النشيد الرابع: انتصرَ عبدي وارتفعَ وتسامى
حين نقرأ النشيد الرابع من أناشيد »ع ب د. ي هـ و ه«، أو عبد الربّ وعابده وخادمه، تحسّ بنفوسنا وكأننا يوم الجمعة العظيمة، يوم الصلب. لا شكّ في أن النبيّ جمع في شخصيّة واحدة آلام شعب كاملة. كما نظر إلى إرميا وما تحمّل من آلام سيكون لها خصبُها في حياة الشعب. ولكن هذا الكلام الاشعيائي لا يجد ملء معناه إلاّ في يسوع المسيح. هو وحده يشفع بالبشر ويحمل خطاياهم. قد يُشاركه المؤمن على ما يقول الرسول »فأكمّل في جسدي ما ينقص من آلام المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة« (كو 1:24). وقد تشاركه مريم العذراء أمّه، التي قال لها سمعان الشيخ: »سيف الأحزان سينفذ في قلبك« (لو 2:35). ولكن يسوع يبقى الوسيط الوحيد بين الله والناس بعد أن »ضحّى بنفسه فدى لجميع الناس« (1 تم 2:5 - 6). فلا اسم آخر به نخلص (أع 4:12).
أمام الألم الذي يُصيب الأبرياء، يُصيب الأطفال، لا جواب سوى النظر إلى يسوع المصلوب. آلامُه كانت أداة تحرير للبشر جميعاً. قد نبحث عن أسباب اجتماعيّة وعائليّة... ولكن كل ما يقدَّم من أجوبة يبقى دون المطلوب. أعطيَ لأيوب أكثر من جواب، فما اكتفى. ولكن حين شاهد »وجه الربّ، ترك الكلام ولاذ بالصمت« (أي 42:5 - 6). ومثله توما الرسول. أراد أن يضع اصبعه في أثر المسامير، ويده في جنب المسيح. فلما رأى، وجد نفسه راكعاً: »ربيّ وإلهي« (يو 20:28).
في هذا النشيد الرابع، نشاهد الصراع الأخير بين برّ »خادم الله« وأمانته للرب، وجور النظام الذي يضيّق على الفقراء والصغار. لا شك في أن هذا »العابد« سوف ينتصر. فالله هو من يكفل هذا النصر الذي لا يمكن أن يتخيّله انسان على الأرض. المؤمنون يندهشون، يتعجّبون. والآخرون يخيب أملُهم، ويتألّمون مثل الأشرار الذين تحدّث عنهم سفر الحكمة (5:2 - 3).
1 - العابد الأول
الله هو الذي يقدّم عابده للعالم. وسوف يقدّم ابنه على الصليب مرفوعاً بين الأرض والسماء، فاتحاً ذراعيه على مداهما ليضمّ البشريّة كلها. ونسمع كلام الله:
ها عبدي ينتصر!
يتعالى، يرتفع، يتسامى جداً.
كثيرٌ من الناس دُهشوا منه:
كيف تشوّه منظرُه كانسان،
وهيئته كبني البشر!
والآن تُعجب منه أممٌ كثيرة،
ويسدّ الملوك أفواهَهم في حضرته،
لأنهم يرون غير ما أُخبروا به،
ويشاهدون غير ما سمعوه (52:13 - 15).
يا للانتظار العجيب! فخادم الله الذي سحقه العذاب، بحيث ما عاد يشبه الكائن البشري، ما عاد ابن آدم (52:14)، سينالُ النصر وينجح. هذا لا يقابل نظرتنا إلى الأمور ولا أفكارنا. نحن نتخيّل انتصار الكبير على الصغير، والغنيّ على الفقير. ولكن كيف نفهم أن تكون الهزيمة انتصاراً؟ هذا ما لم يحصل أبداً.
يجب أن نعرف منذ بداية النشيد الرابع أن علينا أن نقوم بخطوة إلى الأمام. أن نتجاوز حدود الشروحات البشريّة. فالعقلُ البشريّ لا يكفي للدخول في انتصار الله السريّ على جور البشر.
انطلقت بداية النشيد من الرفعة والنجاح. فذكّرنا بما قيل عن الله: »العليّ الرفيع. ساكن الخلود. القدوس اسمه« (57:15). أما نشيد الرسول في الرسالة إلى فيلبي، فيمرّ في الانحدار قبل أن يصل إلى المجد: »أخلى ذاته واتّخذ صورة العبد... أطاع حتّى الموت، الموت على الصليب« (فل 2:7 - 8). تلك كانت مرحلة. وفي المرحلة الثانية، يقول الرسول: »رفعَه الله وأعطاه اسماً فوق كل اسم« (آ 9).
وها نحن ندخل في حاش خادم الله وموته وانتصاره. أعلن الله ارتفاع خادمه بعد أن مرّ في الذلّ، وها هي الجموع (53:1 - 6) تعبّر عن دهشتها تجاه هذا التسامي والارتفاع. إذا كان الذي اتّضع رُفع، فهذا يعني أنه البار، وأن الذين حكموا عليه باسم براتهم، هم في الواقع كذبة. تلك كانت نظرة بولس قبل اهتدائه. حسبَ أن المسيح مات باسم الشريعة. فاذا هو حيّ، ويحكم على الشريعة كما يحكم على الذين اتهموه باسم الشريعة. وإن كان ما حصل لهذا »العابد« الذي اتهمناه، كان يجب أن يحصل لنا، فهذا يعني أننا نحن من يستحقّ ما ناله من عذاب.
من صدّق ما سمعنا به؟
ولمن تجلّت ذراعُ الرب؟
نما كنبتةٍ أمامه (= أمام الربّ)،
وكعرقٍ في أرض قاحلة.
لا شكل له فننظر إليه،
ولا بهاء ولا جمال فنشتهيه.
محتقر منبوذٌ من الناس.
وموجَع متمرّس بالحزن.
ومثل من نحجب عنه الوجوه،
نبذناه وما اعتبرناه.
حمل عاهاتنا وتحمّل أوجاعنا،
حسبناه مصاباً، مضروباً من الله، منكوباً.
وهو مجروح لأجل معاصينا،
مسحوق لأجل خطايانا.
سلامنا أعدّه لنا وبجراحه شفينا.
كلّنا كالغنم ضللنا،
مال كلُّ واحدٍ إلى طريقه:
فألقى عليه الربّ إثمَ جميعنا (53:1 - 6)
ما قاله النشيد هنا عن ذراع الربّ وقدرته، سبق وقاله في 52:10: »كشف (الربّ) عن ذراعه المقدّسة على عيون الأمم جميعاً، فرأت جميع أطراف الأرض خلاصَ إلهنا«. وسوف يقوله في 54:1 - 3. وكذا نقول عن النسل الذي وُعد بالخير والأمم الحاضرة، والذلّ الذي يسيق إعلان عدالة ساطعة: يرى الربّ خادمه، ويكون راضياً عنه (53:11).
في 53:7 - 10، يتكلّم النبيّ أولاً، فيشير إلى براءة هذا »العابد« وصبره، ويتمنّى أن يقبله الرب، ويجازي سخاءه، ويجعل هذا الألم خصباً مثمراً.
ظُلم وهو خاضع، وما فتح فمه.
كان كنعجة تُساق إلى الذبح،
وكخروف صامت أمام الذين يجزونه.
لم يفتح فمه.
بالظلم أُخذ وحُكم عليه،
فما اعترف به في جيله أحد.
انقطع من أرض الأحياء،
وضُرب لأجل معصية شعبه.
وُضع مع الأشرار قبره،
ولحدُه مع الأغنياء،
مع أنه لم يمارس العنف،
ولا كان في فمه غشّ.
لكن الرب رضي أن يسحقه بالأوجاع،
ويصعده ذبيحة إثمٍ،
فيرى نسلاً وتطول أيامه،
وتنجح مشيئةُ الربّ على يده (آ 7 - 10).
ارتفعت صلاة إلى الله يمكن أن نقرأها في آ 10: »ليُرضِك يا رب عبدك المسحوق بالأوجاع، واجعل من حياته ذبيحة تكفيريّة، ليرَ نسلاً، ولتطُل أيّامُه! ولتتحقّق فيه مشيئتك«. فثبّتَ الله النصر الأخير لخادمه. استجاب النداء، وأكّد أن الخادم سوف يجتذب الجموع البشريّة فيفيض عليها البرّ، بعد أن تكون عذابات عبد الرب صارت وراءه.
يرى ثمرة تعبه، ويكون راضياً،
وبوداعته يبرّرُ عبدي الصدّيق
كثيراً من الناس ويحمل خطاياهم.
لذلك، أعطيه نصيباً مع العظماء،
وغنيمة مع الجبابرة.
بذل للموت نفسه، وأحصيَ مع العصاة
وهو الذي شفع فيهم،
وحمل خطايا كثيرين (= جميع البشر) (آ 11 - 12).
هي مرحلة انتصار برّ الله وعابده على جور البشر. لا كلامَ بعدُ عن القتال. ولا عن الوجع والهزيمة. أين هو النصر؟ في يسوع المسيح، بانتظار أن يغلب الجميعُ فيه، عبر الضيق والألم والانسحاق.
2 - العابد الثاني، يسوع المسيح
استعمل يسوع أناشيد »عبد الرب« الأربعة لكي يعرف معرفة أفضل، وفي واقع حياته البشريّة، مشيئةَ الآب، ولكي يقوم برسالته كالمسيح الآتي من أجل خلاص العالم كله. عاش في الناصرة وضْعَ الفقراء، فقبِل الضيق وما ضايق أحداً. وفي عماده، سمع صوتَ الآب: »أنت ابني. عنك رضيت« (مر 1:11). وفي مجمع الناصرة، قدّم برنامجه: إعلان الانجيل للفقراء، تحرير الأسرى، إعادة البصر إلى العميان (لو 4:18). هو الخادم. وقد بدأت خدمته بإعلان انجيل ملكوت الله، فقدّم كلمة العزاء للضائعين الذين بدوا كغنم لا راعي لها (مر 6:34).
تقوّى في الصلاة (اش 50:4 - 5؛ لو 5:16)، فما خاف الصعود إلى أورشليم. وأحاطت به الصعوبات والتجارب. واعتبروه من أهل بعل زبول. فجاء جوابه قاطعاً: »من منكم يقدر أن يُثبت عليّ خطيئة« (يو 8:46)؟ ينبوع شجاعته: »الآب هو دوماً معي« (يو 16:32؛ اش 50:8). شجب نهج الظلم الذي يمارسه الفريسيّون والاستعمال السيّئ لشريعة الله. لهذا عزم المقتدرون على قتله.
ما فهمه أصدقاؤه. فراح وحده يقاسم الفقراء مصيرهم. دخل في الحاش والآلام. وليلة موته أراد مرّة أخرى وبشكل واضح أن يبيّن أنه الخادم. قام عن العشاء وغسل أقدام التلاميذ (يو 13:1 - 6). وحُكم عليه بالموت كعبد. في محاكمة كاذبة. بدون شهود. وما كان هناك من يدافع عنه. في الواقع، قُتل، أعدم إعداماً اعتُبر بحسب القانون. في محكمة اليهود الدينيّة، وفي محكمة الرومان المدنيّة. بصقوا عليه، هزئوا منه، عيّروه، ضربوه. لبث صامتاً مثل حمل يُقاد إلى الذبح ما قدّم جواباً للذين يتّهمونه. بذل حياته للدفاع عن البرّ والعدل، وحمل خطايا شعبه. مات وهو يقول: تمّ كل شيء. تمّت الرسالة التي كُلِّف بها (يو 19:30). ولكن الله أقامه، فبيّن أن الطريق الذي اتخذه الابن، هو الطريق الذي تتّخذه الكنيسة وكل جماعة، بل كان انسان يريد أن يربح نفسه، لا أن يخسرها.
3 - صرخة الصليب وطلب الغفران
كان لموت يسوع أسباب ملموسة. بشّر بالبرّ (مت 6:33) وبتحرير المسحوقين (لو 4:18). لهذا أزعج العظماء الذين ما احتملوا كرازته، واستاؤوا من شعبيّته. وفي النهاية، طلبوا قتله (يو 11:46 - 53). هكذا يُشرَح موت يسوع، وهو شرحٌ لا بأس به. وبهذه الطريقة جرت الأحداث. غير أن هذه الشروح لا تكفي. فآلام يسوع وموته لا يمكن أن تُشرح فقط، وكأنها ردّ عنيف على يسوع من قِبَل الذين يضيّقون على الصغار والمساكين. فهناك أيضاً في ألم يسوع، شيء لا يمكن أن يدخل في تفاسيرنا: طلب الغفران وصرخة الصليب.
ساعة سُمّر يسوع على الصليب، غفر لجلاّديه: »اغفر لهم، يا أبتِ، لأنهم لا يدرون ما يعملون« (لو 23:33 - 34). وفي ساعة موته، صرخ من أعلى صليبه: »إلهي، إلهي، لماذا تركتني« (مر 15:34)؟
لا علاقة لهذين الحدثين باليهود ولا بالرومان. فاليهود والرومان تآمروا على يسوع وأعدّوا موته. ولكنهم لم يروا تلك الصرخة وذاك الغفران. فالصرخة ترتبط بالآب والغفران بيسوع. لماذا تخلّى الآب من ابنه في ساعة الموت فصرخ ما صرخ؟ ولماذا غفر يسوع للذين عذّبوه حين سمّروه على الصليب؟ لا يُشرح هذان الحدثان في موت يسوع بأسباب اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة ودينيّة. ثم لسنا هنا أمام تفصيلين لا قيمة لهما. فالغفران وصرخة التخلّي هما في قلب الحاش والآلام. وفي هذا المجال، لا يستطيع العقل البشري أن يفهم ولا أن يشرح.
في هذين الحدثين نكتشف الطريقة التي بها فهم يسوع طريقه كعبد الربّ. حدثان لا يشرحهما العقل. ولكن يعيشهما الشعبُ المتألم ويفهمهما. كم مرة قال الشعب: الله تركنا. ومع ذلك، فهم لا يزالون يؤمنون بالله ويقاتلون من أجل العدالة. والغفران هو أعظم ما يقدّمه عبد الله. وما يقدّمه المؤمن الذي خانه أخوه، الذي أساء إليه وحرمه من مال أو ميراث. هذان هما البابان اللذان فتحهما يسوع، وطلب منا أن ندخل فيهما.
قدّم يسوع الغفران لجلاّديه، فكشف برنامجه، برنامج عدالة وأخوّة. ما ترك عدوى العنف تشوّهه. ضُرب فما ضَرب. اضطُهد فما اضطهد. ما ردّ على الاساءة بالاساءة، بل على الشرّ بالخير. لبث أميناً لموقفه الذي أخذه منذ البداية. فما أشعل الغضب والحقد والانتقام. بل أراد المصالحة مع الجميع، حتّى مع الذين سحقوه وجلدوه.
ليس الغفران رداً فيه نتراجع لكي ندافع عن نفوسنا تجاه عدوّ أقوى منا، بل هو عملُ خلقٍ تحرّكه إرادة الانسان لكي يقتدي بالله الخالق. والغفران لا يمرّ فوق الظلامات والجرائم والأخطاء وكأن شيئاً ما كان. بل لا يُغفر إلاّ أقرّ بخطيئته. والذي ضايق الناس يجب أن يعترف بما فعل لكي ينال الغفران. فالاقرار بالذنب بداية التحوّل في الانسان. والغفران يقهر الظلم في الجذور، فيحوّل الجائر الى عادل، والمضيِّق إلى رفيق، والعدوّ إلى صديق وأخ.
الغفران ليس علامة الضعف. بل أعظم تعبير عن العدالة والأخوّة. هو الطريق الواقعيّ الوحيد من أجل تحرير جميع البشر في هذا العالم المطبوع بالخطيئة. وهو يهدم الحواجز الفاصلة، ويعيد التواصل على أساس الحقّ والعدالة.
ذاك ما اكتشفنا في هذا النشيد الرابع من أناشيد عبد الربّ. وفي تواصل مع الأناشيد الثلاثة السابقة. هي تجد كمالها في يسوع المسيح الذي قال عند دخوله العالم: ما أردت ذبائح ومحرقات، فقلت: ها أنا آت لأصنع مشيئتك، يا الله، ولكنها تبدأ مع نبيّ تتلمذ على يد اشعيا، كما رافق الشعب في أحلك حقبة في تاريخه. وهكذا تعلّم أيضاً من الأحداث، وقرأها على ضوء كلام الله. هذا النبيّ هو نموذج عن شعبه. وفي الطرق التي مرّ فيها، يجب على الشعب أن يمرّ. دعوةُ النبيّ استباق لدعوة الشعب، كما كانت رؤية العليقة الملتهبة استباقاً لخبرة الشعب على جبل سيناء. وما عاشه العهد القديم يعيشه العهد الجديد. فيكون يسوع »عبد الرب« وتكون كنيسته معه. فهي جسده. ومن أجلها يضحّي ليقدّسها ويطهرها ويزفّها لنفسه (أف 5:25 - 27). هي معه تسير وهو معها. هو كان خادم الربّ المتألّم وهي تكون الخادمة. هو مات وهي تموت. ولكنها تعرف أنها تقوم مع ذاك الذي مات فكان بكر الراقدين، والذي يموت ليُخضع كل شيء تحت قدميه. ويكون الموت آخر عدوّ يبيده.