من الشرق الأدنى إلى الشرق الأقصى. هكذا اعتادت أوروبّا أن تسمّي الشرق. ما هو قريب منها، وما وهو بعيد. الشرق الأدنى يضمّ فلسطين، سورية، لبنان، العراق... والشرق الأقصى، الهند، الصين، اليابان...
وموضوع الكتاب الذي نقدّم، ينطلق من بلاد الرافدين لكي يصل إلى الهند مرورًا بأرمينيا. ولماذا هذه البلدان الثلاثة؟ وإذا كنّا في إطار الكتاب المقدّس، ما دخل الهند بأرض الكتاب المقدّس التي عُرف امتدادها من النهر نهر الفرات إلى نيل مصر، وادي العريش، أو نهر النيل؟
كانت لي أكثر من زيارة إلى بلاد الرافدين التي تقابل اليوم العراق والكويت وشمال سورية، والتي صارت فيما بعد مركز الحضارة السريانيّة ونقطة انطلاقتها مع مدن مثل نصيبين، الرها، أنطاكية، حلب، ماردين... وكتبت في مجلّة بيبليا أكثر من مقال في هذا الموضوع، فانفتحت أمامي آفاق واسعة.
وسنة 2004، زرت الهند مع مجموعة مركز الدراسات، فاكتشفت العلاقة الوثيقة بين بلاد الرافدين والهند. والبحر الذي يفصل بينهما لم يكن حاجزًا في يوم من الأيّام ولا عائقًا، بل نقطة عبور. نستطيع القول إنّ بحر الهند شابه البحر المتوسّط بالنسبة إلى الفينيقيّين. وبحر الهند حمل إلى الشرق الأدنى حضارة عميقة الجذور تعود أقلّه إلى أربعة آلاف سنة ق.م. كما أنّ بلاد الرافدين أوصلت أكثر من حضارة إلى الهند، فجاء السريان بشكل خاصّ إلى الجنوب، إلى كيرالا حيث أسّسوا الكنائس هناك، وما زالوا حاضرين بأعداد كبيرة تصل إلى سبعة ملايين إن لم تتجاوز هذا العدد. وجاء الإسلام إلى الشمال، فكانوا الأكثر عددًا بعد البوذيّين الذين يشكّلون ثلاثة أرباع السكّان.
وأرمينيا. عيّدنا لها 1700 سنة لوجود المسيحيّة فيها في إطار مملكة هي الأولى في العالم المسيحيّ. كما عيّد الميخاتاريست 250 سنة على وجودهم في لبنان ولا سيّما في بلدة بزمّار. فكتبنا في هذا المجال لنُبرز العلاقة بين العالم الأرمنيّ والعالم السريانيّ. هذا دون أن ننسى الكنوز الغنيّة التي تضمّها أرمينيا على مستوى نصوص ضاعت في لغات أخرى، كما هو الحال في السريانيّة. وكان بالإمكان أن نتكلّم عن إيقونات فريدة لا نجدها إلاّ في أرمينيا. في إيقونة أولى، نرى بولس الرسول يملي الإنجيل على مرقس. وفي إيقونة ثانية، على لوقا. فالباحثون في الكتاب المقدّس يعرفون التأثير اللاهوتيّ الكبير الذي تركه رسول الأمم في الأناجيل الإزائيّة الثلاثة، في أناجيل متّى ومرقس ولوقا.
من أجل هذا كان الكتاب، لكي نعرّف القارئ العربيّ بحضارة واسعة لم تتوقّف عند حدود في المكان، ولا هي توقّفت عند حدود في الزمان. هي ما بدأت مع المسيحيّة، ولا مع الإسلام. بل ولا مع التوراة. فديانات الهند المعروفة والمكتوبة تعود إلى 2000 سنة ق.م.، على الأقل، وحضارة بلاد الرافدين تعود إلى الألف الرابع على أقلّ تقدير. ونقول الشيء عينه عن مصر التي سيكون لها نصيب في دراساتنا المقبلة إن شاء الله. ففي يد الله نجعل مشاريعنا.