة الرأس والجسد للكلام عن المسيح وعن الكنيسة. ذاك هو الواقع في الرسالة إلى أفسس التي اعتُبرت »إرشادًا في الوحدة الكنسيّة«، أو »مقالاً إكليزيولوجيٌّا«. إذا كان هذا الأمر جليٌّا، فالصعوبات لا تخلو في مثل هذه القراءة. ففي 5: 22-33، تنطبق استعارة الجسد على العلاقة بين الزوجين المسيحيّين. فيبدو من المستحيل أن نقيم مقابلة تامّة بين المستويين. ولا نستطيع أن نقول إنّ الزوجة المسيحيّة هي جسد زوجها، كما الكنيسة هي جسد المسيح. فكيف تكون الزوجة كذلك، إذا كان لها جسدها كما لزوجها جسده؟ وإذا كان الاثنان عضوين في الجسم الكنسيّ الواحد، مع رأس واحد وحيد هو المسيح.
وهناك صعوبة أكثر جذريّة، لأنّها تلامس وضع الكنيسة، والتي نحاول أن نتطرّق إليها هي: ما هو موقع الشعب الأوّل في ذاكرة الكنيسة وفي تاريخ الخلاص. ففي أفسس، يصوَّر الوضعُ الحاليّ للكنيسة بشكل إيجابيّ، دون ارتباط بالشعب الأوّل وبإنباءات الخلاص التي نالها ذاك الشعب. هل نستنتج أنّ العالم اليهوديّ صار في عالم النسيان حين الكلام عن الكنيسة؟ هنا لا بدّ من قراءة متنبِّهة للإقوال الإكليزيولوجيّة.
1- وضع الكنيسة الإسكاتولوجيّ
إنّ أفسس تمنح الكنيسة وضعًا إسكاتولوجيٌّا. تربطها بنهاية الزمن. أيحتاج هذا الموقف ارتباطًا بالتاريخ وبالعالم؟
توسّعت أفسس في هذه الوجهة من حياة الكنيسة. فيقال مثلاً إنّ أعضاء الكنيسة قاموا، وجلسوا في السماوات حيث المسيح. وهكذا صاروا بمنأى عن قوى الشرّ: روح الشرّ في السماء. روح العالم على المستوى السياسيّ وغيره.
»وفيما مضى، كنتم أمواتًا بزلاّتكم وخطاياكم التي كنتم تسيرون فيها مسيرة هذا العالم، خاضعين لرئيس القوّات الشرّيرة في الفضاء... ولكنّ الله بواسع رحمته وفائق محبّته لنا، أحيانا مع المسيح بعدما كنّا أمواتًا بزلاّتنا. فبنعمة الله نلتم الخلاص. وفي المسيح يسوع، أقامنا معه وأجلسنا في السماوات« (2: 1-6).
وما نقوله عن الوضع المجيد للأعضاء، نستطيع أن نقوله عن الكنيسة. وهناك أقوال فيها يُدعى المسيح الرأس، والكنيسة الأعضاء. وحيث منطق الصورة يفرض أن نضمّ وضع الكنيسة إلى وضع المسيح: هل يستطيع الرأس أن يقوم (من بين الأموات) دون أن يقوم الجسم؟
إنّ صورَتي الرأس والجسم، تدلاّن بشكل صريح على الطبيعة الإسكاتولوجيّة للكنيسة. نشير إلى أن لفظ »سوما« (اليونانيّ، جسد، جسم) يدلّ على الكنيسة في أكثر من آية. نقرأ في 1: 22-23: »ورفعه فوق كلّ شيّ رأسًا للكنيسة التي هي جسده«. وفي 4: 4: »فأنتم جسد واحد وروح واحد، مثلما دعاكم الله إلى رجاء واحد« (رج آ 12: بناء جسد المسيح؛ آ 16: نما الجسد كلّه، وتكامل بنيانُه بالمحبّة). هذا الجسد واحد كما نقرأ في 4: 16: »فيه (في المسيح، في الرأس) يتماسك الجسدُ كلّه، ويلتئمُ بفضل جميع المفاصل التي تقوم بحاجته«. فيه يجتمع اليهوديّ والوثنيّ في جسم المصلوب كما في جسم الكنيسة (2: 16).
ولا تكتفي أفسس بالصور للكلام عن الكنيسة. بل تسير في خطّ الرسائل الكبرى، فتقول إنّ المؤمنين هم خاصّة الله (1: 14). يخصّون الله. يمتلكهم. منذ الآن. صاروا إنسانًا جديدًا (2: 15). هنا تقول الرسالة: »وتجدّدوا روحًا وعقلاً، والبسوا الإنسان الجديد الذي خلقه الله على صورته في قداسة البرّ والحقّ« (4: 23-24). الحقّ هو ملء الوحي الذي يصل إلى الإنسان، فيدعوه إلى التوافق مع عمل الله.
والمؤمن هيكل مقدّس في الربّ (2: 21)، ومسكن الله في الروح (آ 22). هذا التنوّع الحقيقيّ يدلّ على أنّ المسيح ليس الوحيد الذي بالنسبة إليه تصوَّرُ الكنيسة. ولكن تبقى صورة الرأس والجسم متواترتين، مشروحتين، موضحَتين. ثمّ هما تشدّدان على أنّ المسيح والكنيسة لا ينفصلان. وأنّ الكنيسة تتلقّى من المسيح القائم من الموت، ما هو ضروريّ لنموّها وكمالها. »وبذلك يهيّئ المسيح الإخوة القدّيسين للخدمة في سبيل بناء جسد المسيح، إلى أن نصل كلّنا إلى وحدة الإيمان ومعرفة ابن الله، إلى الإنسان الكامل، إلى ملء قامة المسيح« (4: 12-13).
إذا كان وجود الكنيسة هو نتيجة العمل الخلاصيّ، لا نستطع أن نحدّد بدايته: على الصلب أو في القيامة. فإذا نسب 2: 19-22 تكوين الكنيسة كمسكن الله (الهيكل المقدّس)، إلى العمل الذي قام به المسيح على الصليب، فإنّ 1: 20-23 يؤكّد من جهته أنّ الكيانين، الرأس والجسم، المسيح والكنيسة المرتبطة به، هما نتيجة السيادة التي منحها الله للمسيح حين أقامه من بين الأموات. نستطيع القول هنا إنّ الكنيسة خُلقت على الصليب، وصارت جسد المسح بعد قيامته. كما نشير إلى أنّ عمل الفداء يخصّ الله الآب والمسيح. والفصل الثاني يقدّم لنا درفتين لا تنفصلان في دبتيكا واحدة. الدرفة الأولى (2: 1-10) تقول إنّ الله أحيانا وأقامنا مع المسيح. والثانية (2: 11-22) تُبرز المصالحة وإحلال السلام بالمسيح على الصليب. لا يتبع الكاتب تسلسلاً في الزمن. فهو يؤكّد أوّلاً أنّ الله أقام المؤمنين (آ 1-10). ثمّ يقول إنّهم تصالحوا وتوحّدوا على الصليب. فالمنطق هو منطق الأولويّة الإلهيّة حيث العمل الذي يُنسَب لله الآب، يُقدَّم قبل عمل المسيح. وما نقوله هنا، نقوله عن 1: 20-23. إذن، نحن لا ننطلق من الكرونولوجيّا لنفسّر المقولات السوتيريولوجيّة (حول الخلاص)، بل من الدور الخاصّ بكلّ من العاملين في العمل الخلاصيّ.
قيل إنّ صورة الكنيسة كجسد نقرأها في الرسائل الكبرى، ولا سيّما 1 كور 12. ولكن نضيف حالاً أنّ الرأس في أفسس (رج كو 1: 18، 24؛ 2: 19؛ 3: 15)، لم يعد عضوًا بين سائر أعضاء الجسد، بل يدلّ فقط على المسيح القائم من بين الأموات، الذي منه يتقبّل الجسد الكنسيّ الحياة والنموّ. إذن، يجب أن تُفهم الصورة فهمًا صحيحًا. فبالنسبة إلى جسد الإنسان (أو الحيوان)، لا يستطيع الرأس الذي هو ضروريّ للإنسان، أن يعيش من دون الأعضاء التي هي ضروريّة أيضًا من أجل حياة المجموعة. وحين وعت أفسس (وكولوسّي) المسيح (الرأس)، ما أرادت أن تقول إنّه جزء من الجسد الذي هو الكنيسة، بل أن تشدّد على استحالة فصل الكنيسة عن المسيح: كيف يستطيع الجسم المحروم من الرأس أن يحيا، بل أن ينمو ويتوجّه وجهته؟ هذا يعني أنّ العلاقة بين الرأس والجسد تتوخّى إبراز الوحدة الوثيقة، الثابتة، بين المسيح والكنيسة. وإبراز الطبيعة الإسكاتولجيّة للكنيسة.
2- العلاقة مع الشعب الأوّل
قبل أن نكتشف رباطًا بين الطريقة التي فيها ترى أفسس الطبيعة الإسكاتولوجيّة للكنيسة، وبين علاقة المسيحيّين بالشعب الأوّل، شعب إسرائيل، الشعب اليهوديّ، يجب أن نتساءل إذا كانت هذه الرسالة بيّنت تواصلاً بين الكنيسة وشعب إسرائيل، أو بين الكنيسة والشعب اليهوديّ. ثمّ نحدّد، إذا استطعنا، نوعيّة هذا التواصل.
يرى معظم الشرّاح أنّ موضوع إسرائيل غائب (تقريبًا) من الرسالة، وأنّ لا شيء يقال عن علاقة الكنيسة بشعب الله. في الواقع، لا نجد لفظ »إسرائيل« سوى مرّة واحدة (2: 12). كما لا نجد إطلاقًا شخص »اليهود«. نجد أنّ هذه الملاحظة لا تكفي. ففي 2: 11-22، نكتشف تلميحات خفيّة إلى شعب إسرائيل. وإن توقّفنا عند 2: 11-22، نجد أنّ وضع إسرائيل صُوِّر بشكل ملتبس.
»فاذكروا أنتم الذين كانوا غير يهود (وثنيّين) في أصلهم، أنّ اليهود الذين يعتبرون أنفسهم أهل الختان بفعل الأيدي في اللحم (والدم، العنصر البشريّ)، لا يعتبرونكم من أهل الختان. واذكروا أنّكم كنتم فيما مضى من دون المسيح، بعيدين عن رعيّة إسرائيل، غرباء عن عهود الله ووعده، لا رجاء لكم ولا إله في هذا العالم«.
تجعلنا آ 11 نفكّر أنّنا أمام تسمية سطحيّة، خارجيّة. ولكنّ آ 12 تفهمنا أنّها عميقة، دينيّة، لأنّ إسرائيل آمن بالإله الحقيقيّ، وتقبّل العهود والوعد، وترجّى الخيرات الحقيقيّة. لا شكّ في أنّ آ 11 تقابل وضع المختون مع وضع اللامختون. ولكن أبرز بفضل لفظين يشكّلان قلبًا وتعاكسًا (في البشريّ، يعتبرون، يعتبرون، في البشريّ). ثلاثة أمور: (1) يتحدّد موقع الفرق بين المجموعتين في البشريّ (في اللحم). (2) اللغة هي التي حدّدت الاختلاف على المستوى البشريّ، بفضل الكناية حيث يتكلّم الإنسان بشيء ويريد غيره. وهكذا يحلّ مدلول محل آخر وإن كان اللفظ هو هو. هنا انتقل النصّ من معنى إلى معنى، من الغرلة إلى وضع اللامختون، ثمّ إلى مجموعة اللامختونين في مناخ دينيّ (الوثنيّون المشركون) واجتماعيّ سياسيّ (الأمم). ثمّ ينتقل من العمل (قطع الغرلة) إلى النتيجة (يصبح الإنسان مختونًا)، ومن هنا إلى المجموعة (المختونين، الختان) في مناخ دينيّ (اليهود، عابدو الإله الحقيقيّ) واجتماعيّ سياسيّ (إسرائيل)..
والأمر الثالث (3): المدعوون »ختان« يدعون الآخرين »غرلة« مع احتقار واستخفاف. انطلق الكاتب من اختلاف سطحيّ في الظاهر، ولكنّه مسجَّل تسجيلاً ثابتًا في البشريّ (في اللحم)، فانتقل انتقلالاً مباشرًا إلى التضمنّات الدينيّة الأساسيّة. وهكذا، بعد أن تطلّعت أفسس إلى امتيازات اليهود الدينيّة، وما توقّفت في ما يقولونه عن الأمم (الوثنيّة)، أشارت إلى العقبة الدينيّة لدى الذين كانوا وثنيّين من قبل.
هنا ندهش حين نرى أنّ ما ناله المسيحيّون الأمميّون من خير في 2: 19-22، لا يوافق كلّ الموافقة ما نقص اللامختونين (2: 12): هناك من قال: نقصَ الأممُ بأن يكونوا من إسرائيل. فيجب أن يندمجوا في إسرائيل: أو يحلّوا محلّ إسرائيل، بحيث تُرذَل فئة من الفئتين.
في الواقع، يجب أن لا ننسى أنّ نهاية القصّة (2: 19-22) لا تصوّر تبدّل هويّة المسيحيّين الآتين من الأمم، كأنّه دخول في مواطنيّة (يكون الكلّ من وطن واحد، مدينة واحدة، بوليتايا) إسرائيل، بل في مواطنيّة القدّيسين. »فما أنتم بعد اليوم، غرباء أو ضيوفًا، بل أنتم مع القدّيسين (سين بوليتاي: مواطن مع) رعيّة واحدة ومن أهل بيت الله« (آ 19).
إستند عددٌ من الشرّاح إلى التوازي بين 2: 12 و2: 19، فاعتبروا أنّ آ 12 توافق آ 19. وهكذا يصير المسيحيّون الآتون من العالم الوثنيّ، يهودًا وأعضاء في شعب إسرائيل، الأمّة المقدّسة (خر 19: 6). مثل هذا التأويل يعني أنّ الأمم صاروا جزءًا من شعب إسرائيل. ولكنّ السياق يمنعنا من القول بأنّ الصفة »قدّيسين« تدلّ على جميع بني إسرائيل. فإنّ آ 19 تختلف عن آ 12: فلو كان المسيحيّون الأمميّون في »بوليتايا« إسرائيل، لوجب عليهم أن يخضعوا لنظُمه، وبالتالي للشريعة الموسويّة. والحال، ما طُلب منهم شيء في هذا المجال. لا يقال إنّهم خُتنوا (أو عليهم أن يُختنوا). ولا أنّ »مواطنيّتهم« هي الشريعة. فالطريقة التي بها يتوجّه إليهم الكاتب فيدعوهم »أمم« (وثنيّ)، تدلّ أنّهم غير مختونين وغير خاضعين للشريعة (2: 11؛ 3: 1).
»فالقدّيسون« الذين يتحدّث عنهم 2: 19 ليسوا من بني إسرائيل (وبالأحرى ليسوا جميع بني إسرائيل، جميع اليهود)، بل مسيحيّون جاؤوا، على ما يبدو، من العالم اليهوديّ. فإن كانوا مسيحيّين من أصل يهوديّ، فهذا لا يعني أنّ »بوليتايا« المشتركة بين مسيحيّين من أصل يهوديّ ومسيحيّين من أصل أمميّ، تعني التكوين اليهوديّ والشريعة الموسويّة. فإنّ آ 14-18 قالت إنّ الفئتين صارتا بشريّة جديدة والشريعة دُمِّرت، حيث المسيح »هدم الحاجز الذي يفصل بينهما« (آ 14) وهو »ألغى بجسده شريعة موسى بأحكامها ووصاياها« (آ 15).
أمّا الاسم (سين بوليتاي) فيدلّ على أنّ المسيحيّين اللامختونين امتلكوا الآن هويّة جديدة يتشاركون فيها مع المسيحيّين المختونين. فإنّ »بوليتايا« المسيحيّين غير »بوليتايا« إسرائيل. هذا يعني أنّ الكنيسة لا تحلّ محلّ الشعب اليهوديّ. ويعني أنّ ما نقص الوثنيّين (2: 11-12)، لم يعوّض بالنسبة إلى الشعب اليهوديّ. قد يعني الكاتب أنّ امتيازات إسرائيل ناقصة، موقّتة. ولكنّه لا يقول شيئًا صريحًا. فهناك أمرٌ واحد واضح: أزيل النقص بشكل لا يتصّوره إنسان. فنحن أمام عمليّة خلق: »خلقَ في شخصه من هاتين الجماعتين... إنسانًا واحدًا جديدًا« (2: 15).
مع 2: 19 حيث صار حاضر المسيحيّين الأمميّين لا يرتبط بإسرائيل، يقدّم 2: 1-5 برهانًا آخر يبيّن عدم التواصل: إذا كان تاريخ جميع البشر، يهودًا أوّلاً، كان تاريخ الخطيئة، حتّى الموت الفصحيّ (2: 1-3: 5)، فكيف يستطيع المسيحيّون أن يتقبّلوا شيئًا إيجابيٌّا من البشريّة القديمة: من الوثنيّين واليهود؟ هنا يرتبط بولس بما في روم 5: 12-19 (بإنسان دخلت الخطيئة) و7: 7-25 (الشريعة والخطيئة)، حيث وضعُ آدم ونسله ميؤوس منه. إذًا، هو انقطاع أساسيّ بين الكنيسة وماضي الأمم، وماضي اليهود (وبالأحرى إسرائيل)، لأنّها نالت كلّ ما نالت من المسيح على أنّه الرأس (1: 22). كما نالت الروح عربون البركات الآتية (1: 14).
ونجد برهانًا ثالثًا في 2: 14-15 حيث يُقال إنّ المسيح دَمّر الشريعة التي هي عامل بغض بين اليهود والوثنيّين. هذا المقطع لا يهاجم الشريعة كما كان الأمر في الرسالة إلى رومة، ولكنّه يلاحظ فقط: زالت، دُمِّرت. وإن بقي منها شيء فلا نفع فيه. هذا يعني أنّ وجود اللفظ »ناموس« لم يأتِ على طريق العرض. فمنذ آ 11، تحدّث الكاتب عن شريعة أساسيّة، عن نهج موسويّ، عن الختان. وهو يقدّم الآن الختان كسبب مباشر للانقسام بين إسرائيل والأمم. وهكذا تأتي آ 15 فتسمّي واقعًا أشير إليه في آ 11.
إذًا، تماهت الشريعة الموسويّة مع البغض حسب كناية تعاكس الأولى. كناية المسيح السلام (2: 14). نلاحظ هنا أنّ النظرة تبدّلت عمّا في الرسالة إلى رومة، حيث لا يقول بولس إنّ الشريعة دُمِّرت وإن كانت لا تصل بعدُ إلى المسيحيّين الذين ماتوا مع المسيح عن الشريعة وعن الخطيئة (فنظام الشريعة عفّاه الزمن بالنسبة إلى المسيحيّين، غل 3: 24-25؛ روم 6: 14). نحن نفهم هذا التبدّل في تطوّر النسيج الكنسيّ، لأنّ الخبرة الكنسيّة وحدها، أي الطريقة التي بها تمّت الوحدة بين مسيحيّين من أصل يهوديّ ومسيحيّين من أصل وثنيّ، والدور الذي كان أو لم يكن للشريعة في الكنائس الأولى، لأنّ هذه الخبرة تبرّر تأكيدًا بهذه القوّة وإن هو صوّر المؤمنين الآتين من العالم اليهوديّ. وبمختصر الكلام، لا تحتفظ أفسس من الماضي اليهوديّ وعالم اليهوديّ إلاّ السلبيّ. فهذه الرسالة لا تصوّر إسرائيل كشعب جاء به الخلاص، ولا كشعب الوعد، وهو وعد يجد كماله في الكنيسة. ونضيف الآن أنّ السبب الأساسيّ هو الوضع الإسكاتولوجيّ للمسيحيّين والكنيسة.
إذاً رأت أفسس أنّ لا شيء مشترك للكنيسة مع إسرائيل التاريخيّ، الشعب المختار، المرتبط بالتاريخ. ولا بالعالم اليهوديّ مع ديانته المركّزة على الشريعة. فهل يعني هذا أنّ الكاتب ألغى كلّ ما يربط الذاكرة والحوار مع مفهوم الشعب المختار والعالم اليهوديّ؟ لقد احتفظت الكنيسة من إسرائيل بالذاكرة، لأنّها جعلت كتبه المقدّسة كتبها. لا شكّ في أنّ كاتب الرسالة يستعيد كلمات وعبارات بيبليّة، بحيث يختلف عن الرسائل الكبرى، إلاّ أنّه لا يقدّم براهينه منطلقًا من الكتب على أنّها حجّة تفرض نفسها. والملاحظة تسري هنا حتّى في إيراد مز 68: 9 في 4: 8 (صعد إلى العلى، أخذ أسرى، وأعطى البشر عطايا) والتفسير (ف ش ر) اللاحق في 4: 9-16: »وما المقصود بقوله: صعد سوى أنّه نزل أوّلاً إلى عمق أعماق الأرض«.
لا نريد أن نتطرّق هنا إلى الطريقة التي بها ترى أفسس الكتب المقدّسة. بل نقول فقط إنّ العدد المحدود للإيرادات الكتابيّة، مرجعه التشديد على »السرّ« (ميستيريون)، أي على جديد الأوضاع وعلى المقولات التي تعبّر عن هذه الأوضاع الجديدة. والكلام عن السرّ لا يعني التخلّي عن الكتب المقدّسة، بل قراءتها قراءة ثانية على ضوء هذا الجديد. والجديد يأتي، في شكل رئيسيّ، من علاقة تقوم، داخل الكنيسة، بين مسيحيّين جاؤوا من اليهود ومن الأمم.
إنّ الوحدة بين المؤمنين من أصل يهوديّ ومن أصل وثنيّ، تبدو بشكل مفارقة، بشكل رأي يعارض الرأي المعروف. من جهة، الاثنان يشكّلان كيانًا واحدًا، كيانًا يختلف عن كيانات سابقة في العالم، وفي التاريخ (2: 15-16). ومن جهة ثانية، تحفظ كلّ فئة السمات التي كانت لها من قبل. فالأمم (إتني) تبقى »أممًا«. ونقول إنّ اليهود يبقون يهودًا دون المحافظة على متطلّبات الشريعة ولا سيّما في ما يتعلّق بعشاء الربّ. هذا الوضع لا يعني فقط أنّ الاختلافات الثقافيّة والاجتماعيّة لدى كلّ شعب، تتوافق مع الإنجيل ومع الحياة في الكنيسة، بل يعني أيضًا أنّ الإنجيل لا يتماهى مع شرعة مجموعات تكوّن البشريّة، على المستوى الثقافيّ والاجتماعيّ. لهذا نطهّر كلّ شرعة، كلّ ثقافة ومجتمع، نهديه إلى الإنجيل. وهذا يعني أيضًا أنّ الإنجيل يمكن أن يُعاش في حضارات مختلفة وجماعات متنوّعة. كما يعني دور الكنيسة بأن تبيّن ما هي الوحدة الحقّة التي لا تقوم بابتلاع الآخر وبإزالة تنوّع الانتماء الإتنيّ والحضاريّ والاجتماعيّ.
خاتمة
الضوء الجديد الأساسيّ الذي وجدناه في الرسالة إلى أفسس، هو السرّ الذي كان مكتومًا منذ الدهور. وكُشف في يسوع المسيح. وطُلب من الكنيسة أن تحمله. هذا السرّ يقول إنّ البشر كلّهم يشاركون في الوعد والميراث. اليهود والوثنيّون كنيسة واحدة. وجاؤوا من محيطَين مختلفين. فوجب عليهما أن يتركا ما في اختلافهما من أمور ترتبط بالعالم وبالتاريخ فتبقى السمة الأساسيّة أو الهويّة العميقة. يبقى المسيحيّ الأمميّ ما هو. لا يتنكّر لأرضه وبلاده وحضارته. وكذلك اليهوديّ. ولكن نلغي كلّ ما يشكّل حاجزًا بسبب العداوة، سواء كان الختان أو غيره. وفي المسيح، لم يعد هناك قريب وبعيد، جميع المعمّدين هم من أهل البيت، من وطن واحد، من أسرة واحدة. تلك تكون الكنيسة في التاريخ، وتواصل مسيرتها على أنّها جسد المسيح. وفي الوقت عينه، تنظر إلى النهاية، ساعة يصبح المسيح كلاٌّ في الكلّ. عندئذ نستطيع أن نعلن في قانون الإيمان أنّ الكنيسة واحدة. وهذا ما لا يظهر الآن، وأنّها مقدّسة، وأفرادها اليوم خطأة يحتاجون إلى غفران الله، وأنّها جامعة، لا مفرقّة، وأنّها رسوليّة لأنّها صاحبة رسالة في خطّ ذاك الذي قدّسه الآب وأرسله إلى العالم[*].
[*] Voir, J. N. ALETTI, Les difficultés ecclésiologiques de la lettre aux Ephésiens. Quelques suggestions, Biblica, 85(2004), p. 457-474.