البوذية حركةإصلاحيّة في الهندوسيّة
حين يتحدَّث الإنسان عن الديانات الهنديَّة يتبادر إلى ذهنه، أوَّل ما يتبادر، »طريق اليوغا« التي هي تجميع القوى وتركيزها والتمارين العقليَّة التي تؤدّي إلى الاتِّصال بين الروح والأُلوهة. ثمّ طريق اللاَّعنف التي جسَّدها المهاتما غاندي في مقاومة الاستعمار البريطانيّ. وخلاص يقوم بتطهير الروح تطهيرًا كاملاً من كلّ الأدناس الأرضيَّة. من أجل هذا، تتجسَّد النفس أكثر من مرَّة، وفي كلّ مرَّة تتنقَّى إلى أن تصل إلى الراحة الأخيرة. هذا التعليم وصل إلى اليونان بواسطة أفلاطون الفيلسوف، ثمَّ إلى مصر مع الأفلاطونيَّة المحدَثة والنظرة إلى الواحد الذي غاب من الفلسفة الهنديَّة في حقيقة تتجسّد في الكائنات.
فماذا في هذه الديانات، ولاسيَّما البوذيَّة منها؟
1. البوذيَّة بنت الهندوسيَّة
الهندوسيَّة هي ديانة الأكثريَّة الساحقة في الهند. قالت: الكون يرتكز على حقيقة تحفظه في الوجود. وقالت: الإنسان مركَّب من جسدٍ مائت ونفسٍ خالدة. ولكنَّها نادت بالعنف ولاسيَّما في نظام الطبقات، كما أكثرت من العبادات والتماثيل التي تعدَّت الألف »إله« أو تجسيد للحقيقة. ولو وُضع يسوع بين هذه »الآلهة« لوُجد مَن يُكرِّمه على أنَّه واحد من هؤلاء الذين نرفع إليهم الصلاة.
من هنا انطلقت البوذيَّة كردَّة فعل على الهندوسيَّة، ولاسيَّما حين نعرف مخاطر الهندوسيَّة الأصوليَّة التي تريد حتَّى اليوم، أن تفرض نفسها على الجميع (أكانوا مسيحيّين أم مسلمين أم غير ذلك)، كنظامٍ روحيّ، ونظامٍ جسديّ يترافق مع العصا والاضطهاد.
رفضت البوذيَّة منطق العنف، فرُفضت ونُبذت، فصارت أقليَّة في الهند. ولكنَّها انتشرت انتشارًا واسعًا في البلدان المجاورة، بعد أن تطعَّمت بمفاهيم جديدةٍ جعلتها مقبولة لدى الشعب. منطق العنف هذا فرض نظام الطبقيَّة. فكلُّ إنسانٍ يُولد في طبقةٍ يتوارثها أبًا عن جدّ، ولا يمكن أن يخرج منها. وهكذا يبقى الواحد منفصلاً عن الآخَر على مستوى الطعام واللباس والعادات. وفي النهاية، »خارج الطريق« يقف المنبوذون الذين لا يحقّ للطبقة العليا أن تلمسهم لئلاَّ تتنجَّس بهم. إلى هؤلاء مضت الكنيسة في القرن السادس عشر، كما مضت في بدايتها إلى العبيد دون أن تنسى الآخَرين. ففي المسيحيَّة، لا عبدٌ ولا حُرّ، بل الجميع واحد في المسيح.
والديانة حين تَعتق، تتحجَّر في طقوسٍ وعبادات، وتتجسَّد في تماثيل لا عدَّ لها. كلُّنا يعرف، في الصين، طاحون الصلاة الذي يدور ويدور فيحسب الإنسان أنَّه يصلّي. تلك كانت الديانة الهندوسيَّة التي لا مؤسِّس لها، ولا كتابًا واحدًا لها، بل سلسلة كتب تستخلص منها ما تشاء.
أمَّا البوذيَّة فمؤسِّسها شخص عُرف في التاريخ. إسمه بوذا. سيصبح الإلهَ بالنسبة إلى التلاميذ، فيُعبَد ويقدَّم له البخور في هياكله. وكتاب البوذيَّة الرسميّ يقدِّم الشريعة الأزليَّة بقيمتها التي تشمل الكون. إكتشفها بوذا وعلَّمها للبشر وللآلهة كطريقٍ للتحرُّر. هذه الشريعة ندرسها، نتعرَّف إليها، نعيشها. وبالتالي نستغني عن طقوسٍ عديدة وعباداتٍ تُخرجنا من ذواتنا ولا تساعدنا على معرفة ما في داخلنا. وهكذا كانت البوذيَّة ثورة على الهندوسيَّة من الداخل، فرفضتها الهندُ ولبثت هذه البلادُ على قديمها.
2. مَن هو بوذا؟
هو من سلالةٍ ملكيَّة. وُلد حوالى سنة 560 ق.م. إسمه الحقيقيّ سيداراتا غاوتاما Siddhârtha Gautama. في مملكة كوسالا Kosala على حدود النيبال الحاليّ، وعلى سفح جبال حملايا. مرَّ في محنةٍ لم يُفصِح عنها، فوعى وعيًا عميقًا الوضع البشريّ بما فيه من عذاب وعطوبة. حينئذٍ ترك بيته واعتنق حياة الناسك الجوَّال.
هذا الإنسان الذكيّ جدٌّا، الذي سُمّي »اليقِظ والمتنبِّه« (هذا هو معنى اللقب بوذا)، نَعِمَ بفهمٍ فائق الطبيعة. فبدت حياته نعيمًا منذ طفولته. وتزوَّج من ابنة عمِّه وهو في السادسة عشرة من عمره. فكان له ملء السعادة. غير أنَّه فهم فجأةً أنَّ هذه السعادة سرابٌ وخيبة أمل. لا، ليست الحياة نهرًا هادئًا تسيل مياهه بدون عقبات.
إلتقى بشيخٍ، ثمّ بمريضٍ وميتٍ وشحَّاذ. وبعد فشلٍ وفشل، ترك طريق الشكّ القاسي. ثمَّ ركَّز فكره. تأمَّل في ذاته، في العمق. إستنار ووصل إلى اليقظة. وعى الواقع الجوهريّ، الأساسيّ، ودخل في سلامٍ أطفأ فيه كلّ الشهوات. دخل في النيرفانا Nirvana. وهكذا تحرَّر من كلّ رغبة، فتحقَّق بالتالي أنَّه تحرَّر من الوجود، ومن كلّ عذابٍ وأَلم. هو لن يولدَ بعدُ من جديد، ولن تتجسَّد نفسه في المادَّة.
فهذا التحرُّر التامّ والنهائيّ الذي تاق إليه فلجأ إلى ممارساتٍ تقشُّفيَّةٍ قاسية، كان إحدى الطرق التي أخذ بها المتنسِّكون في أيَّامه. ولكنَّها طريقة فاشلة. لهذا كانت العودة إلى النفس. لا حاجة للإنسان أن يخرج من ذاته. فكلّ ما حوله ضباب. وهو بقواه الخاصَّة يصل إلى السعادة التي يتوخَّاها في محاربة الشهوات التي تقيِّده بهذا العالم. فالمادَّة سجن ولا بُدَّ من الخروج منه.
ولمَّا خرج بوذا من هذا السجن وقف معه خمسة أشخاصٍ رافقوه في تقشُّفاته، وقدَّم أوَّل عظةٍ له حول الحقائق النبيلة الأربع التي »تحرِّك عَجَلة الشريعة«. وهكذا دشَّن عملَ التبشير الذي سيواصله خمسًا وأربعين سنة، فيجوب منطقة الوسط، فيردّ الناس بالآلاف ويضع أُسس الجماعة الرهبانيَّة البوذيَّة، السنغا Sangha.
تلك هي العظة الشهيرة التي أَلقاها في بنارس Benarés، في شمال الهند، حول مفهوم التحرير. »كما أنَّ للمحيط عطرًا واحدًا، رائحة الملح، هكذا أيُّها الرهبان، للدارما dharma (التعليم) عطر واحد، هو الخلاص«. فالبوذيَّة »طريق تحرُّر«، وهي تأخذ قوَّتها واتِّجاهها من وعي البشر للألم (دوكا dukkha). إن نحن اعتبرنا البوذيَّة عذابًا وأَلمًا، نجعلها نظرةً متشائمة. فهي ليست متشائمة ولا متفائلة، بل هي واقعيَّة. لهذا شُبِّه بوذا بالطبيب الذي يفحص المريض ويقدِّم علاجًا فاعلاً يتكيَّف مع المريض أمام شقاء العالم.
ومات بوذا سنة 480 ق.م. بعد مرضٍ قصير، فدخل في ملء النيرفانا، في سلامٍ تامّ انطفأت فيه كلُّ الرغبات والشهوات. وبعد موته تكوَّنت الأساطير العديدة حول تمجيد بوذا الذي تحوَّل تدريجيٌّا إلى كائنٍ علويّ. وتكوَّن تعليمٌ يشرح العلاقة بين بوذا التاريخيّ وبوذا الممجَّد، يتحدَّث عن ثلاثة أجسامٍ لبوذا. جسم التحوُّل هو انعكاس الجسد الحقيقيّ أو ظلّه. جسم التنعُّم الذي فيه تتجلَّى ثمرةُ أعماله الصالحة. جسم الشريعة الذي هو طبيعة بوذا الكاملة. ونتج من هذا التعليم أنَّ بوذا التاريخيّ امَّحى شيئًا فشيئًا ليقترب من المطلق ويتماهى وإيَّاه.
3. الحقائق الأربع
المسألة الأساسيَّة في البوذيَّة هي الألم في الوضع البشريّ. والمفتاح الذي به نفهم هذا الوضع، والذي اكتشفه بوذا في خبرةٍ روحيَّةٍ عميقة، استثنائيَّة، في ليلة استنارته، يكمن في تفحُّصٍ يكشف شموليَّة الألم، وأصل هذا الألم، والوسيلة الجذريَّة لإخماد الألم، والطريق التي نسير فيها لكي يتمَّ هذا الإخماد بالفعل. ذاك هو جوهر التعليم البوذيّ كما دُوِّن في »عظة بنارس«، في تلك العظة التي أَلقاها غاوتاما Gautama أمام تلاميذه بعد استنارته. وها هو القسم الرئيسيّ الذي يعلن الحقائق النبيلة الأربع.
»... إليكم، أيُّها الرهبان، الحقيقة النبيلة حول »دوكا« (العذاب والألم). الولادة عذاب، والشيخوخة عذاب، والمرض عذاب، والموت عذاب. الاتِّحاد بما لا نحبّ عذاب، الانفصال عمَّا نحبّ عذاب. عدم امتلاك شيء نرغب فيه عذاب. وبمختصر الكلام، ما نتعلَّق به هو عذاب.
»إليكم، أيُّها الرهبان، الحقيقة النبيلة حول علَّة العذاب. هي هذا العطش الذي يُنتج وجودًا متكرِّرًا، صيرورةً متكرِّرة، الذي يرتبط برغبةٍ جشعة، الذي يجد تنعُّمًا جديدًا، تارةً هنا وطورًا هناك. عطش ملذَّات الحواسّ، عطش الوجود والصيرورة، عطش اللاَّوجود والبحث عن إعدام الذات.
»إليكم، أيُّها الرهبان، الحقيقة النبيلة حول إخماد العذاب. يُخمَد هذا العطش إخمادًا تامٌّا، نتخلَّى عنه، نتجرَّد، نتحرَّر، ننفصل.
»إليكم، أيُّها الرهبان، الحقيقة النبيلة عن الطريق التي تقود إلى إخماد العذاب. هو الطريق النبيل المثمَّن: النظرة الصحيحة. الفكر الصحيح. التركيز الصحيح. العمل الصحيح. وسائل الوجود الصحيحة. المجهود الصحيح. التنبُّه الصحيح. التركيز الصحيح«.
الهدف الأخير الذي لا بُدَّ من البلوغ إليه هو النيرفانا: من أجل الاستعداد لها، يتمرَّس الإنسان في اللاَّتعلُّق بشيء. ومن أجل ممارسة اللاَّتعلُّق، من الضروريّ إلغاء الرغبة. والرغبة نفسها تولد من الوهم والسراب، أي الاعتقاد بمتانة الظواهر وثبات الإنسان نفسه. فإذا أراد البوذيّ أن يتحرَّر من هذا الجهل، وجب عليه أن يحقِّق، بفعلٍ حدسيّ من الحكمة، حقيقةَ اللاَّذات. فالضلالُ الأساسيّ في الإنسان يقوم في أن يريد دومًا أن يلتصق بالأشياء. وهذا ما يجعله سجينًا.
فإذا أراد الإنسان أن يصل إلى فعل الحكمة هذا، الذي يحرِّره بشكلٍ تامّ ونهائيّ، استعمل الوسائل الثماني التي ذكرناها من أجل الطريق النبيل. ولا يمارس البوذيُّ وسيلةً بعد وسيلة، بل يطلب نموّها في وقتٍ واحد. غير أنَّ السلوك الخُلُقيّ الصحيح هو الشرط المطلوب لكي يكون التأديب العقليّ ناجعًا فيتيح للحكمة أن تتفتَّح في رؤية باطنيَّة واضحة إلى الطابع اللاَّثابت والمشروط للأمور الداخليَّة والخارجيَّة. وحين يصبح هذا السلوكُ كاملاً، فهو يمنح التحرُّرَ التامّ.
خاتمة
تلك نظرة إلى البوذيَّة. بدت ردَّة فعلٍ على الهندوسيَّة بإكثار من الآلهة والأصنام، وبممارستها العنف الخفيّ من خلال نظام الطبقات. جاءت الهندوسيَّة ممَّا وراء التاريخ، فما عُرف متى تكوَّنت، ولا مَن أسَّسها، ولا الكتاب الواحد الذي تعتبره كتابًا. أمَّا البوذيَّة فتجذَّرت في التاريخ، وارتبطت بشخصٍ عاش في زمنٍ محدَّد، وبكتابٍ واضحٍ يدعو إلى تحرُّر الإنسان طلبًا للراحة التامَّة، وتخلُّصًا من كلّ تجسيدٍ جديدٍ ومن كلّ ولادةٍ أُخرى. وهذا يعني إخماد كلّ شهوةٍ وكلّ رغبة، وصولاً إلى تلاشي الذات الكامل.
كلّ هذا يبعدنا عن المسيحيَّة، حيث الإله الذي نعبد شخصٌ حيّ، وحيث الشخصيَّة البشريَّة لها قيمتها التي لا تُقدَّر بثمن. فنحن لا نلغيها بل نُنميها. فلا شيء في الإنسان إلاَّ ويجب أن ينمو ليكون غنًى في جسد المسيح السريّ. الإنسان، في الأصل، على صورة اللَّه ومثاله، وهو فريد بكُلِّيَّته، لا في روحه فقط أو في جسده. والإنسان ابن اللَّه منذ ارتباطه بيسوع المسيح الذي هو بكرُ إخوةٍ كثيرين. والإنسان »الصاعد« إلى اللَّه لا يسير وحده، بل مع إخوته، ومع أخيه الأكبر يسوع المسيح، الذي يعرف ضعفنا وخطيئتنا، والذي يرثي لحالنا، ولكنَّه لا يستحي أن يدعونا إخوته.
حياة البوذيّ أكثر من حياة. وحياة المسيحيّ واحدة. إن كانت خاطئة حمل المسيحُ خطيئتَها. وإن كانت ناقصة أكمل الربّ نقصنا. فلا حاجة إلى حياةٍ أُخرى يبدأ فيها الإنسان من جديد. والراحة ليست راحة ذاتيَّة في سرابٍ يبقى سرابًا. الراحة في المسيحيَّة هي حياة مع اللَّه بعد أن تزول الدموع »فلا يبقى موت ولا حزن ولا صراخ ولا وجع« (رؤ 21: 4). مع اللَّه تزول الأشياء القديمة. والإنسان وحده غير قادرٍ على الوصول إلى ملء التحرُّر والسعادة. فهو ينتظر معونته باسم الربّ الذي صنع السماوات والأرض.
قد يبدأ المسيحيّ بممارساتٍ بوذيَّة خارجيَّة مثل اليوغا والتأمُّل الباطنيّ الذي صار اليوم التأمُّل التجاوزيّ حيث يستند الإنسان إلى قواه الذاتيَّة دون البحث عن لقاءٍ مع اللَّه. عندئذٍ يصبح مستنقعَ ماءٍ لا تدبّ فيه الحياة. فقد انقطع عن ينبوع كلّ حياة. وترك كلّ وسيلة خلاص، لأنَّ لا اسم سوى اسم يسوع به يخلص المؤمن. وهنا تكمن المشكلة أو أنَّ المؤمن الذي يريد المحافظة على إيمانه يعيش انفصام الشخصيَّة، أو هو يتخلَّى عن إيمانه ويعتنق ديانات الشرق الأقصى بعد أن يكون قد تعرَّف إلى المسيح. ذاك الذي نال العماد فاستنارت نفسه بنور المسيح، ذاك الذي ذاق الهبة السماويَّة وشارك في الروح القدس، ذاك الذي استطاب كلمة اللَّه الصالحة ودخل في العالم الجديد الذي دشَّنته قيامة المسيح (عب 6: 4-5). فإن هو سقط استحال تجديده وصعبت عودته إلى التوبة. حينئذٍ يكون مرفوضًا، تهدِّده اللَّعنة وتكون آخِرته الحريق بنار اللَّه التي تمتحن حياتنا وأعمالنا.