توما رسول يسوع المسيح
حين نقرأ الأناجيل نجد ثلاث لوائح بأسماء الرسل تُضاف إليها لائحة نقرأها في سفر الأعمال. سمعان بطرس وأخوه اندراوس، يعقوب بن زبدى ويوحنّا أخوه، فيليبُّس وبرتلماوس، توما ومتّى العشّار، يعقوب بن حلفى وتدّاوس، سمعان القانويّ ويهوذا الاسخريوطي (متّى 10: 2-4). هم اثنا عشر على عدد أشهر السنة، لأنّهم كرّسوا حياتهم لخدمة الإنجيل. ومضوا اثنين اثنين كما أمرهم يسوع.
نعرف منهم سمعان وأندراوس، ويعقوب ويوحنّا، الّذين دعاهم الربّ عند بحيرة طبريّة. ومتّى التقاه يسوع عند باب الجباية، فقال له: اتبعني، فقام وتبعه.
وإذا اعتبرنا أن برتلماوس المذكور هنا هو نثنائيل الّذي قال فيه يسوع إنّه مؤمن لا غشَّ فيه، يكون فيليبُّس الّذي من بيت صيدا والّذي دعاه يسوع، هو من أخبره عن »يسوع ابن يوسف، من الناصرة« (يو1: 45). وعُرف يهوذا بسبب خيانته للربّ. أمّا الباقون فلا نعرف سوى أسمائهم. ما عدا توما. فالإنجيل الرابع ذكره ثلاث مرات: خلال صعود يسوع إلى أورشليم لإقامة لعازر من الموت. بعد العشاء السريّ. وأخيرًا بعد القيامة حين أراد أن يضع يده في جنب المسيح وإصبعه في موضع المسامير. عن هذا الرسول يكون كلامنا.
1. مسيرة مع يسوع
مرض لعازر، شقيق مريم ومرتا، في بيت عنيا القريبة من أورشليم. فأرسلت الأختان من يخبر يسوع. لبث يسوع يومين في الموضع الذي كان فيه. ثمّ قال لتلاميذه: »لنعبُر إلى اليهوديّة« (يو 11: 7) بعاصمتها أورشليم موضع آلام يسوع وموته وقيامته.
خاف التلاميذ على مصير يسوع، كما خافوا على مصيرهم. هذا ما نفهم حين نقرأ إنجيل مرقس. وكانوا (التلاميذ) صاعدين إلى أورشليم، وكان يسوع يتقدّمهم (مر 10: 32). إنه يعرف إلى أين هو ماضٍ. كما يعرف ما ينتظره في المدينة المقدّسة. إلى هناك تقوده رسالته. مع أنّ هيرودس هدّده وأراد أن يقتله. فقال: »لا يمكن أن يهلك نبيّ خارج أورشليم« (لو 13: 33).
إذن انطلق يسوع إلى حيث تدعوه مرتا ومريم. أمّا الرسل فكانوا منذهلين. يتبعونه وهم خائفون (مر 10: 32). لهذا قال عنه لوقا البشير: »وإذ كان زمنُ ارتفاعه من هذا العالم قد اقترب«، أي زمن ارتفاعه على الصليب وصعوده في المجد، صلَّب وجهه كالصوّان، كما قال النبيّ أشعيا (50: 7) وهمَّ أن ينطلق إلى أورشليم (يو 9: 51). هو لا يتراجع أمام الخطر. ولا يتراخى أمام خوف التلاميذ. أتراهم سيتركونه الواحد بعد الآخر، كما فعلوا بعد خطبة تكثير الخبز، ولا يعودون يسيرون معه؟ في ذلك الوقت قال بطرس: »إلى من نذهب، يا ربّ، وعندك كلام الحياة الأبديّة« (يو 6: 68)؟
وخلال الصعود إلى أورشليم من أجل لعازر، بدا يسوع وكأنّه ينتظر من الرسل الموقف اللازم في ذلك الوقت الخطير. اليهود يطلبون رجمه (يو11: 7). وربّما يرجمون التلاميذ معه. مثل هذا التهديد أَحسّ به بطرس حين محاكمة يسوع. فأنكر معلّمه خوفًا على نفسه. بل إنّ تلميذًا لا يُذكر اسمه، أمسكوه، فترك الإزار الذي عليه وفرَّ عريانًا (مر 4: 51-52). بل الجميع تركوا يسوع وهربوا (آ 50).
الرسل يسيرون »في الليل« مع أنّ الذي يسير معهم هو نور العالم. فإن قبلوا السير في »نهار« يسوع لا يمكن أن يعثروا. فيا ليتهم يؤمنون، لأنّ الإيمان ينفي الخوف. عندئذ قال توما للتلاميذ الآخرين: »نمضي نحن أيضًا ونموت معه« (يو 11: 16). لا شكّ أنّ يسوع، في ضعفه البشريّ أمام الموت، تقوّى بكلمة توما هذه. أما قال لتلاميذه في بستان الزيتون بأن يسهروا معه في »ذلك الليل الرهيب«؟ وكلام توما كان حضورًا مع يسوع ومسيرة معه، تنتهي في الصليب، وفي القيامة.
هنا بدأت مسيرة توما. تشجّع هو أيضًا وقد اجتذبه الآب، فاتى إلى يسوع. لُقّب بالتوأم، وكأنّه أخ يسوع. واستعدَّ منذ الآن للموت. ولكنّه لا يتبع يسوع الآن، ولن يموت في أورشليم، بل في الهند حيث استشهد سنة 72 فذُكر موضعُ استشهاده، وحيث دُفن وهناك يكرَّم مدفنه في مدراس (Madras) أو شناي (Chenai) .
2. بحث عن الطريق
أطلق توما كلامه حين كان والتلاميذ صاعدين إلى أورشليم. كلام حماس واندفاع يلهج به كلّ انسان التقى بيسوع، وقضى معه النهار كلّه كما فعل التلميذان اللذان دلّهما يوحنّا المعمدان على من هو »حمل الله« (يو 1: 35). سألا يسوع أين يقيم؟ ولمّا قال لهما، تعاليا وانظرا، أتيا وعرفا أين يقيم »ومكثا عنده في ذلك اليوم«.
وتوما استطاع أن يقول على ما في بداية رسالة يوحنّا الأولى: »ذاك الذي سمعناه بآذاننا، ورأيناه بعيوننا، ولمسته أيدينا... به نبشّركم« (يو 1: 1-3). فالرسل رافقوا يسوع في طرقات الجليل واليهوديّة. كلّمهم كما كلّم الجموع فأعطاهم شرعة الملكوت، ولا سيّما في التطويبات: طوبى للمساكين بالروح، طوبى لأنقياء القلوب، طوبى لمحبّي السلام، طوبى لكم إذا اضطهدوكم. ثمّ: من يسمع كلامي ويعمل به يشبه رجلاُ بنى بيته على الصخر. فنزل المطر وهبّت الريح، فما سقط ذاك البيت لأنّ أساسه على الصخر. والصخر هو المسيح، كما قال بولس الرسول.
هذا الكلام سمعه التلاميذ وتوما معهم. لكنّ الجوّ متلبّدٌ بالغيوم، بعد العشاء الأخير وغسل الأرجل. واحد منّا سوف يسلّم يسوع. يُسلّمه للأعداء. ضاعت الثقة بين الإخوة. ولا يستطيع الواحد أن يؤمّن للآخر. بدوا وكأنّهم كلّهم متّهمون. أخذ بعضهم ينظر إلى بعض (يو 14: 32). ما كانوا »يدرون عمّن يتكلّم يسوع«. وأخذ كلّ واحد يقول: »ألعلّي أنا؟« (مر 14: 19). وعاد يسوع فقال: »هو واحد من الاثني عشر. واحد يغمس يده معي في الصحفة«.
ويهوذا مضطرب، خائف. بل سأل: »ألعلّي أنا يا ربّ«. وكان جواب يسوع غامضًا بالنسبة إلى التلاميذ: »أنت قلت« (متّى 26: 25). ومضى هذا الخائن في قلب الليل، تاركًا النور الذي يشعّ في العلّيّة. قال يوحنّا: »دخل فيه الشيطان« (13: 27) سلطان الظلمة، فاغتمّ قلبُ التلاميذ.
حينئذٍ سأل بطرس الرب: »إلى أين تذهب«؟ هو القلق يسيطر. وجاء جواب يسوع: »حيث أذهب لا تقدر أن تذهب، أن تسير معي، أن تسبقني«. وأعلن بطرس أنّه مستعدّ أن يبذل حياته فدى يسوع. وجاء جواب يسوع كالماء البارد: »تنكرني ثلاث مرّات قبل أن يصيح الديك ويطلع الصباح«.
وتابع يسوع: »أنا انطلق، أسبقكم ثمّ أرجع إليكم«. »وأنتم تعرفون الطريق«. حينئذٍ قال له توما: »يا ربّ، لا نعرف إلى أين تذهب، فكيف نعرف الطريق« (يو 14: 5)؟ فأجاب يسوع: »أنا هو الطريق والحقّ والحياة«.
أنا هو. هو اسم الله الذي أوحيَ إلى موسى في العُلَّيقة الملتهبة. أجل، يسوع هو الله. هو الحاضر وهو يفعل. فلا مكان للخوف. يسوع هو الطريق، فعلى التلميذ أن لا يبحث عن طريق أخرى. طريق صعبة ولكّنها تصبح سهلة مع يسوع الذي نيرُه طيّب وحملُه خفيف. طريق طويلة، ولكن تصبح قصيرة برفقة يسوع. أما هذا الذي حدث لتلميذيّ عمّاوس حين اشتعل قلبهما وهو يكلّمهما؟ كانت الشريعةُ الطريق. أمّا الآن فيسوع هو الطريق، لا بتعليمه فحسب، بل بحياته. يكفي أن نسير معه لنصل إلى الآب.
وهو الطريق الذي يقود إلى الحقيقة، إلى الله. حينئذٍ ينال التلميذ ملء الحياة. قال يسوع: »جئت لتكون لهم الحياة وتكون وافرة«. وصمت توما وما عاد يسأل. انفتحت الطريق أمامه. وهي مظلّلة في النهار من حرّ الشمس، ومستنيرة في اللّيل من سواد العتمة. فما بقي له سوى أن يسير فيها ويحمل حقيقة الإنجيل إلى الشعوب القريبة والبعيدة، على مثال بولس الرسول. لهذا صوّرته كنائس الهند عن يمين يسوع قرب بولس الرسول. وقد يكون سمع توما ما سمعه بولس: »سأريه كم ينبغي أن يتألّم من أجل اسمي« (أع 9: 16). فهو لي إناء مختار. وأنا أرسله إلى الأُمَم (أع 22: 21).
3. على ضوء الإيمان
البداية حلوة. والدعوة تدفع الرسول إلى الانطلاق. ذاك كان وضع ابراهيم: »أترك أرضك وتعال إلى المكان الذي أريك«. أرضُه أرضُ الغنى والوفر في العراق. فكيف يتركها؟ وحوله العشيرة والبيت الوالديّ. فكيف يتخلّى عن ذلك؟ وإلى أين يمضي؟ فيا ليت الله قال له منذ البداية إلى أين يتوجّه. لكان أخذ الاحتياطات اللاّزمة: المال الكافي، الطعام، الشراب، ولا سيّما إذا كانت الطريق تمرّ في الصحراء. والأسوأ إذا كانت الطريق مسيرة في البحر. ما قال الله شيئًا من ذلك لإبراهيم. ولا هو قال شيئًا لتوما. بل هو يتوجّه إلى كلّ واحد منّا كما مع طيما بن طيما الأعمى، الذي شفاه يسوع، وهو خارج من أريحا (مر 10: 46). سأله: ماذا تريد أن أصنع لك؟ فأجاب الأعمى: أن أبصر. فكأنّي به يضع شرطًا على يسوع: لا أتحرّك من هنا قبل أن أبصر.
هو شرط بشريّ. أمّا كلام يسوع فيرفع الإنسان إلى مستوى الإيمان. استند الأعمى إلى يد الذين أرسلهم يسوع. ولكن عليه بعد اليوم أن يترك كلَّ سندٍ بشريّ. وأن لا يستند إلاّ إلى يسوع. وماذا قال له يسوع؟ هل قال له: أبصرْ كما طلبت؟ كلا. بل قال له: »إنطلق«. إبدأ المسيرة. تعال معي وحينئذٍ تُبصر. ذاك ما وجب على توما أن يفعل. بشّر في دمشق على ما قالت عنه الأخبار. ولكنّ الطريق لا تزال طويلة. ووصل إلى الرُها في العراق القديم. وفي النهاية بلغ إلى الهند.
وما الذي دفعه ففعل ما فعل؟ الإيمان. في البداية، بدا توما وكأنّه لا يؤمن بالقيامة. وكأنّه لا يريد أن يؤمن. التلاميذ أبصروا الربّ، أمّا هو فما أبصره. أراهم في العليّة »يديه وجنبه«. ولكن توما لم يرَ. فإن لم يرَ لن يؤمن، لن يستسلم للمسيح. هل هذا الذي رأوه بعد القيامة هو خيال أم حقيقة؟ وأراد توما أن يرى »أثر المسامير في يدي الربّ، وأن يضع إصبعه، في موضع المسامير«، وأن يضع يده في جنب المصلوب (يو 19: 25-26). هل ذاك الذي رأوه يوم الأحد هو ذاك الذي صُلب يوم الجمعة بين لصّين؟
ولبّى يسوع طلب توما الذي رفض إيمانًا لا يستند إلى شخص يسوع الذي هو الربّ وهو الإله. أراد أن يرى، فكان شبيهًا بكلّ واحد منّا. ومثالاً عن الذين يشكّون. في أيّ حال، سبقه بطرس حين مشى على البحيرة، آتيًا إلى يسوع. ولكنّه لما رأى شدّة الريح، خاف وبدأ يغرق. وفي الحال مدّ يسوع يده وأمسكه، وقال له: »يا قليل الإيمان، لماذا شككت؟« (متّى 14: 29-31).
الشكّ جزء من الإيمان لدى الإنسان. والإيمان يتقوّى يومًا بعد يوم لدى من يرضى أن يسير مع يسوع، ولو وصلت به المسيرة إلى الموت. ولكن كما هتف الذين كانوا في السفينة ليسوع: »أنتَ حقاً ابن الله« كذلك هتف توما ساجدًا: »ربّي وإلهي«. لا حاجة بعدُ لأن يرى. لا حاجة لأن يلمس. استنار بنور الإيمان، فانفتحت أمامه الطريق الّتي بحث عنها.
خاتمة
ذاك هو شخص توما. لا نعرف من هو. ولا ما كانت وظيفته. ولا من أين أتى. لا شكّ في أنّ يسوع دعاه كما دعا رفاقه بفعل أمرٍ: اتبعني. تبع توما المسيح كما تبعه سائر الرسل مع خوف من المجهول. مع تردّد في الإيمان، مع سير في اللّيل ساعة بدا يسوع نائمًا في مؤخّر السفينة الّتي تكاد تغرق (مر 4: 37). كلّ هذا عاشه الرسل، وعاشه توما. انقلعوا من أرضهم ووطنهم وبيتهم، وساروا إلى حيث أرادهم يسوع. ويروي التقليد أنّه كان جدال بين الرسل. من يذهب إلى رومة؟ من يذهب إلى الهند. عيَّن يسوع لكلّ واحد طريقه. واستعدّ توما لنداء الربّ على ما قال أشعيا: »ها أنا فأرسلني« (اش 6: 8). وهكذا أُرسل توما إلى الهند، إلى أقاصي الأرض.