أحبّ ولا تُبغض
حين نقرأ لا 19:13 - 18، نجد عدداً من المحرّمات، ذات سمة اجتماعيّة بارزة. أشارت آ 13 - 14 إلى واجبات المؤمن تجاه الضعفاء، صغار القوم، تجاه العمّال المياومين الذين قد نحرمهم أجرةَ عملهم. تجاه الأصمّ الذي نلعنه. فهو لا يسمع. تجاه الأعمى الذي نضع أمامه حجر عثر، فيسقط أرضاً. وتوجّهت آ 15 - 18 إلى الجميع فتطرّقت إلى ممارسة العدالة عند باب المدينة. هي شرائع قديمة أخذتها شريعةُ القداسة وجعلتها في نظرة شاملة. وإذا أردنا أن نفهم آ 17 - 18 اللتين تُعتبران مراراً قمّة الخلقيّة في العهد القديم، نتفحّصهما أولاً في السياق الأصليّ، وهو ممارسة العدالة في المدينة.
لا تبغض أخاك في قلبك
بل تقيم ما هو عدلٌ تجاه قريبك
أو: بل عاتبه عتاباً،
لئلا ترتكب خطيئة بغضك له (آ 17).
1 - أبغض
إن فعل »أبغض« لفظ قانونيّ، شأنه شأن عكسه »أحبّ«. فعلان متواتران يُستعملان في معنى محدّد. رج تث 4:42 (وهو غير مبغض له)؛ 21:15، 16، 17 (زوجتان، واحدة مكروهة وواحدة محبوبة)؛ 24:3 (أبغضها، وكتب لها كتاب طلاق). في هذا السياق، قد تغيب العاطفة التي ترتبط »بالبغض« في أيامنا. فالبغض في المعنى القانونيّ، يعني انقطاع تضامن تأسّس على رباط طبيعيّ أو على عقد واتفاق. وفي إطار ممارسة العدالة في المدينة، التضامن الأساسيّ هو المواطنيّة. نحن من وطن واحد. من شعب واحد. بل من عشيرة واحدة.
فأعضاء المدينة الواحدة، العشيرة الواحدة، هم أبناء وطن واحد. هم إخوة. فجمع الرجال في القبيلة هم إخوة تجاه ما يمكن أن يُسمّى الغريب الذي هو في الوقت عينه العدوّ. ومن أبغض أخاه في قلبه، تصرّف بغشّ، وبملء إرادته، وبدون سبب موضوعيّ، فقطع كلّ رباط معه. وتخلّى عن كل واجب تجاهه، وبالتالي أساء إلى حقوق له عليه. هنا نتذكّر أهميّة التضامن الاجتماعيّ في المدينة (أو القرية)، في العشيرة، في القبيلة، لكي نفهم خطورة مثلَ هذا القطع الذي هو خطير في ذاته أكثر منه في نتائجه العمليّة.
وعبارة »في قلبه« تدلّ على أن أسباب هذا القطع ليست لدى الأخ، ولا في الوقائع، بل فقط في جانب الأخ الذي »يبغض«. هنا نحذر من إبراز الوجهة العاطفيّة التي ترتبط مع لفظ »قلب« كما هو الحال اليوم. ففي الشرق القديم، »القلب« يحمل معنى واسعاً. إنه الموضع الخاص للنشاط الشخصيّ كنشاط. وبعبارة أخرى، ما يُحرّم هو قطعٌ لا أساس له ولا صدق، قطعٌ لعلاقات تربط أعضاء العشرة أو المدينة. فإن كانت الأسباب محض شخصيّة، جعلت الاخوةَ وأبناء الوطن الواحد، لا يعترفون بواجباتهم المتبادلة. حينئذٍ يحسّ المجتمع بالخطر السريع، ويكون في طريق الانحلال.
لهذا يهتمّ المشترع بتفحّص كلّ خلاف، بحيث تتحدّد حقوقُ كل انسان وما أساء به إلى أخيه. »تقيم الحقّ في ما يتعلّق بمواطنك«. فعل »ي ك ح« واسع جداً، وهو يعني: أقنع، ناقش، جادل. ثم وبّخ، حكم. يعيده العلماء إلى العربي: وجح الذي يعني أظهر، أوضح ثم ضيّق. أو: وضح. كشفَ. هو الدخول في عمق الانسان لتعريته حتى من »لحمه«. ومعنى آ 17 يكون: تتصرّف تجاه أخيك، لا حسب ما تمليه عواطفك، ولا حسب ما قيل لك، ولا بشكل فرديّ وخصوصيّ، بل حسب وقائع ثبتَتْ وبان صدقُها شيئاً فشيئاً.
ويتبع النص: »لا ترتكب خطيئة بسببه«. أي بسبب أخيك. ويمكن أن يعني النص: بسبب هذا. أي بسبب البغض. هذه العبارة، وربما التي سبقتها أيضاً، أضافها جامعُ هذه المحرّمات. وأضاف ذاك المدوِّن في ما أضاف: »أنا الربّ« في آ 16 وآ 18، كما فعل في 22:31. ففي النصّ السامري والنصّ اليونانيّ، لا نجد »أنا الربّ« بعد »واعملوا بها«. في هذه المرحلة نفهم »بالخطيئة« لا مسّاً بخلقيّة المدينة أو العشيرة، بل اثماً وذنباً على مستوى الدين. وهذا ما نتحدّث عنه في ما بعد.
2 - حبّ بدل الانتقام
ونقرأ آ 18: »لا تنتقم ولا تحقد (لا تحتفظ بحقد) على أبناء شعبك.
بل أحبب قريبك مثل نفسك.
أنا الربّ«.
هذان التحريمان (لا ... لا) وهذه الوصيّة (أحبب) نجعلها أيضاً في سياق ممارسة العدالة داخل المدينة أو العشيرة. فالتحريم الأول (لا تنتقم) يشير إلى ممارسة العدالة ممارسة فرديّة، لا ممارسة قانونيّة. والانتقام ضروريّ حيث لا يوجَد حقّ مشتَرك بين الطرفين. ولكن الانتقام لا شرعيّ حيث يوجد حقٌّ مشترك يحلّ الخلافات داخل المجموعة الواحدة. في هذه الحالة الأخيرة، يحلّ محلّ الانتقام الفرديّ ممارسةُ الشريعة من أجل العدالة. وهنا أيضاً ديمومة المجموعة هي على المحك. فانتقام وانتقام معاكسُ ينهي القبيلة ويُفنيها.
أما التحريم الثاني (لا تحقد على أبناء شعبك) فله معنى محدّد جداً، معنى يختلف عن معنى التحريم السابق. فحين تكون الخصومة بين أعضاء المدينة الواحدة، أو العشيرة الواحدة، وحين تُفحَص هذه الخصومة حسب الإجراء المعمول به في المدينة أو في العشيرة، وحين يُعلَن الحكمُ، تعود علاقات التضامن، إلاّ في حالة وُضع المخطئ خارج الجماعة ونُبذ.
والوصيّة (تحبّ قريبك مثل نفسك) تقابل مقابلة إيجابيّة ما قال التحريمان بشكل سلبيّ. فالحبّ هنا ليس أولاً ولا بالضرورة حركة عاطفيّة. هو في جوهره اعتراف بتضامن بيني وبين الآخر. وعبارة »مثل نفسك« يشدّد على بُعد فعل »أحبّ«: حين أُقرّ أني متضامن مع قريبي، أعتبر أن عليّ واجبات له كما عليّ واجبات تجاه نفسي. حقوقه هي حقوقي. وأنا أراعي هذه وتلك. وإذا دعت الحاجة، طلبتُ أن تراعى. فلا بدّ، قبل كل شيء، من المحافظة على التماسك في المجموعة. ووصيّة الحبّ هذه ينيرها لا 19:34: »وليكن عندكم الغريب النزيل فيما بينكم، كالأصيل منكم. أحبّوه مثلما تحبّون نفوسكم«.
إن لفظ »ج ر« يدلّ في العمق على الغريب الذي يعيش بشكل موقّت وسط جماعة أخرى. هذه الجماعة قد تقبّلته فنَعِمَ ببعض الحقوق. في هذا المجال نذكر في العربيّة فعل »جار«: طلب أن يُجار، أن يُغاث. أي أن يُعطى الغوث والمساعدة، أن يُعطى العهد والأمان، طلب الحماية والالتجاء.
ذاك هو معنى »ج ر« في النصّ. ونرى هنا أن شريعة القداسة تمضي أبعد من شرعة العهد التي قالت: »لا تظلم الغريب ولا تضايقْه« (خر 22:20). هي لبثت على المستوى السلبي مع حرف النفي الذي يتكرّر، وما قدّمت وصيّة إيجابيّة. بل لبثت أبعد من سفر التثنية في إدخال الغرباء إلى الجماعة، إلى العشيرة. فالاله العظيم الجبّار »يحكم لليتيم والأرملة، ويحبّ الغريب ويرزقه طعاماً. فأحبّوا الغرباء« (تث 10:18 - 19).
فشريعة القداسة منحت الغرباء حقوقاً ما كانوا ليحلموا بها، بل لا يحلم بها اليوم، غريبٌ يقيم في ما بيننا. نقرأ في لا 17:8: »أي رجل من بني اسرائيل والغرباء والنزلاء فيما بينهم أصعد محرقة أو ذبيحة، ولم يجيء بها إلى خيمة الاجتماع ليقرّبها للربّ، أقطعه من شعبه«. الغريب يقدّم ذبيحة شأنه شأن ابن البيت. ويُسأل كما يُسأل كل انسان في بني اسرائيل. وفي 22:18 نعرف أن الربّ يرضى بكل تقدمة تقرّب حسب الأصول، سواء قرّبها رجل من شعب اسرائيل، أو غريبٌ نزل في وسط الشعب. وهذا الغريب الذي يكون قد اغتنى، يحقّ له أن يشتري اسرائيلياً افتقر فباع نفسه (لا 25:47). يُعامَل الغريب كما يُعامَل ابن الشعب. وإن كانت له حقوق مماثلة لما للشعب، فعليه واجبات. تُفرَض عليه الطهارة كما على الأصيل. فإن أكل جثّة أو فريسة، غسل ثيابه واستحمّ بالماء (لا 17:15). والنزيل يعاقَب كالأصيل إن لم يمارس الشريعة في هذا المجال. هنا نقرأ تث 14:21 الذي يقول: »لا تأكلوا حيواناً فاطساً، بل تعطونه للغريب الذي في مدنكم«. وحده شعبُ اسرائيل شعبٌ مقدس. أما سائر الأمم فيمكنهم أن يتنجّسوا. ونقابل هذا الكلام مع لا 7:8 - 13 حيث الشريعة واحدة للأصيل وللغريب.
وهكذا نستعدّ للوصول إلى ما قال حز 47:21 - 23: »فتقسمون هذه الأرض بينكم على حسب أسباط اسرائيل. تقسمونها بالقرعة ميراثاً لكم وللغرباء الدخلاء فيما بينكم، الذين وَلدوا بنين. فيكونون لكم كالأصيل في بني اسرائيل يقاسمونكم الميراث فيما بين أسباط اسرائيل. والسبط الذي يكون فيه الغريبُ دخيلاً، هناك تعطونه ميراثه، يقول السيّد الرب«. هو وضع يختلف كلّ الاختلاف عمّا في تث 23:3 - 8: »لا يدخل عمونيّ ولا موآبيّ... وُلد في الجبل العاشر، إلى جماعتكم«. وهكذا تفرّدت شريعة القداسة، عن سائر التشريعات، فأمرت الاسرائيلي بأن يحبّ الغريب المستجير (ج ر) كما يحبّ نفسه. أي بأن يعترف له بحقوق ينعمُ بها أعضاء الجماعة.
خاتمة
حين نجعل هذه التحريمات وهذه الشرائع في إطارها الأصليّ، تخسر بعض وهجها، لأننا ندرك في الحال محدوديّتها. فالجماعة التي تتوجّه إليها، هي مجموعة صغيرة، بحيث إن وصيّة المحبّة لا تنطبق على الغرباء الغرباء، كما لا تنطبق بالأحرى على الأعداء. ولكن سيكون بعضُ التقدّم. وأوّل توسيع لهذه الفرائض نجده في العهد القديم نفسه. أضاف جامعُ هذه التحريمات في نهاية آ 18 »أنا الربّ«، فابتعد عن خلقيّة اجتماعيّة محضة، وبيّن فرائض كفلَها الله نفسه. وقامت شريعة القداسة بتوسيعين آخرين: من جهة، فتحت المدينة أو العشيرة على جميع »أبناء اسرائيل« (آ 2 أ). ومن جهة ثانية، نسبت هذه الشرائع وهذه التحريمات إلى الربّ الذي هو إله العهد (الربّ إلهكم، آ 2 ب). هذا ما يؤسّس التضامن بين الإخوة على الانتماء إلى شعب الله، لا فقط على قرابة الدم أو جيرة المسكن.
وسوف يتعمّق العهدُ الجديد في هذين الاتجاهين: من جهة يمتدّ التضامن ليصل إلى جميع البشر بمن فيهم الأعداء. »سمعتم أنه قيل: أحبب قريبك وأبغض عدوّك. أما أنا فأقول لكم: أحبّوا أعداءكم، وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم« (مت 5:43 - 44). ومن جهة ثانية، ترتبط طبيعةُ هذا التضامن ونوعيته ارتباطاً مباشراً بالتضامن بين الآب والابن في الروح.
ما جاء تعليم المسيح ليُلغي ما قدّمه سفر اللاويين، بل كمّله. وقد شدّد العهد القديم بشكل واقعيّ على حُبّ يجب أن يكون تضامناً فاعلاً، بحيث لا يكون فقط على مستوى القول والكلام. فالحبّ المسيحيّ ليس أولاً عاطفة نُشفق بها على الجائع والعريان ولا نعطيه شيئاً. إنه قبول بهذا التضامن مع كل النتائج العمليّة، بحيث نجعل من حياة الآخرين تحفة وجمالاً. أما قال الله حين رأى الانسان: كان ذلك حسناً جداً.