الهندوسيّة
الهندوسيّة هي الديانة المسيطرة في الهند، مع ثلاثة أرباع السكّان، أي 750 مليون نسمة. وهي من أقدم الديانات في هذه البلاد. لا مؤسّس لها ولا »كهنوت« رسميّ، وهي تستند إلى مبدأين أساسيّين:
الفكرة التي تفتح أمامنا باب الديانة الهندوسيّة، هي أنّ الكون يتأسّس على نظام الحقيقة التي تحفظه في الوجود. كلّ تجاوز للنظام يجد صداه في مجمل الكون. إذن، تكون المسؤوليّة جسيمة والخطأ كبيرًا. فإن جاءت الرياح الموسميّة متأخرة، أو إذا سبّب المطرُ الفيضانات التي تحمل الكوارث، فالمعتقد الشعبيّ ينسب كلّ هذه الفوضى، طوعًا، إلى خطأ. والخطيئة الكبرى في القرن العشرين هي أنّ الناس قوّضوا التوازنات التقليديّة وبالتالي بلبلوا النظام الكونيّ.
نودّ هنا أن نبرز هذه الفكرة الآتية من الهند، والتي تربط الشرّ في العالم بالخطيئة. فهي السبب. فالحضارات الرافديتيّة اعتبرت أنّ البشر خطئوا، لهذا تبلبل الكون وكان الطوفان. ووصلت الفكرة إلى عالم الكتاب المقدّس، فطبّق المبدأ على الحياة اليوميّة، سواء كانت جماعة أو فردًا. لماذا الفشل في الحرب؟ بسبب خطيئة الجنود. لماذا الوباء في البلاد؟ بسبب خطيئة الملك.
والفكرة الثانية هي أنّ الإنسان يتألّف من جسد فاسد وعابر، ومن نفس خالدة تتجسّد المرّة بعد المرّة، بدون حدود، فتنتقل من جسم إلى جسم، وتحتفظ بملفّ قضائيّ يورد الذنوب التي اقتُرفت والأعمال الصالحة التي عُملت في مختلف حياتها، في حياة بعد حياة. وبما أنّ الحياة، كما هو معروف، لا تحمل إلاّ العذاب والإرهاق، فهدف كلّ هندوسيّ صالح هو أن يُنهي بأسرع وقت ممكن، دورةَ التجسّدات ليدرك أخيرًا النيرفانا. فالإنسان لا يتجسّد صدفة: إنّه يُولَد من جديد في طبقة توافق كلّ التوافق »ملفَّه« الدينيّ.
هذه الفكرة وصلت إلى العالم اليونانيّ، وبالتالي امتدّت في الحضارة الغربيّة وما زالت آثارها واضحة في عقولنا اليوم. وإن كانت في لغة مسيحيّة: »الجسم للترب والنفس للربّ«. لا الجسم ليس للترب، بل سيكون ممجّدًا مثل جسم يسوع ويكون للقيامة. فالجسم أبعد من العناصر التي نأخذها من الأرض، كالماء والكربون... فهذه كلّها نتركها للأرض. أمّا عمق جسم الإنسان فهو للقيامة. وسواء كنّا أطفالاً أو كهولاً، رجالاً أو نساء، كنهُ جسدنا هو هو، في حشا أمّهاتنا كما عند ساعة موتنا. أمّا ما نتركه هنا فهو لباس، كما يقول لنا بولس الرسول.
هذه الفكرة توسّع فيها أفلاطون. النفس تُقيم في عالم المثلُ. وهي تأتي فتأخذ جسدًا تعتبره سجنًا لها، وتتمنّى بأقرب وقت أن تتركه وتعود إلى عالمها. هذا ما نسمّيه: تجسّد جديد. اتّخاذ جسد جديد. تأخذه النفس وتتركه ساعة يجب أن تتركه. أو التناسخ: تنتقل النفس (أو الروح) من جسم إلى جسم آخر بعد الموت. أو التقمّص: تنتقل الأرواح من جسد إلى جسد آخر، دورًا بعد دور. هذا يعني أنّ الروح تلبس الجسد وكأنّه قميص بانتظار أن تخلعه. غير أنّ هذا التقمّص لا يدوم إلى ما لا نهاية في الديانة الهندوسيّة، بل يتوقّف عندما تُلغى من الروح كلّ الشهوات والأهواء، فلا يبقى شيء يُثقله.
بحسب هذا التعليم، هناك أكثر من ولادة وأكثر من موت، أكثر من »عبور« من جسد إلى آخر، أو انتقال »من وعاء إلى آخر« أو »حالات متعاقبة للنفس«. هنا نورد ما قيل عن القُلط، أوّل سكّان فرنسا: »أحد أقوالهم الرئيسيّ المأثور هو أنّ النفوس لا تموت، بل في ساعة الموت تنتقل من جسم إلى آخر. وهذا ما يعتبرونه مفيدًا، فيتشجّعون على الفضيلة ويحتقرون الموت«. هذا ما قاله عنهم يوليوس قيصر في حرب غالية (= فرنسا). وفي عالم اليونان، نجد هذا التعليم لدى »الأورفيّة« التي ارتبطت بأورفايوس، ذاك المغنّي الشهير الذي قيل إنّه نزل إلى عالم الموتى ليأتي بامرأته، فأعاد امرأته إلى الحياة بفضل موسيقاه. أمّا الأورفيّة فتعلّم أنّ البشر وُلدوا من رماد آلهة صعقهم زوش، رئيس الآلهة. أغلِق على النفس في جسد، كما في سجن، فحملت ثقل خطيئة أصليّة. وهي لا تُفلت إلاّ بعد دورات عديدة من الوجود، فتهاجر من جسد إلى آخر، فتتنقّى بحسب القواعد، بواسطة الأصوام، وأعمال النسك والتدرّج في الأسرار الضروريّة، فالمسيرة الروحيّة.
كلّ هذا يعني أنّ الجسد هالك، مائت، ذاهب إلى الفناء. قابل للتلف، فاسد كالعشب الذي ييبس فلا يعود ينفع لشيء. وإن هو صار للقيامة، كما يقول الإيمان في الديانات التوحيديّة، فهذا ليس من طبعه، بل بنعمة فريدة من الله. وفي المسيحيّة، جسد المسيح القائم من الموت هو مثال كلّ قيامة. نقول في المفهوم اللاهوتيّ: هو أوّل الراقدين في عالم الموت، وأوّل القائمين.
لماذا هذا التوسّع ونحن نتحدّث عن عالم الهند الذي يبدو ظاهريٌّا بعيدًا عن عالم الكتاب المقدّس؟ لكي نعرف أنّ البحر الذي فصل بلاد الرافدين، عن العالم الهنديّ، لم يكن عائقًا بل جسر عبور. من الهند أتت حضارات وديانات، وقد يكون السومريّون أتوا من هناك. وإلى الهند راحت المسيحيّة في فرعها السريانيّ منذ عهد الرسل، ثمّ الإسلام. وحين ندرس تاريخ الديانات التي وصلت إلى الهندوسيّة، نعرف العراقة الهنديّة التي ضاهت وربّما سبقت حضارة مصر وحضارة بلاد الرافدين.
لمّا جاء الأوروبّيّون إلى الهند اكتشفوا هذا التجسّد الجديد، هذا التقمّص، ودُهشوا من هذا الشعب الذي يرغب أكثر ما يرغب في »الإفناء«. أن يعود إلى الفناء. وكيف يتمّ هذا؟ بفضل سلوكه يقترب شيئًا فشيئًا من حالة الطهارة التي هي الشرط الضروريّ للنجاة الأخيرة.
ونحن نجد المعتقدات الهندوسيّة الرئيسيّة في المهابهاراتا والرمانانا. هما ملحمتان تُبرزان نظام الطبقات حيث تثبَّت »خرما« أو مجمل الأعمال السابقة التي تحدّد شروط دخول النفس في جسد جديد.
* * *
الهندوسيّة هي المرحلة الثالثة والأخيرة من نموّ تاريخ الديانات في الهند. بعد »الواديّة« (1500-900 ق.م.) والبرهمانيّة (900-400 ق.م.). أمّا لفظ »هندو« الذي وصل إلى العربيّة (والأوروبيّة)، عبر الفارسيّة، فهو يشير إلى سكّان حوض الهندوس، ذاك النهر الكبير الذي يجري في المناطق الشماليّة والغربيّة.
ونقولها منذ البداية. فالهندوسيّة تجمع وجهات متعدّدة من الحياة والدين في نهج متشعّب يكفل وحدتَه نظامُ الطبقات. وهو يتوزّع في مدارس وتيّارات. أما النهوج الفلسفيّة واللاهوتيّة الكبرى، أو الروايات، فهي ستّ.
أقدمها »سامخيا«، تبحث عن مقولات الواقع عبر تعداد مكوّناته العديدة. نظرته ثنائيّة، بمعنى أنّ الأشياء الأساسيّة تسير اثنين اثنين: المبدأ الفاعل واللاواعي هو سبب الكون. والمبدأ الواعي، العام، والمنفصل. هذا التعارض بين النشاط والجمود، بين الحركة والراحة، بين الصيرورة والكيان، يمثّل أساس الكون.
»ميماسا« هي مدرسة أخرى تعني »البحث والتفسير«. فتأتي بعد سابقتها التي اكتفت بالتعداد. أمّا ما تتوخّاه هذه المدرسة فتحقيق تفسير منهجيّ للنصوص والطقوس التي تؤسّس العبادات الذبائحيّة الواديّة. هو بحث عن الذات في تجسّدات عديدة لبلوغ المطلق.
في إطار هذه الأفكار، نكتشف مبدأي الخير والشرّ، أو الثنائيّة: يُعتَبر الكائن الشرّير أزليٌّا مع إله البدايات. ففي تقاليد الشعوب التي لم تعرف الكتابة، جعلت الميتولوجيا أرواحًا صالحين يحاربون أرواحًا أشرارًا. وهكذا نصل إلى العالمين اليهوديّ والمسيحيّ، ثمّ الإسلاميّ، مع الملائكة والشياطين. إبليس (ديابولُس في اليونانيّة: من يمزّق، من يفصل) هو رئيس الشياطين. وميخائيل هو رئيس الملائكة كما في سفر الرؤيا (12: 7).
هذه الثنائيّة في الهند تقدّم نهجًا فيه الكائن الروحيّ ينزل في المانويّة، فيكون الصراع. وفي الصين، نجد قوّتين أساسيّتين: السماء والأرض. النور والظلمة. هما متعارضان وإن كانا متكاملين، يمعنى أنّ ما هو الآن في الظلّ سينتقل إلى النور، والعكس بالعكس. وسنجد هذه النظرة عند الغنوصيّين أو أهل العرفان، حيث الشرّ هو هذا العالم الذي لم يخلق فيه الله الجوهر الظلاميّ. هو تعارض بين العالم والكون المتساميّ. فالعالم ليس من الله، والنفس ليست من العالم. النفس شرارة إلهيّة تخضع لقوى المادّة. ومع المانويّة، ستكون ثنائيّة جذريّة: في البدء، هناك طبيعتان تتعارضان كلّ التعارض: النور والظلمة. مبدآن أزليّان، غير مولودين، يؤسّسان مملكتين. واحدة يوجّهها أبو العظمة، وثانيًا أمير الظلمة الذي أخذ اسمًا أسطوريٌّا: لوسيفورس، حامل النور. ولكن في الواقع أمير الظلمة البرّانيّة.
الرؤية الثالث (وادنتا) هي نهاية وادا والبلوغ. ثمّ اليوغا، أي طريقة بها نكون، نسيطر، ندجِّن... نسيطر على القوى الروحيّة لكي نوجّهها في وجهة نرغبها. والهدف، إدراك السلام الداخليّ والمعرفة السامية وتحرير النفس من وضعها البشريّ (اللحميّ) بواسطة تمارين نفسيّة وجسديّة. التيّار (أو المدرسة) الخامس يتوخّى تحديد المقولات من أجل تقسيم عالم الظواهر. في المدرسة السادسة تبدأ مسيرة التحرير بالنسبة إلى دورة التجسّدات الجديدة.
وهكذا نستطيع القول إنّ الهندوسيّة، بحسب قول الهندوس، هي رابطة ديانات، حزمة، مجموعة، لا ديانة واحدة في المعنى الحصريّ للكلمة. إذن، لا يمكن الإحاطة بالهندوسيّة أو تحديدها إنطلاقًا من »أرثوذكسيّة«، تكون قاعدة الفكر ومقياسه. من هذا القبيل، يمكن أن ننغشّ حين نتكلّم عن الهندوسيّة التي هي لفظة ظهرت أوّل مرّة سنة 1823 لدى رام موهان روي (1772-1833) الذي كان برهمانًا من البنغال. صاغ اللفظة انطلاقًا من »هندو«، وأضاف إليها نهاية تدلّ على نهج فلسفيّ أو دينيّ. في الأصل، كانوا يتكلّمون عن ديانات وأخلاقيّات وعادات لدى الهندوس. وإن كان هناك من قاسم مشترك لمختلف الأشكال الدينيّة التي تكوّن مضمون الهندوسيّة، فانتماؤها إلى الوسط الهندوسيّ، إلى نسيج سوسيولوجيّ، تاريخيّ، وجغرافيّ، في حوض الهندوس، في هند نهر الغانج، في الهند الجنوبيّة.
ثمّ إنّ هذه الأشكال الدينيّة المختلفة، قبلوها، ونسّقوها، بقدر ما لا تمسّ المبادئ الأساسيّة في المجتمع. أمّا اللفظ الأساسيّ قبل »الهندوسيّة« فهو »دارما« أو النظام الإجماليّ والإكراهيّ للأشياء. هو نظام الكائنات والأشياء الذي يستمرّ، فيجعل كلّ كائن مع فئته ويعيّن له المجهود الذي يقوم به على المتسوى الخلقيّ والروحيّ والاجتماعيّ.
* * *
ونصل إلى المقاربة التاريخيّة، فنقرأ الظواهر الهندوسيّة في الحقبة التي فيها ظهرت، في الحقبة الواديّة في الهند الشماليّة والهند الجنوبيّة (2000-600 ق.م.). كانت الهند بمجملها تُمارس عبادات محلّيّة تقليديّة، وصل الآريّون إليها من بلاد فارس، إلى حوض الهندوس، في الألف الثاني ق.م.، وامتدّوا شيئًا فشيئًا حتّى وصلوا إلى حوض الغانج وهناك أقاموا بشكل نهائيّ، قبل ولادة البوذيّة، في القرن السادس ق.م.
خلال تلك الحقبة، صاغ الآريّون في المناطق التي طبعوها بطابعهم، أدبًا في لغة السنسكريت اسمه »وادا« أو المعرفة. ضمَّ هذا الأدب المعارف المكتسبة في المجالات الليتورجيّة واللاهوتيّة. والديانة التي صيغت في تلك الحقبة في حوضي الهندوس والغانج، تُدعى اليوم »الواديّة« التي لا نعرفها إلاّ في »الوادا«، بعد أن زال كلُّ أثر أركيولوجيّ. نشير إلى أنّ الوادا تتضمّن نصوصًا ليتورجيّة دُوِّنت في لغة السنسكريت بين القرن 18 والقرن 7 ق.م.: أناشيد للآلهة. عبارات ذبائحيّة. نصوص إيزوتيريّة، باطنيّة تشيرُ إلى أنّ سلطة الوادا كبيرة جدٌّا لدى الهندوسيّين، لأنّها تُشرف على عادات كثيرة يمارسونها في حياتهم اليوميّة.
أمّا السمات الرئيسيّة في هذه الديانة فهي: تعدّد الآلهة، إن لم يكن في الواقع فأقلّه في الروح. أهمّيّة الذبيحة التي تشكّل محور العبادة. تشعّبٌ متنامٍ لليتورجيّا. ولادة تنظير فلسفيّ ولاهوتيّ يغتني يومًا بعد يوم. وذروته ظهور أشكال حدس دينيّ وصوفيّ، توحِّد الحياة التي ما زال المفكّرون يبحثون في عمقها. »فالبراهمان« هو ما نكتشف في عمق الأشياء وقوى الكون حين نتوجّه إليها. أمّا »أتمان« فهو ما نكتشف في عمق الذات وفي القوى التي تكوّن الذات. هو جوهر الذات الذي نجده حين نميل إلى ذواتنا. أمّا عمل الآباء الروحيّين فيقول بتأكيد هذه الهويّة في كلّ أشكالها بكلّ أنواع المسيرات. »كرما« هي العمل والعمل الطقسيّ ولا سيّما الذبيحة. فالإنسان »الواديّ« يبلغ إلى الحياة السعيدة في الآخرة، بواسطة الذبيحة. فيصبح مساويًا للآلهة. كان ذاك في فترة أولى، ولكن في فترة ثانية تخسر »كرما« عملها الخلاصيّ، فلا تستطيع أن تحرّر الإنسان. ولا أن تؤمّن له الخيور المادّيّة والروحيّة، بل إنّ هذه الخيور لا تُعتبَر بعدُ خلاصًا: أن نصير مثل الآلهة لا يفيدنا في شيء إلاّ أن نؤخّر التحرّر الحقيقيّ.
في حقبة الردّ (600 ق.م.- 300 ب.م.)، وفي أوساط لم تتأثّر كثيرًا بالبراهمانيّة، رُفضت طقوس البراهمة وما فيها من إفراط، وكانت النظرة الصوفيّة في هذه الحقبة من عمل بودا ومهاويرا، أي جينا مؤسّس الجائينيّة. هو المنتصر. جاء هذان المعلّمان من الشمال وعاشا النسك القاسيّ. وبحثت الأوساط الشعبيّة عن إله شخصيّ، هو »رودرا« الذي تماهى مع شيفا، إله قبليّ، احتلّ القلوب فبُنيت له الهياكل العديدة، و»فشنو« وهو منظّم المكان، بجانب شيفا منظّم الزمان. دوره إسناد كلّ موجود وتوجيهه. وهكذا بدأت عبادتان، مهمّتان، بدل عبادة واحدة، مع الأناشيد التي تورد مآثر المقاتلين في القبائل. من أجل هذا، وجب على البراهمة أن ينظّموا الأمور بشكل عقلانيّ في نهوج فلسفيّة بدأت خطوطُها الكبرى بالظهور.
حقبة النهوج (300-1200) أو »يورانا« التي هي أخبار عتيقة صيغت في العالم الهندوسيّ بين القرن الرابع والقرن الثاني عشر. هي تصف العالم وخلقه من جديد بعد إفنائه الدوريّ، ونسب الآلهة والقدّيسين القدامى، وتسلسل الأدهار وحقبات تاريخ العالم، وتاريخ الأنساب الملكيّة.
* * *
مجمع الآلهة في العالم الهندوسيّ، يضمّ الوجوه العديدة من الآلهة وأنصاف الآلهة التي تجسّم الطبيعة، ومن الأرواح والشياطين، الذين يوجّههم إلهٌ مركزيّ فشنو، المحامي، شيفا (أو دورغا)، المدمّر ثمّ براهما الخالق. في هذا الشكل المثلّث (تريمورتي، ثالوث) الذي يُفسَّر تفسيرًا فلسفيٌّا، يظهر براهما أكثر ما يظهر في ثلاثة آلهة مختلفين. كما يُوجَد مثلّث نسائيّ يجسّم المبادئ الأساسيّة الثلاثة التي تشرف على الكون. لا كاسمي من أجل الخلق. سراسفاتي للحفظ، كالي للموت والنجاة.
يتألّف المثلّث الكونيّ، كما قلنا، من براهما، فشنو، شيفا. براهما هو خالق العالم وقد وُلد من مياه البدايات. رموزه زهرة اللوتس، الطيف، الورد وكتاب فيدا. أمّا دابّته فهي الأوزّ. دور فشنو أن يحمي الكون. رموزه الرئيسيّة هي القرص أو عجلة الزمن التي يرميها في الكون لكي يدافع عن نفسه. والصدفة البحريّة والهراوة وزهرة اللوتس. والنسر الأبيض الذي رأسُه رأس إنسان هو دابّته. عليه ينزل على الأرض في عدّة أشكال ليجعل النظام يسود عليها. ويُعرَف شيفا بعينه الثالثة. هو يرقص وسط اللهيب الذي يرمز إلى تناوب الدمار والخلق من جديد. رموزه جلد النمر وعضو الذكر. ودابّته الثور.
أمّا الإلاهات الكبرى في مجمع الالهة الهندوسيّ فهي: سارسواتي. زوجة براهما. إلاهة المعرفة والآداب والفنون والعلوم. هي ابنة شيفا وبرفاتي. من صفاتها: المحبوبة والحنونة. يُكرمها الكتّاب كما يكرمها طلاّب الجامعات. لاكاسمي. تُدعى أيضًا سري (البهاء، الجمال). هي أيضًا ابنة شيفا وبرفاتي، وزوجة فشنو الذي تخونه وهي تبتسم. غير أنّ طرق الآلهة لا يمكن أن تُعرف. فاعتُبرت لاكاسمي القدّيسة، وسيّدة البيت الخاضعة، والزوجة المثاليّة. هي إلاهة الحظ والنجاح، ويكرّمها جميعُ التجّار. برفاتي أو أومابرفاتي. ابنة الجبل. زوجة شيفا التي تشاركه في النسك والتجرّد، وفي الدابّة التي يركبان. هي أيضًا أمّ سكاندا وغانيش إله النجاح والحكمة.
غانيش يدعونه قبل البداية في مشروع جديد، في رحلة أو في استدانة مال. وهو إله المشاهد. في بداية الأفلام ونهايتها، تُجعل صورته. وعدد من الأزواج يدعونه لتسهيل الولادة أو لتأمين مستقبل لا فخاخ فيه لأولادهم. دورغا. إلاهة جميلة جدٌّا لا يمكن الوصول إلى جمالها. ارتبطت بفشنو وبشيفا معًا. مثل فشنو، تحارب للدفاع عن النظام الكونيّ. وهي أيضًا أحد أشكال زوجة شيفا. كيف وُلدت دورغا؟ جمع كلُّ الآلهة سلطانهم فولدوا إلاهة نالت ما يميّز كلّ واحد منهم. فجسّدت القوّة والشجاعة في الحرب، فصوّرت بأكثر من يد، بها تحارب الشيطان الذي يبدو في شكل جاموس.
كالي أو خاموندا. إلاهة الدمار والموت. تعيش في الحقول التي فيها تُحرق الجثث. تشرب الخمر والدم، وتمثّل مرارًا بلسانها الممدود، وفي يدها عصا تزيّنها مجموعة جماجم. شعر مبعثر، وجه مجعّد، مكسَّر، تدوس أرجلاً مقطوعة وبقايا بشريّة.
في هذا الإطار نذكر الساذو والغورو. ففي التقليد الدينيّ الهندوسيّ، يُكرَم الحكماء الكبار على مثال الآلهة. يُعتبرون قدّيسين بالنظر إلى علمهم الروحيّ وسلوكهم المثاليّ وكفاءتهم كمعلّمين روحيّين وبسبب خبرتهم الصوفيّة. وبجانب الرائين (ريشي)، وسائر المعلّمين الروحيّين الذين يمارسون النسك (سفايس)، يجذب المتسوّلون الروحيّون (ساذو) الأنظار بمشيتهم الغريبة. عليهم الرمل، عراة، على رقبتهم عدد من التعاويذ، شعرهم محلوق حلقًا أو مجعّد مكثّف. بعضهم يجولون في الطرقات. هم الساذو أو الرجال الأصحّاء. والآخرون يُلقون الدروس في الساحات العامّة. هم الغورو أو المعلّمون الموقّرون.
شعر الساذو طويل جدٌّا، متينٌ وثابت. هم لا يتمشّطون أبدًا. بل يفركون شعرهم بماويّة بعض الأشجار كالتين مثلاً، وهذا ما يزيد في نموِّه ويُبرزه في جدائل كثيفة شبيهة بجزّات الصوف. هذا الشعر الذي يرمز إلى القوّة يبدو في شكلين اثنين. إمّا يكون مهملاً وإمّا يُلفّ في كعكة كبيرة يغطّيها الرماد كما يغطّي الجسم كلّه علامة التجرّد المطلق حسب نموذج شيفا.
الساذو يصير سيزا: متوحّد، ناسك. بعد أعمال توبة قاسية وأشكال من الإماتات. ولكن ما يفعله من أمور »بهلوانيّة« ليست باطلة. فهو يتوخّى النجاة من دورة الولادات الجهنّميّة لتذوب نفسه في النفس الكونيّة.
والغورو صار رئيس الجماعات الروحيّة المدعوّة لبلوغ أصراما التي هي الحقبة الأخيرة لمسيرة برهمان في طريقه إلى الحقيقة.
وتبقى البقرات المكرّسة التي تقف في وسط الشارع ولا من يزجرها. صاحب هذه البقرات يعتبر أنّ العشب في المدينة لا يكلّف كثيرًا. وتبقى البقرة مهمّة جدٌّا، هنا نتذكّر ثورة الصيباي التي حرّكها خبرٌ يقول بأنّه تمّ توزيع لحم البقر لجنود هندوسيّين. وكانت تحرّكات دامية تركت وراءها عشرات القتلى، سنة 1966، بسبب تربية البقر.
ليست البقر عنصرًا من عناصر الفولكلور غريبًا، بل رمز العلاقة الأساسيّة بين الهندوسيّ والطبيعة. في الواقع، مراعاة البقرة علامة »أحمسا« أي عدم إرادة القتل. وهي علامة احترام »للأمّ الكونيّة«. فالبقرة ترمز إلى الأمومة والمحبّة والرحمة. والبقرة حيوان يتيح للميت أن يعبر النهر الذي يفصله عن الفردوس. والميت الذي يقدّم للكاهن بقرة خلال الجنازة، يستطيع أن يتعلّق بقرنيها ويعبر النهر إلى السعادة.
نجد أصل البقرة المكرّسة في حسّ الحكماء في الهند القديمة حيث كانت المجاعات متواترة. وحده حليب (لبن) البقرة يأكله الطفل. فحين جعل الحكماء من البقرة أمّ الإنسان، وأعطوها جذورًا دينيٌّا، أمّنوا حياة الأطفال. ولكن قد يقول رجال الاقتصاد إنّ هذه البقرات لا تنتج شيئًا. وإنّ التي تعطي حليبًا، لا تعطي عُشر ما تعطيه البقرات المؤصّلة، وإنّ لا معنى لتغذية مثل هذه الحيوانات والاعتناء بها حتّى موتها. ومع ذلك، حين تُذبح بقرة يكون الهيجان في القرية. ما من صواب منطقيّ لهذا الوضع. إنّه تقليد يعود إلى الآلاف السنين، وقد تركّز في وجدان الهندوسيّ وضميره. فلا نبحث عن سبب آخر لهذا الإكرام المخصّص للبقرة في الديانة الهندوسيّة.
* * *
وننهي مقالنا في كلام عن خلق الكون (كوسموغونيا) وعن النجاة الأخيرة. إنّ النظريّة الهندوسيّة إلى خلق الكون وصورته، تتميَّز دومًا بالرجوع إلى الرقم سبعة. فالكون خُلق بشكل بيضة. ويُقسَم القسمُ الأعلى من البيضة الكونيّة إلى سبع مناطق. الثلاث الأولى: الأرض، الهواء، السماء. تكوّن معًا عوالم ثلاثًا (تريلوكا) وفوقها أربعُ مناطق سماويّة تكوّن مسكن الآلهة. فالمنطقة الأخيرة والأعلى، هي عالم براهما أو عالم الحقيقة. أمّا القسم الأسفل من البيضة الكونيّة، فيتألّف من سبع مناطق سفلى تكوّنان طوابقَ ويسكنها الشياطينُ والحيّات. تحت البيضة الكونيّة نجد أوقيانس البدايات. وتُقسم الأرض سبع قارات يحيط بها سبعة أبحار. وفي الوسط محيط يامبودفيبا حيث جبل ميرو في وسطه. على هذا الجبل الذي يشكّل القطب الكونيّ، تنمو شجرة يامبو الكبيرة جدٌّا التي منها اسم القارة. وحول جبل ميرو تدور النجوم والكواكب. ستُّ سلاسل من الجبال تقسم يامبودفيبا إلى سبع مناطق، وتقع الهند في الوسط.
في القارّات الستّ الأخرى، وفي مناطق يامبودفيبا الستّ تسود سعادة لامتبدّلة، ثابتة. ولكن في المنطقة السابعة تتناوب بشكل ديناميكيّ في ترتيب متناقص من السعادة والطهارة، أربعةُ عصور تأخذ أسماءها من أربعة وجوه زهر النرد: 4، 3، 2، 1، حيث أربع نقاط (كريتا) هو العصر الذهبيّ الذي فيه يكون جميع البشر أهل فضيلة ويعيشون في السعادة. حيث ثلاث نقاط (تريتا) نحسّ بأولى علامات الانحطاط التدريجيّ للقيم الروحيّة مع اجتياح الطمع والرغبة في امتلاك الخيرات المادّيّة. حيث النقطتان (دفابارا) الجشع والسرقة. وحيث النقطة الواحدة (كالي)، أي الحقبة الحاليّة، كلّ شيء عذاب وانحطاط. بدأت هذه الحقبة الأخيرة مع موت كريشنا سنة 3102 ق.م.، وتنتهي حين ينزل فشنو من جديد بعد 427000 سنة فيعيد النظام والسعادة على الأرض كما في عصر كريتا.
هذه العصور الكونيّة الأربعة تشكلّ »الحقبة الكبيرة« وتتوزّع على عدد من السنين، ليس المجال الآن لذكرها، ليست سنوات ضوئيّة، بل سنوات إلهيّة. ثمّ تكون »نهاية العالم« التي تكون طبيعيّة أو مباشرة. الدمار الأوّل يعني الفرد. الثاني، الكائنات الحيّة، الثالث، نهاية الكون.
ساعة ولادة العوالم ومداها وزوالها، لا تزول أبدًا. فالمطلق الحاضر في قلب الأشياء هو أبديّ لا يتغيّر (براهمان). هذا المطلق اللاشخصيّ يلد، ساعة الخلق، التعدّديّة المقسَّمة أي عالم الظواهر الذي له اسم، والذي أعدَّ لكي يتحوّل ويفنى. هذا العالم المحسوس هو وهم وظاهر (مايا). كما بضربة ماهر، مايا الذي يأخذ شكلاً ما يبرز عالمًا لا واقع له ثابتًا. والعلاقة بين مايا وبراهمان الذي يلده، تشبه العلاقة الموجودة بين الحرارة والنار، حيث الأولى لا يمكن أن توجد من دون الثانية التي تغذّيها. وبعد وقت من الزمن، يعود عالم الظواهر إلى أصوله، إلى البراهمان ليُخلق من جديد ويبدأ دورة جديدة فيها يولد البشر بحسب الشكل الذي أملاه ناموس كارما، أي على أساس أعمال تمّت في الأجيال السابقة.
وتبقى طريق النجاة. تستعدّ نفس الإنسان للسير في دورة الولادات المتجدّدة أو الانتقالات والهجرات. حين تنفصل النفس عن الجسد في ساعة الموت، تنتظر ثلاث طبقات انتقالها إلى جسد كائن حيّ آخر. شكل الولادات هذه وظروفها، يرتبط بالصفات الخلقيّة التي تمّت في الماضي. إذن، كرما هو نتيجة أعمال حياة سابقة. ولكلّ عمل نتيجته في الولادة الجديدة وفي الحياة المقبلة. مثل هذه المسيرة لا بداية لها ولا نهاية.
وصاغ الهندوسيّون ترتيب أحداث الفأل والنحس. وبين أحداث النحس القحط، دمار الغلاّت، المرض، العقم... أمّا السعادة القصوى فتقابل الخلاص أي توقّف دورة الولادات الجديدة. والوسائل الكفيلة بإدراك هذا الخلاص، تتنوّع حسب رؤية العالم الخاصّة بكلّ مدرسة أو كلّ تيّار.(1) طريق الطقوس السحريّة، التأديب الشخصيّ. (2) طريق الممارسات الجسديّة والروحيّة. (3) طريق الأعمال وممارسة الطقوس والواجبات. (4) طريق المعرفة وممارسة التفكير والتأمّل. تلك طريق إلى الخلاص يسير فيها فقط أولئك الذين مارسوا النسك مدّة طويلة. (5) طريق الممارسة العباديّة. ترتبط بنعمة الفداء المرتبطة بفشنو. هو يقين يرتبط بالحبّ، بأنّ الله فوق كلّ شيء.
أمّا الهدف المشترك لجميع طرق الخلاص، فهو التجرّد (تجرّد الذات) من الجسد ومن عالم مايا، والاتّحاد مع المطلق ونفس العالم (براهمان)، وهكذا نتجاوز كلّ الثنائيّات (الخير والشرّ، الآلهة والبشر، الحيّ والجامد، المذكّر والمؤنّث). لهذا قيل عن براهمان: أنت المرأة وأنت الرجل. أنت النحلة الزرقاء والفراشة الخضراء مع عينين حمراوين. البرقٌ ابنك. أنت الفصول والبحار. أنت الكلّ، والموجود في كلّ مكان. كلّ ما هو وُلد منك.