الفصل 2: الجماعة المسيحيّة في الرسالة إلى غلاطية

الجماعة المسيحيّة في الرسالة إلى غلاطية

حين نقرأ العهد الجديد، نرى أن لفظ الشريعة (نوموس) يرد 191 مرّة. منها 116 مرّة في الرسائل البولسيّة، وفي شكل خاصّ في الرسالة إلى رومة (72 مرّة) وإلى غلاطية (32 مرّة). في غلاطية يرد لفظ "نوموس" مع أل التعريف 11 مرّة وبدون أل التعريف 21 مرّة. فجاء من يبحث عن مدلول في الحالتين. مع أل التعريف، يعيدنا "نوموس" إلى الشريعة المكتوبة، إلى العهد القديم. وبدون أل التعريف، هي الشريعة بشكل عامّ كمبدأ يتّخذ وجهًا، فيما يتّخذ، في الشريعة الموسويّة. فالناموس يبقى أوسع من شريعة موسى.

واقترح آخرون تفسيرًا لهذه الظاهرة اللغويّة. حين يكون "نوموس" مضافًا إليه، إن كان اللفظ الذي يصفه لا يتضمّن أل التعريف، كذلك يكون "نوموس". في 2: 16: "إذ نعلم أنّ الإنسان لا يتبرّر بأعمال الناموس (بدون أل التعريف) بل بإيمان يسوع المسيح، آمنّا نحن أيضًا بالمسيح يسوع لنتبرّر بإيمان المسيح لا بأعمال الناموس (بدون أل التعريف) لأنّه بأعمال الناموس (نوموس) لا يتبرّر بشر". هو إيمان بيسوع المسيح. وبالأحرى، الشريعة التي موضوعها يسوع المسيح، ولكن يجب أن ننسى معنيين آخرين: الإيمان الذي ينبوعه يسوع المسيح. أو : الإيمان الذي يفعله يسوع. فالمسيح هو من يعطينا أن نؤمن.

في هذا الإطار نفسه، نقرأ 3: 2: "أريد أن أتعلّم منكم هذا فقط: أبأعمال الناموس (بدون أل التعريف) أخذتم الروح، أم عبر الإيمان"؟ أي هل نلتم الروح لأنّكم مارستم أعمال شريعتكم، أم لأنّكم سمعتم بلاغ الإيمان؟ هذا ما يجعلنا قريبين من روم 10: 16 الذي يورد أش 51: 1 حيث الإيمان يرتبط بالكرازة وإعلان كلمة المسيح: إعلان كلمة أتت من المسيح. أو: كلمة حول المسيح. وقد نقول: كلمة أمر بها المسيح فهنّأ حاملي البشارة.

إنّ تواتر لفظ "نوموس" في غلاطية، لا ينسينا أنّ الشريعة لا تستطيع أن تؤكّد على حضورها دون ذكر جذر الكلمة، كما في القاموس. نجد مثلاً "الكتاب" (غرافي) في غل 3: 8: "والكتاب سبق فرأى أنّ الله يبرّر الأمم بالإيمان". هنا يلتقي "ناموس" مع "الكتاب" (رج 3: 22؛ 4: 30).

*  *  *

ما هي نوعيّة الرسالة إلى غلاطية؟ هنا ننطلق لنكتشف الأزمة التي عصفت بهذه الكنائس، كما نكتشف اليقين واقتناعه بما يفكّر ويقول ويعمل.

إذا نظرنا إلى هذه الرسالة من الوجهة البلاغيّة، نرى أنّ الرسول يلجأ إلى فنّ التداول والتشاور: لا بدّ من إقناع الغلاطيّين بأن يظلّوا ثابتين، أمينين لتعليم نالوه. وصرفهم عن قبول الختان. في ف 2-3، أورد بولس عددًا من الأمور، فأبرز استقلاليّته: اختارني الله من بطن أمّي. ما استشرتُ بشرًا. ما صعدتُ إلى أورشليم لأرى الذين كانوا رسلاً قبلي، أي بطرس ويوحنّا، ويعقوب أخا الربّ. بل هو اختار بملء حرّيّته ما يفعل: مضى إلى بلاد العرب، إلى حوران والأردنّ حيث تعلّم من الجماعات ما يتعلّق بحياة يسوع على الأرض. وتأخّر ثلاث سنوات قبل أن يصعد إلى أورشليم ليرى بطرس (1: 15-19).

وتحدّث في 2: 6، 9 عن عمد الكنيسة: ما أضافوا شيئًا على تعليمه. بل مدّوا إلى الرسول وإلى برنابا "يمين الاتّفاق" علامة المشاركة. فلماذا يواصل الغلاطيّون شكّهم برسولهم؟ إنّ الصراع حول الشريعة، ولا سيّما الختان، الذي يسمعه الغلاطيّون للمرّة الأولى، فقد وجد له حلاًّ في "مجمع أورشليم" الذي اعترف بصحّة الإنجيل الذي يحمله بولس. "وبعد أربع عشرة سنة، صعدتُ ثانية إلى أورشليم مع برنابا وأخذتُ معي تيطس. وكان صعودي إليها بوحي، وعرضتُ على كبار المؤمنين دون غيرهم، البشارة التي أُعلنُها بين الأمم" (2: 1-2). هم ما أجبروا تيطس، الوثنيّ الأصل، على الختان. وذلك للحفاظ على صحّة البشارة (آ 5).

وجاءت حادثة أنطاكية (2: 11-14) فأكّدت حقيقة الإنجيل الذي يكرز به بولس. ففي تلك المدينة، كان بطرس وسائر اليهود وبرنابا (كلّهم مختونون) يتناولون الطعام مع أناس لا مختونين (إذًا نجسون بالنسبة إلى اليهوديّ، بالتالي لا يأكل معهم). مثل هذه المشاركة في عشاء المحبّة، وفي عشاء الربّ، تدلّ على قوّة التبرير التي ارتبطت بالإيمان بيسوع المسيح، بمعزل عن أعمال الشريعة وتبديل موقف الغلاطيّين كوَّن قطيعة تتحدّى حقيقة الإنجيل. قال بولس لبطرس: "إذا كنت أنت اليهوديّ تعيش كغير اليهود (وثنيًّا)، أمميًّا، (تنيكوس) فكيف تلزم الأمم (غير اليهود) أن يعيشوا كاليهود"؟ (أن يتهوّدوا).

ويشكّل 2: 15-21 مقطعًا انتقاليًّا، فيه يتابع بولس جداله مع بطرس. وفي الوقت عينه يقدّم البار عن التي تستطيع أن تُقنع محاوره بصحّة إنجيله. أمّا 3: 1-4: 7، فينتمي إلى القسم الثاني من الرسالة، وفيه يحدّد بولس طبيعة الجماعة المسيحيّة: هي نسل إبراهيم. وُلدت من الوعد، أي بحسب الروح. وانطلق الرسول من الكتب المقدّسة ليقنع الغلاطيّين أنّهم، بدون الختان، نسل إبراهيم وأبناء ووارثون في يسوع المسيح.

"فلمّا تمّ الزمان، أرسل الله ابنه مولودًا لامرأة، وعاش في حكم الشريعة ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة، حتّى نصير نحن أبناء الله. والدليل على أنّكم أبناؤه هو أنّه أرسل روح الله إلى قلوبنا هاتفًا: أبّا، أيّها الآب. فما أنت بعد الآن عبد، بل ابن. وإن كنتَ ابنًا، فأنت وارث بفضل الله" (4: 4-7). بالله أنت وارث. عمل الله فيك فحوّلك من عبد إلى ابن، والروح يكشف لنا في أعماقنا وضعنا الجديد.

في القسم الثالث (ف 5-6)، ذكر بولس موقف الذين حرّرهم الإيمانُ بيسوع المسيح "فدُعوا إلى الحرّيّة" (5: 13). "اقتادهم الروح" (5: 18)، فأتمّوا شريعة المسيح (6: 2). في ف 3-4، قدّم بولس براهينه منطلقًا من الكتب المقدّسة. أمّا في ف 5-6 فهو يرسل الأقوال التي تحاول أن تقنع، ويطلق النداء الذي يدلّ على حنان الأب تجاه أولاده. فالمسيح حرّرنا لنكون أحرارًا. فاثبتوا أوّلاً ولا تعودوا إلى نير العبوديّة" (5: 1). "كنتم في سيركم على ما يُرام، فمن صدّكم وردّكم عن طاعة الحقّ"؟ (5: 7).

*  *  *

ما هو وضع الكنائس في غلاطية؟ جعل الرسول نصب عيون الغلاطيّين يسوع المسيح مصلوبًا (3: 1). فسمعوا نداء الإيمان. أطاعوا. برّرهم الإيمان بيسوع المسيح، بمعزل عن الختان وأعمال الشريعة، فعرفهم الله (4: 9). إعتبروا أنّهم عرفوه. ولكنّه سبق فعرفهم واختارهم وتبنّاهم والتصق بهم. حينئذٍ ساروا مسيرة الإيمان في الفرح (4: 15). والاندفاع وراء الرسول مستعدّين بأن يضحّوا من أجله بأغلى ما عندهم.

كان الغلاطيّون إخوة الرسول وما زالوا. قال لهم منذ البداية: "فاعلموا أيّها الإخوة" (1: 11). وما خاف في قلب البرهان أن يناديهم "أيّها الإخوة". فكأنّنا أمام عظة، يتوجّه فيها الرسول إلى أشخاص جالسين أمامه وهم يستمعون إليه (3: 15). في 4: 12: "أناشدكم، أيّها الإخوة، أن تصيروا مثلي".

ولكن تأثّر هؤلاء "الإخوة" بأشخاص ألحّوا عليهم بأن يختتنوا (6: 13) لكي يفتخروا على المستوى البشريّ، بأنّهم ربحوا أناسًا! وطلبوا منهم، في خطّ الختان، أن "يراعوا الأيّام والشهور والفصول والسنين" (4: 10). أن يهتمّوا بالأعياد اليهوديّة مثل السبت الذي يقع في اليوم السابع، وأعياد الفصح والعنصرة والمظالّ، المرتبطة بالشهور. كما لا ننسى بداية السنة، ولا السنة السبتيّة والسنة اليوبيليّة. بل إنّ بعض الغلاطيّين استعدّوا لأن يأخذوا بإنجيل آخر (1: 8-9)، إنجيل لم يكرز به الرسول وفريقُه. استعدّوا ليقوموا بانقلاب على "إنجيل المسيح" (1: 7) من أجل التغيير.

انحسد خصوم الرسول من نجاح بولس، واستاؤوا حين رأوا الغلاطيّين ينالون الروح من دون أعمال الشريعة. فلجأوا إلى "غباوة" الغلاطيّين. سحروهم. سلبوا قلوبهم، سيطروا عليهم. فاستعدّ هؤلاء المؤمنون الجدد للعودة إلى خاصّيات العالم اليهوديّ، معتبرين أنّ ما عمل يسوع لا يكفي من أجل الخلاص. ولكن مثل هذا التعلّق بالشرائع اليهوديّة، يقسم الكنيسة. فقال الرسول: "لا يهوديّ ولا يونانيّ... فأنتم كلّكم واحد في يسوع المسيح (3: 28). يسوع مبدأ وحدة، فلا تبحث عن سواه. غير أنّ التجربة حاضرة لدى الغلاطيّين، تجربة أعمال الشريعة، فنسوا أنهم نالوا الروح بالنظر إلى سماع الإيمان وحده (3: 1-6). مثل هذه الظروف تشرح، أقلّه جزئيًّا، أقوال بولس حول الشريعة.

*  *  *

ما هي أقوال الرسول؟ وكيف تدلّ على معتقده الذي يريد أن ينقله إلى الغلاطيّين؟ إذا قرأنا 5: 13-26 و6: 1-10، نرى أنّ مقطعين بنيا بحسب نمط واحد. تبدآن بنداء إلى الغلاطيّين. إذن، في صيغة المخاطب الجمع: "وأقول لكم" (5: 13). "يا إخوتي، إذا وقع أحدكم" (6: 10). وينتهي هذان المقطعان بنظرة إلى الحياة المسيحيّة في صيغة المتكلّم الجمع: "فلا نتكبّر ولا يتحدّى ولا يحسد بعضنا بعضًا" (5: 26). وفي 6: 10 نقرأ: "وما دامت لنا الفرصة، فلنحسن إلى جميع الناس، وخصوصًا إخوتنا في الإيمان".

اهتمّ بولس بموقف قرّائه تجاه بعضهم بعضًا. وكان بولس في 5: 1-12 (يسبق 5: 13-6: 10) و6: 11-18 (يلي 6: 10) قد عرض اليقين الذي يوجّه تفكيره، ويحذّر المؤمنين من خصومه. في 5: 1-12، أصدر بولس يقينين اثنين، في شكل احتفاليّ: "إذا اختُتنتم فلا يفيدكم المسيح شيئًا" (آ 2). ثمّ من يختتن" يُلزَم أن يعمل بأحكام الشريعة كلّها" (آ 4). في آ 4، أوضح الرسول وجهته: حين يختنونكم لكي تتبرّروا بواسطة الشريعة، تنفصلون عن المسح، وتسقطون من النعمة. وقابل بولس الغلاطيّين الذين ينالون الختان، والمسيحيّين الذين ينتظرون ملء التبرير "بالروح، بالنظر إلى الإيمان، العامل بالمحبّة" (آ 5-6). ثمّ إنّ الكلام عن الختان عثار الصليب (آ 11). فالشريعة في هذا المقطع هي الشريعة الموسويّة. لا ينقدها بولس، بل يقبل بشرعيّتها لأنّ ذاك الذي يُختَن، يلتزم بالعمل بكلّ الشريعة (5: 3). ولكن وُجد التوافق الجذريّ بين جعل البرّ في الشريعة، وجعله في المسيح. فالإيمان بيسوع المسيح ليس يناقض بحيث يحتاج إلى ما يكمّله.

حين وقّع الرسول ما كتبه أو استكتبه، بحروف كبيرة، استعاد كثيرًا من المواضيع التي وجدت في 5: 1-12: تعارض بين الصليب وما هو بشريّ، وخصوم الرسول ليسوا في طريق التبرير، وضعفهم واضح. فهو لم يسيرون مسيرتهم إلى النهاية: يمارسون الختان ولكنّهم لا يعملون بأحكام الشريعة (6: 13). هل نسوا أنّهم ملزمون بها كلّها (5: 3). وسوف يقابل بولس بين الختان الذي هو قطع جزء من العضو التناسليّ، كما مارسه اليهود، وبين ممارسة وثنيّة تجعل الإنسان خصيًا حين يقطع له العضو التناسليّ كلّه. ويسخر بولس من هؤلاء الغلاطيّين، فيقول لهم ماذا يشكّل الختان الذي هو عمل بسيط تجاه ما يفعله هؤلاء القلفيّون الآتون من غالية (أي فرنسا القديمة)؟

ويستعيد بولس في 6: 14-17 (صليب المسيح) ما سبق وقاله في 5: 11: بولس يُضطهَد، وهو يحمل في جسمه سمات يسوع. فلا بدّ من أن نجتاز الافتخار الذي يصدر عن ختان نعرضه على الآخرين، أو ذاك الذي يرتبط بصليب ربّنا يسوع المسيح. المهمّ لا الختان ولا عدم الختان، بل "الإيمان العامل بالمحبّة" (5: 6). الخليقة الجديدة (6: 15).

وميّز الرسول في 6: 16 فئتين: مجموعة الذين يسيرون بحسب هذه القاعدة. ثمّ "إسرائيل الله". فالختان لا يعارض الإيمان بيسوع المسيح في كلّ الظروف. لأنّ البركة تحلّ أيضًا على إسرائيل الله أي على المسيحيّين الآتين من العالم اليهوديّ ختنوا حين كانوا يهودًا. ثمّ تقبّلوا بلاغ الإيمان من أجل الخلاص. إنّ كلام بولس لا يمسّهم، إلاّ إذا اعتبروا الختان ينبوعًا من ينابيع الخلاص.

*  *  *

كيف تتمّ الشريعة؟ كيف نصل إلى كمالها؟ وما هو موقع شريعة المسيح؟

في غل 5-6، قابل بولس بين ملء الشريعة وشريعة المسيح. لأنّ المسيح، بموته وقيامته، بيّن الاتّجاه الحقيقيّ للشريعة. في 5: 14 يأتي الفعل في صيغة المجهول، يكمَّل. هو المجهول الإلهيّ. أي نتحاشى ذكر اسم الله. ولن يعود الرسول إلى الربّ يسوع الذي حقّق كلّ التحقيق ما ورد في لا 19: 18: أحبب قربيك كنفسك. إنّ شريعة موسى تصبح شريعة المسيح، لا كما وردت في التوراة، بل كما عاشها يسوع المسيح في ملئها وكمالها. منذ الآن يقدّم المسيح إمكانيّة العمل بالشريعة في هدفها الأصليّ.

ونقابل بين الشريعة والمحبّة (أغابي) والروح. إذ أراد بولس أن يبرّر الدعوة إلى المساعدة المتبادلة، استند إلى لا 19: 18: "فالشريعة كلّها تُكمَّل في وصيّة واحدة: أحببْ قريبك مثلما تحبّ نفسك" (5: 14). رأى العالمُ اليهوديّ القديم في المحبّة جوهر الوصايا، ومبدأ تنظيم الشريعة. في هذا المجال قال هلاّل لوثنيّ جاء يسأله: "لا تصنع لقريبك ما لا تحبّ أن يصنع لك. تلك هي التوراة كلّها. والباقي هو تفسير. فامضي وادرس هذه التفاسير" (تلمود بابل، شبت 31أ). وجاء قول متأخّر، أكثر جذريّة من قول هلاّل، في تلمود أورشليم: "الصدقة وأعمال المحبّة تساوي جميع الوصايا" (فيئة 1: 1، 15ب).

استعمل بولس في غل عبارات عديدة للدلالة على الشريعة بمجملها: "كلّ المكتوبات في كتاب الشريعة" (3: 10). "الشريعة كلّها" (5: 3). هذا ما يدلّ على الشريعة نفهم فرائض يجب العمل بها. في 5: 14، الشريعة هي كلٌّ توجّهه عبارة: "أحبب قريبك كنفسك".

عاد بولس إلى ما تطلبه الشريعة التي تجد اتّجاهها الحقيقيّ في كلام سفر اللاويّين. وفعل "ملأ" (بليروتو) لا يساوي فعل "عمل" (بوياين)، لأنّ العالم اليهوديّ المتكلّم اللغة اليونانيّة لا يربط بين "الشريعة" و"ملأ". ويحتفظ بولس بعل "ملأ" للكلام عن العمل بوصايا سيناء لدى الخاضعين للشريعة، وهذا الفعل (ملأ) لا يرادف "أكمل، ضمّ (أناكافالوتو). ففعل ملأ (بليروتو) يعني: أرض المنية الحقيقيّة والتتمّة هو ما هيّأه الله وأراده "لأنّ الشريعة كلّها تتلخَّص في هذه الوصيّة" (روم 3: 8-9). هل الفعل "أناكافانوتو" الذي يشير إلى ملء الرغبة والرضى، وملء الالتزامات وإنجاز الوعود. إنّ كلمة سفر اللاويّين تقدّم الهدف الحقيقيّ للشريعة الموسويّة.

وشريعة المسيح، شأنها شأن الشريعة الموسويّة (5: 3) تدعو إلى التبادل (6: 2) في المحبّة. فالمسيحيّون يتمّونها حين يحمل بعضهم أثقال بعض. أوجز يسوع هذه الشريعة الموسويّة في هدفها الحقيقيّ، فتطلّعت إلى وضع شريعة كونيّة، لأنّ امتدادين في 5: 13ب (أحبّوا بعضكم) وفي 6: 2أ (ساعدوا بعضكم) يتوجّهان إلى جميع أعضاء الجماعة مهما كان منشأهم. وبعد أن شدّد الرسول على عمل الروح في 15: 13-26، دعا مراسلين "روحيّين" (6: 1). هو لا يسخر، بل يدلّ على أنّ الحياة المسيحيّة ينعشها الروح الذي ثمرتُه المحبّة. وتحصل في الجماعة المسيحيّة سقطات فرديّة لأنّ المسيحيّ يبقى خاضعًا لقوى متعارضة (6: 1ب: تتعرّض للتجربة). لهذا، لا بدّ من الإصلاح الأخويّ، فشريعة المسيح تحمل إلى الذروة الشريعة الموسويّة كما جدّدتها الممارسة يسوع وموهبة الروح. وبعد أن عاشها يسوع، ترك لتلاميذه. ويبقى الروحُ الأساس، لأنّه يعارض البشريّ الذي يقود الإنسان إلى الانغلاق على نفسه: فإيمان العامل بالمحبّة يحقّق هذه الشريعة وتلك (5: 6). فشريعة المسيح، وشريعة المسيح التي توجّهها المحبّة، يتوجّهان إلى جميع الإخوة، سواء أتوا من العالم اليهوديّ أم من العالم الوثنيّ.

وبعد كلام عن "الشريعة، المحبّة، الروح، ننهي بالكلام عن الشريعة والروح البشريّ". فبين البشريّ (ساركس، اللحم والدم عمع الضعف البشريّ) والروح هناك تضاد (5: 17): "ما يشتهيه الجسد (البشريّ) يناقض الروح، وما يشتهيه الروح يناقض الجسد (البشريّ)، كلّ منهما يقاوم الآخر لئلاّ تعملوا ما تريدون". فالرغبة في عمل الخير لا تكفي، لأنّ الإنسان لا يقدر وحده أن يتحرّر من كيانه البشريّ، اللحميّ الخاطئ. وهكذا لا يكون التحرّر من الشريعة تحرّرًا ممّا تشجبه، بل تحرّرًا من البشريّ الذي تُشجَب أعماله.

والتناقض بين الروح والبشريّ، يتجلّى في ما يعطيه كلُّ منهما (5: 19-23). فبحسب القدّيس بولس، الذين يقودكم الروح، لا الشريعة، لا يخضعون للشريعة (5: 18). مثلُ هذه النظرة تبدو وكأنّها تجعل تعارضًا بين الشريعة والروح (5: 23ب): "ما من شريعة تُنهي عن هذه الأشياء". في الواقع، الشريعة في 5: 18 (في حكم الشريعة) هي التي تُنتج الأعمال وتنسى أنّها تصل إلى هدفها في كلمة واحدة. ثمّ، فلا تعارض بين الروح والشريعة. ولكنّ الهدف الحقيقيّ للشريعة (أغابّي) لا يتحقّق إلاّ إذا ترك الإنسان الروح يقوده. إن كان الإنسان لا يقوده الروح، فهو خاضع للشريعة التي تبدو إكراهًا خارجيًّا، وتقود إلى أعمال ظاهرة تقسم الإنسان كإنسان، وتقسم الإنسان عن الإنسان. أمّا الشريعة التي تتحقّق على ضوء الكلمة الوحيدة، فتقود إلى وحدة الإنسان كفرد، وإلى وحدة الجماعة في أعضائها.

إنّ الشريعة الموسويّة تدلّ على هدف، ولكنّها لا تحمل في ذاتها القوّة للعمل بها. فالروح هو الذي يتيح لنا أن نتمّها. فلا شريعة تعارض ثمرة الروح المواقف التي تصدر عن هذه الثمرة التي هي المحبّة (5: 23)، لأنّ الروح يحقّق ما تطرحه الشريعة. وهكذا لن يكون للأعمال سبب وجود، لا الروح يحرّك أغابّي التي هي قوّة باطنيّة تنعش الحياة المسيحيّة.

*  *  *

ذاك هو وجه الجماعة المسيحيّة في غلاطية. فئة سارت في خطى الرسول ففهمت ما هي الحرّيّة الحقيقيّة في المسيح، وأنّ الشريعة كشريعة تبقى ناقصة إن لم يكمّلها يسوع المسيح، سراء الشريعة اليهوديّة، أو كلّ شريعة من أيّة ديانة أتت. قال يسوع: جاء ليكمّل الشريعة. إذن هي ناقصة. والمسيحيّ الذي لا يخرج منها كما قرأها في الوصايا العشر، لن يدخل ملكوت السماوات (مت 5: 17، 20). وفئة ثانية، رفضت الامتثال لتعليم بولس، فسارت في خطى وعّاظ عادوا بهم إلى الوراء، مثل العبرانيّين الذين تمنّوا العودة إلى مصر، بعد أن حرّرهم الله من العبوديّة. هكذا كان عددٌ من الغلاطيّين الذين خافوا من صليب المسيح، فطلبوا الاختباء في العالم اليهوديّ، والتخلّص من الاضطهاد. لهذا، عادوا إلى الختان، هذه العمليّة الجراحيّة البسيطة، ونسوا العمليّة الجراحيّة الكبيرة التي مارسها آباؤهم. عادوا إلى الشرائع الطعاميّة ويا ليت هؤلاء الوعّاظ كانوا صادقين، يفعلون ما يقولون، يمارسون الشريعة التي ترتبط بالإيمان. بل كان كلُّ همّهم الافتخار بأنّهم ربحوا العدد الكبير إلى "إيمانهم". فيا ليت الغلاطيّين الأغبياء يفهمون!

 

Copyright © 2018 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM

situs toto

situs toto

shiowla

shiowla

https://kalamariotes.gr/-/shiowla/

https://shantikuteer.org/

https://proletter.org/

shiowla

https://gidapp.bangkok.go.th/cibma/-/situstoto/

https://cockneyrejectsofficial.com/

http://imard.edu.vn/-/situstoto/

situs toto

situs toto

situs toto

situs toto

bo togel

situs toto

shiowla

shiowla

shiowla

shiowla

situs toto

shiowla

shiowla

shiowla

shiowla

shiowla

shiowla

situs toto

situs toto

slot88