النبي وعصره
كان النبيّ منفياً في بلاد الرافدين، فقام بخدمته وسط شعبه المهجّر، على أثر دمار أورشليم وحريق الهيكل وذهاب الملك إلى المنفى، سنة 587 ق م. كان عدد هؤلاء العائشين في بابلونية 15000 شخص تقريباً. أوصاهم إر 29، فنظّموا إقامتهم بعد أن عرفوا أنها ستطول: »فابنوا لكم بيوتاً واسكنوا، واغرسوا بساتين وكُلوا من ثمرها« (إر 29:28). وبعضُ هؤلاء نَعمَ بوضعٍ يُحسد عليه. غير أن أكثرهم اكتفى بأعمال وضيعة لكي يؤمّنوا عيشهم. ويبدو أنهم لم يتفرّقوا بعضهم عن بعض، بل كانت لهم اجتماعات دينيّة يشير إليها حزقيال النبي الذي أقام مع المسبيّين سبعة أيام، عند نهر خابور (حز 3:15). كانوا يقرأون الكتب المقدّسة ويتلون الصلوات وينشدون المزامير »على أنهار بابل« (مز 137:1).
أما النبي فوقف بين اخوته يُنعش فيهم الرجاء، ويبشّرهم بالخلاص. »اصعدوا على جبلٍ عالٍ، يا مبشّري صهيون! إرفعوا صوتَكم مدوياً، يا مبشّري أورشليم! إرفعوه ولا تخافوا. قولوا لمدائن يهوذا: ها هو الربّ إلهكم آتٍ. آتٍ وذراعه قاضية« (40:9 - 10). وقال الرب في 41:27: »أنا أول من أخبر صهيون، وأرسل إلى أورشليم بشيراً«. ويتهلّل النبي حين يرى ما يرى: »ما أجمل على الجبال أقدام المبشّرين، المنادين على مسامعنا بالسلام، الحاملين بشارة الخير والخلاص، القائلين لصهيون: قد ملَك إلهُك. اسمعي! حرّاسك يرفعون أصواتهم ويُنشدون جميعاً، لأنهم ينظرون بأمّ العين رجوع الربّ إلى صهيون. »اهتفي ورنّمي، يا جميع خرائب أورشليم، لأن الرب عزّى شعبه وافتدى أورشليم. كشف عن ذراعه المقدّسة على عيون الأمم جميعاً، فرأت جميعُ أطراف الأرض خلاص إلهنا« (52:7 - 10).
إن مجيء الله هذا يُعلنه نبيّ يقترب من أورشليم. يُطل على التلال المجاورة، يحمل معه السلام والرأفة والخلاص، أي جميع البركات التي يحملها مُلك الله. وهي تتلخّص في هذه العبارة: إلهُك ملكُك. لا شكّ في أن يهوه ظلّ الملك، ولكن سلطته تغطّت بأصنام أخذت تتساقط. عندئذ تهتف أورشليم. يهتف الحرّاس الواقفون على الأسوار. كانوا قلقين (مرا 4:17). أما الآن فشعّت وجوهُهم لأنهم رأوا بعيونهم عودة الله الملك إلى مدينته.
ذاك هو البلاغ الذي حمله النبيّ إلى الشعب العائش في المنفى، وبالتالي إلى ذاك الذي لبث في أورشليم بأسوارها المهدّمة وبيوتها الخربة. فما هو الجديد الذي طرأ على الشعب ليستطيع النبي أن يطلق كلمة الرجاء؟ مجيء كورش الفارسيّ. وهذا ما يدفعنا إلى الكلام عن العصر الذي عاش فيه تلميذ اشعيا.
جاء كلام هذا النبي بين سنة 550 وسنة 539. أي بعد انتصارات كورش الثاني العظيم، وقبل حملَتِه على بابل. فكورش الفارسي هو الأمير الاخميني وملك أنزان شرقي شوش. في البدء كان خاضعاً لاستياجيس، ملك ماداي. ثم تمرّد عليه حوالي سنة 553. سانده البابليّون، ووجد معاونين له في قلب جيش ماداي، فانتصر عليه في إكباتان، همزان اليوم. وإذ صار كورش ملك فارس وماداي، خاف كريسوس ملك ليدية، في تركيا، واستعدّ للحرب. ولكن فاجأه كورش وانتصر عليه. هذا ما يشير إليه اشعيا حين يقول: »من أنهض الوفيّ من المشرق، فلاقاه النصر في كل خطوة؟ من هزم الشعوب أمامه، وأخضع الملوك له؟ جعلهم كالتراب بسيفه، وكالتبن المذرّى بقوسه؟ يطردهم ويمرّ سالماً في طريق ما داستها قدماه« (41:2-3).
سؤال طُرح حول كورش ونجاحه الصاعق. فبحسب النظرة البشريّة، ما من انسان رأى مثله قبل ذلك الوقت: من يستطيع أن يقهر بابل ويحرّر الأسرى القابعين فيها؟ غير أن المحرّر هو هنا. من أقامه؟ الربّ سيّد التاريخ، فبدا كأنه العدالة المجسّمة. إذا قرأنا النصّ على المستوى التاريخيّ، نفهم أن كورش هو الذي انتصر. أما على المستوى الإيمانيّ، فالربّ هو سيّد الحروب. طرح النبيُّ الأسئلة: من أنهض الوفيّ؟ وجاء الجواب في آ 2: »من عمل هذه الأعمال، وخاطب الأجيال من البدء؟ أنا الربّ، أنا الأوّل والآخر«. حتى الجزر وسواحل البحر البعيدة عرفت صاحب هذه المآثر. بل قال الربّ لكورش: »أسير أمامك فأمهّد الجبال، وأحطّم مصاريع النحاس، وأكسر مغاليق الحديد« (45:2).
انتصر كورش على كريسوس وأخذ له كنوزه، في الغرب. ثم مضى إلى الشرق فبلغ إلى نهر الهندوس. واستعدّ ليُنهي الامبراطورية البابلونية التي تحتضر، ويخلّص الأمم المأسورين فيها. ففي صيف 539، اجتاح شمالي بابلونية، وهجم الجيش في اوبيس على دجلة، ودخل المدينة دون قتال بعد أن استقبله الشعب عامة والكهنة خاصة، لأن آخر ملك بابلوني، نيونيد، أساء التصرّف فجعل الجميع مستائين منه.
من الذي أعطى كورش النصر؟ مردوك الاله العظيم في بابل. هذا ما قال كهنة بابل. وما عارض كورش هذا القول. فلما أعلن دخوله الاحتفاليّ إلى بابل، أنشد: »مردوك، السيّد العظيم، محامي الشعب الذي يعبده، نظر بعين الرضى إلى أعمال كورش الطيّبة وقلبه المستقيم، فأمره أن يزحف على مدينة بابل. جعله على طريق بابل، مشى بجانبه مثل صديق حقيقيّ... أنا كورش، ملك العالم... ذاك الذي أحبّ سلطته بال ونبو... مردوك، السيّد العظيم رضي بأعمالي وصادقني وأغدق بركاته عليّ أنا كورش... يا ليت جميع الآلهة التي أعدْتُها لتقيم في مدنها المقدّسة، تطلب كلّ يوم من بال ونبو، الحياة الطويلة لي«.
ولكن النبي هو هنا. هل يرضى من بني يهوذا أن ينسبوا إلى الآلهة نجاحَ الملك كورش وسخاءه كمحرّر الشعوب المظلومة؟ كلاّ ثم كلاّ. آلهة بابل أصنام وها هم سقطوا: »ركع الاله بال وانحنى نبو، فحملاهما على ثقلهما الوحوش والبهائم. انحنيا وركعا معاً، لم يقدرا أن ينجوا، بل حُملا حملاً إلى السبي« (46:1 - 2).
استاء الربّ من مؤمنيه وهو الذي حبل بهم، كما تحبل الأم بأولادها، واهتمّ بهم من الولادة إلى الشيخوخة. قال: »بمن تشبّهونني وتعادلونني؟ وبمن تمثّلوني فنتشابه« (آ 5)؟ وروى النبي كيف تُصنع الآلهة: »هم يُفرغون الذهب من الكيس، ويزنون الفضّة بالميزان. يستأجرون صائغاً يصنعها إلهاً يركعون له ويسجدون. يرفعونه على الأكتاف، ويحملونه ليُوضَعَ مكانه. فينتصب في موضعه لا يتحرّك. يصرخون إليه فلا يجيب، ولا يخلّصهم من ضيقهم« (آ 6 - 7). وكان فعل إيمان: »أنا الله وليس إله آخر، أنا الله ولا إله مثلي« (آ 9).