البيبليا في الكنيسة الأرمنية
بدأت هداية الأرمن إلى الإيمان المسيحي في القرن الأوّل، ونشط التبشيرُ في القرن الثاني، ولكنّه ظلّ بطيئًا، ربّما لأنّ المبشّرين لم يكونوا من أهل البلاد. أمّا اهتداء أرمينيا كلّيٌّا فيرتبط بغريغوريوس المنوّر، الذي تربّى في قيصريّة كبادوكية، في تركيّا الحاليّة، وجاء إلى موطنه يحمل الإنجيل. استعمل غريغوريوس اللغة الأرمنيّة في وعظه، ولكن بما أنّ الكتابةة الأرمنيّة لم تكن بعدُ موجودة، درس البيبليا في اليونانيّة أو السريانيّة. ويبقى أنّ الأساس الأوّل في اللغة المسيحيّة لدى الأرمن كان فارسيٌّا وسريانيٌّا. أمّا كلامنا فيدور حول البيبليا في الكنيسة الأرمنيّة، في ثلاث محطّات: الترجمة، المخطوطات، ارتباط هذه الترجمة بالعالَمين السرياني واليوناني.
1- ترجمة البيبليا إلى الأرمنيّة
تنسب المراجع التاريخيّة الأرمنيّة ترجمة البيبليا إلى الأرمنيّة إلى القدّيس مسروب. كان هذا كاهنًا أرمنيٌّا، وُلد حوالي سنة 361 وتوفّي في 17 شباط من سنة 439، وإلى البطريرك ساحاق الذي وُلد حوالي سنة 350، وتوفّي في 7 أيلول من سنة 439. كان ابن نرسيس الكبير ابن غريغوريوس المنوّر. بعد أن رُسم مسروب كاهنًا سنة 393، بدأ رسالته حتّى أقاصي أرمينيّا، وهناك أحسّ بضرورة تأمين نصوص الكتاب المقدّس في لغة البلاد وفي حرف أرمنيّ. فخلق أبجديّة أرمينيّة، وكان الوقت مؤاتيًا بعد أن تحرّرت أرمينيا من سلطة قيصريّة. ووجب وجودُ لغة وحرف أرمنيَيْن خوفًا من التأثير الفارسي الوثني على أرمينيا المسيحيّة. استنبط مسروب الأبجديّة في الرها، سنة 407-408، على ما يبدو، ومضى إلى شميشاط، لدى خطّاط شهير اسمه روفينس. وهكذا ظهرت الأبجديّة الأرمنيّة في ستة وثلاثين حرفًا.
وبدأت ترجمة الكتاب المقدّس، وأوّل ما تُرجم كان سفر الأمثال، ثمّ العهد الجديد، ثمّ سائر أسفار العهد القديم. ويبدو أنّ نصّ الترجمة كان كاملاً سنة 414. لعب مسروب وساحاق دورًا كبيرًا في هذا العمل، ولكنّهما استعانَا بعلماء سريان في الدرجة الأولى، ويونان.
كانت هذه الترجمة الأولى ترجمة سريعة، وجاء من يحسّنها لكي تكون أكثر أمانة للأصل، وترتدي ثوبًا أدبيٌّا يليق بكلام الله. وقد حُفظت لنا أسفار الأخبار والمكابيّين ونشيد الأناشيد وابن سيراخ في الترجمة الأولى وفي الترجمة المحسّنة. ووُجدت نصوص من المزامير في كتاب الصلاة الأرمني، من الترجمة الأولى.
بعد سنة 436، أعاد النظر في الترجمة المحسّنة، ازنبك وساحاق، على أساس نصوص جاءت من القسطنطينيّة. وهكذا كان تأثير الكودكس الاسكندراني والكودكس السينائيّ كبيرًا على عدد كبير من أسفار العهد القديم، ولا سيّما الحكمة وابن سيراخ. فنحن نقرأ في المخطوط 193 أتشمياتزين، الحاشية التالية: »تثبّتت هذه النسخة حسب مخطوطات اسكندرانيّة في أورشليم، وحسب رباعيّات أوريجانس«. في الواقع، في سداسيات اوريجانس أو الهكسبلة (في ستة عواميد). وقد تركت بصماتها مع اختلافات من أكيلا وسيماك وتيودوسيون، التي جُمعت في هامش الترجمة.
كانت ترجمة البيبليا الأرمنيّة نقطة انطلاق لنشاط أدبيّ كبير، تميّز بمؤلّفات كُتبت أصلاً في الأرمنيّة، وبأُخرى تُرجمت من السريانيّة واليونانيّة. كلّ هذا ثبّت الديانة المسيحيّة ومتّنها، كما حوّل نفسيّة الأُمّة، فَوَعَتْ فرادتها الحضاريّة وإمكاناتها الروحيّة.
2- المخطوطات الأرمنيّة وطبعاتها
المنابع الرئيسيّة للمخطوطات الأرمنيّة، نجدها في يِرِفانْ (أرمينيا)، وأورشليم، والبندقيّة (إيطاليا)، وفيينا (النمسا). أمّا مجموعة يِرِفان فتمتلك أكبر عدد من المخطوطات، لكن مجموعة البندقيّة هي الأكثر تنوّعًا والأغنى على المستوى البيبليّ.
حسب اللوائح، أقدم مخطوطات الأناجيل (وهي على الرقّ) هي التي في موسكو (سنة 887)، وقد صوّر تصويرًا، ومخطوط البندقيّة (القدّيس لعازر، الرقم 1144، سنة 901)، ومخطوط ارتزاخ في أرمينيا (سنة 909)، وبليتمور، رقم 527 (سنة 960)، ولنيناكان في أرمينيا (سنة 988)، والقدّيس لعازر، رقم 190 (القرن العاشر)، وأتشمياتزين 229 (سنة 989)، ويِرِفان، رقم 208 (سنة 992-999)، والقدّيس لعازر، رقم 1400 (القرن العاشر - الحادي عشر).
أمّا أقدم مخطوطات للمزامير فنجدها في البندقيّة، القدّيس لعازر، الأوّل، رقم 1651، كُتب على الرق، ويعود إلى القرن العاشر - الحادي عشر، والثاني، رقم 1271، على رِقٍّ يعود إلى القرن الثاني عشر.
وأقدم الكتب المقدّسة نجدها أيضًا في البندقيّة، رقم 1311، كُتب على ورق، ويعود إلى القرن الثاني عشر - الثالث عشر. رقم 696، كُتب على الورق، ويعود إلى سنة 1201. وفي أورشليم، وُجدت نسخة ناقصة (رقم 148) كُتِبَت على الورق، وتعود إلى سنة 1214. والرقم 1312، البندقيّة، كُتب على ورق، ويعود إلى سنة 1257. والرقم 841، ويعود إلى القرن الثالث عشر، وكُتب على الورق. أمّا الرقم 1159، فهو رقّ يعود إلى القرن الثالث عشر وكذلك الرقم 376، كُتب على رقّ يعود إلى القرن الثالث عشر.
طُبع الكتاب المقدّس أوّل ما طُبع في أمستردام، سنة 1619. هي نسخة أوسكان، ولكنّها لم تكن طبعة نقديّة، بل انتقائيّة واعتباطيّة، بمعنى أنّ الناشر اختار من هذا المخطوط أو ذاك دون أن يقوم بدراسة المخطوطات. لم يقدّم أوسكان مخطوطه بأمانة، بل حوّل النصّ مرارًا ليتطابق مع الشعبيّة اللاتينيّة، غير أنّه احتفظ بعض المرّات بنصوص قديمة، ولا سيّما في سفر المزامير، وهذا ما يجعل العودة إلى هذه الطبعة مفيدة في بعض الأحيان. نشير إلى أنّ هذا النصّ أُعيد طبعه في القسطنطينيّة سنة 1705.
سنة 1733، قدّم الأب مخيتار، مؤسِّس دير القدّيس لعازر، في البندقيّة، نسخة أفضل مطبوعة. ولكن تجاوز عملَه ما قام به زهراب الذي طبع البيبليا كلّها، سنة 1805، فاستند إلى عدد أكبر. غير أنّ النسخة لم تكن نقديّة بالقدر المطلوب. ما ذكر زهراب الاختلافات في المخطوطات، بل اكتفى بإشارات غامضة. ومع ذلك، فجميع الطبعات اللاحقة ارتبطت بطبعة زهراب التي صارت بعد ذلك أداة لا يُستغنى عنها. فطبعة باغراتوني التي صدرت في البندقيّة سنة 1860 هي نسخة زهراب بدون الحواشي. وكذلك طبعة القسطنطينيّة التي ظهرت سنة 1895.
نشير هنا إلى طبعات العهد الجديد في أمستردام، وكان آخرها سنة 1816، وفي البندقيّة سنة 1710، 1720، ..1740. وظهرت طبعة في سان بترسبورغ، سنة 1814، وفي القسطنطينيّة سنة 1823، وفي إزمير سنة 1838، وفي فيينا سنة 1857، وفي لندن سنة 1859، وفي البندقيّة سنة 1863 و1866، وفي أورشليم سنة 1867-1868، وفي القسطنطينيّة سنة 1875، 1884، 1891، 1896. ونُشرت أسفار من العهد القديم بشكل منفصل: سفر الأمثال، في البندقيّة (1734)، في القسطنطينيّة (1806)، في إزمير (1852)، في القسطنطينيّة (1880، 1882، 1892، 1897). ونُشرت في ترياستا (1802) أسفار الأمثال والحكمة والجامعة، وفي البندقيّة (1833) ابن سيراخ ورسالة إرميا، ثمّ سفر الحكمة (1827، 1854). وطبع ميشال بربوني الأناجيل وحدها، في البندقيّة، سنة 1680 و1685. كما نُشر عددٌ من المخطوطات في صورة طبق الأصل، مثل المخطوط 229، في أتشمياتزين، في باريس سنة 1920. نشير هنا إلى أنّ جمعيّات الكتاب المقدّس تهيِّء ترجمة جديدة للبيبليا في الأرمنيّة. طبعت العهد الجديد، وستُنهي قريبًا العهد القديم.
3- علاقة الترجمة الأرمنيّة بسائر الترجمات
ذكرنا عددًا من المخطوطات والطبعات، فتوخّينا أن ندلّ على اهتمام الكنيسة الأرمنيّة بالكتاب المقدّس. وسيكون لنا في موضع آخر أن نقدّم ترجمة سفر التكوين بشكل موسّع، بحيث نقدّم مثلاً حيٌّا يتجاوز التكرار المملّ. أمّا الآن، فنودّ أن نحدّد أصل الترجمة الأرمنيّة. هل تأسّست على السريانيّة أم على اليونانيّة؟
انقسم الباحثون بين موقف وآخر. فبعضهم اعتبر أن الأساس يونانيّ. ولكن العدد الأكبر، بمن فيهم العلماء الأرمن، يربطون الترجمة الأرمنيّة بالعالَم السريانيّ. فلا شكّ في تأثير السريانيّة، بشكل خاص، على الأناجيل وأعمال الرسل. والتأثير واضح أيضًا في سفريّ الأخبار، ومعقول بالنسبة إلى سائر الأسفار، بسبب العلاقات الوثيقة بين الكنيسة الأرمنيّة في بداياتها، والكنيسة السريانيّة؛ فهذه الكنيسة أثّرت على الليتورجيّا الأرمنيّة، وعلى المؤسّسات الرهبانيّة، واللغة والألفاظ المستعملة لدى الكتّاب والمترجمين القدماء. فالأمر واضح بشكل خاص في النسخة الأرمنيّة لتفسير افرام للدياتّسارون. فهناك استشهادات من العهد القديم لا تُفهم إلاّ عبر النسخة السريانيّة. فالمترجم الأرمنيّ حوّل مضمون الاستشهادات بتأثير من الترجمة الأرمنيّة الأولى، وإن هو راعى هذه الاستشهادات، فلأن مضمونها وافق الترجمة الأولى. وكيف نفهم وجود رسالة القدّيس بولس الثالثة إلى كورنتوس، في الترجمة الأرمنيّة الأولى؟ لا نجد هذه الرسالة في اليونانيّة، بل في السريانيّة.
نُعطي بعض الأمثلة البسيطة: تفضّل النسخة الأرمنيّة الأولى الجملة على اسم الفاعل، وتجعل الضمير بعد الفعل، وتضيف ما يقابل »مِدِم« (»شيء« في السريانيّة) أو »د« (اسم الموصول، »الذي«، أو علامة المضاف) قبل الاستشهادات. تحدّث العالِم اليوناني عن مصر، أمّا العالِم السرياني فعن أرض المصريّين، ومثله فعلت الأرمنيّة. وتحدّثت السريانيّة عن نهر الأردن، لا عن الأردن فقط (مثل اليونانيّة)، فتبعتها النسخة الأرمنيّة. وهناك عدد من أسماء العلم وأسماء الأماكن كُتبت حسب الشكل السرياني، لا الشكل اليوناني، هذا عدا الخلط بين صيغة الجمع وصيغة المفرد، لا سيّما وأن علامة الجمع في السريانيّة هي نقطتان غابتا مرارًا من المخطوطات.
وناقش البحّاثة نشيد الأناشيد، فاستخلصوا أنّ النسخة الأولى بدأت من السريانيّة، ثمّ عادت إلى اليونانيّة. والسبب في ذلك، هو أنّ أميرًا جاحدًا اسمه مرويان، أمر بحرق جميع الكتب اليونانيّة في أرمينيا، كما منع تعلّم اللغة اليونانيّة، في المنطقة الخاضعة لسيطرته. حينئذٍ عاد ساحاق إلى السريانيّة. ولما تبدّلت الظروف، تواصلت الترجمة على أساس اللغة اليونانيّة.
ووُجدت نسختان أرمنيّتان لابن سيراخ، الأولى طبعها زهراب كملحق في البيبليا؛ تركت هذه النسخة مديح الآباء، فتوقّفت عند ف 43؛ بعد 24:30، يتبدّل الترقيم، وهذا ما يستبعد النقل عن النسخة اليونانيّة. وما نلاحظه بشكل خاص، هو أن المترجم لَم يتبع حرفيّة النصّ اليونانيّ أو السريانيّ، بل أوجزهما، وضمّ في آية واحدة ما قرأ في عدّة آيات. قد نكون هنا أمام الطريقة التي بها تُرجمت البيبليا للمرّة الأولى. أمّا النسخة الثانية التي نشرها باغراتوني، في البيبليا، فتعود بلا شكّ إلى اليونانيّة، كما تحتفظ بعناصر مأخوذة من النسخة الأولى.
ونسخة الأناجيل الأولى في الأرمنيّة، استندت إلى السريانيّة العتيقة كما نقرأها في نسخة كيورتون أو نسخة سيناء. وبيّن بعضهم أن هذه النسخة الأولى كانت في الواقع، دياتسارون، أو إنجيل واحد في أربعة. ولكن جاء من يقول إنّ النسخة الأرمنيّة تَمَّتْ ساعة لَم يعد للدياتسارون سلطة رسميّة. غير أن الواقع يقول بوجود آثار للدياتسارون في الأدب الأرمني، خلال القرن الخامس. ولكن سواء عاد المترجم الأوّل إلى الدياتسارون إو إلى الأناجيل الأربعة المنفصلة، فالتأثير السرياني واضح في النسخة الأولى للأناجيل في الأرمنيّة.
أمّا النسخة الثانية للأناجيل فتستند بلا شكّ إلى النصّ اليوناني، الذي وُجد في قيصريّة فلسطين. غير أنّنا أمام إعادة نظر في النسخة الأولى، على ضوء المخطوطات اليونانيّة التي وصلت فيما بعد إلى أرمينيا. لهذا احتفظت النسخة الثانية بعدد من العناصر من النسخة الأولى. ونستطيع القول عينه عن سائر الأسفار المقدّسة: احتفظت بعناصر من النسخة الأولى، وتمّ التحوّل بشكل تدريجي، بقدر اقتراب الكنيسة الأرمنيّة اقترابًا متزايدًا من كنيسة إنطاكية، وذلك بعد أن خفّ بريق الكنيسة السريانيّة في الرها ونصيبين، على أثر الحروب الفارسيّة والبيزنطيّة في القرنين الرابع والخامس.
ماذا نقول في هذه الترجمة؟ تحدّث بعضهم عن الدقّة في العمل والمهارة، وتأمّلوا في هؤلاء اللاهوتيّين الواعين الذين طلبوا أدقّ التفاصيل في الأصل. وهكذا سُمِّيَت الترجمة الأرمنيّة »ملكة الترجمات« بسبب أمانتها الواعية للأصل ومنزلتها الأدبيّة الرفيعة. ولكن يرى آخرون أن هناك عددًا من التشويهات التي جعلت المترجم يبتعد عن النصّ الأصليّ، بحيث تغيب القيمةُ النقديّة للنصّ الأرمني تجاه القبطي، مثلاً، أو السرياني والحبشيّ. ومع ذلك، كما كانت الترجمة السريانيّة في أساس الترجمة الأرمنيّة الأولى، كذلك كانت الترجمة الأرمنيّة في أساس الترجمة الجيورجيّة الأولى. وكما عادت الأرمنيّة إلى اليونانيّة في نسخة محسّنة، كذلك فعلت الجيورجيّة التي تأثّرت كنيستها بالكنيسة الأرمنيّة وارتبطت بها في بدايتها، قبل أن تتأثّر ببيزنطيّة.
خاتمة
الأدب الأرمني، شأنه شأن الأدب السرياني، دينيّ في أكثريّته. فبعد اهتداء أرمينيا كلّها، بحيث صارت أوّل بلاد مسيحيّة بملكها، راحت تترجم كتابات الآباء، وتدوّن المؤلّفات من أجل حاجات المؤمنين. فهل نعجب بعد ذلك، أن تكون البداية مع الكتاب المقدّس الذي هو ينبوع اللاهوت والحياة الروحيّة والنسكيّة؟! فمن أجله استُنبطت أبجديّة دوّنت أوّل ما دوّنت سفر الأمثال، بانتظار أن تدوِّن الأسفار الكتابيّة كلّها.