كورنتوس الثانية في التراث السرياني
قال أحد البحّاثة المعاصرين إنّ العالم السريانيّ ترك الكثير من شروح الكتاب المقدّس. فلو حُفظت كلّها لشكّلت وحدها مكتبة كاملة. ولكن ضاع منها الكثير الكثير. وما بقي، لَم يُنشر بعد منه سوى القليل. وفي هذا بدأ العلماء يحسّون بعقدة الذنب تجاه الأدب السريانيّ. فهم يهتمّون كلّ الاهتمام حتّى بقصاصة ورق من الأدب اللاّتينيّ والفكر اليوناني، ولا يعيرون اهتمامهم إلاّ قليلاً للنصوص السريانيّة. هم على حقّ حين ينشرون تراثهم. ولكن الكثير من التراث السريانيّ هو في مكتبات أوروبا. وما بقي عندنا تأكله الرطوبة والعفن إن لَم نقُل غير ذلك. وفي أي حال، قليلون وقليلون جدٌّا هم الّذين ينشرون نصٌّا سريانيٌّا. وإن هم نشروه جاء مجزَّءًا، مبتورًا بسبب الوسائل المادّيّة الضئيلة الّتي لا تتيح لهم أن يمتلكوا مختلف النسخات المبعثرة هنا وهناك في الشرق والغرب.
بعد أن نتحدّث عن التراث التفسيريّ بشكل عام، نتوقّف عند افرام. وفي النهاية، نورد بعضًا من شرحه للرسالة الثانية إلى كورنتوس.
1- التراث التفسيريّ السريانيّ
أقدم ما نملك من تفسير في العالَم السريانيّ، نجده عند افرام الّذي سنعود إليه. أمَّا مار آبا، تلميذ افرام، فكتب شرحًا عن الأناجيل وخطبة عن أيّوب. وشرح تلميذ آخر كتاب صموئيل. وبقيت لنا مقاطع من فيلوكسينس المنبجي من شروحه حول يوحنّا ومتّى ولوقا. أمّا دانيال الصلحي فوضع شرحًا لسفر الجامعة حُفظ في مجموعة الراهب ساويرا. ثمّ شرحًا للمزامير، أنجزه سنة 542 وقسّمه إلى ثلاثة أقسام[1].
ونُقل ثيودورس، أُسقف المصيصة، من اليونانيّة إلى السريانيّة، فبقيت أجزاء كبيرة أو صغيرة من شرحه لسفر التكوين والمزامير والأنبياء الصغار وإنجيل متّى والرسالة إلى العبرانيّين. كما نمتلك النصّ الكامل لشرح إنجيل يوحنّا. وترك إيشوعداد المروزي تفسيرًا يكاد يكون تامٌّا لأسفار العهد القديم، جمع فيه ما قاله سابقوه. ونُشر تفسيره للعهد الجديد قبل الحرب العالميّة الأولى، في كمبريدج من أعمال انكلترا. وجاء تجميعُ كبير لشروح الأسفار المقدّسة، نُسب إلى سبريمو بر فولوس (حوالي 1190). وكان لإيشُوعداد تأثير على »جنّة الأطياب« الّتي تحتوي »دروسًا« في نصوص العهد القديم والجديد، تتوزّع على السنة الليتورجيّة. ولا ننسى تيودورس بركوني في كتابه »سكوليون« الّذي هو شرح غراماطيقيّ ونقديّ وتاريخيّ لنصوص الكتاب المقدّس. توقّفت المقالات الخمسة الأولى عند العهد القديم. والأربعة الأخيرة عند العهد الجديد. كلّ هذا يبدو بشكل أسئلة يجيب عليها الكاتب. وبقي من إيشوع برنون، »سؤالات مختارة« تتطرّق إلى العهدين، ولا تنسى رسائل القدّيس بولس. ونذكر من تفاسير موسى بر كيفا الغزير الانتاج، تفاسيرَه حول الأناجيل وأعمال الرسل ورسائل القدّيس بولس. ومثله فعل ديونيسيوس الصليبيّ الّذي بدأ بشرح الأناجيل الأربعة، ثمّ الرؤيا وأعمال الرسل والرسائل السبع العامّة، وانتهى مع رسائل بولس الأربع عشرة. وننهي مسيرتنا مع ابن العبري و»مخزن الأسرار«، وهو مجلَّد ضخم نفيس شرَحَ فيه أسفار العهدين شرحًا لغويٌّا ولفظيٌّا ورمزيٌّا. وقد اعتمد في شرحه، النقل البسيط، وهكسبلة أوريجانس، والنقل الهرقلي، بالإضافة إلى النقول اليونانيّة الأُخرى العديدة[2].
2- افرام مفسّر الكتب المقدّسة
ترك افرام عددًا من التفاسير الكتابيّة. ولكن حتّى الآن، لَم يميِّز الشرّاح بعد، كما فعل ادموند بيك الألماني بالنسبة إلى المؤلّفات اللاّهوتيّة، بين ما هو من تأليف افرام، وبين ما نُسب إلى افرام.
نبدأ فنذكر شرحه لسفر التكوين، حيث توسّع بشكل خاص في الفصول الأحد عشر الأولى، ثمّ جال سريعًا في سائر الفصول، بحيث وصل إلى بداية سفر الخروج. وسوف يترجم السمعانيّ في مجموعته عددًا من التفاسير. وقد فسّر افرام الإنجيل الرباعيّ أو الدياتسارون. كلّ هذا نقرأه في السريانيّة، بشكل خاصّ، ما عدا تفسير الإنجيل الّذي يرد معظمه في الأرمنيّة. كما أنّ تفسير سفر الأعمال هو في الأرمنيّة.
وما احتفظت لنا به اللّغة الأرمنيّة بشكل خاصّ، هو تفسير رسائل بولس الرسول، الّتي نُقلت إلى اللاتينيّة، وعنها سوف ننقل النصّ الّذي يشرح بعض الرسالة الثانية إلى أهل كورنتوس.
بعد توطئة للنّاشر تقدّم شرح بولس الإلهي، يرد التفسير إلى رومة، ثمّ الأولى إلى كورنتوس والثانية، وصولاً إلى الرسائل الرعائيّة. هنا نتذكّر أنّ الرسالة إلى العبرانيّين تأخّرت لكي تدخل في قانون العهد الجديد السريانيّ. أمّا طريقة افرام فالطريقة الانطاكيّة: يُورد النصّ ثمّ يقدّم عليه تعليقًا قصيرًا أو طويلاً. وها نحن نبدأ فنقدّم شرح الفصل الأوّل، مع إبراز النصّ الكتابيّ في حرف أسود.
3- الفصل الأوّل من 2 كور
بولس[3] الرسول، لا بواسطة يسوع المسيح، بل (رسول) يسوع المسيح بمشيئة اللّه، ليُظهر ما هو قريب، ويرذل ما هو بعيد. وتيموتاوس الأخ. واضعَ نفسَه فكتب اسمه مع أخيه في الرسالة إلى الكورنثيّين المضطهدين. إلى كنيسة اللّه الّتي في كورنتوس الّتي تحتمل المضايقات. وإلى القدّيسين الّذين هم في مناطق أخائيّة الّذين يتألّمون ويُضطهدون (فيحتملون) بصبر.
النّعمة معكم، والسّلام من اللّه أبينا، الّذي جعلكم أهلاً لكي تكونوا خاصّته بالتبنيّ. ومن ربّنا يسوع المسيح الّذي صيَّركم أقرباءه وعمل منكم وارثين معه.
مبارك هو إله يسوع، بسبب الجسد، وأبو المراحم بسبب التبنيّ: فكأنّكم فيه، كما قلتُ من قبل. السّلام معكم، من اللّه أبينا، وربّنا يسوع المسيح. لا بواسطة ربّنا يسوع المسيح، ولهذا قيل: إله يسوع المسيح.
وقال: »الّذي يعزّينا في جميع ضيقاتنا«. إمّا بالتلمذة الّتي تواترت لهم، وإمّا بالقوّات والمعجزات الّتي أتمّها بواسطتهم. لكي نُعزَّي نحن الآخرين المشاركين في المضايق، بكلمة سمعوها منّا، وبصبر الضيق الّذي يرون فينا، إلى أولئك الطلبات أي بسبب التضرّعات الّتي بها صلّينا إلى اللّه من أجلكم، لكي تقووا على التحمّل مثلنا.
لأنّه كما تفيض آلام المسيح فينا، كذلك يفيض تضرّعنا بالمسيح. أي يُفتح باب إلى الغرض الّذي نطلب.
فإن كنـّا نـتـضــايـــق، فلأجـــل تـعـزيـتكم وخلاصكم نتضايق، لكي، إذا رأيتمونا، بلا شكّ تقتدون بنا لكي تحضر لكم قوّة لكي تحتملوا هذه الآلام عينها الّتي تألّمناها نحن أيضًا أكثر منكم.
وهذا هو رجاؤنا الّذي هو لأجلكم ثابت: فنعرف أنّنا إن كنّا شركاء الآلام، كذلك نكون شركاء بالتعزية أي متقبّلين التعزية.
وأُعلمكم، أيُّها الإخوة، بضيقنا الّذي حصل لنا في مناطق آسية، لأنّ الضّيق، تجاوز قوانا وثقُل علينا.
ونحن في أنفسنا أمام الضّيقات الكثيرة، قبلنا الحكم بالموت. فنحن لا نتّكل على أنفسنا أنّنا نقدر أن نتحمّل في الجسد، بل على اللّه الّذي يُقيم الموتى أي الّذي يُحيينا من بين الأموات: فلأنّه جعلنا كمخلّصين من بين الأموات، وخلّصنا هو من ميتات عديدة قد داهمتنا، وهو ينقذنا. وبالأحرى سيُنقذنا من هذه الّتي تدهمنا بمعونة صلواتكم.
ففخرنا ليس من الآخرين الّذين لا يعرفوننا، بل فخرنا هو شهادة ضميرنا أنّنا في قداسة الجسد والنّفس، لا في الإثم إطلاقًا، وفي اللابرّ الّذي لا تشوبه محاباة الوجوه. وفي النّعمة الّتي أُفيضت علينا، رحمةً. بهذه كلّها أقول، سلكنا في العالَم: لا في حكمة جسديّة ظهرنا، أي لا في الخبث أو خطّة بشرّيّة. ما ظهرنا لأحد بهذه الأشكال. وبالأحرى لديكم.
فلا أكتب لكم أُمورًا أُخرى لَم تُصنع فينا لديكم. فأنتم تشهدون أنّنا كتبنا لكم ذلك.
ابن اللّه يسوع المسيح الّذي بشّرتكم به أنا وسلوانس وتيموتاوس. لا لأنّنا دخلنا معًا إلى كورنتوس. ما كُرز به لكم في نعم ولا، بل في نعم، أي في كلمة الحقّ.
فجميع مواعيد اللّه فيه نعم قد ثبتت. وهي كاملة، فلا تمضي في الضّلال. لذلك، هذا كلّه حقّ، وهو نفسه أمين فينا لمجد اللّه. أي يتبع تمجيد اللّه.
فاللّه الّذي يثبّتنا معكم في المحبّة يثبّت المسيح بواسطتنا معكم. بالقوّة. هو الّذي مسحنا.
ختمنا بعربون الرُّوح، الّذي وهبه في قلوبنا.
فأنا أستشهد اللّه في نفسي أنّني ما أتيتُ إلى كورنتوس لأنّي أشفقت عليكم. أي أمام الّذين سقطوا، والّذين وبّختهم والّذين كشفتهم في الرسالة الأولى. فلسنا أسياد إيمانكم بل مشاركين في سروركم: فأنتم ثابتون في الإيمان. أي الإيمان الّذي أعطيته لكم.
4 - الفصل الرابع من 2 كور
لذلك[4] إذ لنا هذه الخدمة نُصلَب كلّ يوم بسببها. لأنّنا نلنا رحمة لكي نعيد أيضًا ما خسرناه إلى موضعه.
لهذا نرذل الحياء الكاذب حيث لا تسود الشّريعة، ولا نسلك في الحيلة، ولا نُفسد كلمة اللّه مثل رسل كذبة. بل في التجلّي والحقّ اللّذين كانا عليّ في طريق دمشق، نوحي بأنفسنا أي بحقيقتنا المميّزة لدى كلّ ضمائر البشر. لأنّ إنجيلنا ليس مخفيٌّا عن أحد. فإن كان مخفيٌّا، فهو مخفيّ فيهم عن الّذي إله هذا الدهر. أي مامون هذا الزمان أعمى ضمائرهم لئلاّ يشعّ عليهم نور الإنجيل الّذي به يُكرَز مجد المسيح، أي آلام المسيح الّذي هو صورة شكل اللّه.
فنحن لا نكرز بأنفسنا في العالّم، بل بيسوع المسيح ربّنا كما بالنسبة إليكم، بواسطة آلامنا، ونكرز بواسطة آياتنا أنّنا خدّام له.
فاللّه الّذي قال في اليوم الأوّل من الخلق: من الظلمة الّتي تُخفي الأعمال، ليُشرق نور فيطرد الظلمة وينفيها، هو الّذي يُنير في قلوبنا لكي نستنير بالمعرفة نحن الّذين حُرمنا من كلّ معرفة، من أجل تنوير معرفة المجد. لا على وجه موسى، بل على وجه المسيح.
لهذا نمتلك هذا الكنز مخفيٌّا في آنية خزفيّة؛ أي أعطيت لنا هذه العطايا بواسطة جسد المسيح. لكي تكون وفرة القوّة من اللّه لا منّا. أي لكي يكون منه تقدّمنا وكمالُنا، لا من أعمالنا.
نتألّم في جميع المضايق، ولكن لا ننحصر. بسبب رجاء الحياة الّتي وُعدنا بها، لا نتراجع أبدًا. وإن كنّا نتألّم من الضعف، إلاّ أنّنا لا نتردّد. ونحن لا نتشكّك بسبب أي شرّ.
فإن كنّا نحتمل الاضطهاد، بسبب القوّة الّتي تحفظنا والّتي هي معنا، لا نتخاذل. ولا نتخلّى عن وضعنا كتلاميذ، لأنّ تلمذتنا تتوسّع أكثر فأكثر. فإن تعذّبنا، لا نتلاشى. بل نكتشف كلّ شيء.
كلّ حين نحمل مواتية آلام ربّنا في جسدنا لكي تتجلّى حياة يسوع الخالدة في جسدنا المائت.
إذن، الموت يعمل فينا، والحياة فيكم أي فينا عملُ موت واضح والحياة فيكم خفيّة.
وإذ لنا روح الإيمان الواحد، نتمسّك كلّنا بمشورة واحدة.
كما كُتب؛ فقال: »آمنتُ ولهذا تكلّمتُ«. ونحن نكرز بما آمنّا به.
ولأنّنا نعلم أنّ الّذي أقام يسوع يقيمنا نحن أيضًا، ويكوّننا ويثبّتنا معكم: أو يثبّتنا نحن وأنتم، أو يثبّت إنجيلنا في قلوبكم.
فجميع الأشياء الّتي صُنعت، من أجل الأمم صُنعت لكي، لأجل النّعمة الّتي كانت في شعب واحد والّتي تجسَّدت في ذاك الشعب الواحد، إذ تفيض النّعمة تفيض من عمل نعم كثيرة لمجد اللّه.
لأجل هذا لا نضعف من اضطهادات الّذين من الخارج ومن ضيقاتنا الخاصّة. يمكن أن تفسد بشريّتنا الخارجيّة بالأصوام والأسهار والجراحات اليوميّة الّتي تصيبها، ولكن (البشريّة) الداخليّة تتجدّد يومًا بعد يوم.
فمع أنّا في الزمن الحاضرِ نحتمل بعض العذابات والآلام، فالمجد الحقيقيّ الّذي سوف نمتلكه هو أبديّ.
ولأنّنا لا نعرف أن نتأمّل هذا الّذي يُرى، لأنّه زمنيّ، بل ما لا يُرى لأنّه يُثمر إلى الأبد.
خاتمة
تلك نظرة سريعة إلى التفاسير السريانيّة، مع كلام على افرام السرياني، وإيراد الفصلين الأوّل والرابع في الرسالة الثانية إلى كورنتوس. ما لاحظناه، هو أنّ المفسّر يورد جملة من الكتاب المقدّس ويعلّق عليها، فيحاول أن يقدّم درسًا للسّامعين. لا نجد النقد النصوصي، ولا الشّروح الروحيّة العالية، بل تطبيقًا يكون بشكل غذاء من أجل الحياة اليوميّة.
[1] البيرابونا، أدب اللغة الأراميّة، بيروت، ۱۹۹٦، ص ٢٢٥.
[2] المرجع السابق، ص ٤٥٥.
[4] المرجع السابق، ص ۹۳.