قداسة الأشخاص
تدلّ القداسة في الأساس، على سرّ الله المتعالي الذي لا نقدر أن نصل إليه. هذا الاله يختلف كلّ الاختلاف عن الانسان. وحين نتحدّث عن الله القدوس، نعني أنه لا يُشبه كلَّ ما يمكن الانسان أن يعرفه أو يتخيّله. من أجل هذا، شدّد التقليد الالوهيمي أن الانسان لا يُدرك اللهَ إدراكاً مباشراً. فالملاك هو هنا الذي يفتح الطريق. والليل بأحلامه يؤمّن المناخ لحوار بين الانسان والله.
غير أن هذا الاله البعيد، لأنه قدوس، يريد أن يكون قريباً من الانسان، لكي يُوصل إليه مشيئتَه. ذاك هو موضوع الفصل التاسع عشر من سفر اللاويّين. هذا الفصل يشمل فرائض خلقيّة نقرأها في الوصايا العشر، ونطبّقها في الحياة اليوميّة. ويقدّم الكتابُ وصيّةً عميقة تطلب من المؤمن أن يحترم كلَّ انسان: »أحبب قريبك كنفسك« (19:18). »لا تسرقوا ولا تغدروا، ولا يكذب بعضكم على بعض... لا تجوروا في الحكم، لا تنشر النميمة بين الناس. لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك«. وفي هذا الفصل عينه نفهم لماذا لا نحصد أطراف الحقول ولا نلتقط آخر العنب. فنحن نتركه »للمسكين والغريب« (19:10).
واحترام الانسان يكون بين الرجل وامرأته، بل بين كل رجل وكل امرأة، ولا سيّما إذا كانت من قرابته. ويكون في معاملة الفقير والعبد، كما في معاملة الغرباء. الربّ هو الذي يأمر، وهو الذي يعرف أن يعاقب من يعصي أوامره. وخبرةُ المنفى ما زالت ماثلة للعيان، وهي تدلّ على أن شريعة القداسة لم تمارَس داخل الشعب. لهذا ذكّر سفرُ اللاويّين بما فيها من متطلّبات. فإن عمل المؤمن بها، كان له أن يقترب من الله. ولا سيّما في يوم السبت وفي أعياد السنة.
وإذ نتحدّث عن قداسة الأشخاص، نتوقّف عند ثلاثة أفكار لافتة: الانفصال عن كل ما هو دنيويّ. التكرّس للدخول في علاقة مع الله. الالتزام في خدمة الله والعمل بحسب مشيئته.
ونبدأ بالانفصال. يجب على الشعب المقدس أن ينفصل عن الشعوب المجاورة، في ممارستها. فللعمونيين (شعب يقيم حول عمان الحاليّة، في الأردن) إلهُهم مُولك، الذي يعني الملك ويعني الخزي في الوقت عينه. اسمه في الكتاب: ملكوم (1مل 11:5؛ 2مل 23:13). وعرفه أهل بلاد الرافدين باسم مالك. وعنى اللفظ في قرطاجة: ذبيحة الأطفال. قال سفر اللاويّين: »لا تعطِ من نسلك محرقة تطيب رائحتها للوثن مولك، لئلاّ تدنّس اسم الهك. أنا الربّ« (18:21). وجاء النصّ أكثر قساوة في 20:1: »أي اسرائيليّ وغريب نزيل في اسرائيل، أعطى من نسله للوثن مولك، فليقتله الشعبُ بالحجارة رجماً. وأنا أواجه هذا الرجل، وأقطعه من بين شعبه. لأنه أعطى من نسله لمولك« (20:1-2). عن هذا »الاله« تحدّث ديودورس الصقليّ في المكتبة التاريخيّة (20:14). وتحدّث سفر الملوك الثاني عن آحاز بن يوتام الذي »أحرق ابنه بالنار قرباناً للبعل« (2مل 16:3). أما حيئيل الذين من بيت إيل، فذبح ابنه البكر أبيرام ووضعه في أساس مدينة أريحا. ثم ذبح سحوب، أصغر بنيه، وجعله تحت الأبواب (1مل 16:34). مثلُ هذه العادة جاءت من كنعان.
وينفصل الشعب المقدّس عن الكنعانيّين في عباداتهم، بسبب الفلتان الجنسيّ والفجور. »لا تعملوا كما يعمل أهل أرض كنعان. وفي فرائضهم لا تسلكوا« (18:3 ب). في هذا المجال يروي سفر التكوين ما فعله كنعان بن حام مع نوح (تك 9:22). كشف عورته. رأى أباه سكراناً فتعدّى عليه. ولكن سام استهجن هذا الفعل. ومثله يافث. فاقتربا من الوالد دون أن ينظرا. من أجل هذا، نال كنعان اللعنة: »ملعون كنعان! عبداً ذليلاً يكون لإخوته« (آ 25). وخبرةُ سدوم معروفة وما رافقها من لواط وزنى الذكر مع الذكر الذي اعتبره بولس السبب لكي ينسى الانسان الاستعمال الطبيعيّ (روم 1:26) فيستسلم لفضيحة الجسد. ومال الفجور بالكنعانيّين، فجعلوا الاله بعل يضاجع عجلةً. ما اكتفوا بالزنى بين البشر، بل وصلوا إلى زنى مع الحيوان.
وطلب سفر اللاويّين من المؤمنين أن يبتعدوا عن ممارسات مصر: »كما يعمل أهل مصر التي أقمتم بها لا تعملوا« (18:3أ). هناك اعتاد الأخ أن يتزوّج اخته. في هذا المجال، توسّع الكاتب في العلائق الجنسيّة (ف 18)، وفصَّل الحالات المختلفة: »لا يقرب أحد إلى قريبه في الرحم ليكشف عورته... لا تكشف عورة أبيك بكشف عورة أمك... وعورة عمك لا تكشفها... ولا تكشف عورة زوجة أخيك«.
وفي إطار الزنى، منع الكتاب الانسان من مضاجعة زوجة أحد لئلاّ يتنجّس بها (18:20). ثم قال: »لا تضاجع الذكر مضاجعة النساء، فذلك معيب. لا تضاجع أية بهيمة ولا تتنجّس بها، ولا تقف امرأة أمام بهيمة لتضاجعها، فذلك فجور« (آ 22 - 23).
ينفصل المؤمنون بالربّ عن اللامؤمنين لكي يكونوا مكرَّسين لله. فالله اختار شعباً، فرزه، جعله جانباً. أراده مختلفاً عن سائر الشعوب، لكي يكون في علاقة مع الله القدوس. كيف يكون ذلك؟ حين يحفظ فرائض الله ويعمل بها. نقرأ في 18:4: »بل اعملوا بأحكامي، واخضعوا لفرائضي واسلكوا فيها، فأنا الربّ إلهكم. فاحفظوا فرائضي وأحكامي. فمن عمل بها يحيا. أنا الربّ« (18:4-5).
هذا يعني أن المؤمن بشكل عام يكون مقدَّساً. والكاهن بشكل خاص. وإن هو تنجّس، عليه أن يغتسل، أو أن يقدّم ذبيحة عن خطيئته. وإلاّ لا يحقّ له أن يدخل الهيكل، ولا أن يأكل من الذبيحة.
سبق وتحدّثنا عن الطاهر والنجس، على مستوى الطعام وعلى مستوى التصرّف اليوميّ. والانسان يحمي نفسه حين يبتعد عن النجس، أو حين يتطهّر. غير أننا نبقى هنا على مستوى الطقوس والعبادة التي لا يمكن أن تؤثّر على حياة الانسان الخلقيّة.
القداسة ليست فقط ممارسة خارجيّة. فهي أمر خلقيّ. من أجل هذا، تَبرز الفكرةُ الثالثة التي تتحدّث عن التزام المؤمن طريق القداسة.
هنا نعيد قراءة ف 19 من سفر اللاويّين، الذي يمكن أن نوجزه في وصيّة المحبّة الأخويّة. كل شيء يرتبط بالله الذي أقام عهداً مع الشعب، ومع المؤمن. هو يؤمّن لنا البركة والحماية. وعلينا نحن الأمانة لما يطلبه الربّ. نلاحظ هنا أن سفر اللاويين لا يورد ما في سفر التثنية من محبّة الله بكلّ القلب وكلّ النفس وكلّ القدرة (تث 6:4). فهذه المحبّة مفروضة في إطار التقليد الكهنوتي. فالله الذي اختارنا دلّ على أنه أحبّنا. هذا يعني أن محبّة الانسان لله جواب على محبّة الله للانسان. وكيف تظهر هذه المحبّة؟ من خلال معاملة المؤمن لقريبه.
في إطار النفي، لا نفعل به شراً: لا نسرقه، لا نغدر به، لا ننتقم منه. نحن في إطار: لا تعملوا للغير ما لا تريدون أن يعمله الغير بكم. غير أن يسوع لم يكتفِ بهذا الموقف الذي يُبقي الحاجزَ حاضراً بين الانسان وقريبه. قيل لكم: لا تقتل، أما أنا فأقول لكم. لهذا، كان إطار الايجاب. ما يجب أن نفعل من خير. »افعلوا للآخرين ما تريدون من الآخرين أن يفعلوا لكم«. هكذا بدت الوصايا 613 التي رتّبها المعلمون. أما هنا، في سفر اللاويّين، فسيطرة تامة لمنطق النفي، كما هو ظاهر في الوصايا المتعلّقة بالقريب. والايجاب يكون على مستوى احترام الوالدين (19:3) وحفظ السبت (آ 30). في كل هذا، نفهم أن منطق الخوف ما زال مسيطراً، ولا سيّما حين نتذكّر التهديدات التي يُطلقها الأنبياءُ ضد الذين يخالفون شريعة الله. لهذا ننتظر المسيح الذي يدعونا إلى محبّة كل انسان، لا ذاك القريب منا وحسب. الذي يحسب كل عمل صالح وكأنه صُنع له. عندئذ نكون مبارَكي الله.
خاتمة
هكذا بدت لنا شريعة القداسة. أرض فلسطين كلها مقدسة. فأورشليم في وسطها. والهيكل، رمز حضور الله وسط شعبه، هو في وسطها. خربت أورشليم، دُمّر الهيكل، ولكن بقي الشعب الذي اختاره الربّ فقدّسه. في العهد الجديد، صار المؤمنون هذا الهيكل، لأنهم أعضاء في جسد المسيح. ودعاهم بولس قدّيسين لأنهم مدعوّون إلى القداسة التي بدونها لا يستطيع أحد أن يرى وجه الله ولا أن يتّصل به. شريعةُ القداسة بدأت في ممارسات خارجيّة تمنع الانسان من لمس أو أكل ما ينجِّسه. ومع المسيح صارت حياة خلقيّة فيها نتشبّه بالله كالابناء الأحبّاء فنسلك في المحبّة تجاه الذي أحبّنا وبذل نفسه من أجلنا (أف 5:1-2).