يشوع بن نون
في صحابة موسى وفي خلافته
هذا الذي كان اسمه "هوشع" أي الوسع والخلاص، أعطاه موسى اسمًا آخر: يهوشع: الربّ يوسّع، الربّ يخلّص (عد 13: 16). وذلك حين أرسله مع الذين أرسلهم لكي تعرّفوا إلى أرض الموعد التي ارتبطت بإبراهيم وإسحق ويعقوب. صفات بشريّة رائعة. ولكنّ هذا لا يكفي. فشاول تميّز بصفات الرجولة ولكنّه رُذل في النهاية. وأليآب بكر يسّى لفت نظر صموئيل "فالتفت إلى منظره وطول قامته" (1 صم 17: 7). ولكنّ الله رفضه. "هو لا ينظر كما ينظر الإنسان". أجل، الربّ لا ينظر إلى المظهر، بل إلى القلب. ماذا نقص هوشع لكي يصير يهوشع أو يشوع في العربيّة: أن يعرف أنّ الربّ اختاره، كما اختار اثني عشر مثله، فكانوا أوّل الداخلين إلى أرض الموعد والمدهوشين بعظمتها وغناها. ولكنّه ميّز حين بدّل له اسمه، فأفهمه أنّ الرسالة التي لا تستند إلى الربّ لا يمكن أن تدوم. هو من يساعد في بناء البيت، من يعين في حراسة المدينة. واسمه كافٍ من أجل النصر، دون حاجة إلى العربات والخيل.
نتعرّف إلى يشوع بن نون الذي كان من قبيلة أفرائيم: في صحابة موسى. في خلافة موسى. وبين الصحابة والخلافة نسمع نداء الربّ له: إحفظ أحكام الشريعة. لا تحِدْ عنها يمينًا ولا شمالاً. هكذا تنجح.
1- في صحابة موسى
أوّل ما نقول عن يشوع: صاحب موسى. رافقه ولازمه. عاش بقربه. عرفه عن كثب. ولبث معه حتّى موته، فعرفه كما لم يعرفه أحد غيره. لهذا دُعي "م ش ر ت" موسى. ذاك الذي اشتراه موسى، أخذه له. صار يخصّه. لهذا قيل في الترجمات: خادم موسى، صاحبه.
يشوع حاضر منذ بداية المسيرة مع موسى، من أجل إبرام العهد مع الله. فحين تلقّى موسى "لوحي الحجارة وعليهما الشريعة والوصايا" التي كتبها الربّ لتعليم شعبه (خر 24: 13)، كان يشوع خادمُه معه، برفقة "شيوخ بني إسرائيل". أتُرى صعد معه إلى الجبل؟ لا يقول النصّ شيئًا. غير أنّ موسى طلب فقط من الشيوخ أن ينتظروا هنا. وبقي مع الشيوخ هرون وجور. لهذا يبدو لي أنّ يشوع كان مع موسى ساعة "غطّى السحاب الجبل، وصل مجد الربّ... كنار آكلة" (آ 15-17). "ما يُسند هذا الكلام، خبرة العجل الذهبيّ. فحين نزل موسى من الجبل (خر 32: 15)، "سمع يشوع صوت صياح الشعب" (آ 17). وكلّم موسى وهو نازل معه إلى حيث تقيم الجماعة في السهل.
كان يشوع "مرافق" موسى، ويده الحربيّة منذ البداية. وهذا ما ظهر في حرب عماليق الذين ارتبطوا بأدوم (أو عيسو، أخي يعقوب) عبر أليفاز وسريّته تمناع (تك 36: 12-16). هذا الشعب "العملاق" الذي خاف العبرانيّون منه، قهره يشوع لا بقوّته الحربيّة، ولا بعدد جهوده، بل بقدرة الله. يرفع موسى يده للصلاة فينتصر يشوع ورجاله. تسقط يدا موسى، فتسقط همّةُ المقاتلين (خر 17: 9-13). هنا لا نقول كما يقول بعض الأصوليّين: تعلّم يشوع الحرب "في جيش مصر" فالكلام عن الحرب هنا يرمز إلى حرب أخرى فيها يستعدّ العبرانيّون لتقبّل الوصايا على سيناء، بعد أن "صار" عماليق يشير إلى قوى الشرّ. فقال أوريجانس مثلاً: "من توقّف عن الصلاة، أعطى قوّة للعدوّ. ومن ترك الصلاة كلّيًّا خضع للسلطة المعادية وبالتالي أبغض مصلحته وساند مصلحة الخصم. وهكذا يصبح عدوَّ نفسه حين لا يريد أن يتوسّل دومًا لكي يجد حماية من عدوّ الجنس البشريّ. وكانت بداية عظته عن موسى: "وقف موسى على الجبل، فهو بالصلاة يحارب، لا بالسلاح هو حارب بالصلاة، لا بالسلاح. وقف ويداه مرفوعتان إلى السماء وصلّى بحرارة. طلب عونًا من العلاء، لا من الأرض". نفهم منذ البداية، أنّنا لن نتكلّم عن يشوع رجل الحرب، الذي حرّر وقتل وأفنى السكّان. فالحرب كلّها حرب روحيّة من أجل إزالة الأصنام وإبعاد عابديها من الأرض المقدّسة.
هنا نقرأ ترجوم سفر الخروج:
حينئذٍ أتى عماليق من أرض الجنوب. في تلك الليلة قطع مسافة 1600 ميل. وبسبب العداوة بين عيسو ويعقوب، وأتى فبدأ القتال على إسرائيل في رفيديم. فأمسك وقتل رجالاً من بيت دان، لأنّ السحاب ما غطّاهم بسبب الأصناميّة التي مارسوا. قال موسى ليشوع: "إنتخب لنا رجالاً جبابرة وأقوياء في ممارسة الشرائع وغالبين في القتال، واجعل صفوف القتال مقابل فرق عماليق. غدًا أقف في الصوم، وأستند إلى استحقاقات الآباء (إبراهيم، إسجق، يعقوب) ورؤساء الشعب، وعلى استحقاقات الأمّهات (ساره، رفقة، راحيل) الشبيهة بالتلال. ويكون في يدي العصا التي بها تمَّت معجزات من أمام الربّ"... وإذ كان موسى يرفع يديه للصلاة، يتفوّق بيتُ إسرائيل. وحين يتوقّف عن الصلاة فينزل يديه، كان بيت عماليق الأقوى. وبما أنّ يدي موسى كانتا ثقيلتين لأنّه أخّر القتال إلى الغد، وما عمل في ذلك اليد، من أجل تحرير إسرائيل، ما استطاع أن يُبق يديه مرفوعتين للصلاة".
وخدمة يشوع لموسى تشبه خدمة الشمّاس للأسقف في الكنيسة الأولى. هو هنا بقرب الخيمة، ليتيح لمعلّمه أن يتفرّغ للصلاة وللحوار مع الله. نقرأ في خر 33: 11: "يكلّم الربُّ موسى وجهًا إلى وجه، كما يكلّم الإنسان صاحبه. وإذا رجع إلى المحلّة كان خادمه يشوع بن نون الشابّ لا يفارق الخيمة".
لا نتوقّف بعد عند قضيّة "الجواسيس" حيث تميّز يشوع بن نون وكالب بن يفنّا. عشرة أرادوا العودة إلى مصر، والتخلّي عن موسى، وبالتالي التخلّي عن الربّ. قال يشوع وصاحبه كلمة الحقّ: أرض جيّدة جدًّا. ولكن هناك شرطًا لكي يعطينا الله: يكون راضيًا عنّا. ولو تعرفون ما هي هذه الأرض؟" تدرّ لبنًا وعسلاً" (عد 14: 8). لأنّ الله يقيم فيها. يبقى على الداخلين أن يستندوا إلى الربّ ويقفوا به. عندئذٍ لن يخافوا أهل تلك الأرض. مثل هذا الكلام أزعج العبرانيّين ولا سيّما العشرة الذين لم يرتفعوا عن المستوى المادّيّ، ولم يصلوا إلى درجة الإيمان، فرأوا في الناس قوّة لا يقدر الله عليها! مساكين. وبما أنّ هذا لم يرضهم أرادوا أن يرجموا يشوع وكالب بالحجارة (آ 10). بدا يشوع هنا كالنبيّ الذي لا يسمع منه شعبه. هنا نجد في نصّ عربيّ قديم ما يقابل "عبد الربّ" في يش 1: 1: "نبيّ الربّ". وهكذا شابه موسى وموسى ما زال حيًّا.
مثل هذا الرجل، يكون بعد موسى، ويتابع الرسالة. لهذا "رسمه" موسى، كما أمره الربّ: "خذ يشوع بن نون. فهو رجل فيه روح الربّ، وضع يدك عليه. وأوقفه قدّام ألعازار الكاهن وقدّام كلّ الجماعة، وأوصه أمام أعينهم، واجعل من هيبتك عليه لكي يسمع له كلُّ جماعة إسرائيل" (عد 27: 18-19).
أوّلاً، يكون عليه روح الربّ. كما سيكون مع القضاة، ومع شاول ومع داود. فالروح هو الذي يوجّه "الحاكم" إن هو قبل بتوجيهه. حينئذٍ يكون له النجاح التامّ.
ثانيًا، يضع موسى يده عليه، لأنّ بهذه الطريقة تنتقل السلطة. يتسلّم اللاحق الوديعة من الذي سبقه. وهكذا ينال يشوع الصفات المطلوبة ممّن سيكون "دليل" الله في وسط شعبه، كما في تث 34: 9: "مُلئ يشوع روح حكمة، لأنّ موسى وضع يده عليه". وهكذا فالروح الذي كان على موسى، انتقل إلى يشوع. وبما أنّ نصّ يشوع جاء في صورته النهائيّة بعد العودة من المنفى، وسلطة الكاهن الذي حلّ محلّ الملك، وجب على يشوع أن يتقدّم أمام ألعازار. في تاريخ الكنيسة، كان الأسافقة يكلّلون الملوك، وتلك عادة ارتبطت بالعالم اليهوديّ. والجماعة تكون هنا بتوافق يوحي به موسى فتعلن الجماعة: يحيا يشوع. تهتف له. هكذا انتقل الملك مثلاً من داود إلى سليمان: "وأخذ صادوق الكاهن وعاء الزيت من خيمة الاجتماع. ومسح سليمان، فهتف الشعب بالبوق ونادوا: "ليحيَ الملكُ سليمان". ولا يكفي هذا العمل الخارجيّ، بل هناك انتقال الهيبة، المهابة، من موسى إلى يشوع، يحيث تنتقل سلطة موسى إلى يشوع. اللفظ العبريّ: ه و د: هي الوداعة التي يتحلّى بها موسى، وبعده يشوع.
لماذا طلب الله ما طلب من موسى؟ لأنّ موسى رأى دنوّ أجله، فقال للربّ: "ليوكّل الربّ رجلاً على رأس الجماعة، يخرج أمامهم (من المدينة) ويدخل، فيخرجهم ويدخلهم (كما يفعل الراعي)، لئلاّ تبقى جماعة الربّ كغنم لا راعي لها" (عد 27: 15-17). وهكذا سيكون يشوع الراعي بعد موت موسى، بعد موت موسى ودفنه في موآب. وكما دعا الربّ موسى، ها هو يدعو يشوع. لهذا نقرأ الفصل الأوّل من سفر يشوع.
2- قم واعبر الأردنّ (يش 1: 1-9)
وبعد وفاة موسى، عبد الربّ، قال الربّ ليشوع خادم موسى: "مات عبدي موسى، فقُم الآن واعبر الأردنّ أنت وجميع بني إسرائيل إلى الأرض التي أعطيتها لهم" (آ 1). هكذا يبدأ سفر يشوع. الربّ هو الذي يبادر ويتكلّم. لم يكن وضع يشوع مثل وضع سليمان الذي قدّم ذبيحة في جبعون، فطلب "قلبًا حكيمًا، فهيمًا" (1 مل 3: 9).
ما كان سفر يشوع بداية، بل هو تتمّة لما سبق. لهذا، قدّم بعض الشرّاح اقتراحًا بأن نتكلّم عن ستّة أسفار: هكساتوكس، لا عن خمسة أسفار: بنتانوكس: أسفار موسى. فنصّ يشوع يبدأ: د ي و ي": وكان رجل، يرتبط سفر يشوع بسفر التثنية (ف 34) الذي يروي موت موسى، المستبعَد من الدخول إلى كنعان بسبب الأحداث المرويّة في عد 20: 12 (غياب الإيمان. رج تث 3: 26؛ 31: 1-8). وهكذا قدّم يشوع هنا على أنّه خلف موسى، والمكلّف بإكمال عمله.
من جهة، بدا موسى وكأنّه قطع مسيرة التاريخ المقدّس. ومن جهة ثانية، بدا هذا الموت وكأنّه حدث حصل مع ما حصل من أحداث. فالربّ فكّر في كلّ شيء وأعدَّ كلّ شيء. والتاريخ المقدّس يتواصل. مات القائد الكبير في شعبه، فهيّأ الله من يخلفه، من يرث مهمّته. ويتقبّل هذه المهمّة من موسى نفسه.
ونلاحظ التمييز بين لقب ناله موسى، ولقب ناله يشوع. موسى هو "عبد الربّ" أي المقرَّب منه. فعبد الملك هو وزير الملك. يأتمر بأوامره ويتمتّع بملء سلطانه. ذاك كان وضع يوسف بالنسبة إلى فرعون (تك 41: 44). وكذا كان موسى الذي تميّز عن الجميع لأنّه يتكلّم مع الربّ "وجهًا لوجه". هي علاقة حميمة لم يصل إليها هارون الكاهن ولا مريم النبيّة (عد 12: 1ي). أمّا يشوع فهو "خادم" شمّاس مساعد موسى. ولن يكون يشوع "عبد الربّ" إلاّ بعد بموت موسى (يش 24: 29). نشير إلى أنّ "م ش ر ي ت" تحمل فقط معنى دنيويًّا. أمّا "ع ب د " فيضيف المعنى اللاهوتيّ، وهذا ما نكتشفه بشكل خاصّ في أشعيا الثاني. ولقب يشوع خاصّ جدًّا. غير أنّه يرتبط بالإنسان، في البداية، يرتبط بموسى. أمّا لقب موسى فيرتبط مباشرة بالله.
تراءى الربّ ليشوع، ظهر له في شرق الأردنّ (آ 2-3): ع ر ب و ت. م و ا ب: عربة موآب، سهول موآب وفيافيها. ودعاه لأن يحتلّّ ما سيكون في المستقبل أرض قبيلة بنيامين. وحين نعرف أنّ الهيكل بُني في أرض بنيامين، نفهم أنّ الاحتلال الأوّل كان تهيئة لبناء الهيكل الذي يُعتبر محطّة مفصليّة في تاريخ الشعب. لهذا أرّخ سفرُ الملوك الثاني الوقت الذي فيه بُني هذا الهيكل: سنة 480 لخروج بني إسرائيل من مصر، السنة الرابعة لملك سليمان، شهر زيو أو الشهر الثاني (6: 1).
إنّ تقليد الدخول إلى فلسطين من الشرق، وعبر الأردنّ، يميّز مجموعة راحيل: يوسف (أفرائيم ومنسّى)، بنيامين. ومن هنا انتقل التقليد إلى كلّ قبائل إسرائيل. نحن هنا قرب الأردنّ. قبالة أريحا. نهر الأردنّ يجري تحت سطح البجر. وبالقرب من أريحا 350 م تحت سطح البجر.. يقع في وادٍ ضيّق فيمنع الاّتصال بين الضفّتين. بل هو يفصل. وسوف نحسّ في نهاية سفر يشوع كيف أنّ القبائل الغربيّة، أي المقيمة غربيّ الأردنّ، ضاقت من أن تنفصل عنها القبائل الشرقيّة وتعبد غير يهوه، الله الواحد: بنى "الشرقيّون" مذبحًا، فرأى فيه "الغربيّون" "خيانة" بها يرهبون عن الربّ (يش 22: 16).
والمعنى الروحيّ واضح: فعبور الأردنّ صورة مصغّرة عن عبور البحر الأحمر. مع اختلاف بسيط. مع موسى، العدوّ هو إلى الوراء. مع يشوع، العدوّ هو إلى الأمام. كما في خر 14-15، وجد الشعب نفسه أمام عمل يفوق قوى البشر، لا سيّما وأنّ الأردنّ فائض على شطوطه. وهناك اختلاف آخر على مستوى صيغة الفعل أعطى (ن ت ن). مرّة في المصدر: معطٍ. ومرّة في صيغة الماضي: أعطيتُ. في الأوّل، هي النيّة. هو مشروع الله. في الثاني، هو النتيجة. أجل، لقد تمّ مشروعُ الله. في الواقع، هو ما تحقّق بعد. ولكنّ الله قرّره. وهذا يعني نفّذه. لأنّ لا مسافة بين القرار والتنفيذ لدى الله، كما لا مسافة بين ما يقول وما يفعل. يقول: ليكن نور، فيكون نور. ويقول هنا: ليكن عبور، فيكون عبور. يكفي أن تطأ أقدام الشعب الأرض، لكي يتحقّق مشروعُ الله. نلاحظ هنا أهمّيّة مشاركة الإنسان. هناك تحدٍّ يدلّ على الإيمان، على الثقة، أمام محاولة مستحيلة. ومع ذلك، هجم موسى باتّجاه البحر. وهنا، وضع الكهنة أرجلهم في النهر. حين نتذكّر أنّ سفر يشوع جاء في نسخته الأخيرة في المنفى وما بعد المنفى، نفهم الدرس الذي يأخذه القارئ أو السامع: المؤمنون منفيّون. هل يعودون! إبدأوا الخطوة الأولى. أتركوا أرض بابل كما تركها إبراهيم. مضى الفقراء الذي لا شيء لهم. والأغنياء أقاموا في أرض غريبة فضّلوها على أرض الربّ. المؤمنون مشتّتون. هل يجتمعون؟ صاروا عظامًا يابسة، هل يحيون! الأرض في أيدي الغرباء، هل تعود إليهم؟ كلّ هذا ممكن، شرط أن يقوم المؤمن بالخطوة الأولى. ما إن نبدأ حتّى يكمّل الله. بل هو ابتدأ فينا الأعمال الصالحة وهو يتمّها" (2 كور 8: 6).
ما هي حدود الأرض؟ هناك ثلاثة معالم (آ 4): الفيافي. "من البرّيّة. في الجنوب والجنوب الشرقيّ، أي النقب القديم وشرقيّ الأردنّ. الفرات في الشمال الشرقيّ، المتوسّط في الغرب: "البحر حيث تغيب الشمس". هي أرض واسعة جدًّا، ضمّت حتّى جبال لبنان وسورية كلّها. ولكنّ الأرض التي يقسّها يش 13: 21، فهي أضيق بكثير. هناك من ظنّ أنّ تلك كانت مملكة داود، ثمّ سليمان. هذه الحدود هي دينيّة، لا سياسيّة. ذاك كان العالم المعروف لدى العبرانيّين. والأرض تكون لله، لا لشعبه، بحيث إنّ جميع الشعوب ستعبد يهوه، الإله الذي هو، الإله الواحد، حسب ما نقرأ في أش 19: 19ي: مصر هو شعب الله. أشور صفة يده. والطريق ساكلة بين هاتين القوّتين العظيمتين. وإسرائيل تكون في الدرجة الثالثة. وسوف يضيف القارئ اللاحق: أرض الحثّيّين. أجل، ملك الربّ يجب أن يصل إلى تركيا الحالية. ويضيف 87: 1ي: الفلسطيّين غير المختونين، وصور الممتدّة إلى العالم الغربيّ، وكوش الذي يدلّ على بلاد أفريقيا، بدءًا بجنوب مصر وصولاً إلى الحبشة والسودان.
وعد الله وهو يؤكّد الآن (آ 5-6). طلب الإيمان وها هو يعطي ما يُسند الإيمان ويكفله، فيشدّد النصّ على التواصل التاريخيّ: كان الله مع موسى، وسيكون مع يشوع، ومع الذين يقودهم. بما أنّ الوعد ثابت على مرّ العصور، فهذا التواصل التاريخيّ يصل إلى الشعب العائش في زمن يشوع وحسب، بل إلى ذاك العائش في زمن المنفى وبعده، وهو يندب دمار المدينة، والعبوديّة التي يعيش فيها. فالتراخي والضعف يدلاّن على نقص في الإيمان، وقلّة ثقة بالقائد الذي اختاره الله وأعطاه ما أعطاه من مواهب، بحيث يطلب منه ما يطلب وتردّد كلام التشجيع في 1: 6-7، 9، 18: "تشدّد، تشجّع في هذا المناخ، دعا الربّ الشعبَ لامتلاك الأرض التي هيأها له، كما وعد بأن يكون بجانب يشوع، كما كان بجانب موسى. وجاء أمر آخر بعد التشجيع: الخوف ممنوع. ثمّ الطاعة (تث 31: 6-8، 23) بل واجبة. يعني نضع يدنا بيد الله، وهو يعرف أن يوصلنا إلى المجد، كما قال مز 73: 23.
وأين هو النور الذي يضيء الطريق ليشوع وللآتين معه؟ حين كان موسى حيًّا، أنارت كلمة موسى الطريق. والآن، بعد موت موسى! هي التوراة (ت و ر ت). بها يرى يشوع. هي تعلّمه. وهي تقوده. كما تعلّمه مخافة الربّ. كلّ هذا نجده في الجذر "ي ر ا". مرّتين تُذكر الشريعة (آ 8، 9). هي مرّة ترتبط بموسى الذي أوصلها. إلى يشوع وإلى الذين رافقوه في البرّيّة. ومرّة هي مكتوبة. يعني يقرأها أولئك الذين "يبست عظامهم" في المنفى (حز 37: 2). يقرأها المؤمن فتأخره، لأنّها كلمة الله الحيّة. وهو يطيعها كما كانوا يطيعون موسى.
هذه الشريعة يردّدها المؤمن، يتأمّل فيها. يحفظها غيبًا. يحتفظ بنسخة فيها (تث 17-18). يعمل بها. عندئذٍ ينجح. ذاك هو الشرط الضروريّ. وأين اعتبر هذا "القائد" أنّ الأمر صعبًا، وجب عليه أن يتذكّر نهاية هذه الخطبة التي توجّهت إليه (1: 1-9): "أنا أمرتك، وأريدك أن تطيعني. بدّلت حياتك. بدّلت قلبك. "تشدّد وتشجّع". لا شكّ في أنّ تكرار مثل هذا الإرشاد، يدلّ على أنّ يشوع تردّد، ضعف إيمانه أمام الصعوبات. "لا ترهب ولا ترتعب" ولماذا لا يخاف وهو السائر في المجهول مع أشخاص آتين من الصحراء إلى الأرض المزروعة، أشخاص لا سلاح في يدهم تجاه مدن محصّنة (تث 1: 28)؟ يخاف يشوع إن استند إلى البشر، وسمع إلى هذا وذاك. ولكن يكفيه أن يسمع صوت الربّ في أعماقه: "الربّ الإله معك. حيث تذهب هو معك".
3- في خلافة موسى
انقشعت الغمامة أمام يشوع. زاحت الظلمة. زال الخوف. الربّ هو من دعاه، فكيف لا يلبّي الدعوة ويواصل المسيرة؟ هذا ما يرويه سفر يشوع، فيُرينا "البطل" في ثلاثة أطر: الإطار الحربيّ في احتلال أريحا العيّ. وفي مقارعة الملوك. ولكنّ الحرب المذكورة هنا، لا تتمّ بالسلاح الذي نتحدّث عنه. من أخذ بهذا السلاح يكون الخاسر الكبير، يكون كمن حفر حفرة فوقع فيها (مز 7: 16). السلاح المذكور في سفر يشوع، الذي جاء في نسخته الأخيرة، خلال المنفى وبعد المنفى، الذي كُتب ساعة صارت سورية وفلسطين ولبنان تحت الحكم الفارسيّ، فما عاد لهذه البلدان من جيش، بل بقي لها فقط الطاعة وتقديم الجزية والسخرة للمحتلّ. السلاح المذكور هو سلاح الروح. هو محاربة الأصنام وعبادات البعل والعشتروت، وهذا ما يشدّد عليه سفر القضاة أكثر من مرّة. كلّ ما في هذه الحرب، مناوشات بين فرد وفرد، بين بيت وبيت. ولكنّ "حرب الاحتلال" الذي تخيّلها البعض، غابت كلّيًا عن سفر يشوع، لا سيّما وأنّ المدينتين الكبيرتين بعد عبور الأردنّ، أي أريحا والعيّ، كانتا خربتين. فما احتاجتا إلى من يجتاحهما ويحتلّهما ويدمّرهما.
الإطار الثاني هو الإطار السياسيّ. بدا يشوع هنا، وكأنّه رئيس قبيلة أفرائيم بعد أن صعد يهوذا من مصر إلى فلسطين، عبر الجنوب. فانضمّ إليه الكالبيّون والفنيّون وسائر المقيمين في الجنوب، في النقب. أمّا الدور الذي سيلبسه يشوع، فهو "رمزيًّا" تقسيم الأرض بين القبائل. هذا لم يتمّ في أيّامه. ولن يتمّ حتّى في أيّام داود وسليمان، ولا في أيّام الأنبياء. يكفي أن نذكر على مستوى الأفراد، ما ندّد به أشعيا حين قال: "ويل للذين يضمّون بيتًا إلى بيت، ويصلون حقلاً بحقل، حتّى لا يبقى مكان لأحد، فيسكنون في الأرض وحدهم" (5: 8).
هذه القسمة التي "قام" بها سفر يشوع، شبيهة جدًّا بما نقرأ في سفر حزقيال، الذي أعاد بناء الهيكل والمدينة المقدّسة. كلُّ هذا تمنّ، ولا سيّما حين يكون الهيكل صغيرًا، فيقابلونه بهيكل سليمان ويحسبونه "كلا شيء" (حج 2: 3). ولا سيّما حين تكون الإمبراطوريّة مسيطرة على الأرض والسكّان. فلا يبقى ليشوع سوى أن يذكر الأماكن التي أقام فيها العائدون من السبي أو الذين لبثوا في البلاد: حصّة سبط يهوذا (يش 15)، حصّة أفرائيم (يش 16). مثل هذا التعداد يشبه تعداد لوقا للشعوب التي كانت في أورشليم يوم العنصرة (أع 2: 9-11). هو يعني أنّ المسيحيّين توزّعوا في هذه الأماكن من الشرق إلى الغرب، وأنّ الإيمان الجديد وصل إلى البلدان المعروفة في الإمبراطوريّة الرومانيّة وفي خارجها.
أمّا الإطار الدينيّ، فسيكون مبدئيًّا في نطاق الكهنوت الأعظم مع ألعازار بن هرون (يش 24: 33). ولكن سيلعب يشوع الدور الكبير في إبرام العهد في شكيم. جمع الذين جاؤوا برفقته، مع الذين سبقوه، ربّما خلال عودة الهكسوس، حوالى سنة 1550، بعد أن استعادت مصر "استقلالها"، ومع سكّان البلاد. وكان كلامه واضحًا: "خافوا الربّ واعبدوه بكمال وإخلاص، وانزعوا الآلهة التي عبدها آباؤكم..." (آ 14).
ذاك هو وجه يشوع بن نون. ارتبط اسمه بالخلاص، فوجّه أنظارنا إلى يشوع آخر، إلى يسوع المسيح الذي ذُكر في بداية إنجيل متّى: "يسوع المسيح ابن داود، ابن إبراهيم" (1: 1). هذا ما يدعونا لأن نقرأ سفر يشوع كما فسّره أوريجانس: "أعطى الله يسوع المسيح ربّنا ومخلّصنا، الاسم الذي يفوق كلّ الأسماء" (فل 2: 9). هذا الاسم هو يسوع. وبما أنّ هذا الاسم يتجاوز كلّ الأسماء، فما أعطيَ لإنسان واحد خلال أجيال وأجيال. حين نقرأ في سفر التكوين ما يخصّ إبراهيم ونسله، نجد عددًا كبيرًا من الأبرار، ولكن ما من واحد استحقّ أن يحمل اسم يسوع... "اسم يسوع نجده للمرّة الأولى في سفر الخروج... أقرّ موسى أنّه لا يستطيع أن يقود الجيش فدعا يسوع (يشوع) وكلّفه الحرب على عماليق... هذا يتبيّن لنا أنّ سفر يشوع ما كُتب أوّلاً ليعرف أعمال ابن نون وأفعاله، بل ليقدّم لنا سرّ يسوع ربّنا".