بابل زينة الممالك
يحدّثنا سفر التكوين في الفصل الحادي عشر أن الناس اجتمعوا في سهل شنعار أي بلاد الرافدين الجنوبيّة أو بابلونية. وهناك أرادوا أن يبنوا مدينة تختلف عن سائر المدائن بعظمتها واتساعاتها، فبلغت مساحتها 10 كلم مربع. هي بابل أو باب إيل، باب الاله، أو باب الآلهة. وإن أرادوا أن ينزلوا على الأرض، احتاجوا إلى موطئ قدم. لهذا بُني بجانب المدينة أو في وسطها برج، هو ما يُسمّى في اللغة القديمة: زقورة أو هيكل بطبقات عديدة، فشكّل »جبلا اصطناعياً« يشبه جبال لبنان، أو الجبل الأقرع، شمالي أوغاريت. ولكن، حين كُتب هذا الخبر، كانت مدينة بابل خراباً، وبرجُها تراباً ورماداً بعد أن تمرّدت على السلطة الفارسيّة، سنة 486 ق. م. ماذا نستطيع أن نقول عن بابل التي سمّاها اشعيا »زينة الممالك« وفخر أمجاد الكلدانيين، وقابلها بسدوم وعمورة اللتين دمّرهما الله (اش 13:19)؟
ننطلق من الجغرافيا قبل أن نصل إلى التاريخ، وننهي كلامنا عن الاله مردوك ومعابده.
1 - من العظمة إلى الدمار
خلال القرن التاسع عشر، زار النائب العام (اللاتيني) لبغداد، الأب جوزيف ده بوشان بابل، وأرسل رسماً عنها إلى باريس. ولكن أحداً لم يتحرّك لدراسة هذه المدينة كما دُرس غيرها في فلسطين ومصر مثلاً. ولكن سنة 1899، زار وليم الثاني، ملك بروسيا وامبراطور المانيا (1859-1918) اسطنبول وأورشليم. وعلى أثر هذه الزيارة أرسل بعثة اركيولوجيّة إلمانيّة، برئاسة روبير كولدافي، فلبثت هناك تدرس الموقع حتى سنة 1917. ماذا وجدوا هناك؟
أبنية ضخمة جداً مغطّاة بتلال من الركام. فما تبقّى من المعبد الرئيسيّ، معبد الاله مردوك، كان مخفياً تحت عشرين متراً من الأتربة والدمار. ولكن جاءت التنقيبات جزئيّة رغم العمل المتواصل خلال ثماني عشرة سنة، الذي توقّف حين وصل الجيش الانكليزي إلى العراق، سنة 1917. وسوف ننتظر عودة الورشة سنة 1978، حين دشّنت السلطاتُ العراقيّة مشروع إعادة بناء آثارها القديمة. وكان جدال بين العلماء: منهم من ارتأى أن تبقى الأطلال أطلالاً بحيث يعيش الزائر مناخ مدينة قديمة عمرها ثلاث آلاف سنة ونيّف قبل المسيح. والذين اقترحوا إعادة بناءٍ لا نعرف منه سوى الأساس، بمواد غير ثابتة كالحجر والاسمنت، انتصرت نظرتهم وأعادوا بناء ما تهدّم بقرميدات جديدة كان الزائر يستطيع أن يشاهدها قبل حرب العراق المدمّرة.
استيقظت الكبرياء القوميّة وما أرادت للآتي إلى العراق وإلى بابل الذي كانَ يستقبل أكبر عدد من السيّاح، أن يفاجَأوا في أحلامهم حول مدينة لم تغب ذكراها عبر العصور. كل ما كان قبل البناء، أسدٌ شهير يعود إلى منتصف الألف الثاني يلعب عليه أولاد مدينة حلّة القريبة. ثم نسخة صغيرة عن باب عشتار بعد أن صارت الأصليّة في برلين. وبعد ذلك، ينتصب معبدٌ بُنيَ بقرميدات حديثة بجانب حقل من الدمار، كان قصر نبوخذ نصر، وفُتحت درب التطوافات وتوسّعت فوق المعابد القديمة. ويبقى أن بابل التي وُجدت في نهاية الألف الثالث، لا تكشف مستوياتها القديمة، بحيث لا نصل إلى حقبة حمورابي، في الألف الثاني. كل ما نستطيع أن نراه هو بابل الثانية، أي ما تبقّى من عهد نبوخذ نصر ونبونيد وصولاً إلى الحقبة السلوقيّة.
كيف تزول ثلاثة آلاف سنة من التاريخ ولا تترك أثراً في مدينة امتد فيها حقلُ الخراب الآن إلى قرابة ألف هكتار. عنها تحدّث هيرودوتس، في القرن الخامس ق. م. وأطال الكلام. ومثله فعل قطيسياس، طبيب ارتحششتا الثاني، في القرن الرابع. ثم ديودورس الصقليّ ابن القرن الأول ق. م. الذي ترك لنا المكتبة التاريخيّة؛ وسترابون الذي كتب في القرن الأول المسيحيُّ والذي صوّر في كتابه »الجغرافيا«، العالمَ القديم في بداية الامبراطوريّة الرومانيّة. ولكن من المؤسف أن هذه الأثار سُلبت وبُنيت مدينة حلّة بقرميدات أُخذت من المدينة القديمة.
مدينة أقام فيها ثمانون ألفاً تقريباً، فامتدت شرقيَّ الفرات وغربيَّه، مع جسر يربط بين الضفتين، ويستند إلى سبعة عواميد، طول الواحد 21 متراً، وعرضه 9 أمتار. وارتبطت القرميدات بالحديد والرصاص. أما عدد العواميد فسبعة. مدينة امتدت من الشرق إلى الغرب مسافة 2500 متر، ومن الشمال إلى الجنوب على مسافة 1500 متر، هذا دون أن نحسب الضواحي، خارج جدران كَوّنت سورين مستطيلين يحيطان بالمدينة مع حصون بارزة. أبواب المدينة أربعة، وأشهرها باب عشتار. هذا الباب يصل إلى إيساجيل الذي هو القلب الدينيّ للمدينة مع الزقورة، ذاك المعبد الرائع الجمال الذي لفت أنظار العبرانيّين، والذي كان مع توابعه مربعاً ضلعه 500 متر، مع العلم أنه وُجدت معابد أخرى صغيرة في المدينة، مثل معبد إنانة. وبين إيساجيل وباب عشتار، كُشف قصرُ بابل الكبير الذي عمل فيه أكثر من ملك. كان محمياً من جهة النهر بواسطة قلعة إلى الجنوب، وإلى الشمال بواسطة سور أمامه قلعة أخرى. بقرب هذا القصر كانت »الجنائن المعلقة«، جنائن سميراميس، التي كانت إحدى عجائب الدنيا السبع.
نشير إلى أن قصر بابل قد بناه نبوفلاسر ونبوخذ نصر ونبونيد، وفيه مات الاسكندر، في حزيران سنة 323، على ما يبدو. هذا المربّع المنحرف (322 متراً، 190 متراً) تضمّن خمس وحدات متشابهة: في كل وحدة، رواق كبير تحيط به قاعات الخدمة إلى الشمال. إلى الجنوب، القاعات الرسميّة، تنفتح على الرواق الثالث، غرفة العرش التي كان طولها 52 متراً، وواجهتها مزيّنة بقرميد مزخرف وبحيوانات تبدو وكأنها تسير في طريقها.
أراد الاسكندر أن يعيد بناء برج بابل، فأزال الركام، ولكنه ما استطاع استكمال ما بدأ به. فبقيت الأسس بشكل مربع، قياسُ ضلعه 91 متراً. ولكن نتكلَّم عن المساكن التي توزّعت في أحياء، مع شبكة طرقات وشبكة مجارير تتشوّق إليها حتى الآن عددٌ من مدننا في الشرق. كل هذا زال، فقال سترابون: نستطيع أن نطبّق على بابل ما قيل عن ميغالوبوليس (المدينة الكبيرة) في أركادية (منطقة في اليونانية اعتُبرت مدينة الشعر والأحلام): »لم تعد المدينة الكبيرة سوى قفر كبير«.
ونورد هنا صورة عن المدينة، بحسب دراسة أحد العلماء. »تنتير« = بابل: ذاك هو عنوان مقال دُوّن تمجيداً لبابل ودورها كمركز دينيّ. أخذ اللقب من السطر الأول: »تنتير (اسم) بابل التي وُهب لها التمجيد والتهليل. انطلق النصّ، حين دُوّن، من لويحات بابليّة وأشوريّة كُتبت بين القرنَين السابع والأول ق. م.، قد تعود إلى حكم نبوخذ نصر الأول، سنة 1225 ق. م. تقريباً، حين بدأ العلماء ينسبون إلى بابل وإلى مردوك، تفوقاً كوسمولوجيا (على مستوى الكوسموس، الكون) ولاهوتياً، يُسند اسناداً مستمراً تفوَّق المدينة على المستوى السياسيّ.
ما يهمّنا اللويحةُ الرابعة وجزء من اللويحة الخامسة، وهو يساعدنا على التعرّف إلى تصميم المدينة. تورد اللويحة الرابعة اسم 43 معبداً في بابل، بدءاً بإيساجيل، معبد مردوك. وجمع النصّ المعابد بحسب الأحياء: في حي اريدو، 14 معبداً. في كارنجيرا، 40. في شوانا، 21. في المدينة الجديدة، 30. وفي اللويحة الخامسة نجد لائحةً بأسوار المدينة وأقنيتها وأبوابها وشوارعها، دون تحديد موضع كل واحد منها. وينتهي النص بوصف طوبوغرافي يحدّد مكان كل حيّ من أحياء المدينة العشرة. امتدّت من باب عشتار إلى الباب الكبير. وإريدو من الباب الكبير إلى باب سوق البائعين، وشوانا إلى باب أوراش. وهكذا نستطيع أن نتعرّف إلى تصميم مدينة بابل مع وجود معابد للأمّ العظمى ولعشتار (كادنجيرا)، والإله نبو والإلاهة اشراتوم، والإلاهة نونورتا (شوانا). ولكن متى نستطيع أن نتعرف إلى بابل في العمق؟ نحن ننتظر الحفريات. ويبقى التاريخُ مُعيناً لنا.
2 - تاريخ بابل من حمورابي إلى الاسكندر الكبير
هذه المدينة التي كانت من أعظم مدن الشرق، برزت مؤخراً في التاريخ، فما عادت إلى ما وراء التاريخ مثل أوروك أو شوشن. ولكن بروزها بَهَرَ العيون مع حمورابي الذي بنى امبراطوريّة في قلب الألف الثاني، وأعلن شُرعة ظلّت حتّى الآن تُلهم العلاقات الاجتماعية المبنيّة على العدالة. وبعد غياب طويل، ظهرت إلى الوجود مع نبوخذ نصر الذي بدأ حكمه في نهاية القرن السابع، ومدّ فتوحاته إلى غربي الفرات، فاحتلّ أورشليم مرة أولى وسبى ملكها، سنة 597 ق.م.، ثم احتلها ودمّرها سنة 587 ق. م.
أول ما ذُكر اسم بابل كان في القرن 23 ق. م. في الحقبة الأغادية. مع سلالة أور الثالثة (2100 - 2000) صارت عاصمة إحدى مقاطعات المملكة النيوسومريّة. ولما انهارت المملكة، تنظّمت المدن بشكل دويلات مع تسلّط أموريّ. أما مصير بابل فلبث مجهولاً في القسم الأول من هذه الحقبة التي دُعيت بـ »النِيُوبابليّة« أو »البابليّة الحديثة«، بين سنة 2000 وسنة 1600 تقريباً.
أ - مملكة صغيرة
صارت بابل عاصمة مملكة مستقلّة سنة 1894 ق. م. ومملكة صغيرة بين ممالك تقاسمت وسط العراق الحاليّ، ساعة كان الجنوب مسرح تزاحم بين أقوى مملكتين: إبسين ولارسا. وحين تسلّم حمورابي السلطة، سنة 1792، كانت أملاكه محدودة، فاقتصرت على بابل ومدن سيفار وكيش وبورسيفا ودلبت.
وساعدت الظروف حمورابي، فكوّن امبراطوريّة واسعة. عاش السنوات السبع عشرة الأولى في ظلّ شمشي هدد (أو شمسيّ هدد)، الملك العظيم الذي كوّن مملكة واسعة في بلاد الرافدين العليا. وبعد موته، سنة 1776، انقسمت ممتلكاته. فاستفاد حمورابي من زوال مملكة اشنونا بعد احتلال عيلام سنة 1765. وما ضعف أمام انذار جاءه من ملك عيلام. بل ساعده زمري ليم، ملك ماري (على الفرات)، فقاوم العيلاميين وانتصر عليهم، فتركوا ما احتلوه من أرض في العراق، وعادوا إلى ديارهم. وفي ذلك الوقت، حاصر حمورابي لارسا، عاصمة الجنوب، فسقطت سنة 1763، وهكذا سيطرت بابل على الوادي الواقع بين الفرات ودجلة.
ب - مدينة حمورابي
وصلت إلينا وثائق كثيرة عن تلك الحقبة الهامة في التاريخ البابليّ: فالأبنية التالية غطّت طبقات الألف الثاني بأمتار من الطمى، ووجود الفرات منع التنقيبات في العمق. ولكن كانت فرحة لم يتوقعها أحد: انخفض منسوب النهر سنة 1907، فوصل الباحثون الالمان في مستويات سابقة للألف الأول، فوجدوا »المدينة الشرقيّة الجديدة«، مدينة التجّار والصبايا المرتبطات بمعبد مردوك. والأرشيف الذي كُشف في تلك البيوت، يعود في معظمه إلى نهاية السلالة الأولى.
ما قدّمت لنا الحفريات وثائق مباشرة لكي نتعرّف إلى بابل، في زمن حمورابي، بل النصوص التي وُجدت في قصر ماري، في أرشيف الملك زمري ليم: هي رسائل بعثت بها بابلونية إلى حمورابي بواسطة موفدين سياسيّين أو عسكريّين، وهي تقدّم لنا معلومات دقيقة عن السياسة الخارجيّة لحمورابي، وعن حياته الخاصة في القصر، ولكن لا شيء عن مدينة بابل. ووُجدت أيضاً رسائل دوّنها حمورابي إلى موظّفين في المقاطعات: ما تلقّاه شمش حزير يعرّفنا إلى طريقة استغلال الأراضي الملكيّة في منطقة لارسا. وكُشفت أخيراً في أرشيف تجّار سيفار وثائق دُوّنت في العاصمة، فتضمّنت أموراً إداريّة ورسائل وغيرها.
ونورد في النهاية »الشرعة« التي أعطت الشهرة لحمورابي. لا شكّ في أنه لم يكن أول ملك دوّن بعضَ الأحكام التي تدلّ على حسّ رفيع للعدالة. غير أن طول نصّ حمورابي والمقدّمة والخاتمة اللتين تحيطان ببنود الشرعة، وجمال النصب، كل هذا عناصر تفهمنا شهرة ما تركه حمورابي والذي هو اليوم في متحف اللوفر، في باريس.
ج - سيطرة الكاسيّين
وخلف شمشو ايلونا حمورابي. غير أنه لم يتوصّل إلى الحفاظ على ما ورثه من والده. فخسر سنة 1728 منطقة أور وأوروك ولارسا، وسنة 1720، منطقة نيفور وإيسين. وانحصرت بابل، بعد ذلك الوقت، في سيفار وبابل وكيش ودلبت. وعرفت انحطاطاً دام قرناً من الزمن، بفعل أزمات اقتصاديّة متلاحقة، وهجمات خارجيّة قام بها بشكل خاص الكاسيون، هؤلاء المحاربون الآتون من جبل زغروس (جنوبي غربي ايران). وانتهت السلالة الأولى حين جاء مورشيلي الأول، الملك الحثي، فاحتلّ حلب، ثم غزا بابل سنة 1595.
حينئذ سقط حجاب كثيف على بابل خلال قرن ونصف قرن من تاريخها. بعد ذلك تخبرنا النصوص أن السلطة السياسيّة هي في يد سلالة كاسية: تأثّرت هذه السلالة بالحضارة البابليّة، فاستعملت لغتها، وبدأت تعيد بناء معابدها. ثم عزم الملك كوريغلزو على تأسيس عاصمة جديدة أعطاها اسمه (عقرقوف، قرب بغداد) حين صارت بابل العاصمة الدينيّة بدرجة أولى. وعمل كهنة مردوك ما في وسعهم من أجل إطلاق إلههم، فاعترف به رئيس البانتيون أو مجمع الآلهة، في القرن الثاني عشر. وخبر »إنوما إشيس« (لما في العلاء) البابلي عن الخلق أكبر شاهد عن هذا التعظيم.
غير أن الكاسيّين لم يعرفوا الراحة في ذلك الوقت، بسبب جيرانهم في الشمال. ففي عهد توكولتي نينورتا الأول (1244 - 1208)، اجتاحت اشورية بابل وسبت الكثيرين. وسلب الغازون العديد من اللويحات. وهكذا شرع المغلوب يتغلّب على الغالب بحضارته، كما كان الأمر بالنسبة إلى رومة: احتلّت عالم اليونان سياسياً فاحتلّها اليونان حضارياً وثقافياً.
واجتاح بلاد الرافدين، من أشوريين (الشمال)، وبابلونيين (في الوسط)، غزاةٌ جدد هم الأراميون. ولكن الأشوريّين تغلّبوا على ضعفهم واستعادوا أرضهم بانتظار أن يضمّوا المقاطعات الأراميّة. ومنذ منتصف القرن الثامن، نظموا امبراطورية واسعة فرضت سلطتها بالعنف والإرهاب على مجمل الشرق الأوسط. ولكن لبثت بابلونية تقاومهم، ونعمت بابل بوضع المدينة الحرّة. فكانوا يقولون: »حتى الكلب الداخل إلى بابل، هو حرّ«. وهذا الشعور بالاستقلال جعل الملوك الأشوريّين يفشلون في ضمّ بابل إلى امبراطوريّتهم، بالرغم من كل المحاولات السياسيّة والحربيّة.
د - حرب بين الاخوة
وامتدت الحرب بين الأشوريّين والبابلونيّين. في البداية، هناك ملك على المنطقتين: تغلت فلاسر الثالث، ملك أشورية (747 - 727) صار ملك بابلونية سنة 729. وجاء بعده من عَيّن في بابل ملوكاً خاضعين له. ولكن كان الصراع مثلاً بين الملك الأشوري سرجون (721 - 705) ومروداك بلادان الذي غُلب على أمره في النهاية. ولما خلف سنحاريب (704 - 681) سرجون، عيّن أحد أبنائه، أشور نادين شومي، ملكاً على بابلونية، سنة 700. تآمر عليه البابليون وسلّموه إلى العيلاميّين، أعداء الأشوريّين الألدّاء. غضب سنحاريب وعزم على تدمير المدينة المتمردة. امتدّ الحصار 115 شهراً، وسقطت بابل سنة 689، وأُسلمت إلى السلب والدمار. في هذا المجال كتب سنحاريب نفسه، في تلك السنة عينها، ما فعل (مدوّنة على الصخر في بافيان):
»كنت كالريح التي تعلن وصول العاصفة، وغطّيتها بالضباب. أحطتُ هذه المدينة إحاطة تامة، فاحتللتها ودمّرتها بعد أن تسلّقتُ أسوارها... ما عفيتُ عن مقاتليها الشجعان، الشبّان منهم والشيوخ، بل ملأت ساحات المدينة بجثثهم واستولى جيشي على تماثيل الآلهة التي فيها ودمّروها... ودمّرتُ كلّ التدمير المدينة والبيوت الأساسيّة حتى السقف، وجعلتُ النار فيها. دُكَّتْ أسوار المدينة الداخلية والخارجيّة، وسُوّيت الأرض عن جوانبها فغمرتها المياه، بل دمّرت موضع أساساتها وسوّيته أكثر ممّا يفعل الطوفان، بحيث لن يتذكّر أحدٌ أبداً موقع هذه المدينة ومعابدها«.
مثل هذا الدمار حتى الإعدام، بدا انتهاكاً للمقدسات حتّى في نظر الأشوريّين. ومختلف الأخبار التي نمتلكها عن الحدث، تدلّ على أن قرار الملك كان نتيجة قرار إلهي: مردوك نفسُه حكم على مدينته. وعاد أيضاً إلى قرار مردوك، أسرحدون (680 - 669) ابن سنحاريب وخلفه. حين عزم على إعادة بناء بابل، قسم مملكته قسمين بين ابنيه: أعطى أشور بانيبال عرش أشورية. وشمش شوم أوكتي عرش بابلونية. ولكن بعد موت الوالد، استسلم الأخوان لحرب ضروس انتهت بانتصار اشور بانيبال (669 - 629)، وذلك سنة 648. ولكن ضُعفت قوّةُ الامبراطوريّة بحيث خسرت كلّ مقاومة.
فنهضت المملكة النبو بابلونية. ففي سنة 625، أسّس نبو فلاسر سلالة جديدة. وأخذت قوّة بابل تنمو، وتضعف أشورية بسبب حروب أهليّة متواصلة بعد موت أشور بانيبال. استعان البابليون بالمادايين، فسقطت نينوى سنة 612. وأسّس نبوخذ نصر الثاني (605 - 562) على أطلال الامبراطوريّة الأشوريّة، امبراطوريّة جديدة. طال حكم هذا الملك (43 سنة)، واعتبر نفسه خلف حمورابي، فقام بأعمال البناء ولا سيّما في المعابد المختلفة. حقبة مشعّة في الحضارة البابليّة، ولكنها لم تَدُم طويلاً. فنبونيد، الملك الأخير في هذه السلالة، تعبّد لسين الاله القمر، فاصطدم بكهنة بابل. ولما جاء كورش الفارسيّ، استقبلته بابل استقبال الفاتحين. وهكذا انتهى استقلال بابل. بعد الفرس جاء الاسكندر الكبير. وبعد موته، صارت بابلونية في يد سلوقس، أحد قوّاده. وتواصلت حضارة بابل في ظل المعابد. ولكن، مع مجيء الفراتيين، تلك القبائل الايرانيّة، كان احتضار حضارة دامت ثلاثة آلاف من السنين قبل أن تُدفَن تحت الرمال.
3 - الإله مردوك ومعابده
ما كان مردوك وحده الاله الذي يمتلك معبداً في بابل. ولكن كان أعظم الآلهة، لا في المدينة فقط، بل في المملكة كلها. وقد قال اللاهوتيّون: مردوك هو خالق العالم والانسان، وخالق المدينة نفسها. وخاف أهلُ أورشليم، في وقت من الأوقات، أن يكون أقوى من الرب الاله الذي يُقيم في هيكل عاصمتهم.
أ - ارتقاء مردوك في مجمع الآلهة
ما كان مردوك أقدم إله في بابل، ولا كان أقوى إله في مجمع الآلهة، بل كان في الواقع مجهولاً حتى القرن التاسع عشر، إلى أن جاء رئيس إحدى القبائل الأموريّة، فجعل من بابل عاصمة مملكته الصغيرة.
مع حمورابي (1792 - 1750) أزالت مملكة بابل جميع خصومها وسيطرت على المناطق الواسعة. وصعد الاله مع الصعود السياسيّ للمدينة. ودلّ ادخال »شرعة« حمورابي أن موقع هذا الملك تسجّل في خط سياسيّ ودينيّ قديم جداً، فاعترف بسموّ أنو وإنليل على جميع الآلهة الرافدينيّة. وإن انتقلت السلطة إلى مردوك، إلاّ أن هذه السلطة لبثت مرتبطة بإنليل الذي اعتُبر ينبوعَ كلّ سلطة سياسيّة أو دينيّة. وحين عدّد حمورابي عواصم مناطق مملكته، فرض عليه التقليد أن يذكر نيفور واريدو قبل أن يذكر بابل. فنيفور مدينة إنليل، واريدو مدينة انكي (والد مردوك. في الأكادية آيا). كان ارتقاء مردوك بطيئاً، ولكنه كان أكيداً فما وجد مقاومة.
منذ الحقبة الباليوبابلونية، تسلّم مردوك سلطات سائر الآلهة وطبيعتها. فابتلع »اسرلوجي« الابن الآخر لانكي الذي يلعب دوره في عالم السحر. وبسبب أهميّة السحر للناس في ذلك الوقت، انتقل الناس البسطاء إلى عبادة مردوك في الدرجة الأولى. فصار »بال« (بعل) أي »السيّد«. وأعطي زوجة هي »زرفانيتو« أو بالة (السيّدة، مؤنث »بال«) التي لم تكن معروفة. وكان معبدها في اساجيل »المقام الرفيع« الواقع جنوب أتاماننكي.
وأعيد النظر في الكوسمولوجيا لتبرير سلطان مردوك على الكون كله. فكانت ملحمة الخلق التي تبدأ: »انوما أليش، لما في العلاء«. دُوّنت على ما يبدو حوالي سنة 1600، وربّما قبل هذا التاريخ. وتحتوي مواضيع كوسموغونيّة (تتعلّق بولادة الكون) وميتولوجيّة قديمة تجد أصلها في إريدو حيث ملكَ إنكي، والدُ مردوك. غير أن كلّ هذه المواضيع التي تدور حول تاريخ الكون منذ البدايات، قد خضعت لخطّ جديد يشرح كيف صار مردوك أكبرَ من والده، والسيّدَ على العالم وعلى جميع الآلهة.
إن إنكي (أو: آيا) العاقل العاقل، قد غلب أبزو المياه الأولانيّة، وأقام نظاماً كونياً يستطيع الحياة. ولكن ابنه مردوك وحده يستطيع أن يغلب التهديد المريع الذي يُرهب الآلهة. وهذا التهديد يأتي من والدتهم، تيامات، البحر الأولاني. انتصر عليها مردوك وأعاد تنظيم الكون بشكل نهائيّ، وجعل كلّ إله في محلّه، ثم خلق أولئك الذين تقوم وظيفتهم بالعمل وتأمين الطعام اليوميّ لجماعة الآلهة، عنيتُ بهم البشر. وبعد خلق بابل، اعترف الآلهة جميعاً بسيادة مردوك المطلقة على مجمع الآلهة كلّه. ثم عدّدوا خمسين اسماً تعكس صفات الاله الجديد والسامي. وخاف اللاهوتيّون من أن يأتي ابن لمردوك فيزيحه من مكانه، كما فعل مردوك مع والده انكي، فما تحدّثوا عن أبناء مردوك، بل عيّنوا له »وارثاً سماويّاً«، نبو الذي هو ابنه الروحيّ.
ب - الملك والاله في عيد رأس السنة
في بداية كل سنة، كانت تتمّ شعائر العبادة لمردوك. فالمدينة كلها تتحرّك للاحتفال بعيده الكبير »أكيتو« الذي يمتدّ من 1 إلى 11 نيزان (عشرة أيام، ذاك كان »الأسبوع« في بابل) الذي هو الشهر الأول في السنة البابلونيّة، والذي سيصبح كذلك في العالم العبري، مع الاحتفال بالفصح في شهر نيزان الذي يقابل اذار نيسان في تقويمنا اليوم. كيف يتمّ الاحتفال؟
ينطلق نبو من بورسيفا ليشارك في الطقوس. فالعيد يتضمّن مسيرة قصيرة يقوم بها بال (مردوك) إلى خارج الأسوار. ويُمضي ثلاثة أيام في هيكله، في الريف في 10 نيزان (فيه كان العبرانيون يختارون الحمل للفصح). يزوره الآلهة زيارة احتفاليّة ويعود الجميع في الغد إلى المدينة. هذه المسيرة لا تتمّ في زمن الحرب، بل في سنوات السلم. ولهذا سجّلت الكرونيكة (تورد الوقائع) في إحدى السنوات: »ما جاء نبو لأجل خروج بابل. ما خرج بال«.
ووجود الملك ضروريّ من أجل العيد، لأن عليه، شخصياً، أن يمسك بيد الاله ليجعله يترك معبده موقتاً. ان تطواف 8 نيزان ينطلق من أتاماننكي. بعد وقفة أولى على »التلّة المقدّسة« ووقفة ثانية على »منصّة (بيما) المصائر« يسير في الدرب التطوافي ليخرج بباب عشتار. ويُؤخذ الالهُ بعد ذلك إلى هيكل أكيتو في سفينة. يبدو أن هذا الهيكل كان شمالي المدينة، ولكننا لم نجد بعد له أثراً.
وأورد لنا كتاب الطقوس بعض الأوقات الهامّة في العيد: في مساء اليوم الرابع، يتلون ملحمة الخلق (انوما أليش) من البداية إلى النهاية. خلال هذه التلاوة، يغطون تاج أنو وانليل، ليجنبوا هذين الالهين الغضب حين يريان ارتقاء مردوك وسيادته على مجمع الآلهة. في اليوم الخامس، يشارك الملك في الطقوس: ينزع عنه الكاهن الشارات الملكيّة (ليصبح ضعيفاً. ليتواضع أمام الاله)، يصفعه، يدفعه على السجود أمام الاله. وبطلب الملك رضى مردوك ليستطيع أن يستعيد سلطانه. خلال هذه الطقوس يفسّر البابليون العلامات التي تحدث للتنبؤ بالمستقبل: إن ذرفَ الملكُ الدموع حين يُصفع، فهذا ما يدلّ على رضى الاله، وغياب الدموع يدلّ على سقوط الاله.
الخاتمــــة
تلك نظرة إلى بابل وبلاد البابلونيّين. لم تترك عواملُ الزمان والرمول المتحرّكة وضعف البناء، الشيء الكثير من هذه المدينة التي ظلّت زمناً طويلاً قبلة الأنظار. ولكن النصوص عوّضت ما أتلفته يد البشر في استعمال المواد القديمة من أجل أبنية حديثة يُقيم فيها الانسان اليوم. وهكذا كادت حضارة عريقة تزول لولا أن بعض الباحثين نبشوا هذه الكنوز. ولكن إعادة بناء المدينة القديمة يبقى عملاً مصطنعاً لا يمكن أن يساعد الباحثَ عن التاريخ القديم، على أن يتخيّل ما كانت عليه مدينة سوف تترك تأثيراً كبيراً في عالم المنفيّين الذين جاؤوا من أورشليم في نهاية القرن السادس. عددٌ كبير منهم رفض العودة إلى أورشليم الفقيرة، المهدومة، المحتلّة، وفضّل البقاء، ففتح المتاجر والمصانع والمصارف. والذين عادوا حملوا الكثير من نظرةٍ إلى الاله عرفوها في بلاد الرافدين. فكان الفصل الأول من سفر التكوين صورة عمّا فعله مردوك: يهوه تغلّب على المياه الأولى ورتّب الكون، كما أعاد ترتيبه بعد الطوفان. وبداية السنة البابليّة، صارت بداية السنة الدينيّة في الكتاب المقدّس. بل إن الفكر اللاهوتيّ الذي وضع بصماته الأخيرة على النصوص الأخيرة في أسفار موسى الخمسة وما تبعها من أسفار تاريخيّة، جاء امتداداً للفكر البابليّ حيث العقاب ثمرة الخطيئة، والبركة نتيجة عبادة الاله في طقوس تترتّب بشكل تتجاوب فيه الأرض مع السماء، والآلهة مع البشر.
المراجع
Le Monde de la Bible, no 15 (août - sept. - oct. 1980), surtout p. 38 - 39.
Le Monde de la Bible, no 71 (juillet, août, 1991).
J. BOTTERO, S.N. KRAMER, Lorsque les dieux faisaient l’homme (Gallimard: Paris, 1989).
M. J. SEUX, Hymnes et Prières aux dieux de Babylonie et d’Assyrie (Cerf: Paris, 1976).
F. THUREAU -DANGIN, Rituels accadiens (Leroux: Paris, 1921).
J. L. HUOT. J. P. THALMANN, D. VALBELLE, Naissance des cités (coll. Origines; Nathan, Paris, 1990).
Dossiers Histoire et Archéologie, no 103, mars 1986: La Babylonie, les villes antiques entre le Tigre et l’Euphrate.
M. STOL, Studies in Old Babylonian History (Leiden, 1976).