الفصل العشرون
جدعَون مخلّص شعبه في تفسير الآباء
هذا الّذي كان القاضي الخامس بين القضاة، الّذي نعم برؤية اللّه، مثل موسى، وطلب منه لا آية واحدة بل آيتين. هذا الّذي سيهدم هيكل الأصنام قبل البدء في عمله الخلاصيّ، قد توقّف آباء الكنيسة عنده من خلال تفاسيرهم أو مدائحهم. تحدّثوا عن اسمه وأُصوله. وأطالوا الكلام عن الجزّة الّتي طلب هذا القاضي أن تتميّز عمّا حولها. وأخيرًا، توسّعوا في الكلام عن حرب خاصّة اختار فيها جنودَه لكي يفهم الشعب أنّ النصر للّه، لا البشر.
1- اسم جدعون وأصوله
اسم جدعون، شأنه شأن سائر الأسماء، كان موضوع توسّع. قدّم لنا ايرونيموس، في خطّ فيلون الاسكندراني، تفسيرين اثنين: »ما يدور حول الصدر« أو »تجربة شرّهم«. عاد الاشتقاق الأوّل إلى »ج د ع« الّذي يعني قطع حول (مز 75:11؛ زك 11:10). ثمّ »ع و ن« الّذي يعني العدم والشرّ.أمّا الاشتقاق الثاني فيرتبط بـ»ج د د« سلب. نهب. هو رمز الهجوم والهجوم المعاكس. وتمّ الانتقال في اليونانيّة إلى التجربة. أمّا التفسير الأوّل فساعد على ربط جدعون بسرّ تجسّد ابن اللّه في حشا العذراء.
من هو الّذي يدور حول الصدر (أو الحشا) إلاّ اللّه القدير الّذي افتدانا بحسب قصده، وضمَّ كلّ شيء باللاهوت، وأخذ البشريّة في حشا امرأة. في هذا الحشا تجسّد وما سُجن، لأنّه أقام فيه بطبيعته البشريّة الضعيفة، ساعة كان خارج العالم بقدرة جلاله.
وعاد أوريجانس إلى العبريّة ليكتشف أصل جدعون. ايبعازر أي عون الأب. فقال: دعا وراء ابيعازر. إذن ما دعا جدعون رجلاً، بل دعا عون الآب السامي. وتعلّمنا سلسلة بروكوبيوس الغزّاوي أنّ جدعون كان قائد ألف حين فاجأه النداء الإلهيّ. ففي قض 6:5 (حسب السبعينيّة) يقول البطلُ للملاك: »ها ألفي الأصغر في منسّى«. ونذكر هنا مقطع الخروج (18:26-13) حيث ينصح يترو موسى بأن يختار بين الشعب أشخاص أكفاء وأتقياء ليجعل منهم قوّاد ألف، قوّاد مئة، قوّاد خمسين، قوّاد عشرة. وهكذا كانت قبيلة منسّى مقسومة إلى أُلوف. وجدعون كان قائد أحد هؤلاء الأُلوف. ولكن اشتكى جدعون أنّه الأضعف في قبيلته.
أمّا عن ظهور الملاك والذبيحة الّتي قُدِّمت، فالآباء يتوقّفون عند الأمكنة والظروف. أوّلاً، جاء الملاك وجلس تحت سنديانة (قض 6:11) وهناك قدّم جدعون ذبيحة (قض 6:19). قابل بروكوبيوس هذا المشهد مع حضور الربّ على إبراهيم (تك 18:1). أمّا امبروسيوس، أُسقف ميلانو، فطبّقه على سرّ الصليب. »جعل جدعون في ظلّ ما مثّل آنذاك الصليبُ المقدّس والحكمة الجليلة«. وحين جاء الرسول الإلهي، كان البطل يضرب القمح في معصرة (قض 6:11). هذا العمل »ينبئ بعمل الديّان السامي حين يفصل الأخيار عن بقايا القشّ الفارغ«. والموضع هو صورة الكنيسة الّتي هي »معصرة الينبوع الأبديّ. ففيها تفيض بوفرة ثمرة الكرمة السماويّة. وعلى الّذين يجتمعون فيها لينالوا النعمة الإلهيّة، أن يتقبّلوا التطهير: مثل الحبّ الّذي يُنزع عنه القش، كذلك المؤمنون يُضرَبون بعصا الحقّ فيتركون ثياب الإنسان القديم البالية مع أعماله«.
نقرأ في النصّ تارة ملاك الربّ وطورًا الربّ. ليس الملاك هو من يتقبّل الذبيحة بل هو الخادم. قال تيودوريتس القورشي: حين جعل الملاك النار في التقدمة، ما أخذ من اللّه الكرامة الواجبة له، بل مارس وظيفته ككاهن حين ضرب الصخرة بعصا. فأكلت النار التقدمة كلّها. العصا تعني السند والعون (بروكوبيوس). والصخرة تدلّ على متانة الإيمان. لهذا دعا يسوع بطرس الصخرة. هذا الإيمان يستعين باللّه فيُحرق الأعداء الروحيّين، مثل النار الّتي خرجت بأعجوبة من الصخرة (قض 6:21). وهذا الصخر صورة عن المسيح، الصخر الحقيقيّ (1 كور 10:4) صاحب النعم والّذي به تغلبُ الاعداء. والمذبح الّذي دُعي »سلام الربّ«، وجد مقابلة مع أفسس (2:4). هو »صورة عن آلام المسيح الّذي قدّم نفسه ذبيحة فصار سلامنا«.
وتكوّن التحالف من مديان وعماليق وبني المشرق (قض 6:33). حسب أوريجانس، مديان هو »خارج الدينونة«. وهكذا تطبّق عليه كلمة بولس حول الوثنيّين: »من خطئ بلا ناموس، يهلك بلا ناموس« (روم 2:12). فمصير المديانيّين مصير الّذين لَم يعرفوا شريعة موسى، وبالتالي لا يُدانون بحسبها، بل بالشريعة الطبيعيّة المفروضة على الجميع. ويشرح غريغوريوس الكبير لماذا يحمل المديانيّون اسمًا يعني »الدينونة«: »كانوا غرباء عن نعمة الفادي، فحملوا في اسمهم أجر حكم عادل«. وعماليق هو شعب يلحس. وبشرح أوريجانس: »أُمّة أرضيّة تهتمّ بالبطن والشراهة«. ويبقى أبناء المشرق. عادةً أبناء المغرب هم أبناء الظلمة. فكيف نربط أعداء الشعب بإشراق النور الإلهيّ والوحي والخلاص؟ ويأتي الجواب: كما أنّ المسيح يُسمّى المشرق (زك 6:12)، كذلك »كلّ من ينال اسم المسيح هو ابن المشرق«. ولكن بين المسيحيّين، نجد الهراطقة والّذين ينضمّون إلى الوثنيّين واليهود ويقاتلون الكنيسة والإيمان الكاثوليكي. هؤلاء هم أبناء المشرق الّذين جاءوا يحاربون شعب اللّه.
2- علامة الجزّة (قض 6:40-36)
علامةُ الجزّة ولَّدت تيّار تفسير هام تركّز في مجمله على تاريخ الخلاص، على مصير اليهود والكنيسة الجامعة. وأوّل شاهد على هذا التفسير ايريناوس الّذي رأى هنا صورة مسبقة عن عطيّة الروح الّتي مُنحت أوّلاً لإسرائيل ثمّ للمسيح وبه إلى كنيسته. لهذا طلب جدعون علامة أولى ثمّ علامة ثانية:
بهذا تنبّأ أن على جزّة الصوف الّتي تقبّلت وحدها الندى والّتي كانت صورة شعب إسرائيل، سيأتي الجفاف، أي أنّ الشعب لن يتقبّل بعدُ من اللّه الروح القدس، حسب ما يقول آشعيا: »أمر السحابَ بأن لا يُمطر بعدُ عليها« (5:6) ولكن على كلّ الأرض انتشر الندي الّذي هو روح اللّه. هذا هو الروح الّذي منحه الربّ بدوره إلى الكنيسة فأرسل من السماء البارقليط على الأرض كلّها.
وتساءل أوريجانس: كيف أنّ جدعون طلب آية ثانية بعد أن نال الآية المذهلة الأولى؟ أما كُتب: لا تجرّب الربّ إلهك (تث 6:16)؟ أجاب: بما أنّ الربّ منحه ما طلب، فهذا يعني أنّ الطلب لَم يعارض وصيّة اللّه. فاللّه لا يمنح ما يعارض شريعته. ثمّ إنّ جدعون، الرجل المؤمن، أعطانا مثلاً عن الفطنة الروحيّة. لا شكّ في أنّه رأى ملاكًا. ولكنّه »عرف أنّ ملائكة الظلام يتزيّون بزيّ ملاك النور« (2 كور 11:14). لهذا أراد أن يتأكّد، »والروحانيّ يختبر كلّ شيء« (1 كور 2:5). قال جدعون: أُريد أن اختبر هذا الروح لأرى إن كان من اللّه (1 يو 4:1). ودفعه إلى ذلك سلفُه يشوع الّذي ما خاف أن يسأل الملاك المحارب الّذي تراءى له: هل أنت معنا أم مع خصومنا (يش 5:13)؟
وتابع امبروسيوس: كيف نعتبر هذا البحث عن براهين مطبوعًا بالشكّ وعدم اليقين ساعة يقدّم صاحبه الأسرار والرموز. في الواقع، سبَّق جدعون على شكوكنا وطلب ظهورًا ذا طابع نبويّ: الجزّة تمثّل إسرائيل الّذي غُمر أوّلاً بندى الشريعة الموسوية ساعة كانت سائر الشعوب في جفاف. ولكن مع المسيح نال الوثنيّون كلام اللّه، وحُرم منه اليهود الّذين لَم يؤمنوا. ذاك هو تاريخ الخلاص الّذي اندفع امبروسيوس يحدّثنا عنه:
أُنظر كلَّ هذا الشعب الّذي تكوّن من الأُمم فاجتمع في كلّ الأرض وكان فيه الندى الإلهي: أُنظره مغمورًا بندى موسى، مغرقًا بكتابات الأنبياء. وانظر الجزّة الثانية، أي الشعب اليهوديّ الّذي نال الجفاف والقحط بغياب الكلمة، كما كُتب: »سيكون بنو إسرائيل مدّة طويلة بدون ملك ولا نبيّ. ولا يكون مذبح ولا ضحيّة ولا ذبيحة« (هو 3:4). تلاحظ كم لبث الجفاف عندهم، وأي قحط كبير لكلمة اللّه مصيرهم.
ومع ذلك، أما جاء يسوع إلى خاصّته؟ أورد اوريجانس مز 72:6: »نزل كالمطر على الجزّة وكالقطرات على الأرض«. أجل، نزل المسيح على الجزّة، أي على شعب الختان، ولكن نعمته فاضت على سائر الأرض، فحملت إلينا قطرات الندى السماوي لكي نشرب نحن الّذين كنّا، في الأرض كلّها، جافين بقحط مزمن.
اعتبر جدعون، في روح النبوءة، النظام الّذي فيه سيتمّ السرّ، فما اكتفى بأن يطلب علامة أولى من اللّه، بل طلب ثانية تعاكس الأولى. فقد عرف أنّ الندى الإلهيّ الّذي ليس سوى مجيء ابن اللّه، لا يأتي فقط إلى اليهود، بل أيضًا إلى جميع الأُمم بعدهم، لأنّ خلاص الأُمم يصدر عن عدم إيمان إسرائيل.
نحن هنا أمام نوعين من الشروح. الأوّل الّذي موضوعه جزّة جدعون، يقابل بين نظامين متتاليين: نظام الشريعة الّذي هو امتياز إسرائيل، ونظام النعمة الّتي مُنحت للوثنيّين. والشرح الثاني يستند إلى مز 72:6 فيعارض بين مرحلتين في عمل المسيح: الفشل لدى إسرائيل، والنجاح لدى الأُمم.
توقّف تيودوريتوس عند الشرح الأوّل، وبروكوبيوس عند الشرح الثاني. فالمزمور يصوّر الطابع الخاص لمجيء المسيح، الّذي تمّت ولادته في الجسد بشكل خفيّ وفي السرّ. فالجزّة لا تُحدث ضجّة حين يسقط عليها المطر، ولا الأرض حين تنال نقاط المياه. كذلك تمّ الحبل بالربّ بهذه الصورة. لا ينسى بروكوبيوس مخطّط الخلاص، ولكنّه يوضح أمرًا لَم يوضحه أوريجانس: الّذين نالوا »مطر« المسيح، الجزّة المغمورة، ليسوا إسرائيل وحده الّذي أفشل لاإيمانُه التدبير الإلهي، بل مخلّصو إسرائيل، أي اليهود الّذين اهتدوا، فاتّحدوا بالوثنيّين وكوّن الجميعُ شعب اللّه الجديد كما يقول داود: »بسبب الأُمم ومخلَّصي إسرائيل«. في هذا الإطار لا يعبِّر مز 72:6 عن عملين متعاقبين، بل عن عمل واحد وحيد: تأسيس الكنيسة في مركباتها الأولى. وعاد اوريجانس فقال إنّ الجزّة مُدَّت »على البيدر«، أي حيث يكون القمح المحصود. والمفتاح نجده في مت 9:37. ثمّ 3:12: »ها أن أضع الجزّة على البيدر« (قض 6:37). رأى جدعون مسبقًا بالروح أن المسيح سيجمع شعبه على بيدره وهناك ينقّيه، فيمسك بيده المذراة ويفصل القشّ عن الحنطة. ثمّ إنّ عمل جدعون الّذي عصر الجزّة في حوض فامتلأ ماء (قض 6:38). هذا ما له مدلول نبويّ. فهو يعلن مشهد غسل الأرجل، حين صبّ يسوع في لقن »ندى النعمة السماويّة فغسل أرجل تلاميذه«. وتابع أوريجانس في هذه الصلاة:
أطلب منك، أيُّها الربّ يسوع ابن داود: تعال، وانزع الثياب الّتي لبستَها بسببي، وشُدّ حقويك من أجلي. صُبّ الماء في الوعاء وأغسل أرجل عبيدك وحلّ الوصمات عن بنيك وبناتك. أغسل أرجل نفوسنا بحيث نقتدي بك ونسير على خطاك، فننزع ثيابنا ونقول: »في الليل خلعتُ ثوبًا، فكيف ألبسه؟ ونقول أيضًا: »غسلت رجليّ فكيف أوسخّهما؟« (نش 5:13).
ولكن يسوع طلب أيضًا من تلاميذه أن يقتدوا به فيغسل بعضهم أرجل بعض (يو 13:14). هذا ما يبيّنه الواعظُ فيقول:
أُريد أنا أيضًا أن أغسل أقدام إخوتي، أن أغسل التلاميذ زملائي. لهذا آخذ الماء، واستقي من ينابيع إسرائيل، هذه المياه الّتي أحصل عليها حين أعصر الجزّة الإسرائيليّة. أحصل على هذا الماء، تارة حين أعصر جزّة كتاب القضاة، وطورًا كتاب الملوك، وطورًا كتاب آشعيا أو كتاب ارميا. وأصبّ هذا الماء في حوض النفس... لكي يتنقّى السامعون، بكلمة التعليم، من أدناس الخطيئة، فيرذلوا منهم كلّ نجاسة الرذائل، فتكون أرجلهم نقيّة، وهكذا يلتزمون بإعداد إنجيل السلام، كما يجب.
وافرام السرياني الّذي توقّف عند رمزيّة تاريخ الخلاص، ضمّ أيضًا رمزيّة المعموديّة. في أحد الأناشيد عن الدنح:
في الجزّة الّتي لبثت جافّة من الندى، مُثِّلت أورشليم،
في الحوض المملوء بالماء، مُثّل العماد
لبثت أورشليم جافّة مثل الّتي كانت نموذجها
وهذه امتلأت مثل العماد الّتي كانت رمزه.
واستعاد أمبروسيوس فكر أوريجانس وتوسّع فيه:
أُريد أنا أيضًا أن أغسل أقدام إخوتي، أُريد أن أتمَّ وصيّة الربّ. أُريد أن لا أخجل، أن لا أحتقر ما سبق هو وصنعه. صالح هو سرُّ التواضع، لأنّني أطهّر نجاساتي عندما أغسل نجاسات الآخرين. ولكن الجميع لا يقدرون أن يبلغوا إلى هذا السرّ. لا شكّ في أن إبراهيم أراد هو أيضًا أن يغسل الأقدام (تك 18:4). ولكن بروح الضيافة. وجدعون أيضًا أراد أن يغسل قدمي ملاك الربّ الّذي تراءى له. ولكنّه أراد أن يغسل قدمي واحدٍ كعلامة إكرام، لا كعطيّة للمشاركة معه.
مع أيرونيموس رأى التقليدُ التفسيريّ في خبر الجزّة إعلان نشر الإنجيل في الكون: منذ أن جفّت جزّة اليهوديّة، وتبلّل الكون كلّه بالندى السماوي، منذ أن جاء الكثيرون من المشرق والمغرب وارتاحوا في حضن إبراهيم (مت 8:11)، لَم يعد اللّه معروفًا فقط في اليهوديّة واسمه ممجَّد فقط في إسرائيل (مز 76:2). بل على الأرض كلّها وصل حدثُ الرسل، وإلى أقاصي الأرض كلامهم (مز 19:5). وعاد أوغسطينس إلى حدث الجزّة فشرح مز 72:6. قال: عاد المرتّلُ إلى عمل القاضي جدعون وعرّفنا أنّه تمّ في المسيح. والمعنى هو:
أنّ شعب إسرائيل كان أوّلاً هذه الجزّة الجافّة الّتي وُضعت في وسط البيدر، أي في وسط الكون. إذن، نزل المسيح مثل مطر على الجزّة ساعة ظلّ البيدر جافًا. لهذا قال: »ما أُرسلتُ إلاّ إلى الخراف الضالّة في بيت إسرائيل« (مت 15:24). فهناك أراد أن يختار الأُمّ الّتي في حشاها أخذ صورة العبد ليتراءى للبشر. ومن هناك أخذ تلاميذ أعطاهم وصيّة شبيهة بما قال: »لا تأخذوا طريق الوثنيّين، بل امضوا أوّلاً إلى الخراف الضالّة في بيت إسرائيل« (مت 10:6-5). وإذ قال: »امضوا أوّلاً« إلى هذه، بيّن أنّه بعد ذلك سيغطّي الماءُ البيدر كلّه، فيمضون إلى خراف أُخرى لا ينتمون إلى شعب إسرائيل القديم، الّذي عنه قال الربّ: »لي أيضًا خراف أُخرى لسيت من هذه الحظيرة« (يو 10:16). لهذا قال الرسول: »أعلن أن المسيح صار خادم المختونين« (روم 15:8). وهكذا نزل المطر على الجزّة ساعت لبث البيدر جافًا. ولكن أضاف الرسول: »ولكن الأمم يمجّدون اللّه من أجل رحمته« (روم 5:9). هذه هي التتمّة، بعد أن حلّ زمن كرازة النبيّ هذه: »الشعب الّذي لَم أعرفه عبدني فأصغى إليّ وأطاعني« (مز 18:45). ولهذا نرى، بنعمة المسيح وساعة لبثت الأُمّة اليهوديّة كلّها جافّة، أن الكون كلّه، في جميع الأُمم الّتي تؤلّفه، قد رُوي بسيول النعمة المسيحيّة الّتي حبَتها السحوب الّتي حملتها... ومن جهة أُخرى، يبدو لي أنّه دلّ على الأُمّة اليهوديّة بالجزّة، لأنّها عُرّيت من كلّ سلطة تعليميّة كما تُعرّى النعجةُ من جزّتها، لأنّها أخفت هذا المطر الخصب الّذي ما أرادت أن يفيض في الخارج، أي على الوثنيّين غير المختونين.
وهناك نظرة أُخرى تعتبر الجزّة رمزًا إلى بشريّة مريم الّتي نالها المسيح من أُمّه، والّتي ستحمل الخلاص إلى البشريّة:
مع أنّ الجزّة صارت من الجسد، إلاّ أنّها تجهل أهواء الجسد. كما أنّ البتوليّة، وهي في الجسد، تجهل رذائل الجسد. هكذا المطر السماوي ينزل بهدوء، ويفيض على الجزّة. البتوليّة ومياه اللاهوت كلّها اختفت في الجزّة العطشى إلى أن عُصرت بخشب الصليب ففاضت مطر خلاص في العالَم كلّه.
ونقرأ في هذا الموضوع المريميّ عينه ما تقوله عظة نجهل اسم قائلها:
كان قد شهد النبيّ داود أن المخلّص ينزل في حشا العذراء بشكل خفيّ وسرّي، حين قال: »ينزل كالمطر على الجزّة« (مز 72:6). فهل من صامت وساكت مثل المطر الّذي يَفيض على جزّة الصوف؟ فهذه لا تطرق الأذن بأي صوت... وهكذا تقابل مريمُ بالجزّة، لأنّها حبلت بالربّ وكأن جسدها »ابتلعه« دون أن يتحطّم. صارت وديعة كي تستقبله بإجلال وحافظت على بتوليّتها. وهكذا تُقابَلُ مريمُ بالجزّة، لأن ثياب الخلاص المعدّة للشعوب قد نُسجت من ثمرها. مريم هي حقٌّا جزّة، لأن من صدرها العذب خرج الحمل الّذي حمل الصوف (أي اللحم) من أُمّه وغطّى جراح جميع الشعوب بجزّته الناعمة. خصوصًا المسيحيّ الّذي نال الدفء من أُمّ المسيح، قد غطّى كلّ جرح الخطيئة، واستعاد المؤمن الصحّة حين لبس معطف المسيح.
3- اختيار المقاتلين ومحنة الماء (قض 7:8-1)
تبع أوريجانس النصّ الكتابي فبرّر أوّل استبعاد من الجيش، ولاحظ أنّنا لسنا أمام حرب بشريّة. وقد قال مز 73:6: »يخلص الملك بعظمة قوّته«. أمّا هنا فالمستبعدون يمضون وحدهم لأنّهم خافوا وانهلعت قلوبهم (قض 7:3). الخائف هو من يرتجف منذ بداية المعركة، ولكن الخوف لا يصل إلى صميم القلب. فهو يستطيع أن يستعيد قواه ويمضي إلى الحرب. أمّا الّذين هُلع قلبُهم فهم المتراخون الّذين يمضون ولا يرجعون. ولكن يتابع أوريجانس: لا تتوقّف عند الظروف التاريخيّة الّتي عرفها جدعون. »فاليوم أيضًا قائدُ جيشنا، الربّ والمخلّص يسوع المسيح يهتف إلى جنوده. »من كان خائفًا أو هلع قلبه، فلا يأتي إلى الحرب«. وهنا تدوّي أيضًا كلمة المسيح: »من لا يحمل صليبه ويتبعني...«. بهذا الكلام يُبعد الربّ من مخيّمه الهلعين والمتراخين. وبما أنّ جيشَه يحارب فقط بسلاح الإيمان، لا بقوّة الجسد، فيحصل أن تربح النساء المعركة متل دبّورة ويهوديت. ولن نعود إلى الزمان القديم، فهناك النساء والعذارى اللواتي يتحمّلن الاضطهاد حتّى الموت. وكانت مناسبة لتنبيه المؤمنين: من رأى نفسه ضعيفًا لا يعرّض نفسه للاستشهاد لئلاّ يجحد إيمانه. فالمهمّ هو أن نشكر يسوع الّذي اعترفنا به في الماضي. لهذا، إن كان أحد خائفًا ليترك المخيّم وليعد إلى بيته لئلاّ يعطي مثلاً عن الخوف لرفاقه فينال العقاب الّذي يحفظه سفر الرؤيا (21:8) للمتراخين.
ويقدّم أوريجانس شرحًا آخر، بعد أن رأى في جميع أعمال القدماء أسرارًا كبيرة. أمر اللّه فبدأ جدعون ينقّي جيشه. فالنزول إلى الماء يشير إلى العماد، لهذا فإن... »الّذين أبعدوا عن الجيش يرمزون إلى الموعوظين الّذين رفضوا أن يتابعوا الطريق فرُذلوا. أمّا الآخرون فجاءوا إلى الماء لكي يُمتحنوا كما قال قض 7:4. هذا يعني أن على المعمّدين الجدد أن يظلّوا حذرين، فلا يركعوا ليشربوا، بل يظلّون واقفين وثابتين في التجارب الّتي تنتظرهم. هم لا ينحنون إلى حاجات الأرض، وحاجات الجسد. لا يستسلمون للرذائل فيركعون بعد أن يغلبهم عطش الخطيئة«.
والثلاث مئة الأقوياء يشاركون في القتال. ولماذا هذا العدد الضئيل؟ لأن المدعوّين كثيرون والمختارين قليلون (مت 22:14). ويُطبّق هذا الحدثُ على الّذين يعلّمون في الكنيسة. فالمياه هي »تعليم الحكمة«. ومن لَم يحنِ ركبته ليشرب، هو صاحب العمل المستقيم. فالمسيح ماضٍ لمحاربة أعداء الإيمان مع الّذين يستقون من مياه التعليم ولا يميلون باستقامة أعمالهم. مثل هؤلاء الرجال يدلّون بعملهم على ما يعلنونه بفمهم. يستقون من أمواج التعليم الروحي ولا يميلون إلى الجسد وأعمال الشريعة على ما قال ابن سيراخ: »ما أبشع المديح في فم الخاطئ« (15:9).
في ما يخصّ العدد 300: هو صورة الأُمم قبل المجيء إلى الإيمان. وتذكّر غريغوريوس النازينزي هذا الحدث فوزّع آباء المجمع المسكوني الأوّل والمؤمنين المجتمعين في كنيسة الرسل القدّيسين: قابل العدد القليل من المؤمنين المستقيمين مع إبراهيم الّذي وقف وحده تجاه الكنعانيّين (تك 12:6)، ومع لوط تجاه أهل سدوم (تك 19:11-6)، ومع موسى تجاه المديانيّين (خر 2:15) ومع 300 مقاتل مع جدعون الّذين سمَّموا مياه السيل، ومع فرقة إبراهيم الصغيرة الّتي هزمت أعداء لا يحصون. وتذكّر الأُسقف القدّيس أن العدو الكبير لا يهمّ وأن عمل اللّه يتمّ، مع أقليّة أمينة.
خاتمة
تلك كانت مسيرتنا في قراءة سفر القضاة حول جدعون. الأفكار عديدة والرموز أكثر عددًا وليس آخرها أن العدد
300 يُكتب بشكل صليب. وهكذا يكون جدعون رمزًا بعيدًا ليسوع الّذي غلب الأعداء بصليبه. هو ما قتلهم، بل أسلم نفسه للموت من أجل جميع البشر. توقّفنا بشكل خاص عند الجزّة الّتي فتحت أمامنا الأُفق من أجل الكلام على مخطّط الخلاص، وكان بالإمكان أن تتوقّف على أن هذه الجزّة تتميّز عن كلّ ما حولها. على مثال مريم العذراء الّتي كانت الممتلئة نعمة فتميّزت عن البشريّة كلّها. غير أنّنا اكتفينا بهذا القدر من النصوص الآبائيّة ونحن فرحون لهذا الحصاد الوفير الّذي لَم نستنفده بل تغذّينا ببعض منه محاولين أن نفتح الطريق لأبحاث مماثلة.