الفصل العاشر
أوريجانس والعظات على يشوع
وصلت إلينا هذه العظات في اللاتينيّة. نقلها دوفين من اليونانيّة. قيلت هذه العظات في أواخر حياة أوريجانس، وهو في قيصريّة فلسطين البحريّة. فعاصرت اضطهاد داقيوس سنة 249-250. وقد تكون آخر ما وصل إلينا من مؤلّفات أوريجانس، ذاك الرسول الذي اهتمّ أوّل ما اهتمّ بالنفوس، فقدّم لهم وجهه الروحيّ في أعماقه.
وها نحن نقدّم هنا العظة الأولى وعنوانها: سرّ يشوع (يسوع) بن نون.
1- اسم مهيَّأ
"أعطى الله الاسم الذي يفوق كلّ اسم" (فل 2: 9) يسوع المسيح ربّنا ومخلّصنا. و"الاسم الذي هو فوق كلّ اسم" هو يسوع.
وبما أنّ "هذا الاسم فوق كلّ اسم، يجب أن يسجد لاسم يسوع كلّ ركبة في السماوات وعلى الأرض وفي الأسافل" (آ 10). وبما أنّ "هذا الاسم يفوق كلَّ اسم، ما أخذه أحدٌ خلال أجيال وأجيال. كتب موسى سفر التكوين. ونحن نقرأ فيه حياة إبراهيم وزرعه. كان هناك عددٌ كبير من الأبرار. وبينهم ما استحقّ أحدٌ اسمَ يسوع. هابيل نفسه ما دُعيَ يسوع، ولا ذاك الذي "بدأ الدعاء باسم الربّ" (تك 4: 26، أنوش)، ولا ذاك الذي أرضى الله فأُخذ وما رأى أحد موته" (تك 5: 22-24؛ أخنوخ). ولا ذاك الذي "بين رجال عصره"، وُجد وحدَه بارًّا لدى الله، أي نوح (تك 6: 8-9). ولا ذاك الذي نال مواعيد العهد، أي إبراهيم (تك 17: 2) ولا ذاك الذي وُلد منه، أي إسحق. ولا يعقوب الذي تعقّب (أخاه) (تك 27: 36). ولا واحد من أبنائه. "موسى كان أمينًا في كلّ بيته" (عد 12: 7؛ عب 3: 2). ومع ذاك، ما دُعيَ يسوع.
واسم يسوع أجده للمرّة الأولى في سفر الخروج، وأريد أن أتطلّع إلى الظروف التي فيها أعطيَ اسم يسوع للمرّة الأولى.
قال الكتاب: "جاء عماليق وأراد محاربة إسرائيل. فقال موسى ليشوع (ليسوع) في رفيديم" (خر 17: 8-9). تلك هي المرّة الأولى التي يرد فيها اسم يسوع... "إنتخب لي رجالاً أقوياء بين كلّ بني إسرائيل، أخرج، وقاتل غدًا عماليق". أقرّ موسى أنّه لا يقدر أن يقود الجيش. أقرّ أنّه لا يقدر أن يكون قائده، مع أنّه "أخرجه من أرض مصر" (خر 32: 1). لهذا في الكتاب دعا يسوع (يشوع) وقال له: "إنتخب لك رجالاً واخرج". أنت ترى على عاتق من تقع مهمّة محاربة عماليق.
المناسبة الأولى التي فيها نعرف اسم يسوع، ساعة نراه يقود الجيش. هذا لا يعني أنّ موسى فرض عليه هذه القيامة، بل تخلّى له عن الأولويّة. فموسى ليس بقادر أن ينتخب رجالاً أقوياء. قال له: "أنت تختار رجالاً أقوياء بين بني إسرائيل". إذًا في المقطع الأوّل الذي أتعلّم فيه اسم يسوع، أكتشف سرّ رموزه: فيسوع يقود جيشًا.
2- يسوع وموسى
"وحين كان موسى يرفع يديه، كان يتفوّق إسرائيل. وحين ينزلهما، كان يتفوّق عماليق" (خر 17: 11). إذًا، حين يرفع موسى يديه، كان التفوّق ليشوع والنصر، ولكنّ الشعب قُهر على يد عماليق، لأنّ موسى لم يعد يرفع يديه، بل تركهما منخفضتين. لهذا الشعب قيل: "إن آمنتم بموسى، فآمنوا بي أيضًا" (يو 5: 46). وقال: "أنتم تريدون قتلي لأنّكم لا تمارسون الشريعة" (يو 7: 19). فالشريعة وأعمال الشريعة يقيَتْ من دون نتيجة لدى الذين "طلبوا أن يؤسّسوا برّهم الخاصّ، وما خضعوا لبرّ الله" (روم 10: 3). وهكذا انخفضت يدا موسى وسيطر الكفر واللاإيمان، وقُهر الشعب.
وبقي "نادات وأبيود وأليعازار" (خر 28: 1) في المخيّم، لكي يقضوا في الشعب. وتُرك أيضًا يترو ليقضي هو أيضًا في الشعب معهم (خر 18: 13-27). أمّا يشوع فما بقي. تبع موسى إلى الجبل. وأضيف هذا اللفظ المدهش: "وخدم موسى" (خر 24: 13). وكيف كان يخدمه؟ لا مثل أيّ شخص كان، كشخص أدنى منه، بل كمساعدٍ وكمحامٍ.
ولكن ماذا نقول عن هذا؟ حين سُمّي يشوع للمرّة الأولى، لم يُذكَر اسمُ والده، ولا في المرّة الثانية ولا في المرّة الثالثة. ولكن حين ورد اسم "نون" أبيه، ما سُمِّي بعد يشوع، بل هوشع (عد 13: 16). فحين سُمِّي بين الذين أرسلوا لكي يجسّوا الأرض، دعاه الكتاب هوشع (عد 13: 8). أظنّ أنّ السبب هو وظائفه كجاسوس، فحلّ محلّ اسم يشوع، اسم هوشع وابن نون. ولكن حين عاد بعد أن أكمل مهمّته وحين شجّع وحده (مع كالب) المتراخين، وثبّت وحده ثقة الشعب المتخاذلين (عد 14: 6ي)، حينئذٍ أعطاه موسى اسم يشوع وما دُعيَ ابن نون. هو الرجل الذي قال له موسى: "أخرج الجيش وأمضِ إلى محاربة عماليق". وإذا بحثنا في العمق، نشاهد عظمته حين تجلّى وجه موسى: كان نظر بني إسرائيل مظلمًا أمامه، وما كان أحد يقدر أن يشاهد وجهه. أمّا يشوع فكان يشاهد وجهه ويشارك في الأسرار وهو داخل الخيمة (خر 33: 11).
إلى ماذا يقودنا كلُّ هذا؟ لنبيّن أنّ دور سفر يشوع، ليس فقط بأن يعرّفنا أعمال يشوع بن نون، بل بالأحرى أن يصوّر لنا أسرار يسوع ربّنا. فهو الذي بعد موت موسى، أخذ على عاتقه القيادة، فوجّه الجيش وقاتل عماليق. وما صُوِّر على الجبل بيدين ممدودتين، حقّقه "حين سَمَّر على صليبه الرئاسات والقوّات الذين تغلّب عليهم في شخصه" (كو 2: 14ي).
3- ومات موسى
إذن، مات موسى حقًّا. والشريعة انتهت. "فالشريعة والأنبياء وصلوا إلى يوحنّا" (مت 11: 13). هل نبرهن بالكتاب المقدّس أنّ موسى يتماهى مع الشريعة؟ إسمع ما يقول الإنجيل: "له موسى والأنبياء، فليسمعوا لهم" (لو 16: 29). لا شكّ في أنّ موسى يحلّ في هذه العبارة، محلّ الشريعة.
إذن، مات موسى، عبد الله، لأنّ الشريعة ماتت ووصايا الشريعة انتهت وإن حسبتَ أن كلامي لا أساس له، فثق بسلطة الرسول الذي أعلن: "المرأة المتزوّجة تربطها الشريعة بالرجل ما دام حيًّا، وإذا مات تحرّر من رباط الشريعة هذا. وإن صارت إلى رجل آخر وزوجها حيّ، فهي زانية. ولكن إذا مات زوجها تحرّرت من الشريعة، فلا تكون زانية إن صارت إلى رجل آخر" (روم 7: 2-3). المرأة هي النفس التي خضعت لشريعة موسى، فقيل عنها: ترتبط بالشريعة ما بقي زوجها حيًّا. ولكن إذا مات زوجها، أي الشريعة، فالنفس التي كانت مستعبدة تُقال تتحرَّر. إذن، يجب أن تموت الشريعة لكي لا يُتَّهم المؤمنون بيسوع، بأنّهم زناة.
إذن، يسوع ربّي ومخلّصي، أخذ القيادة. لنقابل، إذا شئتم، بين أعمال موسى ورئاسة يسوع.
4- عبور الأردنّ
حين أخرج موسى الشعب من أرض مصر، لم يكن من نظام في الجمهور، ولا كتاب طقوس لدى الكهنة. عبروا مياه البحر، مياهًا مالحة لا حلاوة فيها، "شكّلت سورًا عن اليمين وعن الشمال" (خر 14: 22، 29). هذا ما حصل بقيادة موسى.
ولكن حين قاد ربّي الجيش، ننظر الأمور التي صوّرت مسبقًا في ذلك الوقت. "سار الكهنة في المقدّمة، وحملوا على أكتافهم عرش العهد" (يش 3: 6). بعد الآن، لن يلتقوا البحر، ولا الأمواج المالحة، ولكن أتيتُ إلى الأردنّ بقيادة ربّي يسوع وأتيت لا في فوضى الهروب أو في بلبلة الرعب، بل آتي مع الكهنة الذين يحملون على أعناقهم وعلى أكتافهم عرشَ عهد الربّ حيث تُحفظ وصايا الله واللوحان المقدّسان. وأدخل في الأردنّ. لا متخفّيًا في الصمت، بل على صوت الأبواق التي تُنشد لحنًا روحيًّا، إلهيًّا، لكي أتقدّم نحو كرازة البوق السماويّ وبوق الدينونة الأخيرة، الذي يرمز إليه بوق أريحام، في عبور البحر الأحمر، "قسّمت المياه قسمين، سورًا عن اليمين وسورًا عن الشمال". أمّا هنا، "فذاك الذي أتى ليدمّر سور العداوة، جعل من الاثنين واحدًا" (أف 2: 14). فاجتمعت المياه في جهة واحدة، ومن الجهة الثانية جرت إلى البحر (يش 3: 16).
5- الدخول إلى الأرض
ثمّ قال يشوع: "أعدّوا زادًا للطريق" (يش 1: 11). واليوم أيضًا يسوع يقول لك إن كنتَ تسمع: إن تبعتني، أعدَّ زادًا للطريق. والزاد هو الأعمال التي ترافقنا كزاد أخير في الطريق الآتية. ومع ذلك، لنرَ، لأنّه يجب أن يحترز في قراءة الكتب المقدّسة، من قراءة متهاملة وسريعة، لنرَ أين أمرهم بأن يأخذوا طعامهم، أولئك الذين لا قمحَ لهم. فالمنّ كان طعامهم (المنّ في التقليد يعني كلام الله. وعند أوريجانس، معرفة شريعة الله). ولكن ما إن عبروا ضفّتي النهر، حتّى "توقّف المنّ" (يش 5: 12). لهذا، إن لم نعدّ لنفوسنا زادًا، لا نستطيع أن نتّبع يسوع في الدخول إلى أرض الموعد. فانظر أيّ ثمار بدأ يشوع يقطف في أرض الموعد. قال الكتاب: "حينئذٍ بدأوا يأكلون من ثمرة منطقة النخيل (ثمر النخيل يدلّ على حياة السعادة الأبديّة). وأكلوا أوّلاً فطيرًا (يش 5: 11). إذن ترى، حين تركنا طرق هذا العالم إذا تبعنا يسوع بقلب مستقيم، تقدَّم لنا أوّلاً سعفُ النصر. وحين نزذل "خمير الشرّ والفساد" يهيّأ لنا "فطير الطهارة والحقّ" (1كور 5: 8).
6- زانية أريحا
أرسل يسوعنا جواسيس إلى ملك أريحا، فاستضافتهم زانية (يش 2: 1ي). غير أنّ هذه الزانية التي استقبلت رسل يسوع، قد استقبلتهم لئلاّ تكون بعدُ زانية. ونفس كلّ واحد منّا كانت هي أيضًا "زانية" حين عاشت في الرغبات البشريّة وأطاعت اللحم (والدم). ولكن ها هي تستقبل جواسيس يسوع، الملائكة الذين أرسلهم أمامه ليعدّوا له الطريق (مر 1: 2). إن استقبلتهم النفس بإيمان، فهي لا تجعلهم في أماكن وضيعة، صغيرة، بل في مواضع رفيعة، متسامية، لأنّنا ما تقبّلنا الربّ يسوع من أماكن وضيعة في الأرض، فهو قد خرج من الآب وأتى من السماء.
أمّا حصيرة الكتّان (يرمز إلى كهنوت لاوي، صورة كهنوت إسرائيل الروحيّ) التي اختبأ فيها الجاسوسان (يش 2: 6)، فلا أظنّها خالية من الرموز. فالكتّان يكون لباس الكهنة. وهذا يعني أنّه نُقل إلى الذين يُدعَون قمّة الكهنوت، بحسب كلام الرسول بطرس: "أنتم أمّة مقدّسة، مملكة كهنة" (1 بك 2: 9). أو أقلّه في رموز الشريعة حيث الكلام عن الكهنة، تختفي الدعوة السرّيّة لهذا الشعب "الآتي من الأمم" (رو 9: 24).
وحالاً صارت الزانية عرضة لبغض ملك أريحا. لماذا؟ لأنّ اللحم (والدم) يمتلك رغبات متضاربة لرغبات الروح، والروح لرغبات اللحم (والدم)" (غل 5: 17). وقيل أيضًا: "العالم يبغضكم لأنّه أبغضني قبلكم" (يو 15: 18). فهناك ملك عدوٌ لهذه الزانية، هو "أركون هذا العالم" (يو 12: 319 الذي يلاحق جواسيس يسوع ويريد أن يضع يده عليهم. ولكنّه لا يقدر أن يمسكهم، لأنّهم يسيرون "على الجبال" (يش 2: 22). هم لا ينزلون إلى المواضع الحقيرة ولا يُسرّون في الوديان، بل يطلبون أعلى الهضاب وقمم الجبال. وهذه النفس الزانية التي فينا تهتف: "رفعتُ عينيّ إلى الجبال، فمن أين يأتي عوني"؟ (مز 121: 1). إنّ "أركون هذا العالم لا يقدر أن يصعد إلى هذه المناطق، لا يستطيع أن يبلغ إلى يسوع في طرقٍ رفيعة، بل إن جعله، في التجربة، في الأعالي، يقول له: "إرمِ نفسك إلى أسفل" (مت 4: 6). فهو لا يحبّ إلاّ ما يسقط في الأعماق. هناك يملك. هناك يجعل مسكنه، في هذه الأماكن التي بها ينزل إلى الجحيم.
7- نهار يطول
ما قال موسى: "يا شمس قفي" ((يش 10: 12). وما أمر أقوى العناصر كما فعل يسوع. قال: "قفي يا شمس على جبعون، ويا قمر على وادي أيالون". وأضاف الكتاب: "ما سمع الله يومًا لإنسان هكذا" (يش 10: 14). إذن، يسوعي أوقف الشمس. وليس فقط في ذلك الوقت، بل بالأحرى في مجيئه، ساعة نحارب أعداءنا "ونقاتل الرئاسات والقوّات، سلاطين هذا العالم، عالم الظلمة، الأرواح الشرّيرة المنتشرة في الجوّ" (أف 6: 12). "فشمس البرّ (ملا 3: 20) لا يزال يرافقنا، ولا يتركنا أبدًا ولا يعجّل في الذهاب إلى النوم. فقد قال هو نفسه: "ها أنا معكم كلّ الأيّام" (مت 28: 20). وليس هو معنا ليوم أو يومين. هو معنا "كلّ الأيّام حتّى انقضاء الدهور" إلى أن ننتصر نحن أيضًا من خصومنا.
8- الوعد بالأرض
ولنرَ الوعد الذي جعله يسوع لجنوده. قال: "كلّ موضع يطأه أخمص قدمك يكون لكم" (يش 1: 3). فالذين عاشوا في تلك الحقبة، مثل هذا أرض الكنعانيّين والفرزيّين واليبوسيّين وجميع الأمم الذين ورثوهم بعد أن طردوا سكّانًا غير جديرين. أمّا نحن، فنبحث عن الوعود التي في هذه الكلمات.
هناك سلالات شيطانيّة من قوى معادية يجب أن نحاربها ونقاتلها جاهدين خلال هذه الحياة. كلّ هذه القوّة الكبرى، إذا نحن دسناها بأرجلنا، ننتصر عليها في القتال، وتكون لنا بلدانها ومقاطعاتها وممالكها: يوزعهم علينا الربّ يسوع. فهذه القوى السالفة كانت ملائكة شاركوا في بهاء ملكوت الله. أما نقرأ في أشعيا ما قيل عن واحد منهم: "كيف سقط من السماء لوسيفورس، نجمة الصبح" (أش 14: 12)؟ فقد كان مسكن لوسيفورس هذا في السماوات: ولكن منذ صار ملاكًا خائنًا، إن استطعتُ أن أغلبه وأجعله تحت قدميّ، إن استحققت من الربّ يسوع أن "أسحق الشيطان تحت قدميّ" (روم 16: 20)، يحقّ لي أن آخذ مكان لوسفورس في السماء.
هكذا نفهم وعد يسوع ربّنا: "كلّ مكان يطأه أخمص أقدامكم يكون لكم". ولكن لا نظنّ أنّنا نستطيع أن ندخل في هذا الميراث إن تثاءبنا وتناومنا في اللاعمل والإهمال. فالغضب يمتلك ملاكًا من جنسه. فإذا كنتَ لا تنتصر عليه في قلبك، وإذا كنتَ لا تنزع فتبعد عنك كلّ حركات الغضب والغيط، فلا تستطيع أن ترث المكان الذي أقام فيه ذاك الملاك في الماضي. لأنّك في نسلك ما طردتَهُ من أرض الموعد. وكذلك نقول عن الكبرياء والحسد والبخل والنجاسة: كلّ هذه الرذائل المسيئة تمتلك ملائكها تلهمها وتحرّكها. وإذا كنت لا تنتصر على هذه الأهواء في قلبك ، ولا تقتلعها من الأرض التي سبقت وتقدّست بنعمة المعموديّة لن تنال يومًا ملء الميراث الموعود.
9- القتال الروحيّ
في زمن موسى، ما قيل ما قيل في زمن يشوع: "وارتاحت الأرض من القتال" (11: 23). لا شكّ في أنّ هذه الأرض التي هي أرضنا، امتلأت بالصراعات والقتال، هذه الأرض لا تستطيع أن ترتاح من الحرب إلاّ بقدرة الربّ يسوع فضيفًا تقيم مجموع الرذائل التي تسكن نفسنا ولا تترك لنا راحة. فينا، أجل فينا يقيم الكنعانيّون والفرزيّون واليبوسيّون. كم يلزمنا من المجهود والسهر والاستمرار لكي نطرد منّا كلَّ هذه الجموع من الرذائل لكي "ترتاح أرضنا من حروبها". لقد أعطانا النبيّ هذا التنبيه "بأن نتأمّل شريعة الربّ نهارًا وليلاً" (مز 1: 2). وتأمّل كلمة الله يشبه البوق الذي يبقي قلبك يقظًا للقتال، بحيث لا تنام ساعة ليسهر خصمك. لهذا لا يكفي التأمّل في النهار. فالكتاب يضيف: "في الليل".
فماذا ستعملون أنتم الذين لا تنامون فقط في الليل؟ بل تستسلمون النهار كلّه كعبيد لاهتمامات العالم والملذّات اللحميّة، أنتم الذين تأتون بصعوبة إلى الكنيسة في أيّام العيد، والبعض منكم، حضوره ليس بحضور. لأنّهم وهم حاضرون، لا يهتمّون بكلام الله، بل بالثرثرة.
لهذا يكرّر لكم كلامُ الله: "قم أيّها النائم. قم من بين الأموات للقاء المسيح" (أف 5: 14). هذا ما يقوله الكتاب للذين يستقرّون في الأعمال الميتة، وينامون في نجاساتهم وذنوبهم. فإن كانت هذه الأعمال مجهولة لدى البشر، فالله يعرفها. إذن، توبوا وعودوا إلى الربّ بكلّ قلبكم، وانكبّوا على الصلاة، وانكبّوا على كلام الله. لماذا الصوم عن خطايانا، إذا كنّا نعود ونخطأ؟ لماذا الاغتسال، ألكي نرتمي من جديد في الوحول؟ أصمت بعض الوقت، فكأنّك تركتَ مصر. عبرتَ البحر الأحمر، وتبعتَ موسى محافظًا على وصايا الشريعة وفرائضها. وها يسوع أخذها من موسى من أجل "ختانة ثانية" بدل جبعة هاعرلوق، أو تلّة الغلف (يش 5: 3). فما يجب أن تختن فيك ليس فقط عبادة الأصنام (رذلتَها منذ البداية)، بل عبادة أدقّ من عبادة الأصنام، هي الجشع.
ساعة الختان الثاني، قال يسوع: "اليوم أزلتُ منك عار مصر" (5: 9). ما دُمنا في الخطيئة، ما ملكت فينا رذائل الأهواء، وإن حسبنا أنّنا تخلّينا عن الأصنام وتركنا مصر، "فصار مصر" لم يُنزَع منّا.
فإن قبلتَ هذه الختانة الثانية، ختانة رذائلك، إن اقتلعتَ منك الغضب والكبرياء والحسد والنجاسة والبخل والجور وكلّ الأهواء المماثلة، حينئذٍ تتنقّى من عار مصر وتُنقَل إلى أرض الموعد، فتنال ميراث ملكوت السماوات بيسوع الحقيقيّ، المسيح ربّنا ومخلّصنا، الذي له المجد في دهر الدهور. آمين.