المنحولات الأرمنية[*]
ارتبط تاريخ البيبليا الأرمنيّة ارتباطًا وثيقًا باستنباط الأبجديّة. ففي بداية القرن الخامس، وبعد قرن على اهتداء أرمينيا إلى المسيحيّة، استنبط الأرمن حروفًا خاصّة بهم، فكان هذا الاستنباط بداية نشاط أدبيّ بدأ بالكتاب المقدّس، فوصل إلى آباء الكنيسة، وامتدّ إلى النصوص المنحولة التي أوردت منها اللغة الأرمنيّة عددًا كبيرًا. قبل مجمع أفسس، عمل المترجمون الأرمن في وسط سريانيّ، ولا سيّما في مدينة الرها بمدرستها الشهيرة مع هيبا، التي تبعت تيودورس، أسقف المصيصة، واعتبرته »المفسّر«. ولكن بعد الحكم على نسطوريوس في مجمع أفسس (431)، توجّه الأرمن نحو مدرسة الاسكندريّة، بعد أن دفعهم ساحاق إلى ذلك، وهو المعروف بصداقته للعالم اليونانيّ، ممّا جعله يقاسي السجن لدى الفرس من سنة 428 حتى 432.
عرفت أرمينيا المسيحيّة عصرها الذهبيّ في بداية القرن الخامس، فنقلت ما نقلت من كتب. أما نحن فنتوقّف عند الأدب المنحول، الذي تُرجم ساعة تُرجم الكتاب المقدّس، أو أُلِّف في أرمينيا، فقوّى العاطفة الدينيّة لدى الأرمن، في حقبات مختلفة، وبتأثيرات متنوّعة. نشير هنا إلى أن الأخبار المنحولة عن تداوس وبرتلماوس أتاحت للأرمن أن يجدوا ما يبرّر الأصول الرسوليّة لكنيستهم.
1- منحولات مؤسِّسة
نبدأ هنا بأسفار منحولة ارتبطت بالأصل الرسوليّ للكنيسة الأرمنيّة. يقول التقليد إنّ أرمينيا بُشِّرت على يد الرسول تداوس. ونحن نجد في اللغة الأرمنيّة مجموعة من النصوص تُسند هذا التقليد، بينها نسخة أرمنيّة تعود إلى العصر الذهبيّ على ما يبدو لتعليم أداي السرياني الذي نسب إلى لَبُوبْنا: يورد هذا »التعليم« تأسيس كنيسة الرها بواسطة رسول المسيح أداي[1] الذي مات موتًا طبيعيٌّا في الرها، بعد أن أتمّ عمله التبشيريّ.
إن قابلنا النصّ الأصليّ بالنسخة الأرمنيّة، نرى أن الترجمة أمينة بشكل إجمالي. ولكن في نهاية النصّ يبتعد المترجم عن النصّ الأصليّ. فموت الرسول في الرها، سيكون في الترجمة الأرمنيّة، انطلاقًا نحو الشرق. وحيث يتحدّث النصّ السرياني عن موت أداي موتًا طبيعيٌّا، يلمّح النصّ الأرمنيّ إلى استشهاد قاساه الرسول في مناطق الشرق. وموكب أداي الجنائزي في الرها، كما يصوّره النصّ السرياني، يُصبح في الأرمنيّة موكبًا يرافق الرسول إلى حدود المملكة. هذه التحوّلات من النصّ الأصليّ إلى النسخة الأرمنيّة، تمّت بشكل بارع ولطيف. حاول المترجم أن يستعمل جميع معطيات النصّ السرياني، قدر المستطاع، فراعى عناصر الأصل السريانيّ. هو ما تخلّى عن كل شيء. غير أن هناك معطية ما استطاع أو ما أراد أن يحتفظ بها، وهي موت أداي الطبيعي في الرها. ونحن نفهم الأسباب التي جعلته يعيد كتابة هذا النصّ المنحول: رفض في أن يعارض التقليد الأرمنيّ الذي يقول: لم تتوقّف كرازة تداوس في الرها، لدى الملك أبجر، بل تواصلت إلى أرمينيا حيث قُتل الرسول بيد الملك الأرمني ساناتروك. هذا التقليد الذي يفترضه فاوستوس البيزنطيّ، يرد في سلسلة من النصوص الأرمنيّة التي لا نجدها سوى في الأرمنيّة: استشهاد تداوس، خبر تداوس وساندوكست، استشهاد ساندوكست، اكتشاف ذخائر تداوس. هذه الكتابات الأربع تروي مجيء الرسول إلى أرمينيا في أيّام الملك ساناتروك.
وتتواصل مسيرةُ صياغة »تعليم أداي« فيما بعد. فالنصّ الأرمنيّ المكيَّف »للتعليم«، صار بدوره موضوع صياغات جديدة لدى المؤرّخ الأرمني موسى الخوريني (القرن الخامس أو الثامن). ففي »تاريخ أرمينيا«، دوّن نسخته عن كرازة تداوس، فأعطى نفحة أرمنيّة لعدد من المعطيات ولعدد من الأشخاص في »تعليم أداي«. فأبجر، ملك الرها، صار وجهًا من أرمينيا، ودخل في سلسلة ملوك أرمينيا. وطوبيا اليهودي، الذي كان أوّل من استقبل الرسول في الرها، حسب »تعليم أداي«، صار في خبر موسى الكوريني »طوبيا... من أسرة باغرتوني«. إذن، انتمى إلى سلالة ساحاك باغرتوني الذي طلب من المؤرّخ الأرمنيّ أن يكتب له هذا الكتاب. وتتواصل مسيرة الطبع بالطابع الأرمنيّ، في مقطع يحلّل فيه موسى الكوريني اسم »أبجر«: هو يعني في السريانيّة: »الأعرج«. أما موسى فتخيّل الاشتقاق التالي: »دُعي أبجر هذا، في الأرمنيّة، أداغ أثير، الرجل العظيم، بسبب وداعته الكبيرة وحكمته، وبالتالي بسبب سنّه. ولكن اليونان والسريان لم يقدروا أن يلفظوا هذا الاسم كما يجب، فدعوه أبجر«.
إذا كان المترجم الأرمنيّ لـ»تعليم أداي« قد حوّل بعض المعطيات التي تتعارض والتقليد الأرمنيّ حول رسالة تداي في أرمينيا، فموسى الكوريني، من جهة، استغلّ هذا التقليد القديم، كما استغلّ ترجمة »تعليم أداي« الأرمنيّة لكي يجعل تداي يلعب دورًا محصورًا لدى الأرمن.
إذن، صارت رواية أبجر وأداي/تداي، انطلاقًا من القرن الخامس، رواية تدلّ على أصالة الكنيسة الأرمنيّة التي يمكنها أن تتحدّث عن جذورها الرسوليّة. وفي مؤلّف فاوستوس البيزنطيّ، يُدعى أقدم كرسيّ في الكنيسة الأرمنيّة »كرسيّ تداوس«.
فالتقليد المتعلّق بتداوس وبرسالته لدى الارمن، قد اغتنى بمعطيات جديدة. ونحن نجده بشكل خاص في نصّ آخر منحول دُوّن في الأرمنيّة هو: استشهاد برتلماوس.
2- استشهاد برتلماوس
يقول »استشهاد برتلماوس«: بعد أن قام الرسول بسلسلة من الجولات عبر مختلف مناطق المسكونة، ولا سيّما في بلاد الفراتيين وفي أرض »الفرس والمجوس«، وصل إلى أرمينيا. وكلّما اقترب القدّيس من الأراضي الأرمنيّة، تصبح العاطفة الوطنيّة لدى الكاتب أكثر وضوحًا. نلاحظ أوّلاً اختلافًا جذريٌّا بين كلام على الفراتيين القريبين من سلالة الملوك الارساقيين الذين صارت أرمينيا في أيّامهم مسيحيّة، وكلام على الفرس الساسانيين، أي السلالة التي طردت الفراتيين من إيران، وهم الذين حاولوا أن يفرضوا الزردشتيّة على الأرمن المسيحيّين. ففي خبر »استشهاد برتلماوس«، لم يُبدِ الفراتيون أيّة مقاومة تجاه ما يقدّمه الرسول من تعليم: »اهتدى فراتيّون عديدون إلى ربّ القوّات، بسبب الآيات والمعجزات والأشفية المختلفة وتهدئة الآلام، التي نالوها من الرسول القديس برحمة الرب ورأفته«. أما الساسانيون فصُوِّروا نسْلاً رافضًا لكلمة نادى بها الرسول، ومعدًا لأن يهلك إلى الأبد:
»أخذ برتلماوس يعظ... إنجيل متى. ولكن رغم معجزات عظيمة وعجائب تجلّت من العلاء، لم يُخِفْهم بحيث يبعدهم عن عبادة العناصر، وعن الخرافات الباطلة التي ضلّوا فيها بكبرياء وترفّع، بل أنار فقط ثماني أنفس، وانتزعهم من هذا النسل البربري، نسل الهالكين«.
وبدت هذه النظرة الوطنيّة أكثر وضوحًا مع وصول الرسول إلى أرمينيا، في منطقة غوتا، التي عجّل سكانها فاعتنقوا الإيمان المسيحيّ: »وبعد أن نادى برتلماوس هناك بكلمة الحياة، قبلوها بفرح وحماس، وارتضوا بها وخضعوا، واستناروا بمعموديّة جرن العماد«.
لا نجد هنا تلميحًا من قبل كاتب »استشهاد برتلماوس« الأرمني، إلى واقع يقول إن الوثنيّة سادت مدّة طويلة بعد اهتداء أرمينيا الرسميّ إلى المسيحيّة، في بداية القرن الرابع.
فالنصّ يقول بصريح العبارة: إن كرازة برتلماوس تمّت في الأمكنة التي فيها سار سلفه تداوس: »مضى في مقاطعة غوتا الأرمنيّة، فوصل بسرعة إلى حصّة تداوس، حسب أمر الروح القدس... كان برتلماوس ضحيّة استشهاد أمر به ساناتروك، وهو الملك نفسه الذي حكم بالموت على تداوس، فمات تحت ضربات الجلاّدين بهراواتهم. وساعة أسلم برتلماوس الروح، جاء الرسول تداوس إلى لقائه، كما في شكل جسديّ، لكي يأخذه إلى السماء. هذه السفرة الأخيرة التي جمعت رسولَي أرمينيا، ضمّت في الوقت عينه تقليدين منحولين لا يتزاحمان، بل يتداخلان ليُسندا تقليد الأصول الرسوليّة للمسيحيّة الأرمنيّة. فإن سُمّي كرسي الكنيسة الأرمنيّة، في القرن الخامس، »كرسي تداوس«، ففي القرن العاشر، كما يقول المؤرّخ يوحنّا دراسخانا كرتاستي، سيُسمَّى »كرسي تداوس وبرتلماوس«.
متى دُوِّن »استشهاد برتلماوس«؟ من المعقول أن يكون دوّن في الحقبة البيزنطيّة، ساعة أحسّ الأرمن بالحاجة إلى أن يعطوا كنيستهم شرفًا رسوليٌّا، فجعلوها على اسم رسولين: تداوس الذي يجعله التقليد تارة أحد الاثني عشر، وطورًا أحد السبعين أو أحد الاثنين وسبعين تلميذًا ليسوع. وبرتلماوس أحد الاثني عشر. ولماذا هذا التأكيد بقوّة على الأصل الرسوليّ للكنيسة الأرمنيّة؟ نفهم السبب في الإطار التاريخيّ والسياسيّ الذي رأى الكنيسة الأرمنيّة، في النصف الثاني من القرن السادس، تنفصل عن الكنيسة اليونانيّة وتطالب باستقلاليّتها.
3- استشهاد اندراوس
قدّمت لنا النصوص المنحولة المتعلّقة بتداوس وبرتلماوس، شهادةً أساسيّة حول تاريخ المسيحيّة الأرمنيّة. ومع ذلك، يجب أن نشدّد على أننا نستطيع أن نستعمل النصوص الأرمنيّة المنحولة لفهم وجهات من تاريخ المسيحيّة خارج حدود أرمينيا. ذاك هو، على سبيل المثال، وضع استشهاد اندراوس، الذي يشكّل القسم الأخير من »أعمال اندراوس« الذي هو نصّ يونانيّ دُوّن، على ما يبدو، في الاسكندريّة، في النصف الثاني من القرن الثاني. وقد يكون »استشهاد اندراوس« اليوناني نُقل إلى الأرمنيّة في القرن السادس أو القرن السابع.
إن المخطوطات التي تحتفظ بنصّ »استشهاد أندراوس« في اليونانيّة، قليلة ومتجزّئة. أما العودة إلى المخطوطات الأرمنيّة، فسمحت لنا أن نحصي عشرين مخطوطًا على الأقل. فشهادة النصّ الارمنيّ لإعادة تكوين الأصل اليونانيّ لا يُستغنى عنها على المستوى اللغوي. ونعود بشكل خاص إلى مقاطع كان فيها النصّ اليونانيّ ضحيّة اقتطاعات واختصارات. ونحن لا نستطيع إعادة بنائه إلاّ بفضل النصّ الأرمنيّ. وهذا مفيد جدٌّا بالنسبة إلى النصوص التي تعكس تدخّلاً عقائديٌّا معقولاً من قبل الناسخين اليونان. ذاك هو وضع الفصل 57.
يتضمّن هذا الفصل خطبة الرسول اندراوس إلى تلاميذه، وفيها يشدّد على أهمّيّة التجرّد من العالم المحسوس والتوجّه نحو العالم الإلهي السامي: »ماذا يفيدكم أن تمتلكوا ما هو خارجيّ ولا تمتلكوا نفوسكم؟... أو لماذا كل هذا الاهتمام بما هو خارجيّ، ساعة أنتم أنفسكم لا تهتمّون بما أنتم؟ ولكني أحضّكم جميعًا على أن تبدّلوا هذه الحياة المتعبة، الباطلة، البليدة، الكاذبة، الفارغة، الفاسدة، العابرة، صديقة الملذّات، عابدة الزمن، خادمة السكر، قريبة الفجور، صاحبة البخل... أستحلفكم بأن تتخلّوا عن كلّ هذه الحياة، أنتم الذين اجتمعتم هنا بسبـبي، وعجّلوا في أن تمسكوا نفسكم التي تنطلق نحو ما فوق الزمن، وفوق الشريعة، وفوق الكلمة، وفوق الجسد، وفوق الملذّات المرّة...«.
بالإضافة إلى هذه التوصيات التي نُقلت نقلاً أمينًا، تضمّنت النسخة الأرمنيّة لهذا الفصل 57، مقاطع غابت عن الأصل اليونانيّ. هي مقاطع تشجب الزواج وايلاد البنين والبنات، فتقدّم ميولاً تعفّفية: »إن كانت الملذّات ومجامعات الزواج تُسرّكم، فلتحزنكم النجاسة التي تنتج عنها، ولتملأكم ألمًا. إذا رغبتم في إيلاد البنين والألم المنهك الذي يكون لكم الثمرة، فليضايقكم... ولماذا ترغبون في اللذة وفي الإيلاد، حين يجب عليكم فيما بعد أن تنفصلوا بعضكم عن بعض؟ فما من أحد يعرف ماذا يعمل. أو من يعتني بامرأته وهو يهتمّ بها حبٌّا بالشهوة؟«.
هذه المقتطفات التي لا نقرأها إلاّ في المخطوطات الأرمنيّة، هل نحسبها إضافات من قبل المترجم الأرمنيّ، أم مقاطع أوّلانيّة حُذفت في وقت من الأوقات من تقليد المخطوطات اليونانيّة؟ يدلّ تحليل هذه المقتطفات على تماسكها الكامل مع بقيّة الكتاب على مستوى اللغة، كما علىمستوى البنية والمضمون. فإذا كانت هذه الفرضيّة صحيحة، نستطيع أن نظنّ أن النسّاخ اليونان أحسّوا بالحاجة أن يستبعدوا من نص »استشهاد اندراوس« هذه المقتطفات التي يمكن أن تفسّر هرطوقيٌّا، لا سيّما بعد حكم دارسي الهرطقات، على التعفّفية، في القرن الرابع. نستطيع أن نتكلّم على اقتطاع من النصّ اليونانيّ أملته أسبابٌ عقائديّة. إذن، يدلّ مثَل »استشهاد اندراوس« بشكل واضح، كيف أن تاريخ انتشار الأدب المنحول وتقبّله، لم يكن هو هو في كل الجماعات المسيحيّة القديمة. فدراسة مثل هذا الأدب تقودنا للتعرّف إلى مختلف وجهات العالم المسيحيّ القديم، الذي لم يكن واقعًا واحدًا في شكل واحد.
4- المراسلة بين بولس والكورنثيين
لم يعرف تثبيت القانون، أو لائحة الاسفار المقدّسة، ذات المسيرة في الشرق وفي الغرب. من هذا القبيل، نشير إلى شهادة خاصة لنصّ أرمني منحول آخر هو: المراسلة المنحولة بين بولس والكورنثيين. دوِّن أصلاً في اليونانيّة في القرن الثاني. لا نستطيع أن نسمّي هذه »المراسلة« منحولة في كل معنى الكلمة. فرسالة بولس الثالثة إلى الكورنثيين التي سبقتها الأولى والثانية اللتان هما رسالتان قانونيّتان، وسبقها قسمٌ إخباريّ قصير يشرح الأسباب التي كانت السبب في تبادل هذه الرسائل، قد أدرجها الأرمن في كتابهم المقدّس بتأثير من الكنيسة السريانيّة التي اعتَبرت، في وقت أوّل، هذه المراسلة قانونيّة.
أما النصّ الأرمني فنُقل عن النصّ السريانيّ الذي نُقل بدوره عن النصّ اليوناني. وإدخال »المراسلة« في القانون الأرمنيّ، جاء بنتائج هامة على مستوى تاريخ نقل النصّ. فمنذ سنة 1959 عرفنا الشاهد الوحيد المباشر للأصل اليوناني[2]. إذا كان الشاهد اليونانيّ واحدًا، فلائحة المخطوطات الأرمنيّة تتيح لنا مع ذلك أن نجد ما يقارب تسعين مخطوطًا بيبليٌّا.
5- أعمال تقلا
أما أحد الأمثلة الهامّة التي تدلّ على نجاح كبير لاقاه الأدب المسيحيّ المنحول في أرمينيا، فنجده في خبر تقلا: كانت قديسة من أيقونيوم، في تركيا. نعمت بإكرام كبير في سلوقية، ولا سيّما في القرنين الرابع والخامس. وتوزّعت الشهادات الأدبيّة الأرمنيّة حول هذه القديسة، في حقبة تمتدّ من العصر الذهبيّ للأدب الأرمنيّ حتّى العصر الوسيط. ويدلّنا تحليلُ هذه الشهادات على أسلوب تستبعد به الجماعة استعمال نصّ من النصوص. وهذا ما أتاح للأرمن أن »يمتلكوا« قدّيسة كانت في الأصل غريبة عنهم كل الغربة.
نذكر هنا أن تقلا كانت في الأصل الشخص الرئيسيّ في جزء من »أعمال بولس« دوِّنت في اليونانيّة، في القرن الثاني. وما عتّم هذا الجزء ان انفصل عن رواية طويلة عن بولس، فصار مقالاً مستقلاٌّ. في هذا الشكل، نُقلت »أعمال تقلا« من اليونانيّة إلى السريانيّة. فعرفها الأرمن، لا في الأصل اليونانيّ، بل في النسخة السريانيّة التي نقلوها نقلاً أمينًا، في النصف الأوّل من القرن الخامس. إذن، ظهرت هذه القديسة، للمرّة الأولى، في أرمينيا، في اتّصال بين المسيحيّة السريانيّة والمسيحيّة الأرمنيّة. ونجد أيضًا في القرن الخامس شخص تقلا في مؤلّف فاوستوس البيزنطيّ الذي ذكرناه أكثر من مرّة. في هذا الكتاب تلعب تقلا دورًا رئيسيٌّا كشفيعة الارثوذكسيّة المسيحيّة، في جزء يصوِّر صراعًا مسيحيٌّا يتواجه فيه الامبراطور »التعيس« والهرطوقي وَالاَنْس[3]، مضطهد المسيحيّين الارثوذكسيين، وبطل أرمينيا، البطريرك نرسيس، البطل الحقيقيّ في الارثوذكسيّة النيقويّة، والمدافع العنيد عن وحدة الجوهر الكاملة لدى أقانيم الثالوث الثلاثة. وعبْر عدد من التلميحات الدقيقة، بدا فاوستوس وكأنّه يريد أن يقرّب تقلا من صورة دينيّة كبيرة أخرى، في مجمع الآلهة الوثنيّة في أرمينيا، هي الإلاهة أناحيت التي هي من أصل إيراني، والتي أحبّها الأرمن حبٌّا خاصٌّا، فظلّت عبادتها حيّة، في زمن فاوستوس، وفي المنطقة التي جاء منها، أي تارون. إذا كانت هذه الفرضيّة صحيحة، يحقّ لنا أن نظنّ أن هذه الإلاهة المفضّلة لدى الأرمن الوثنيين، هيّأت الطريق لدخول تقلا إلى العالم الديني في أرمينيا المسيحيّة.
في الحقبة البيزنطيّة، اغتنى خبرُ تقلا الأرمنيّ بفصل جديد. فقد يكون الأرمن نقلوا »معجزات تقلا« اليونانيّة التي تورد حلقتين من المعجزات أجرتها القدّيسة في منطقة سلوقية. إذن، يحتلّ هذان النصّان المترجمان مرحلتين في مسيرة تكوّنت فيها رواية تقلا الأدبيّة. واغتنت في حقبات مختلفة من تاريخ أرمينيا الدينيّ، وذلك بفضل اتصالات حضاريّة ودينيّة مع وسطين مختلفين، الوسط السريانيّ والوسط اليونانيّ. ولكن هاتين القطعتين عملتَا أيضًا على توسيع وتغذية إكرام القدّيسة في أرمينيا. فالنسخة المختصرة »لأعمال تقلا« و»معجزات تقلا« أُدرجت فيما بعد في حاشية حول قـدّيسـة »السنـكسـار[4] الأرمـنـــي« (24 أيلول). فدخول تقلا في السنكسار والليتورجيا الارمنيّة، يمكن أن يعتبرَ كفعل تبنّت فيه الكنيسة الأرمنيّة الرسميّة هذه القدّيسة، التي كانت في البداية غريبة عن أرمينيا.
لا نستطيع هنا أن نطيل الكلام على تطوّر رواية تقلا الأرمنيّة في القرون الوسطى، ولكننا نذكر فقط، في القرن الرابع عشر، الأرمن الذين تبنّوا هذه القدّيسة الغريبة، وعملوا على بناء مرحلة جديدة في إكرام تقلا والتقليد الأدبي الذي خرج من حدود بلادهم. ففي القرن الرابع عشر، خرجت رواية تقلا الأرمنيّة وذخيرة تقلا من أرمينيا فوصلت إلى الغرب. في تلك الحقبة »صدّر« الأرمن رواية تقلا إلى كاتالونيا، في إسبانيا، فرافق نصّ جديد هذه الطريق الجديدة، هو نصّ لاتيني تعرّفنا إليه على أنّه ترجمة »أعمال تقلا« و»معجزات تقلا« في الأرمنيّة. تمّت الترجمة بأمر من الملك الأرمني أوخين (1308-1320) من أجل أهل كاتالونيا. وتضمّنت نهاية النصّ قسمًا جديدًا، دوّنه الأرمن، فروى الظروف العجائبيّة لاكتشاف ذراع تقلا اليسرى، وأغنى إكرام القدّيسة بعنصر كان غائبًا في ما مضى، هو إكرام ذخائر القدّيسين.
6- نصوص منحولة أخرى
لا نريد أن نتوقّف عند لائحة كاملة لمختلف النصوص المنحولة التي دُوّنت في الأرمنيّة، أو نُقلت من إحدى اللغات. ولكن نذكر أن الأرمن اهتمّوا اهتمامًا خاصًا بالنصوص حول طفولة يسوع. تَمّ البرهانُ على أنه وجدت ترجمتان مستقلّتان »لانجيل يعقوب«[5]، دُوّنتا في حقبتين مختلفتين. ثمّ، في العصر الوسيط، دوّن الأرمنُ على أساس إنجيل سريانيّ على ما يبدو »إنجيل الطفولة« الذي يتطرّق إلى الموضوع عينه.
والكتابات عن الرسل ولا سيّما أخبار »استشهادهم«، نعمت بنجاح خاص: استشهاد فيلبس، استشهاد بولس، استشهاد توما، استشهاد بطرس، استشهاد متّى، أعمال أندراوس ومتّى في أرض أكلة لحوم البشر، أعمال يوحنّا حسب بروفوروس... ونقول الشيء عينه عن نصوص حول العذراء مريم: انتقال مريم، رقاد أم اللـه، رؤيا أم اللـه؛ وحول بيلاطس: أعمال بيلاطس، أو إنجيل نيقوديمس، رسالة بيلاطس. هذه المؤلّفات المسيحيّة المنحولة وُجدت مرارًا في شكل موجز، في السنكسار، فدخلت في ليتورجيّة كنيسة أرمينيا، فغذّت، خلال أجيال، العاطفة الدينيّة الأرمنيّة.
خاتمة
في الختام، نذكر أن منحولات العهد القديم وجدت أيضًا حيّزًا هامًا في الأدب الأرمني القديم. فبين نصوص عديدة تُرجمت أو نقلت إلى الأرمنيّة، نذكر على سبيل المثال دورة آدم وحوّاء التي شكّلت ينبوعًا لا ينفد من اكتشافات متواصلة، تضمّنت الـ»كودكسات« (Codex) والنصوص. ونقول الشيء عينه عن الآباء أو الأنبياء: خبر أحيقار، خبر يوسف وأسنات. ونذكر أيضًا أن البيبليا الأرمنيّة تضمّنت سفر المكابيين الثالث، الذي اعتُبر سفرًا من الأسفار القانونيّة الثانية، وأن مخطوطات العهد القديم الأرمنيّة القديمة تضمّنت بعض المرّات نصوصًا اعتبرت منحولة مثل رؤيا عزرا (أو 4 عزرا)، ووصيّات الآباء الاثني عشر. كل هذا يضاف إلى رسالة بولس الثالثة إلى كورنتوس، فيشكّل شهادة لاحقة لواقع يقول إن القانون البيبليّ لم يكن نتيجة مسيرة واحدة في كل الشرق والغرب المسيحيَّين، بل تبع طرقًا مختلفة حسب الأماكن الجغرافيّة والحقبات التاريخيّة. هذا يكفي لكي يبيّن أهميّة دراسة تاريخ مختلف الجماعات المسيحيّة القديمة، ولا سيّما تاريخ الجماعات الشرقيّة، لكي نصل قدر الإمكان إلى معرفة هذا العالم المتشعّب والمتنوّع الأشكال الذي كان عالم الشرق القديم. والحاجة ماسّة إلى الأدب الأرمنيّ، لأنّه حلقة لا غِنى عنها في سلسلة من الآداب القديمة التي تُتيح لنا أن نكوّن صورة شبه متكاملة عن الكنيسة الأول منذ البداية حتّى القرن العاشر المسيحيّ.
[1] "تدّاوس" في المراجع اليونانية. رج اوسابيوس، التاريخ الكنسي: 1-13
[2] Bibliothèque Bodmeriana de Cologne, n°10.
[3] Valens
[4] "السنكسار" (synaxaire)هو كتاب يورد حياة القديسين.
[5] Protévangile de Jacques
[*] استقينا المقال من:
V. Calzolari, «La Bible et les textes apocryphes dans l’Arménie ancienne», dans Connaissance des Pères de l’Église, n°81 (l’Arménie), mars 2001, pp. 38-51