نداء الرجاء
وقف النبي وسط أناس ملّوا الحياة في الغربة فما بقيَ أمامهم بصيصُ أمل. أتُرى سيكون هذا كالأنبياء الكذبة الذين يقولون للناس ما يريدون أن يسمعوا؟ بل هو يريد أن يحفظ في قلبهم شعلة الأمل ولو كادت أن تنطفئ. يريد أن يُلقي ضوء كلمة الله على رجائهم. أمامه ثلاث فئات: المضطهَدون، المضايَقون، المسحوقون.
1 - جماعة المضطهدين
كيف يستطيع المؤمن بالله أن يعيش وسط عالم وثنيّ؟ لهذا سينال المضايقات من المجتمع الذي يعيش فيه، لأن سلوكه يختلف عن سلوك الأكثريّة. بل يهزأ منه أولئك الذين انتظر منهم أن يساندوه. فالمسبّيون الذين جاؤوا معه، أخذوا بعادات بابل، واعتبروا الذين حافظوا على إيمانهم متأخّرين، لا يعيشون مع العصر الذين هم فيه، ولا في الحضارة المزدهرة التي لا تعرفها أورشليم. ذاك كان الوضع في زمن اضطهاد انطيوخس، في منتصف القرن الثاني ق م. أخفى بعضُ المؤمنين ختانَهم. تطلّعوا بعين الشفقة إلى الذين جعلوا حياتهم في خطر، فاحتفظوا بالكتب المقدّسة، وختنوا أولادهم وإن كلّفهم عملُهم الموت لهم ولأولادهم (1 مك 1:61). أما كان الأولى الإفادة من هدايا الملك. ذاك كان موقف المتراخين، المستفيدين من الظروف الماديّة، الذين يربحون الجسد وإن خسروا النفس.
اضطُهد المؤمنون، ولكن كلام النبي جاء مشجّعاً، معزياً. »إسمعوا، يا من يعرفون العدل، أيها الذين في قلوبهم شريعتي: لا تخافوا تعيير الناس، ومن شتائمهم لا ترتعبوا« (51:7). من هم هؤلاء الذين يضايقونكم؟ لا شيء تجاه برّ الله وعدالته. »فهم كالثوب يأكلهم العثّ، وكالصوف يأكلهم السوس. أما عدلي (بري) فيكون إلى الأبد، وخلاصي إلى مدى الأجيال« (آ 8). وفي أي حال، ماذا يشكّل هؤلاء الناس في عين الله، في عين الذي تضمحل السماء أمامه كالدخان، والأرض تبلى كالثوب، والسكّان كالبعوض يموتون (آ 6)؟ مِن هؤلاء لا يخاف المؤمنُ مهما عظموا في عيون الناس، ومهما كثُرَ العابدون لآلهتهم. »فعدل الربّ قريب، وخلاصه آتٍ، وذراعاه تحكمان الشعوب« (آ 5). وهـذا الحكم لا ينحصــر في فلسطين، بل يصـل إلي البعـيد البعـيد، إلى البحر وجزره،. بل إلى ما وراء البحـار.
والنبي لا يتكلّم من عليائه، فيقف واعظاً في أناس يتألّمون وهو بعيد عن كل خطر. فقد سبق وناله من اضطهاد أقسى من الذين نالوه هم. هو بريء ومع ذلك اتُهم وحُكم عليه. وُضعت أمامه العراقيل، فجعل وجهَه كالصوّان، كأقسى حجارة عرفها العالم القديم. يقول الحقّ ولا يرتدّ. يدعوه الربّ لكي يحمل كلامه، فلا يتمرّد ولا يتراجع. كما لا يهرب على ما فعل يونان، ولا يشتكي إلى الله كما فعل إرميا. يُضرب فيدير ظهره. يُبصَق عليه فلا يُخفي وجهه. هنا رأى الآباء في هذا الوجه وجه يسوع الذي وعد الرسل بالاضطهاد قائلاً: »كما اضطهدوني سوف يضطهدونكم«. وكما كان هذا النبيّ بريئاً فحُكم عليه، كذلك أعلنت براءة يسوع. أعلنها الربّ حين أقامه من بين الأموات، لا حين أنزله عن الصليب.
ونصيب الرافضين للإيمان سيكون تعيساً. والمجدّفون على الربّ من خلال اضطهادهم للبار، كما يسمّيهم سفر الحكمة، سيكون نصيبُهم الهلاك. وسيُدهَشون حين يرون الذين اضطهدوهم يُضيئون كالكواكب في السماء. ربّما يفرح الانسان حين يرى عقاب الذين ضايقوه وظلموه. لا يسوع الذي صاح من أعلى صليبه: »اغفر لهم، يا أبت« (لو 43:34). وتبعه اسطفانس: »يا رب، لا تحسب عليهم هذه الخطيئة (أع 7:60).
2 - جماعة المضايقين
هؤلاء المؤمنون يُضايقهم إخوتهم، كما يُضايقهم الغرباء. بل تُضايقهم ظروفُ الحياة التي يعيشون فيها. كانوا يعيشون في سعادة، كلُّ واحد تحت كرمته، تحت تنيته فلا يُرعبه أحد (مي 4:4). أما الآن، فخسروا كل طمأنينة، بعد أن تركوا الأرض والعشيرة والبيت الأبويّ، على مثال ابراهيم حين دعاه الربّ (تك 12:1). ربّما كانوا أغنياء، فصاروا فقراء. كانت لهم بيوت، فاذا هم يقيمون في أشباه البيوت. ولو تملكوا بيتاً يخصّهم في أرض الغربة، فقد يخسرونه في أي وقت. لا حقوق لهم، ولا واجبات.
فيقول لهم النبيّ: هذه الحالة لا تدوم. والخلاص آتٍ. هو لا يتأخّر (46:13). يصل إلى قلب أورشليم، إلى صهيون، فيتمجّد الشعبُ الذي جعل ثقته في الربّ. هو خلاص حاضر الآن، لا من الماضي. فالربّ يفعل الآن، وهو يهتمّ بشعبه كما تهتمّ الأم بابنها. بل إن اهتمامه يصل إلى أقاصي الأرض، فيعرف جميعُ البشر خلاص إلهنا (49:6). لقد رضي الربّ عن شعبه، بعد أن كفّر عن خطيئته (40:2). فاستجاب له. وعاد العهد إلى ما كان عليه قبل دمار البلاد على يد نبوخذ نصر. الربّ ينادي هؤلاء المؤمنين: شعبي. وهم يهتفون: هو إلهنا وهو آتٍ لخلاصنا. آتٍ ليكافئنا على أمانتنا (35:4)، إن استرخت أيدينا شجّعنا. وإن ارتجفت ركبنا ثبّتنا. وإن فرغت قلوبنا، قال لنا: أنا هو لا تخافوا (آ 3).
وما هو عظيم في عمل هذا الاله، هو أنه لا يُبقي الانسان منفعلاً. هو لا يرضى أن نكتّف أيدينا وننتظر مثل طفل لا يستطيع حراكاً. إنه يريد من كل واحد منا أن يفعل. أن يعرف مسؤوليّته. يمنع علينا أن نُقرّ بضعفنا بحيث لا نتحرّك. فهو قوّة المؤمن في ضعفه. وهو لا ينال النور فقط من الله. بل يحمل هذا النور إلى الذين يسيرون في العتمة. وهو لا ينضمّ إلى جماعة العائدين من المنفى، بل يساعد الربّ ليردّ الباقين، بحيث لا يبقى أحد خارج »الرعيّة«. صار المؤمن في يد الربّ سيفاً مصقولاً. فمه سيف. كلامه سيف ذو حدين يدخل إلى مفرق النفس والجسد. هو لا يكتفي بأن يدافع ويحمي نفسه وموقعه، بعد أن خاف أن يخرج »من العلية« مثل التلاميذ بعد القيامة. بل يهاجم باسم الربّ. وهكذا تتراجع المركبات والخيول، والمؤمن يبقى صامداً، ويفرح بخلاص ناله من إلهه (مز 20:6 - 8).
3 - جماعة المنسحقين
ويطرحون السؤال كما يمكن أن نطرحه نحن أيضاً: لماذا تسحقنا المحنة؟ ماذا فعلنا؟ وهل نحن خطئنا أكثر من الذين لم يتركوا بيتهم وأرزاقهم؟ إذا كان المنفى عاقبةَ الخطيئة، فلماذا ندفع نحن وحدنا الثمن؟ هنا يطلّ وجه أيوب الذي قال فيه الكتاب: »هو رجل لا مثيل له في الأرض. كامل، مستقيم، يتّقي الله ويحيد عن الشرّ« (أي 2:3). ومع ذلك، خسر كل ماله. كلّ ما يعتبر علامة بركة. خسر مواشيه دفعة واحدة. خسر أولاده. وها هو المرض يجعله على أبواب الموت، فيتمنّى لو أنه لم يُولد (أي 3:2 ي).
كيف خرج أيوب من واقعه الذي جعله يلتصق بالتراب، ويجلس على الرماد في الحزن والألم؟ حين تطلّع في عظمة الكون فاكتشف حكمة الله في خلقه. حين تطلّع في الخلائق الصغيرة والكبيرة، فعرف عناية الله. هو يرى في البعيد. يرى ما لا يراه الانسان العاديّ.
ولكن هذا النبي الذي سُحق، وسُحق معه المؤمنون، فقد تفوّقوا على أيوب. ما اكتفوا بأن يجدوا حلاً لسؤالٍ يُبقيهم في برارتهم ويعيد إليهم ما خسروا (أي 42:10 ي)، بل فهموا دورهم في التكفير عن المجموعات البشريّة. وهكذا فتحوا الطريق أمام يسوع المسيح الذي قيل فيه: أخذ أمراضنا وحمل أوجاعنا (مت 8:17؛ رج اش 53:4). ويتابع »إشعيا« فيقدّم صورة عن هؤلاء المؤمنين، صورة وجدت ملئها في شخص يسوع: »هو مجروح من أجل معاصينا، مسحوق لأجل خطايانا... بجراحه شُفينا« (آ 5). كنا نحتاج إلى الشفاء. فكان هو الطبيب. ثقلت علينا الخطيئة، فصار هو خطيئة من أجلنا، بعد »أن ألقى عليه الربّ إثم جميعنا« (آ 6). ضللنا كالغنم، فجاء وجمَعَنا. احتجنا إلى شفيع، فكان ذاك الذي شفع بنا وحمل خطايانا، بل خطايا الكثيرين، خطايا البشرية (آ 12).
مثل هذا العمل لا يُصدّق. سمعنا عنه ودهشنا. أُخبِرنا وانتظرنا أن نرى بعيوننا، لأن مثل هذا العمل يتعدّى مفهوم البشر. هكذا يبقى الرجاء في قلوب المؤمنين، مهما تكاثرت الصعوبات. فهم مسؤؤلون، لا عن أنفسهم فقط، بل عن العالم. فكيف يكتفون بأن يحتملوا ضيقهم لأنهم لا يستطيعون شيئاً؟